لعل الشاعر لطيف هلمت ومن خلال تجربته الشعرية الثانية، تحولات الغيوم 2013 وقبلها شيخوخة كليوباترا وأطفال المطر 2005، قد سعى إلى تجذير نمطيات جديدة عبر مضامين وأشكال قصدياتها تشهر تحولات شعرية مشحونة بهواجس ورؤى من جانب، وعزمه الجاد في صيرورة تجديد الشعر الكوردي المعاصر من جانب آخر. ولهذا يبقى شعره يشكل شهادة فنية وظاهرة بارزة تتوقف عندها بعمق وتأمل الدراسات الشعرية المعاصرة التي تتناول الرؤى والدلالات وإتجاهات ومسارات البناء الحداثوي :
(الغيوم تصبح أغصانا للشجر
تعشش عليها الطيور
تصبح سهاما للأقواس
تخترق قلوب الغزلان الجبلية
وأقباج الوهاد،
تصبح الغيوم هواجا فضية
لنجوم ذوات جدائل زرق
وتصبح مهودا لأطفال رائعين جدا…) (1).
إن مجالاته الشعرية وفضاءاته كما يبدو قد ترشحت من سحرية تعكس إنصرافه الابداعي، حيث صوره وأشكاله الفنية وموضوعاته تخترق الذهن والنفس بإيقاع وشفافية سرعان ما نألف طقوسها وعوالمها وبالتالي خطابات شعرية في زمن شعري ناضج وجميل:
(في البدء كنت راعيا للأنهار
فبعد… لن أستطيع صيد الماضي
بأي فخ لا أدري
كلا لا أدري
ربما أصنع مغناطيسا
من الكلمات
أجذب به مستقبلي
أو قلب ماجدة الرومي..) (2).
ودهشة هذه التحولات تؤكد أنها تمثل اُنموذجا تتعمق فيه الصورة الجميلة عبر موسيقية واضحة وفكرة معبر عنها بوحدة عضوية وفرادة في المخيال إضافة إلى صدقية فنية تلوح بها رؤى حياتية. من هنا جاءت مختارات المجموعة لتشكل كشفا واعيا التهبت فيه المعطيات الزمنية بتقابلاتها وأنساقها وأضدادها ونزوعها لإيقاظ معان إنسانيةعبرإستفهامات وتساؤلات:
(أسأل نفسي
كيف أجمع
أشلاء الماضي
كيف.. وكيف أبني سدا
لخزن ثمار المستقبل
كيف…) (3)
هذه المختارات أيضا تشير إلى حسية عالية وقدرة شعرية تؤمن الشاعر خارج الشكليات وخارج السقوط في فخ المباشرة التي يعبر عنها البعض بأشكال تتحرر فيها الجدة والابتكار، وفق هذا يؤكد لطيف هلمت ان متطلبات خصائصه الفنية حاضرة في علاقاتها ومتدفقة نابضة بحيوية وإيحاء :
(مادمت تجهل لغة القصائد
تعجز عن صنع الألغام
من الكلمات…
ذلك الذي تطرحه تلك المدخنة
ليس دخانا
إنها نافورات رغباتها المحترقة
لست أنا الذي يترآى لكم في مرآتي
إنه مجنون يبحث عن بقايا
طفولته…) (4)
وما يلاحظ على مختارات هذه المجموعة تسلسل الرؤى وتحولاتها بما يمكننا من متابعة ورصد مسار التجربة الشعرية التي توفر لدارسيها فرصة تقنين وتقصي مرتبات التطور وآلياته لدى الشاعر وملامح تجاربه وتجريبياته في المنظور المحدد لكل إتجاه شعري طرقه. والنصوص الشعرية التي ضمتها المجموعة من قصائد طويلة واعتيادية وومضات إشارات ناطقة لهذا الأمر. (5).
وفي سياق قراءة قصائد المجموعة تبرز الصورة الشعرية بمختلف آفاقها عبر ثراء وعمق ودلالات لاتقف عند حدود معينة وهذا سر توهجها في سياقات إتصالها وتفاعلها مع القارىء، حيث تعبر عن هلاميتها التي لا ترتبط بإطار محدد وتتسرب إلينا بجاذبية وسحر. لهذا إتسمت مشاغل هلمت بعمق أبعادها وحرارتها التي توقد شعورية تشفع لشاعرها في رؤاه عبر شتى الزوايا والدرجات:
(الليل نافذة مدينتي الصغيرة
غاباتي جمرات الأوجاع
يا مدينتي الصغيرة
أنا في أعماق جروحك أعيش
أغنياتي على دموع أوراقك أكتبها…) (6)
وكذلك
(قالوا مناجل العمر
تحصد أفياء السماء
ولكني أقول: إن لون الليل
يبث أغنية
كلماتها من جذور الأحزان ورحيق الشمس
خلقت…) (7).
مما تقدم يتبين لنا ان القصيدة لدى لطيف هلمت تجربة ناضجة وواعية تفصح عن مستويات متينة، وهي خلاصة لمعاناة في سياقات تتآلف فيها مساحات التوتر والتنافر والتجاذب على نحو فني بارع. ولهذا يمكننا القول إن تحولات الغيوم تجعلنا على مقربة من تمثل رؤيوياتها وانفعالاتها وتصاريح تبشيرها بعوالم النقاء والحكمة والمخالفة، وهي ظاهرة ترسم امتدادها طويلا:
(ملأت المدينة بصور الصمت
وأنهيت الحرب
بين الهدوء ولحظات التلهف
من الأفضل أن أراقب أحاسيس الأشياء الغامضة
لاسيما تطفل الكلمات
لقد تصاعد الخصام بين الضرورة والتشابه
وعلى الرغم من ذلك ينبغي الإقامة في دوي الصمت…) (8).
الهوامش
(1) لطيف هلمت / تحولات الغيوم – شعر وترجمة – مطبعة ره هه ند السليمانية 2013
قصيدة تحولات الغيوم ص5.
(2) نفس المصدر، قصيدة المغناطيس ص 9
(3) كذا، قصيدة التوتر ص19
(4) كذا، قصيدة نظريات أدبية ص29
(5) كذا، انظر مثلا قصائد (أغنية المستقبل أو بيان الشاعر المجنون ص59،
المتشابهات المتناقضة ص85، الولوج إلى حي سعدي يوسف ومغامرات صوفية أخرى ص381) بالنسبة للقصائد الطويلة، وقصائد (وصايا شاعرية ص 28، عصفور الشعر ص 104، حوار الكتروني ص 206) بالنسبة للقصائد الاعتيادية وقصائد (الأخرس ص 7، المعطف ص 131، المقبرة ص282) بالنسبة لقصائد الومضة.
(6) كذا، قصيدة يقولون الملح في الغابات ص288
(7) كذا، قصيدة أشباح العيون الصدئة ص296
(8) كذا، قصيدة طيور غونترغراس وأقفاص الملاهي ص421.