نفاية هو تاريخ الطغاة نفاية.. وكل ما أخشاه عليك يا عادل هي تلك النفاية, الخشية دفعتني لجمع المزيد من التراب ورفع قبرك شبرا.. حتى انطبع ظل الحارس من خلفي والشمس تأذن بالمغيب..
-عليك أن تغادري المقبرة الآن, الموتى يحتاجون للراحة لقد تعبوا وماتوا أكثر وهم ينصتون لشكوى وأشواق محبيهم..
قالها بصوت واضح, ثم غمغم ببعض الكلمات وهو يتابع سيره بين القبور: لدينا المزيد من الموت غدا..
التفت إليه مبتسمة, أول مرة ابتسم وأنا في المقبرة, نفسها الابتسامة التي ودعتك بها يا عادل!
ها أنا أقع فريسة لأحابيل الحنين الخدَّاعة, لماذا أتت سلمى ابنة عمي مع حسين لاصطحابي من المقبرة ؟ أنا أخبرتهم بأني سأعود مع سائق أجرة فلماذا جاؤوا إذا هي الجروح تأبى أن تبقى مغلقة كيف لي نسيانه وأنـا ضحية حب التقطني بمنقاره بعد أن تفتت..
وهو يعبر دهليز بيتهم بعد سنوات من القطيعة, رأيت نفسـي مهزومة حينها وأطلقت لعيني العنان.. سألَتني: مابك؟ لم أرد على نحاس سؤوالها والذي خرج منها مذابا..
مضى بنا حسين بسيارته القديمة ونحن جميعا نغرق في صمت مطبق.. وأخيرا نطق قبل أن نصل:رحمة الله على والديك وعلى ابن عمي.. جاوبته ولا أعرف كيف خرجت مني الكلمات: لقد تغيرت كربلاء بعض الشيء, أبناء المحلة بدؤوا يتناقصون وكأن الوجوه الجديدة أنكرتني.. سألت عن جارتكم

الملاَّية فقالوا بأنها رحلت إلى السعودية واستوطنت هناك مع زوجها في محافظة تدعى بالأحساء, ولكنها عادت لتموت في كربلاء, الله يرحمها فبعد أن ماتت, ماتت معها روح المحلة والتي كانت وقودا لمجالس العزاء..
التفتت عليَّ وهي مبتسمة: إيه صح الملاية, هل تذكرين عفراء يوم كنا جهَّال, يدفعنا صوتها الحنون إلى درء خلافاتنا البسيطة, ننظر بخبث في وجه صديقتنا إيمان والتي تعاهدت معنا على إغاضة رحمة ابنة الملاية.. ولكننا بعدما رأينـا بيتهم يضج بالنواح وأمها ممدة وسط الحوش, ملتحفة بالأكفان البيضاء, بينـما رحمة عائدة من المدرسة وقد انفلتت منها الشرائط البيضاء دون اكتراث منها, هبت مسرعة لترى بأم عينها مدى قساوة الحياة حين يفقد المرء أمه فجأة, هناك نسينا شقاوتنا حين رأينها تتعارك مع المغسلات وهن يغطين وجه الملاَّية, كانت تريد أن يكون وجهها مكشوفا للأبد, حينها همستُ في أذن إيمان: خطية رحمة ماتت أمها ولازم انسامحها يقولون أكيد راح تعيش مع خالتها بالسعودية!! لقـد فقدت رحمة والدتها وهي لم تبلغ التسع سنوات, ثم مات أبوها –خيَّاط المحلة- ودفن في النجف. أخفضت من صوتها واقتربت مني أكثر ثم تابعت بابتسـامة خبيثة وعفوية, تذكرين عفورة جانت صعاليك المحلة يعيرون أبوها الله يرحمه بأبو الخصاوي!
ابتسمنا لرحمة!
اكتفيت بالتحديق في وجه كربلاء الغافي, ليس تكريسا مني في إضاعـة الوقت, ولكن صخب الحياة هو من يدفعني للوراء, للإنصات إلى صياح الديكة الذي لا يفتر وإلى نقر بائعات القيمر على الباب منذ الصباح الباكر وإلى رائحة السمك الذي كان يأتينا كل يوم جمعة من أصدقاء بصريين, إلى لون البساتين الذي كان يصبغ نهر الحسينية بالخضرة, إلى البساطة التي تميز كربلاء عن غيرها, إلى الصباحات التي كانت أمي تبعث بي إلى جارتنا أم عجاج لأستلف منها ماعونا لتفرش فيه كرات العجين قبل أن تخبزها في التنور.. ذلك حيـن يكون ماعوننا مستعارا من الجيران الآخرين, تعود أم عجاج لتلقيـط (التمن) مع أمي بعد أن تنهي خبزها فيما كان الصبيان يلعبون الطوبة في الدرابين الضيقة ليس مستغربا أن يكسر أحدهم مصابيح الأزقة, أو يحمل أحدهم بعد أن شج رأسه بعركة كبير الربع..
كل ما في كربلاء يقرع ذاكرتي, حتى بقايا القهوة في الفنجان الكبير, قارئـات الكفوف وقد ضاعت الخطوط في كف الحظ التعيس, بائعات اليناصيب الكفيفات واللاتي غالبا ما يؤجلن ثمن الأحلام بإرسال فتياتهن إلى أصحاب الشقق النائية, تذكرني كربلاء ببائعات الملح و كل ما فـي ذكرياتي ملح, ببائعات الثلج الذي ما إن يذوب حتى تعرف بأنه ماء خابط, ببائعات المخضر الطازج وقد اخضرت عباءاتهن برائحة الفجل والبصل والكراث وصوت سعدية السَّليط, أين ذهب من كل هذا الملح وسعدية التي دائما ما تطرد الغجريـات المتجولات ببضائعـهن المستهلكة وهي تصرخ في وجوههن: انعل والديكم إن شفتكم هنا مرة الخ يا قـحبات, ورُّوني عرض اكتافكن مو كافي كلشي اشتريناه البارحه منكم يلله..
رائحة كربلاء تشق أنفي, تصل إلى جزيئات أعصابي الدماغية: لحمم مقدد نشر على شرفات المنتظرين وهم يذرعون الجرح الذي اتسع كالبحر..
هل كنت تنتظرينني يا كربلاء بطقوسك الخاصة لتحتفظي بكل هذه النكهة؟ بأي شيء أعود إليك؟ أخجل أن أحكي لك عن مشاكلنا البسيطة؟! من مصباح(الّلالة) في زمن النفط, ها أنا أعود إليك وأنا المرتوية من ينبوع الحزن, أعرف بأنه لا تسعدك أخبار بغداد, فأنا لن أعيد لك سيرتها التي تحبين أن تسمعي عنها..!! (وخاطرج الِّما يتأذَّى) لن أحكـي لك ماذا حدث لبرج بغداد الخرب ولا عن بدَّالة الرشيد المفجوعة ولا عن برج المأمون الهَرِم ولا عن جسر المشاة بباب المعظَّم ولا عن الانتخابات الجديدة..
فهي مثل المثل الشهير( أوعدك بالوعد واسقيك بالكمون) كما لن أحدثك عن الكرادة ولا عن عرصات الهندية ولا عن شارع الربيعي ولا عن الكاظمية ولا عن باب الشريف الرَّضي ولا عن شارع باب القبلة ولا عن حسينية الصدر ولا عن حسينية الحيدري ولا عن شارع باب المراد و لا عن مدخل النهرين ولا عن ساحة عدن ولا عن جسر الجوادين ولا عن بستان عطيفة ولا عن الحجي عقلي السادة ولا عن أبوذيات أبو صياح الطرفي ولا عن عواد كرجي الَّلحام اليهودي ولا عن أمير عبد الصاحب صاحب أكبر هوسة ببغداد كلها… يكفي أن تعرفين بأن الكاظمية سورت بأسوار عاليـة ونصب جهاز السنسر عند البوابات ليحمل العراقي كل ما يقنع السيطرات بأنه على باب الله ماأتى إلا للتبضع أو لزيارة الإمام ليخرج لهم كل ما يحمله من إثبات الشخصية وبطاقة الخدمة العسكرية والبطاقة التموينية, لا يكفيهم ذلك فيفتشوا مفردات بطاقته التموينية المغشوشة, من الأرز والسكر والشاي والدهن, دون أن يمرروا بأجهزتهم الحساسة على العجلات المحملة بالمتفجرات!! يغضون الطرف وحسب!
أنا شخصيا سمعت بأن أناسا يفهمون لغة الجن رووا لهم بأن كلكامش العجوز صار يخرج كل ليلية خلف نصب الحرية ويقول:
من الآن وصاعدا.. سوف أبكي كثيرا!!
بغداد المتخمة بمنظر الجثث الخمس والتي طفت على نهر دجلة وهي مبقـعة بالأخضر, واحدة بلا رأس والأخرى جسد لطفلة تشبه الدمى القطنية في حجمها الجميل..
بغداد التي أضحت دمية بلاستيكية مطحونة تحت العجلات, الدمية التي صنعتها أم بولس لولدها الصغير تعويضا له عن فقدان والده في أحداث طائفيـة تطـال المسيحيين, بغداد التي شهدت دون أن تفعل شيئا قصة الطفل بابل الذي انتقـل إلى حي العدل لتربيه خالته بعد موت عائلته في تفجير قبة الإمامين العسكريين في سامراء, ذات يوم بائس وصلتهم رسالة تهديد تفيد بإخلاء البيت خلال 12 ساعة من إحدى المجاميع الإرهابية, وقتها كان بابل في الفلوجة والطـرق قد أغلقت بالكامل حتى مضت الإثنتا عشرة ساعة وهو لم يأت بعد, توسلت خالته زوجها بالبقاء مع أختها ريثما يعود بابل, لكنه رفض بشده وقال بأنه سيتدبـر أمره, وقد عرضت شاشات التلفاز وهي تمر بكامراتها النظيفة منطقة الجادرية وهي تفتخر بإنجازات الحكومة, رأيت بابل مرتين, مرة يلوح لكامراتهم مبتسما وهو يغسل السيارت ومرة وهو يصبغ الأحذية, نفسها الفلوجة التي أتى منها بابل شهدت إجهاز جنود الاحتلال حتى الموت على جريح احتمى في بيت من بيوت الله..
بغداد أرقام لقبور مجهولة 677,345, 655 وما تبقى من الأحياء ستجديـنهم مشمورين في شبك مرقم بـ 256 دون مصير معروف ليطرق والده المقعد من أجل ابنه المفقود كل أبواب البلاد, من سجون البصرة جنوبا إلى سجن بادوش في الموصل مرورا بسجن أبو غريب ومعتقل بوكا وسجن المطار- كروبر- وقصر المؤتمرات وحقوق الإنسان وجميع المنظمات الإنسانية الدولية وحاسبات المنطقة الخضراء والطب العدلي والشعبة الخامسة والمقابر الجماعية المكتشفة حديثا, ولما أعطيوا وصول الزيارة فاجؤوهم بأن سراح ابنهم أطلق منذ أشهر.. بهكذا بساطة يكذبون عليهم!! هو من كان يجلب قوت أهله وأخوته الأيتام, ذهب مع ابن عمه للبحث عن عمل في محطة وقود في منطقة عرب جبور لكنه لم يعد, ماذا يريد المختطفون منه, عادة ما يختطفون أبناء الميسورين!!
إنهم رجالات الموت وقد أصبحوا هاجسا مشتركا للخروج في هجرة جماعيـة للعراقيين الذين يتذوقون كل يوم الجحيم.. يا لبؤسك بغداد وأنت تدفعين برجل مسن يحمل في كرسيه المتحرك قنينة غاز يبيعها يا لبؤس هذا الزمن بغداد التي تصحدو على الجثث المجهولة الهوية, بغداد التي تحولت إلى جسد أنثى ينام مع من يحمل عدة أسماء وعدة هويات.. بغداد التي كلما فتحت بابا صدها الظـلام فتعود خائبة, بغداد التي صارت تمط بين أسنانها المنخورة جلود الكلاب النجسة بغداد تطوح برايتها البيضاء: من قال لكم بأن الموت ليس شيئا رائعا!! بغداد طعمها عصيدة يابسة و(زلاطة) من دم, حتى الثوار يصبحون غرباء فيها وهم لا يرثون منها سوى الصبر والعزيمة.. بغداد( شيَّالة) الهم تتابع الامتثال لعبود الكرخي: أطحن بقايا روح مو أطحن شعير.. وش هالرحى بجَّايه بلا صوت… بغداد أتخذت ركنا منعزلا عن العالم حيث أضناها الألم.. وبعد أن افترضـت العودة إلى رشدها مزَّق هذا الافتراض فؤداها المقضوم, لم تشأ أن تفسد علـيه أفراحه المتخمة لذا نزفت دون أن يحملها أحد على كتفه أو يغطيها بمعطفه الثمين, تنتظر أن يلتفت عليها أحد, ولكن بلا جدوى.. بمزاج متعكر تقوم من سقوطها المتعثر لكنها وكما يبدوأنها تضحك على أوهامها, تبدأ في نوبة جديدة من الحمَّى وكأنها تستسلم للذائذ الموت! لا شيء يغريها لتنزع ثوب الحداد وحتى لو نزعته بعد أن تفرش كل قطع الزمن.. على طول وعرض الـوطن لتنـسى وتحـرق الماضي برمته فإن العراقيين سيشعرون بكآبة كل ما هو لذيذ.. حتى الجمـاع وحسن المعاشرة سيشعرون بكآبة, كقبلتين التقتا على الحب.. ثم تفرق أحدهما مبددا حبَّه على قلوب عدَّة, لكنه في نهاية الأمر, نسي قلبه الآخر دون أية آلام تُذكر, لا شيء يغريها على نزع الحداد وصوت الإنفجارات المتكررة قد أعمى وأصم الحصان الخشبي عن تلبية طابور الأطفال المتنـزهين في بقع الدم التي لونت أحذيتهم المدرسية وحقائب أحلامهم الوردية, كما أعلنت بديهيا عن إغلاق صفوف المدرسة وعربة أبو سلامة لبيع الشَّامية المُبهَّرة بملح ضحكاتهم البريئة والتي كانت تقف خارج سور المدرسة كل يوم, كما أن احتجاج جرس الكنيسة المقابلة للمدرسة دعاه إلى سقوطه مغشيا عليه, أعلنت عن هذا المزار صافرات الإنذار ممتثلة لأوامر زياد ابن أبيه-النسخة الأمريكية- معلنا من وسط ساحة كهرمانه: أرى في قتلك صلاح الأمة!!
إذا لا شيء يغريها.. حتى الإعلان عن افتتاح مدينة الزوراء و مطاعم منطقة الكَسرَة الشهيرة وهي تغني: إحنا بخيـر.. بخييييييير!! ويلله نلعب جوبي يا ام الثوب الأحمر, ووداعا يا حزن إي والله ولا توصل بعد.. وصبرنا وعوض الله! وجاك جيك شكشكه, و من الكاظمية هالولد للأعظمية شجابه..
مشلوعة يا بغداد حتى لو أنتي بخير!
راح تظلين بلد المليون طركاعة وطركاعة, تتفننين في الأغانـي ثم تعودين لعادتك القديمة, على من تكذبين؟ ونحن ننتكس كل يوم ونعود إلى الوراء, حتى الأغاني لم تسلم منا, أشهرنا سيفنا عليها لنغير فيها كل نغمة حلوة, لم تعـد ما جينه يا ماجينه.. حلي الجيس وانطينه, لم يعد الأطفال يغنوها, لم تعد مثـل ما كانت عليه, لقد تحولت إلى أنشودة يغنيها الأطفال من عيونهم الحائرة في بريق نظارات المحتلين السوداء, حين ينحنون على أحذيتهم الممزقة وحقائبهم الخاوية يفتشونها:
ماجينا يا ماجينا حلي الجيس وانطينا*
لا تنطينا قنابل ابورده وبوسه صبحينا
ولا حتى ورده وبوسه نعيش بأمان خلينا
ماجينا يا ماجينا حلي الكيس وانطينا
هنا يالتفجر سيارة وبيت وسوق ومطعم
لو ابنك بين الشهداء ويلي شقد قلبك يتحطم
تقدر تأكل وتشرب؟!! يا موقف من موقفك أصعب
خلي الأطفال يعيشون خلي الأطفال يلعبون
خلي الأطفال يدرسون
خلي الأطفال ينامون..
لست مريضة يا بغداد بليلى كما تدَّعين بل مريضة بالتعـاويذ و بالحـروب, يقولون ليلى في العراق مريضة.. فياليتني كنت الطبيب المداويا.الأخرى تغيرت فأشرفت على الموت, ولكن أرتأت أن تموت دون أن توصي بكلماتها الجديدة في عصر العراق الجديد والعراق الحر ودولة القانون.. هراااااااء!!
يقولون أمي في العراق مريضة *
فقلت لهمْ كلُّ العراق مريضُ
جراحٌ وصبرٌ واحتراقٌ وغربةٌ
ودمعٌ ولا كلَّ الدموع يفيضُ
===============
عليكِ سلامُ اللّه أمي حبيبتي
فمن مثلكِ غنّى (دلِّل لول) ساهرا
ومن مثلكِ زرعَ الإباءَ بمهجتي
فكم ضاقت الدنيا عليَّ بأهلها
فما اهتز إيماني وما بعتُ عزتي
وفي غربتي عنكِ فتحتُ حقيبتي
وجدت حجاباً أخضرا فوق صورتي
ربطتيه يا أمي بشيبٍ مباركٍ
عليهِ ترابٌ من ضريح الأئمةِ
دعاءٌ عظيمٌ كان زادي برحلتي
فقلبي على البيتِ الكبيرِ ولوعتي
على والدي الغالي وصَحْبي وإخْوتي
على الدّّار والجار وشطآنَ دجلتي
ومدرستي الأولى وحنّاءِ جدتي
فيا ليتني أمي بقربكِ جالسٌ
أقبّلُ كفّيكِ وألعنُ غربتي..
بغداد حين أنطقُ بك تختزلني صورة لا أعرف ملامحها الضبابـية, مشوَّهة؟؟ لاحاشاك,
غريبة أنت, استثنائية من بين كل المدن, إذ كيف يمشي العراقي في الشوارع ويركب الحافلات ويذهب إلى الجامعة والدائرة والمعمل, كيف يرقص في الأفراح وهو يعرف أن
القصيدتان للشاعر كريم العراقي*
كلما حوله مفخخ!هل كان الرحابنة و فيروز محقين؟ أم أن أغنيتها الأخرى شابها ما شاب الأغاني المجيدة؟ ألم تقل ذات عزة:
بغدااااااااااد و الشعراء و الصور
ذهب الزمان و ضوعه العطر
يا ألف ليلة يا مكملة الأعراس
يغسل وجهك القمر
بغداد هل مجد و رائعة
ما كان منك إليهما سفر
أيام أنت الفتح ملعبه
أنَّا يحط جناحه المطر
أنا جئت من لبنان من وطن
إن لاعبته الريح تنكسر
صيفاً و لون الثلج حملني
و أرق ما يندى به الزهر
يا من يواجدني و ينكرني
حذراً و إن طريقنا الحذر
بيني و بينك ليس من عتب
حييت تنكرني و تعتذر
أنا لوعة الشعراء غربتهم
و شجي ما نظموا وما نثروا
أنا حب أهل الأرض يزرعني
وتر هنا و يشيل بي وتر
عيناك يا بغداد أغنيـة
يغنى الوجود بها و يختصر
لم يُذكر الأحرار في وطن
إلا و أهلوك الأولى ذُكروا
شوهوك فيروز وأنت من غنت:
إرجعي يا ألف ليلة غيمة العـطر
فالهوى يروي غليله من ندى الفجر
إن أشواقي الطويلة أغفرت عمري
و حكاياكِ خميلة في مدى الدهـر
لا تحتجي عليَّ, أنا أقدس غضبك مني حين تصمتين ويبرق الماء في عينيك.. كيف لا؟ وأنت الشيماء والإباء, هم من فعلوا ذلك, حنجرتـك المفجوعة سرقها شلة لصوص المبيد الكيميائي ولصوص اليوناريوم المنضَّب ولصوص الجثث ولصوص الإغتصاب المنظم ولصوص الاختلاسات ولصوص الدمـار الشامل ولصوص النفط المحاصر بلعاب الأغنياء الفُحَّش..
جاؤوا من خلف البحار بأساطيلهم الضخمة التي طحنت عظام الحيتـان كما طحنت أصوات العرب الخرس أصلا!!
أعذرينا, فلا حول لنا ولا قوة..
بغداد والشعراء والصور*
فيروز عفواً خانك النظرُ
بغداد يغسلُ وجهَها الكدرُ….
من حسَّ روحَ الشعرِ في بلدٍ
تحيا به الشعراءُ تُحتضرُ…
من قال زعمًا أنه عَطِرٌ
حتى الورودُ هناك تُحتَقرُ..
أنا جئتُ من بغدادَ من وطنٍ
فيه الرزايا السودُ تزدهرُ
فيه القلوبُ الغُلظُُ وارمةٌ…
وتخالها الحمقى ستنفطرُ …
أنا جئتُ من بغدادَ مستتراً
رجلاً من الأهلين يستترُ..
فالناسُ في بغداد أضرحةٌٌ..
أزرى بها الإهمالُ والقدرُ..
والحالُ في بغدادَ مجزرةٌ
والسيفُ رغم الموت منتصرُ ..
من مات منه مات منبطحاً..
والحيُّ منبطحٌ وينتظرُ…..
فيروز كُفّي لست عالمةً
بالظهر إن الظهرَ مُنكسرُ..
والماءُ دجلةُ غصَّ خائضهُ..
لمرير دمعٍ فيه ينهمرُ
والفجرُ أينَ الفجرُ ليس له
في ليلنا عينٌ ولا أثرُ
بغداد والشعراء والصورُ
أمسٌ ومن بالأمس يفتخرُ..!
بغداد لا تدري طوائفها
من بعد هذا الخسف ما الخطرُ..
بغداد أمُّ الذل إن ولدتْ
حراً.. فحتما سوف ينفجر
المآسي جعلتنا نقوم بأدوار الحياة المستحيلة, نلهث دون هواء, نبصر دون ضياء, ونستلذ بما لا يمكن تصديقه.. طلبت من حسين أن يتوقف عند بائعة قيمر, إنهن متشابهات تماما مع بائعات القيمر عندنا, يعصبن رؤسهن, يرتدين عباءات قذرة, وينظرن إليك بحدقة عين صائبة فلا تخيب ظن إحداهن حتى تبتاع منها لتسكب لك المزيد من الحليب كترويج لبضاعتها الدسمة. نزلت واشتريت ما يكفي لبيت عمي, عدت إلى إلى السيارة لأفاجأ بأن حسينا قد أنزل أخته سلمى على رأس الطريق مبررا ارتباكه بأنه سيعود لأخذها بعد ساعة..
هيا اركبي عفراء!
صعدت إلى السيارة دون تردد, خفق قلبي بشدة, هل كنت خائفة؟ لا مستحيل, آآه.. كم هو حميم أن تجد نفسك داخل حيز صغير يكتم أنفاسك بمن تحب, حسين كان أنيقا يومها وهذا
• للشاعر العراقي لطيف القصاب
ما زاد لطفه معي, بريق أسنانه التي كانت تلمع في الظلام نخرها التبغ فبدت مائلة للون الشكولاته الفاتحة وإن كانت مصفوفة بعناية, أما شفتاه اللتان كان يزمهما حول سيجارته فكانتا كوردتين منتفختين تستعدان لقبلة عميقة, رباه.. بي رغبة لأكلها, بي رغبة لا تقاوم في مص لسانه! لو أننا وقفنا على ميناء منسي في مدينة الأحلام ماذا سيحدث؟
كم أشتهي أن ألتحف الليل في منتصفه وصوت العود الغارق في الحنين يأتيني بولعه من شرفة تقابل شرفتي, فأتدمَّى رغم نباح الكلاب السائبة التي بدأت تعوي مع العزف, كما شاركها لغط الصراصير المجنحة دون أن يهرع أحد لإنقاذنا من أنفسنا.. حيث ذبنا كشمع وكادت الحرائق أن تشتعل بنا, دون أن نلتفت إلى المسـافة التي فصلت بيـننا بطول السنين التي فرقتنا..
شعرت بدوار رهيب كدت أتقيأ داخل السيارة مما جعله يتوقف جانبا, داس كعب سيجارته التي دخنها بشره, تقدم مني, أعاد لي الأمان ممسكا بكتفي من جهـة الذراع المبتور فلمعت في عينيه دمعة:
– شلونج هسه؟
لم أرد, فالتصق وجهه بوجهي فتبعت دمعتيه دمعتان أخريان مني.. قالها وهو يحترق حسرة ووله: لج تخبلين حتى وأنتي تعبانه!
كدنا أن نلتصق أكثر وكأن زمانا قديما ولد فينا من توه زمانا خلَّف فينا تجنِّي الأقدار ليحرق كل يوم وردة نبتت بيننا, كما يحرق الخطى التي كانت دفء النبضات, يبحلق في وجهي وكأني أسأله: هل نسيت ملامحي؟! هل أخطأتك ذراعي المبتورة ؟ ذراعي التي كانت تزينها أساور غليظة من الذهب, كنت تعد عليها السنوات التي تفصلنا لنجتمع حين ننطق سويا بخمسة.. ونضـحك طويلا وبصوت نسمعه فقط, نعم.. لقد غيرتني بغداد وازددت سمارا على ما أنا عليه فشمسها محرقة كما هي شمس كربلاء, عيناي شحبتا منذ أن دارت الدوائر بيننا, خطوط وتجاعيد بعدد الطعنات التي طُعنت بها منك ما يضرك يا حسين لو أنك رفعت رأسي إليك ودفنتني في عينيك, ما يسوؤك لو أسدلت الستار ودسست خرقة في ثقب المفتاح ونمنا معا عاريين على السرير نتطهر بجسدينا الممددين بزغب شعر صدرك المفتوح وبحلمتي البارزتين, بشهقينا وزفيرنا.. شيضرك عيوني لو التصقنا وذبنا وصرنا لغة فريدة,لا أقول بذئية ولكن ساخنة كأصابعنا.. ما يضرك لو كنت أمينا على سر حبنا وحضنتـني حتى الصباح؟ نقية أنا وأنت الأنقى منِّي! تنزوي عيناك عني وهما تقولان: كم أنت مُشتهاة!! رأيتك تعبر حاشية أوشك الوحوش على العودة إليها, تمشـي على حصى الجرف وكل ما فيك صالح للبكاء…… حتى شفاهك التي أخذت ترتجف شككتُ ألاَّ تكون قد امتصت العسل وبعثت فيَّ الرعشة من جديـد, في مكان ما من الجسد المتعب الشَّاق.. تعُّب بعينيك مني وكأن شيئا استيقظ فيك, أتخشى الشيخوخة عليَّ؟ أتخشى قسوة الدهر وأنت من ترك آثار جرحه كآثار أقدام ديناصور يرأس قبيلة من القطط.. حدِّق جيدا.. فلن تجد فيَّ غير ضحكة ذابلة وتجاعيد تخفي خلفها جمال قديم وبريق خافت لعينين صافيتين ووجه تكثر فيه الفتحات كمعبد سومري كان يؤمه النساك العميان, حدِّق في أكثر.. لكني الآن أخاف عليك مني هل تخاف من النسيان مثلي؟ أخاف عليك منه, أما أنا فسأظل كمايكوفسكي- الشاعر الروسي العظيم- الذي قال:
قائما كسيرا
سآخذ قلبي وأحمله يقطر بالدمع
كما يحمل الكلب إلى كوخه
قدمه التي سحقها القطار..
أتذكر حائط المدرسة يوم أن حفرت فيه بمخالبك احتضار جسدك المعصور يوم أن حاولت الانفلات من بين يديك؟ يومها كانت كربلاء تنـام ليلة طويلة من أجلنا! ترى أينا مات لحظتها, أقدر بأن الميت كان هو أنت لذا لم تأت إلى توديعي, لو أنك أتيت لتملكتني شجاعة الصمت وما نطقتُ بكلمة ولتحمَّـلتَ عني ملامة العين الباكية, أعرف بأن أمك كانت تربطك بحبل عينيها, ولكني كنت بحاجة إلى أن أحتضنك وأقبلك, أن تطول لحظة الـوداع, أن تتعطل مثلا السيارة التي كانت ستقلني إلى بغداد, حسين, كل شيء كان يذكرني بك, بالليالي والبساتين والوطن الذي أسكنني سجن الغربة الكبير.. ووحشة المكان القاتلة وخيبة الأمل فيك, ودعتك وكأني أودع كعبة الله التي قد لا أعود إليها يوما, ساعتها نمتُ على كتفي وحيدة.. وكأني أهرب إلى نفسي التـي وقفت بصمود معي طيلة الطريق الطويل, استغرقت في نومي وقد يأست فعلا من المثول مرة أخرى أمام عينيك سوى في الأحلام المبطنة بالكذب وعزمت من حينها أن أخفي كل هذه الأوجاع رغما عن حبي لك, حتى لو أني لم أسمعها منك حين يممت قبلتي إلى بغداد..
يمتى تعودين؟
قلتها قبل سفري بيوم ولكنها كانت ككارثة فاضت بالذكريات التي بدأت تبشرني بشيخوخة مبكرة, كيف لي أن أجد من يخلص لي في حبه؟ من ينوب عن الحب الأكبر, لا عن الجنس واشتهاء القبل فقط, بل عن كل تفاصيل الحب الذي يحيا به العالم..
هي ذراع واحدة فكيف لي أن أطوقك؟ ها!! لقد ماتت العصافير بيننا وانتهى كل شيء, ترى ما بالنا نبكي عليها إذا والقرب يجمع بيننا.. لطخ وجنتيك يا حسين واجعل جروحك تصحو من اليوم كما كبرت وشاخت في ضلوعي الصغيـرة.. لطخها فللحب والأشواق والندم طعم لا يقل عن طعم صلب الأمنيات, بيننا جرح كبير, بيننا قبر باتساع الخريـف.. أتشتاق أن تلتهم كفي ومقلتي مزروعة فيك؟ أرحني على صدرك إذا, أما زلت تخاف من خلف الباب من عسس؟ أرحني من شتائم أمـك التي سحقتني ورمتني قشة مهد في الأمواج.
يكفي أننا تلاقينا بلا ميعاد, التقينا بلا زهور, بلا ذرة مشوية كنت تبتاعها لي يوميا ألا تذكر؟عذرا فالحروب بخيلة والحزن ألقى بيننا وجع المقل فأنساك حتى طقوس الوداع, تمنيت يوم أن غادرتُ إلى بغداد أن تقف خلف البيت.. ترقـب خروجي من دربونتنا الحزينة وأنا أحمل قشتي فوق رأسي كطائر مهاجر حزين أتخشى حبك لي وكل ما بيننا مشاع يا للزمن الجحود يا للزمن الذي يذر رؤوسنا المطحونة في بقايا الأضرحة رغم أننا نمشي بينها ونسقي بعضها بماء العيون.. كسيحة قلوبنا التي ترضى بالذبح, نطوف بالشموع ثم نجري بعيدا.. ذلك بعد أن يشاع مرة أخرى بأن هناك من تسبب في سرقة بخور المدافن!!!
أتنفس بصعوبة, عيناه تقولان تعالي, ولكن ذراعي تصلبت وصارت سدا يفصلني عنه, وقارا ما يمنعني من الرغبة المسعورة.. يتابع:تعالي وانزعي عني قميص الخوف فأنا متخم بحبك قولي شيئا ولو كان ظل ابتسامة معاتبة قولي بأن الشوق ما خمد وأن ما أطفأته المسافات عاد فاحترق, هل مات الطفل الذي رعيناه؟ ألم نجلس في ذات المكان؟ تحت جدار بيتكم القديم؟ نقيس الزمن الذي سيجمعنا في عش واحد,آآه من حقك أن تكابري وأن أموت ولهانا بين يديك, قامرتُ بالأيام, بإنكار ما كان بيننا من عهود ولكني صدقيني يا عفراء أحبك! لقد رُميت بعدك في الحانة السوداء وها قد تعافيت بمجرد رؤيتك, سآتـيك بتوبتي, أشعرينـي بأني أخطأت حين التسمتُ الأمان, فوجدت نفسي خارج الجنة ضائعا استجدي بشفـاعتك احملي قلبي معك حين تعودين, امضغيـني واصرخي داخل صدرك, قولي أي شيء قولي سأمتك يا زمن النَّدامة, ا حب يقام في بيت ذبح فيه الذبيح, أنا ذبيح قرارات أمي, لا أريدك أن تسامحي خَرفها ولا أن تعفي عن موتتـها البائسة ولكن ثقي بأني مت بك مرتين!!
عاد كلا منا إلى رشده, عاد إلى مقعده بعد أن رفع رأسي المائل نحوه, حدق فيه مرة أخرى.. كان وجهه مبللاً بالدموع, رفع يده التي كان يمسد بها رأسي الثقيل كنت قد أشرفت على الغشيان الذي أخذ مني أشد مأخذ حيث كان يصيبني في الحالات الصعبة ولما اقتربت أنفاسه من أنفاسي وضع يديه الحانيتيـن على بطني المنتفخ وكأنه يسمع دقات قلبي الصغير, عاد إليَّ بصري فرأيت كل شيء كل الذكريات مرت كشريط سريع ثم انطفأ فجأة, أشعر بأن الزمان قد توقف في ذات المكان الذي كنا نسترق منه المواعيد, أي قلب يستطيع أن يتحمل كل هذا!!
عادل؟ مالذي جاء بك إلى هنا؟! الفرق بيننا ليس شاسعا, حين دخلت المقبرة صادفت وجها مؤلفا لم يتغير كثيرا, الشامة التي كانت أسفل الذقن ارتفعـت وشارفت على الالتصاق بالشفة السفلى, استطعت أن أميزها من بعيد ومن بين كل النساء فبعد أن أزاحت طرف العباءة عن وجنتيها المخضبتين بالدموع بان وجهها الصافي وجزمت حينها بأنها حنان وبأنها كانت في زيارة لك, لحقت بها, ناديتها: حنان..حناااان, أسرعت إلى سيارة أجرة ومضت, أنا أيضا التقيت حسين على غير ميعاد مالفرق بيننا إذا وكلانا عاشقان..
عادت سلمى وهي محملة بأكياس ملونة, ركبت دون أن تنتبه لشحوب وجهـي الفائض بحزن طافح فوق ما كان عليه, حسين صامت بوجوم, لم تنتبه له أيضا أمرتْه بأن يسرع إلى البيت فعندها ما ينتظرها من أعمال, أما أنا فتابعت بإلقاء النظرة الأخير للطريق المودي للمقبرة, بعض الشوارع مغلقة لأعمال الصيانة, الساحات تعج بالناس مختلفي الأشكال والأجناس, الضوضاء تقف بجانب الأفنية الصامتة للجوامع والأشجار حولها مضاءة بالمصابيح.. لم يدهشني شيء سوى أنني عدت إلى مراتع الطفولة وعنفوان الشباب الذي أنكر فيَّ صورة حسين المطبوعة في قلبي..
مرة أخرى أختلي في غرفة سلمى, ركضت إلى النافذة لأفتحها مواربة, اشتقت لرؤية وجه حسين وقد انكسر نحو الأرض ماشيا خشيت ألاّ يعود في الغد حيث لم يبق سوى يومان على مغادرتي لكربلاء.
أوشكت أن أناديه معاتبة إياه: يا ولد عمي ليش أجيت وشلي جابك عليه!
وقف وكأنه يسمع دقات قلبي الضائع, أحسست بجوابه الذي أحرقه بإصبعيـن سيجار دخنهما بتؤدة وهو جالس على المصطبة قبل أن يستقل سيـارته, رفع رأسه إلى صفحة وجهي الغارق في وجهه اللامع, تحت ضوء قمر كربـلائي حزين وبدأنا نتحاور مثل قصيدة يكتبها رياض الركابي للعشاق:- ليش إجيتي وليش كل هاي السنين بعيدة عن عيني بقيتي.. ليش إجيتي بكل هموم قلبج الخلي وشفتي خطيتي؟
-هو بيده النده من يلهث على خدود الورد, وهو بيده القلب لو يكره لو يود وهو بيدي من رجف عليك ومن بُعد
– وليش إجيتي مو آني عديت الأربعين, لج ليش إجيتي؟
– وحلو شيبك.. حلو بعيني ودونك شتنفع سنيني؟
– خايف أصحى بيوم والكى اللهفة بعيونج وهم, وحيل ما بيه بعد, لا للملام ولا للندم, الزمن قاسي بعشرته وياي ما عمره ابتسم..
– جنت انتظرك حبيبي بالأحلام وبالضلوع وجنت والله لخاطرك.. رغم انـك طيف بحركة أسد الباب في وجه اليجون, ويسألون انتي قلبج من حجر ويسألون واركض بطيفك وأحس كل رحمة الله تلولي وتنام العيون..
أقفل بعدها ومضى..
انتظرتك حبيبي ولكني بلا عزيمة سوى عزيمة الأنين, أغلقت النافذة دونه, لا أدري لماذا عادت إلي حالة البكاء ثم التشنج على بطن ذاكرة عنيفة لونها القمح وصوتها صوت(حمامة بنت رويِّض) !! مالفرق بيني وبينها وقد تركنا(الولف) وراح..تعالي يا حمامة نغني الجرف الذي بكاني, يومها ضممتيني على صدرك حين أسررت لك بانتقالي إلى بغداد وبقيت أنت سادنة للنهر, أخذت تغنين وأنت تبكين نفسك أولا:
ون يا قلب ون ون ون
لا ترحم العافوك
وتظل شماته
راح ولفي
ون ون ياقلبي
مالي قلوب اثنين
خو تدري بيه
راح ولفي
ون ون ياقلبي
واحد وخذته وياك
وشظل ليه
راح ولفي
ون ون يا قلبي
علمته يرمي سهام
حلو ورماني
راح ولفي
ون ون ياقلبي
لما تعلم زين
صد ورماني
راح ولفي
ون ون ون ياقلبي
بين الجرف والماي
حنطه ازرعوني
راح ولفي
ون ون يا قلبي
لا قالوا الله وياك
ولا ودعوني
راح ولفي
ون ون ياقلبي
تركتني حمامة وطارت..
طلبت على عجل الحمَّام لأغتسل من هموم اليوم, فأردفتني سلمى بسؤال خبيث لم أنكره عليها:
أدخل وياج بنت عمي, خو تحتاجي فرك ظهر!
أسرعت إلى الحمام المكسور قفله, ردمت الباب الثقيل ببرميل من المـاء يركن في الزاوية لإحتياطات إنقطاع الماء المتكرر بينما أدركت هي خطأهـا فعادت إلى غرفتها بعد أن تركت لي على الخوان صحنا داخل ظرف ورقي ترتفع منه رائحة الكباب والطرشي والبصل وخبز التنور, الكباب الذي يعرف حسين بأني أحب أن آكله من مطعم كباب خمس نجوم, وقد أغدق عليَّ بالكثير..
هل كانت صادقة سلمى في سؤالها؟ لو كانت تتشاقى ويايه!! هل مازالت سلمى شقية وفلتانة تتشبث بأفكاراها الشيطانية؟ منذ أن نبت زغب عانتـها وهي شعلة لا تنطفيء, كيف لا أحتاط منها إذا؟ هل يعجبها شكلي مكورة, هل أبدو أمامها ضعيفة بذراعي الوحيد؟هي من أدخلتني إلى الحمـام عنوة يوم أن كانت أمهاتنا في اليوم السابع من عاشوراء يندبـن في الحسينية القريبة منا, عرَّتنـي بعد أن عرَّت نفسها, تطهرنا بفرك حلماتنا وقد عاوننا الصابون على انزلاق أصـابعنا الطرية نهداها بدءا يتصلبان, بينما ضمر صدري أمام لسعة اللذة الخفيفة.. تأملتها وتأملتني وهي تبتسم: إيه مو بطَّالة حبيبة! طيزج جبير, تريدين أكبر لج صدرج الصغيرون, لا تستحي بنت عمي ولا تخافي مو كل بنات المحلة يسووا هيج!!
أمسكت بحلمتي الصغيرتين لكني أحجمت عن محاولتها ولما انتهينا من اغتسالنا الفاضح هذا استلقينا على السرير عاريتين.. نتحدث عن قصص الفتيان الوسيمين والذين يتعاركن الفتيات عليهم, أخرجت سيجارة مخبأة تحت وسـادتها وبدأت تدخن, عرفت بأنها تدخن بسرية وقد بدأت شفتاها تتلونان بلون الشوكلاته الذائبة, التفتت إلي بعد أن انبطحت على بطنها قائلة بصوت خافت: متعـة المرأة تكمن في سرية أفعالها.. رددت عليها غاضبة: أنتِ سرسريَّة وجلبة! لم تغضب, اقتربت مني أكثر, حينها شعرنا بأننا مسافرتين لبلد لا يعرفنا فيه أحد, تكلمنا ببراءة لعبنا لعبة شد الشعور في عري الأجساد النظيفـة, لم نلق بالا لأمهـاتنا الاتي كـن يتوشحن السواد ويلطمن الصدور وقد عدن متورمات العيون بعد أن افترقتا عند الزقاق الأول مع نسوة المحلة, لكننا سرعان ما أدركنا حين سمعنا صوت أمها الغليظ داخل الحوش, أدركنا بأننا في خطر فرحنا نعيد ترتيب ما ارتكبناه من فوضى..
الآن… وقد اختفى صوت زوجة عمي التي كانت تكرهني وحل مكانها صمت البيت بعد أن بلغ عمي من العمرعتيا, فيما انشغلت سلمى العازبة برسم اللوحات الزيتية حيث تستعد لمعرض مشترك تقيمه رابطة الفنانيـن التشكيلييـن, لمح بصري لوحة رسمت فيها امرأة ثلاثينية وهي عارية تماما, تنازع الموت بعد أن غرقت في عرق جسدها المتصبب, ثيابها ممزقة ومرمية على أرضية الغرفة الخشبية..
ترى متى رسمت سلمى هذه اللوحة؟ حتما أنها ماتت تحت وقع زغاريد زفاف (علي) وقد كانت دفوف النسوة كنواح سُّرِيَ على قلبه, الشـاب الذي عشقتـه دون أن تبوح لأحد, يومها تعرَّت وذبحت حزنها بمراسيم كلفتـها ظلمة امتدت لأعوام لتصبغ لوحة وقفت عارية أمام روحين نافرتين إلى بعضهما!!
ستبكينه سلمى, لن تنسيه ولو بعد ثلاثين عاما, أذكر جيدا يوم أن حضـرت مفرزة من مديرية الأمن العامة إلى منزله لتوقيفه بتهمـة انتمائه للحـــزب الشيوعي وقد سبق ذلك اعتقال والده وأخيه مرافقا ذلك رحلة طويلة في أروقة المديرية المليئة بالوطاويط الواطية! أضرَب عن الطعام فضرب وشدت عصابة على عينيه ثم رمي كعلبة مكدسة في صفيح بالي, كان وقتها البرد شديد ونقرة السلمان كانت تمهيدا لإعدامه مع رفاقه من الطلاب, يومها أصبت بالحمى, حين تبادر إلى ذهنك شكله وهو مربوط كذبيحة, هم ينهالون عليه بالضـرب وأنت تنهالين بالبكاء, وعلي يقول لك: شدي عيونج يالحبَيبة.. كان هذا آخر ما قاله قبل أن يغادر إلى الآخرة ببطاقة مكتوب فيها: الشهيد علي شلش محمّداوي. أنتِ حفرت ذلك الأسم على خشبة تستودعينـها صندوقا محشوا بأعواد البخور البارحة أخرجتيه من بطن الأرض وكنت كافرة بهمس الشفاة ومؤمنة بإعلانها
همس الشفَه ممنوع
ممنوع بالحب رجفه
وذبلة خدود الترفه
ممنوع؟
لا عليك ابنة عمي, فليلى العامرية حين سألوها أيهما أكثر؟ حبك لقيس بن الملوح أم حبه لك؟ فقالت بل حبي له فقالوا لها: وكيف ذلك؟ قالت: لأن حبه لي كان مشهورا, وحبي له كان مستورا!!
أما وأن زيارتي لأبي الأحرار قد اقتربت, فقد حان وقت النوم تحت سماء كربلاء المحروسة..
************
مرة أخرى سيذهب بي حسين إلى إبي الأحرار, هكذا أبلغتني سلمى منذ الصباح الباكر لكني رفضت وبشدة لقد آثرت أن أتجرد في زيارتي تلك دون أن يشوبها شيء أو يلوثها شريك!
شددت رباطة سوداء على رأسي بعد أن لبست جوربين نظيفين, قائلة لي وأنا أضع عبائتي على رأسي: أتفهم موقفك, حسين لن يذهب معك..
ما كان علي سوى أن أستبقل قدومه باستقلال سيارة كيا مزدحمة تقف في كراج يبعد عن بيت عمي قليلا, بيد أن رجة المركبة فوق حفر الشوارع التي لم تطلها أعمال السفلتة منذ عشرات السنين وصوت الدراجات النارية الهادر والتي بدأت في الانتشار في كربلاء بشكل ملفت.. أثارت ركلات إضافية من علي الذي بدا وكانه يعي من سأذهب إليه!! ركله هذه المرة يشبه ركوع وسجود متبـتل في الحضرة, يشبه أيادي تشتبك لتلمس الشباك وتربط شرائطها الخضراء.. يدبُّ على أسوار بطني كدبيب نمل لا يمل ولا يكل, يستحثني لفتح النافذة الصغيرة هروبا من اختناق الروائح المختلطة والذهاب بعيـدا للنظر في المدينة الكبيرة والتي باتت تشبه واحة وسط صحراء, واحة بني فيها قصر كبير طليت جدرانه على عجل بألوان متنافرة, تمنيت لو أن منضادا يطير بي لأرى كربلاء كلها, سألت نفسي: هل ستستتر المقابر عني؟ قومي ألبسي(البوشيَّة) ولا ترفعيها, تمنيت ذلك.. تمنيت لهذا الوطن الشبعان من الموت أن تحتج مقابره لتقول بفم مفتوح كالحوت:لا..لا للموت, كفانا مجاملة فالطيور تخضب ريشها الصافي بالدم كفانا بياضا, كفانا سوادا, كفانا عتمة حتى النخيل صارت معاقة من كثرة ما انتزعوا سعفها وغطوا به وجوه الموتى الغرباء.. التين هو الآخر أدمن الانتحـارعلى مقربة من بائع المكسرات الغيران منه, جميع الرجال فـي بلادي باتوا يتقنون مهنة غسيل الأموات والتكفين والحفر وغلي القهوة ونصب السرادق…. تاركين النواح ودوائر الزمن للنساء الصابرات, أما العاجزون من المقعدين والمشوهين وكبار السن, فإنهم يقعدون على مصطبات بيوتهم كل يوم, ينتظرون من يحملهم من المارة لأقرب موت عفيف.. دون أن تشطرهم الوحدة الوطنية وشعـارات الوطنجية الرنانة,عار أن ينشطروا بالوطن هم يريدون موتا عفيفا دون أن تنحر رقبته ورقاب أهل بيته الثمانية سكاكين الجوالة, المقابر تريد أن تقول أيضا: لا للنزهة, الأبواب مقفلة حتى إشعار آخر!!
ولكن عليا لا يزال يركل في بطني وهو يبكي وقد خطر ببالي أن استوقف سائق الكيا وأطلب منه أن يرميه في دولاب الهواء الكبير هناك, بدلا من أن يقف في طابور الانتظار مع بقية الأطفال المبتهجين ليعتلوا الدولاب الحديدي المـلون, ولكنه رد علي قائلا: بأن الدولاب أيضا فكر بأن يغلق نفسه لأعمال الصيانة منذ ثلاثة أعوام إلى أجل غير مسمى.. فليس هناك في مدينة الألعاب الوحيدة سوى بقايا المرجيحات والزحليكات وأكوام الزبل, رحم الله والديج حجية لو تشوفج البلدية شكد طيبة زايد ويزرعون بس– الخوشي- رُمَّان كربلائي وأكمن شجرة مشمش وكوجه ويخلون الجهال يركبون السَّتوتة بدل الحمير أم العربانات التنك! لو..
أضحك من قوله شكد طيبة زايد هو يدرك تماما بأن الحمَّالين الأطفال لن يذهبوا للدولاب الهوائي, سيتدفقون منذ الصباح الباكر من حي التنك أو ما يسمى بحي البعث سابقا وبحي الغدير لاحقا,سيستمرون في الشجار فيما بينهم.. وسيتبعون النساء المكتظات في الأسواق: لخاطر الله أشيل عنج حجية….. طيب انطيني جم فلس أرجع بيهم للبيت..
قف يا صاحب الكيا, تمهل ودعني أقول لهم:
أعبروا عيني وروحوا للمدرسة..
لا أحد يعطي اعتبارا لتوجيهي غير صاحب الكيا نفسه الذي قال لي بأن هؤلاء الأطفال يشترون ملابسهم من دود الأكفان!!
نفس المحطات, نفس الصور, لكنه هل يعرف بأن كربلاء صارت تشبه بغداد, أو كادت!! المُهجَّرون القادمون إليها نقلوا حمى بغداد.. صارت كربلاء مولعة بالتسوق, بالسهر في المطاعم والمقاهي, بالفنادق وبالقناديل.. وبأماكن الترفيه ومقاهي الإنترنيت, سيضحك المَّارة, سيتذكرون سوق الدَّهانة وسوق الصفافير والحيدر خانة والشناشيل وأنين أشجارالسدر والقباب الخضراء وأخرى بلـون الذهب الصافي, سيتذكرون الكرخ المثقوب وطلقات الرصاص المكتوم.. والتي أعدمت الأجنة حين سقطت الأمهات من على الجسر, لا ظبية الكرخ, ولا نبعة الريحان ولا ليلى ولا لُبنى ولا رائحة الآس ولا زيدون ولا عبدون ولا سعدون ولا زيُّونة, ليس هناك ما يعوض بغداد, سيضحك المَّارة وسيبكي البغداديون في كربلاء.. الفرق بين هنا وهناك, أننا تعودنا أن نقفل أبواب بيوتنا الخارجية مع هجعة الدجاج في أقنتها, بينما يمشـون هنا في الليل وبكل أريحية.. يسيرون وينتشرون كمدعوين خرجوا من احتفال كبير أما نحن فنذهب للنوم مبكرا خوفا من الصليات والانفجارت التي لا تتوقف..
لا أدري لماذا سألت نفسي هذا السؤال, حين شاهدت فتاة جميـلة في عمر ضفاف بصحبة أمها, تمسك بمحمول يدندن.. وهي تبتاع لها المثلجات من أحد الأكشاك المنتشرة على امتددا الرصيف: لو كانت ضفاف مكاني هل ستتمكن من زيارة كربلاء في مثل هذه الظروف؟ماذا عن السيطرات الوهمية,هل سيتركونها وشأنها؟ لوعرفوا بأن أباها من الأنبار أصلا؟!!ارحمني يا الله!! نفضت رأسـي واستعذت بالله, نعم أهل كربلاء طيبون جدا ولكن السيطرات يتحـكم فيها خبثاء تَتَر تملى عليهم أجندة خارجية.. ولا ندري متى نتعافى منهم..
الدولاب الضاحك فكَّر أيضا بأن يرمي بكومة المقعدين والمشوهين والمتسولين على أبواب الجوامع هكذا دفعة واحدة في الهواء الطلق, هذا أفضل بكثير فليس ثمة صدقة سيجنونها من التنزه في عيون المَّارة..
كيف أشرح لهذا الجنين كل هذا الكلام!
هو يستمر في الركل وأنا أستمر في الصلاة على النبي وآله, أحـاول أن أقشر غشاوة الأطياف التي تمر من أمامي, أن أخترع رئة ثالثة لأتنفس بها فلا أجـد سوى قماش عتيق أضمد به رجفة رئتاي التي أخذت مع القلب تنتفـض كلمـا قاربنا على الوصول إلى الأزقة القريبة من الضريح, هل عدت فعلا إلى كربلاء تلك المنائر الشاهقة والقباب المذهبة, أأنا في كربلاء فعلا.. أكاد لا أصدق نبؤة زوجي لي كيف أفلح كل هذا الصبر في مجيئي إلى هنا مرة أخـرى.. أُروِّض لوعتي بندى صوت الآذان وبنشيد النوارس وحفيف النخيل.. أتمرغ فـي معبد مدهون بزيت عصر من الزهور, يعجنني بخور المراقد المقدسة كثيرا لأستريح من وجع المدينة التي نفتني عنِّي الحنين:صبابة, وفناجين الزنجبيل: صبابة وأكباد الأرض المُخدَّرة: صبابة.. فإياك يا علي أن تشطرني عن هذه الكيمياء, عليك أن تتوقف الآن لا تحولني إلى خوذة مهروسة تحت سرافاتك أوإلى أسمال مزكرشة مشوهة وملطخة بدم سُرَّتك, قف وإلا رميتك في حانة الجند!
كربلاء حكايات فدعني أستمع إليها وندامة كأس لذيذ!!
كان عليَّ أن أغريك بالمجيء إليك فلدي حديث طويل معك وبوح لا يخشـى الكتمان كما لا يخشى عهر الحروب ولا الموت على قارعة الطريق أو السقوط رأسا في واد سحيق جمعت فيه عظام البشر لتطعم الكلاب.. آآه لو كنتُ وردة!! ولكني وردة ولا أفكر أن أعيش مثل أنصاف الآلهة, لقد فقدتكِ لحظة طعنة من ابن عمي لي.. ولكني رغم ذلك لم أعد أفكر بعد الآن أن أحبو للموت أو أضمه لأتدحرج معه فالوردة اغتسلت بك وأيقنت بإغرائها لك!
هذه الأرض أحبها وتحبني.. تسترني بأنفاس الليل وتدس تحت لساني تعويذة قديمة تحفظها أمي عن ظهر مشاحيف جنوبها الخالد,لو أنك حاضر أمامي أيها الماغوط الشاعر..؟ لمغنتطُّتك بيدي ونزعت منك قميصك الذي اقترحت عليه استبداله بفكرة قص العلم وخياطة أكمام ملونة منه ورص الأزرار فيه وارتدائه كقميص, قومي أنزعي يا كربلاء أعلامك, هيَّا, انزعيها ودعيني أخيطها قميصا اتبختر فيه, ألستِ التي من لبست ثوبا أحمرا طويلا وتخبَّطت في مشيتك الصغيرة ثم حملك جدك محمد صلى الله عليه وآله, وقبلك من فيك الصغير!!
هل تذكريني كربلاء؟
درابين حاراتك الضيقة: ضحكة خضراء تخرج من بين أسنان صفراء, ونوافذ بيوتك الطينية:شالات مطرزة ترفُّ من العين ذكرى أليمة, عتمتك:سراج, وسطوحك المنخفضة: فرش وثيرة لصلوات الأمهات, غرباؤك:حُجَّاج.. وشحوب جدرانك الكلسية: أحمر برتقالي.. هل تذكريني ؟ أصوات ناسُك الطيبين: دفتر لحكايات مضيئة, هيَّا اطلي روحي بدموع عصافيرك الصغيرة, اعصبي جبهتي بمنديل أمي ثم زُجِّي بي في عالم فسيح من الأضرحة .. وسمِّي علي بـآيـات الرحمن ثم ادعي لي بنواح تشتهيه الأجساد النائمة تحت التراب, علِّميني كيـف يكون للبكاء صدى وسط صحراء شربت أغاني الرعاة المنقرضين..إيه من عِلَّة نفسي, كل المدن تموت.. كل الأوطان تموت ولا تعود إلا أنت تعودين لتموتي, معادلة صعبة أليس كذلك؟!! قرأت ذلك يوما في قصيدة لكني بت أقتنع بها, وإلا كيف تحلَّل مسألة كهذه: يُكنس الأطفال المُدلَّلون من شوارع المدينة قبل أن تسقط القذائف على رؤوسهم المملؤوة بالأراجيح والطباشير وكراريس الرسم.. ليـزج بهم في ثلاجات باردة بعيدا عن لهيب القذائف الحارقة والغازات المذيبة للحديد ثم تشمر الأرامل وقد تفتحن للتو عن وردة باكية جميلة..
يقمن بالنوم فوق سطوح مكشوفة, ينفضن فرشهن الفارغة من القطن والمبقعة ببقع البول, يرششنها بالماء ثم يرضعن مواليدهن اللذين سيكبرون وسيشيبون في آن واحد ومع كل هذه العفوية.. فإنهن يمارسن السحاق العلني احتجاجا على الرجال اللذين ذهبوا في الحرب ولم يعودوا!!
غلِّفِيني الآن من كل هذا الضجيج العاهر, غلفيني بدبيب حزنك..
يرتفع آذان الظهر فأصمت وكأني بك ترددين خلفه: عطشى يا عفراء وأنهاري مثل وجهي المتيبس كرغيف التنورالذي يمضغه الأطفال من رحى أضراسهم اللبنية, عطشى ومع ذلك لم يهبنِ القائد المحتفل بأبديته ببعض غنائم الحرب ولو بأسمال الموتى التي وزعها على الجند الجوعى واللذين دبكوا له (الهوسات) !! وحالما ينتهي الآذان أجيبها: لم تتغيري يا أمي, لم تتغيري يا حبيبتي, يا قدسي, وعرَّابة صبابتي.. أحفري هنا في صدري نبع من عطشك وعشا لعندليب يسبح الله كلما مرت نسمة..
هذه الشهوات رحيمة بنا, وهي تسوقني في رباطة جـأش من الانهيار وسـط زحمة الركاب, لا أريد أخبرهم بما هو قادم من طريق الفردوس.. لا أريـد أن تفضحني ذراعي التي ربطت فيها شريطة خضراء, لذا أخفيتها تحت العبـاءة وبدأت أتخيل أني شبح هبط من السماء,تلك الوجوه المشرأبة للحضرة: فضيحة!
كيف لا, وأنت تقرأ فيها طحين نخلو منه كل حباته.. وشتاءً انقضَّ على حطبه فأكله دون هوادة, وجُبٍّا مطمورًا بالحجارة كي لا يسمع السيَّارة أنيـن من ألقي فيه, تلك الوجوه كيف لا تبدو سقيمة بهذا الوطن المباح للحرام!!
فأل سيء أن يتزامن الغزاة على بلادي, ليكرروا نفس المآسي ..
ارتطمنا بالنور.. وأمرنا بالنزول, تعمَّدت أن أمشي وحدي, أن التصق بجدران لونها التراب الذي سننام تحته يوما ما, الشمس تنام في كبدي والملح الذي خزنته في الماء بدأ يتبخَّر, أوشك أن يغشى عليَّ.. لكنِّـي أتذكر بأن البنفسج لا يصدأ, توشك أوراق صدري أن تسعل وعلى حافة قلبي أنين يشبه الوباء, أنوب عن كل الطيور المهاجرة, أنوب عنها وهي تنفض غبار الأزمنة عنها, أضحك في داخلي بضحكة من عاد من الحرب الأخيرة, أعود إليك وأنا أوزع هبات تسريحي من المعركة, أوزع الخبز والحليب..
يا كربلاء أهواك يا وكر النسور يا طلقة من فوهة النـحر العفيـر*
يا طفرة الوعي وميناء الغديـر يا صرخة الرفض على مر الدهور.
يا توراة الأنهار وقد تصببت منك الدماء.. وقرآن الفجر المتلو في خيمة أحفاد الأنبياء.. الأنهار التي أرقيت فيك مذبوحة, نفسها الأنهار التي اعتلتها جسـور بغداد.هي أيضا وإدت بلا ذنب, قتلتها صواريخ التحرير وحراب الفقهاء الزناة, الجسور تكلمت فتركت
خلفها فوهاة كبيرة اختبأت فيها النوارس المتزاوجة للتو والتي لم تستطع وقتها إكمال اللذة إلا بالبكاء على البشر, حتى النـوارس فقدت عقلها وهي ترى من بين الثقوب الجثث الغارقة والتي كان البعض منها يرمي بنفسه اختيار, بينما ترجرجت شموع زكريا بينها, كوني الجسور يا كربلاء هيا احملينا على هودجك واجعلينا نتكيء على شيء من الضجيج, لا فرق بين سوق الهرج وسوق الصفافير وسوق باب الخان, كلاهم يسحقوننا داخل كيـس طحين جمع من غلال الذكريات..
تتناصف فيَّ الريح والأجفان والوداع, يمسكون بي جميعا نحو المشرق و نحو المغرب.. وعلى قدح دمع واحد, إلى نهاية تسمعك سكتة الصمت الرهيـب في الكَمَان وكأني لا أصغي لصوت الحنين القديم وهو يطرق الباب عليَّ, يناصفني الأسى والأماسي الطوال..
أتتفرسين في وجهي كربلاء؟ لم أعد تلك الطفلة العذبة, صرتُ عني غريـبة, فبين أعمدة النعي أقف أنتظر دوري, فمتى يجتمع الشمل بكل الوجوه؟ ونسكن بيتا يُعيرنا الصباح ونخل مريم المقدس, هيا امسكي بيدي, امسكيها بلطف.. واعبري سرادق يحيى بن زكريا
• للشاعر القرمزي