الكرخ.. وفندق الرشيـد والجسر المعلق من جهة الرصافة والقادسية وكرّادة مريم
والباب الشرقي؟ والمدينة المستديرة بأكملها؟؟
بوابات وهمية, تماما مثل ظلال الشمس المنكسرة التي تحمي المارة من رشقات جنود الاحتلال!!
داخلا في منطقتهم يحتسون جعات الخمر وخارجا يوزعون أكياس الرمل في كل مكان, كل شارع في بغداد حولوه إلى ثكنة, سيطرة ونصب لجندي معروف فاسق
اسمه جورج بوش, ينفخ بمنخاريه وكأنه غورلا, هكذا يتفوه في أحاديثه المتلفزة: جئنا لتحرير العراق!!
يحاول تجاهل زرقة البياض في نصب الشهيد في شارع فلسطين ونصب الجندي المجهول وهو لا يعرف بأن منطقته المحصنة ديكور مؤقت وسيأتي عليه زمان تنقشع ألونه وتتفتت مثل ورق توت يابسة..
حفلة بغداد.. حفلة الحضارات التي يزعم الأمريكيون بصيانتها وحفظها من العبث, يدشنها الآن بمباركة أمريكية, يدشنها حفنة من عصابات اللصوص واللذين نبتت لهم أجنحة كاسرة كأجنحة النسور الذين راحوا يضربون بها وينهشون من جسد المتحف الوطني, حيث يرقد الآلهة المحروسة وسيوف الملوك والأبطال وخلاخل زوجات الحكام وقناني عطورهم التي ما فقدت رائحتها, يخرجون بمقتنيات لا تقدر بثمن أمام أنظار المارينز الجبانة أولئك الذين ولدوا من مؤخراتهم, دون أن يكترثوا لنجدة الحارس الذي جن عقله

وهو يلطم كالنساء أمام همجية وحوش المغول التي حولت ردهات المتحف إلى زجاج محطم وحفريات تلفظ الحجارة المكسرة, الجنود من على دباباتهم المحنطة يتفرجون لا يفعلون شيئا لحمايته, الحراس الثلاثة ينظرون لبعضهم في دهشة: المتحف نهب والجنرال خيب ظنونا! أما أنا فانشغلت بدموعي وولولتي, لقد حطموا كل ماضينا يا عادل, تمثال شلمناصر الثالث الذي حكم العراق منذ ثمانية وعشرين قرنا, حطموه بعد أن بالوا واقفين بالقرب منه وفي قاعة العرش التاريخية التقط فيها الكثير من الجنود صورهم التذكارية وهم يتدلون منه كلسان قهقه كثيرا فخرج من فم صاحبه!
أتساءل: شهرزاد لماذا ظللت صامتة حيالنا؟
ألأن غيابك موت وحضورك موتـــان!
لم يكتفوا بذلك, زرعوا الفوضى وهم يتنفسون, سرقوا النور الذي تلوثنا به, بل سرقوا مستشفى الكندي بأكمله, عرَّوه حيث لا حرمة ولا ضمير يمنعهم, نهبوا أدويته ورئاته الاصطناعية التي يتنفس بها المختنقين من غاز الكلور, سرقوا الضمادات التي لفت وجوههم المحترقة, نهبوا كل شيء, المكاتب, الكراسي, أجهزة الكومبيوتر العاطلة, المقتنيات, التحف, علب التبغ, الحلي,

العطورات, السبورات, الطباشير, النشيد الوطني, ولما رفعوا أبصارهم عاليا, لم يثر فيهم أي رهبة ذلك القوس الشهير من سيفين متعانقين, لقد تخيلوه ساقي جرادة ضخمة تقف مفرجتة عن زاوية كبيرة في عرض البحر, خفضوا أبصارهم وعبروا من بينها بسلام, حتى جن البغداديون من هول ما رأوا,بصوت واحد, بصوت ضخم قالوا: الأسلاف هم من يعيش في هناء!
لم يعد هناك ما يُخشى على سرقته, لقد حولوا جنائننا إلى خرائب بابل! نعصر الروح ولا ندري إلى أي قاع تصل!! لا ندري يا عادل
هل مات ملوك بغداد وهو يبتسمون؟!!
أين الثيران المجنحة؟ لماذا لم تطوقهم جميعا وترتاح؟!!
يا إلهي,, أين ذهبت أعراس الآلهة؟!!
ما ذنبها دار السلام؟
ليس الدمار كالشتائم التي كتبها المحتلون على قذائفهم وصواريخهم.. ولا كألم ضربة النعل على صور الرئيس وتماثيله التي سريعا ما تذهب مع أدراج الرياح .. ولكنها الجثث الفسفورية التي يحوم حولها الكلاب والبندقية التي احتضنها آخر جندي مدافع عن الفردوس المفقود..
الحلاج الذي جال بناظريه على بغداد قبل أن يشنقه, هو من دون كل هذا الدمار.
أُووور.. لا تزمي شفتيك الجميلتين, افتحيها ولا تحجبي أسنانك المنخورة! لا تنحني لتثبتي ربطة حذائك فلا وقت لربط الأحذية ولا وقت للهرج والمـرج.. فالحفلة لا تستحق كل هذا الهندام.. والشعر الأبيض لا تُزينه مشـابك الذهب.. والمعدة المتشاكسة مع القالون تكفيها كرة لحم معجونة بالطماطم وكرة أخرى من الأرز الناشف.
حدِّقي في نفسك فقط!
سماء بغداد مشوهة بالحشرات ذات المنقار الكبير, وأديمها صفيح ملتهب نُشوى عليه وقذائف الهاون نافورة مقلوبة لا تدري من أين تطلق عليك, كل شيء يحترق بفعلها لا تفرق بين الأحياء السكنية:
البتاوين, كرادة مريم, معسكر التاجي, الشعلة, والحرية, لتذهب بغداد كلها إلى الجحيم! السناجب التي كانت تتناكح أعلى الشجرة أصدرت صوتا غريبا جعلت الجنود الأمريكيين لا يفكرون سوى بالضغط على زنادهم لتتجه صوب كل شيء, صوب الأشجار والحيوانات والطيور.. أما العشاق فصار عشقهم من صلصال فخار, فهل تصغين إلينا إنانا؟! فأنت من علمنا بأنه لا حب ولا حرية في ظل الحراب…
كل أربعاء هو أسود يا عادل, كم نيسان كان يذكرنا بسبعته المغرورة بذكرى تأسيس حزب البعث؟ ولكنه الآن سيذكرنا بتسعته المشؤومة ما بقينا أبدا, كل أربعاء يذكرني بأولئك الذين فسخوا عنهم جلودهم وقطعوا رؤوسهم.. بعدما فشلوا في معركة القيم وتركوها مزهرية بليدة تتوسط طاولة زجاجية مبقعة في غرفة الضيوف, أولئك الذين لبسوا أقنعتهم وأحكموا سد الأنوف, يلبسونها لإحياء حفلاتهم التنكرية, عليك أن تزوِّر بطـاقتك الشخصية وتغيّـِر اسمك المشبوه, فهاجس الطائفية جنٌ يتلبسك وهو لا يرحم..
كل صباح أربعاء أصرخ: لك الله يا بغداد لا والي لك! ولكن هل كان الله لها فعلا؟! بعد ما صعد دخان المباني والأجساد المحترقة على طول الطريق, لم يكن ثمة نبي يزورنا في البيوت ولا طارق, لم يرفع أحد أغطية القدور ولا فم التنور, لم يغط أحد الأطفال الذين تبللت أغطيتهم ببول الخوف والرعب.. من يطرق عليك الباب ليس جار يهديك طبقا من(الدُّولمَة) أو وليمة من فاكهة مسرَّاته, بل يكسره بأعقاب البنادق! إنهم وحـوش.. وحووووش..
أما الشجاع فكان واحد لا غيره, ذلكم السكران الذي ظل يتخـبط في شارع أبي نؤاس البائت بعدما انطفأت مصابيحه وأغلقت حاناته الصادحة وفسدت أسماكه المسقوفة, فراح يصطدم بعامود كهرباء مفجوع, فتح جرَّار بنطالـه وتبول عليه ثم جلس يبكي.. بقي متكوما على نفسه حتى اختفى كقطعة شحم ذابت تحت أشعة الشمس!!
أرفع رأسي إلى سماء بغداد فلا يصيبني دوار الزخارف ولا دوران العيون, ليس ثمة سقف مذهب ولا ثريات متدلية ولا شهقة انبهار, أعود ببصري إلى الأرض, لقد شوهوا كل شيء هنا, شارع السعـدون مثلا بشركات صيرفته وسياحته وسفره, بفنادقه الجميلة ومحلات الساعات الثمينة, لقد تحول بطوله وعرضه إلى تبر أسود بفعل الحواجز الكونكريتية.. وحين تسرع إلى بيـتك مقفلا فإنك ستدخل دغلا معقدا لا تدري كيف تخرج منه وأنت تخشى فقط أن تصيدك فزاعة قبيحة المنظر مختبئة خلف أحد الحواجز الأسمنتية, مجندون في كل مكان, مدرعات وصياح وكأننا في يوم قيامة, الحدائق والقصور ودجلة الذي كان كالمرايا, تحولوا جميعا إلى وحل وخرائب كخرائب بابل, لا أشهق سوى شهقة واحدة على خسران بغداد..
أطلب الراحة من هذياني الذي لم يرحم عادل حتى وهو ميت, أستدير, أستند ظهر الرخامة, عيناي تبرق كأنها لأول مرة تبصر نفسها وسط الزحام, فتحت لي مدينة القبور فاهها الكبير كسمكة فقدت حياتها تحت قسوة الصياد, ألقي برأسي على الضريح, تلسعني مرة أخرى برودته, أتربع وأنحني بوجهـي الغافي, أشعر بأني أثقلت الحديث على عادل, ماله ومال مآسينا, ألا أتركه ينام بسلام, هو ينعم الآن بالخلود, أما نحن: فالوجود والعدم له نفس المعنى, لو كنت بطة حقيقة مثلا, لو تحولـت إلى بطة من قش أو من نحـاس فلن يضرني شيئا حتى لو نُتف ريشي وغسلت بالماء والصابون, ثم شويت أنا وبنات قبيلتي..
على الأرجح لن أُحرق قلبا أحبني!!
سأضحك بلا صوت وأنا ألون ببقعي الحمراء مريلة الجزار البيضاء.. آآه.. كأننا نكافح البقاء من أجل القيامة المنتظرة, نتقلد بقلائد الذنوب كتميمة, ذنوب الفرجة المجانية على من يسرق بنظره من ثقب الباب أو من يرشي محام معروف أو من يكذب على مجنون, كارثة فعلا أن نبقى نتفرج بهكذا عفوية وكأن العدم والوجود شيء واحد, كارثة أن يزرعوا نخيـل الزينة ليثمر في بلادي أو يعلموا السياسيين كيف يستمنون بقبضانهم الاصطناعية.
هذا التراب لا يصلح إلا للسواعد السمر والعَرق الناضح, كارثـة أن تفشي السماء بأسرارها لطائرات F16 وF15 تمطرنا بالفسفور واليورانيوم المشع والقنابل العنقودية, كارثة أن نشم رائحة الجثث من القمامة, يكفي أن تَعهـر بغداد لهذا الحد!
فوق التصور أن أشرح للموتى كل هذا السِحاق العلني! لأنهم سيسقطون من حيائهم في قدر مَرَقٍ كبير, سيمتزجون حتما بفاصوليا الفجيعة!!
أو سيخلعون نعالهم, ليس لأنهم في الوادي المقدس طُوى بل لأنهم سيهربون بسلالم الحريق..
سيتزحلقون بمرقهم الساخن.. كما هرب كومة –شمع الخيط- المرضى من مستشفى الرشاد النفسي في بغداد, بعد أن تفسخت باقي الجثث المتروكــة هناك, واغتُصبت الممرضات الجميلات وزرعت الأحزمة الناسفة في عقول المنغوليين, كل ذلك تحت رحمة العصابات الهمجية و قصف الصواريخ التي يقال بأنها أسقطتها الطائرات الأميركية عام91 بالخطأ على هؤلاء المجانين!
لم أحكِ لعادل عن زمن المحاكمات ولا عن تفاصيل حلبجة والدجيل ودوران الأيام واقتصاص الله..
حلبجة؟! حتما سيستغرب مني لأن كل ما يعرفه عنها هي أنها أخت صديقه عبدالله الكردي, مالها إذا حلبجة؟ نعم هي ذاتها الفتاة الشقراء الجميلة التي تلثغ كأمها الموصلية في حرف الراء, كان كثيرا ما يشاكس أخاه حين يتحدث عنها, حلبجة الشهيدة قضت يا عادل في مجزرة برتقالية سقت سفوح البلدة الخضراء, وجدوها وهم يكنسون الجثث المتكسدة عند عتبة بابها منكفئة على رضيعتها مريم, وقد يبس الحليب على شفتيها الصغيرتين بينما كانت يداها تلعب بمنيل أمها المزكرش, ولكنها تيبست وسقطت معها بعد أن تنفستا غاز الخردل, الخردل الذي تبَّلت به أسياخ دجاجها الذي كان في طريق استواءه في تنورها الطيني, أمّا زوجها فقد أكمل مهمتها الإسعافية فقام بحضن بقية أطفالها الثلاثة اللذين تلَّهم مسرعا من فوق فرشهم التي كانوا يلعبون فوقها باحثا عن زوجته, وعند عتبة الباب الداخلية وجدها بعد أن سقطا بالقرب من بعضهما البعض وهما يبحثان عن أنفسهما داخل الجنة التي لم يتعودا بعد على دروبها المبلطة وأزقتها الفسيحة ولا حتى على رائحة اليانسون وبياض ينابيعها.. أما الناجون من المجزرة فقد كانوا قلائل آوتهم بعض العشــائر العربية الممتدة على حدود كردستان مع تركية, ولما عادوا إلى حلبجة بعد أيام من مذبحة البخور السام التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف ليرووا للعالم الأصم بأم أعينهم ما حل بديارهم, بعوائلهم ورفاقهم, فراحوا يلفونهم في بطانيات شحيحة ويكدسونهم في شاحنات تعفنت بدمائهم التي سالت من أنوفهم الجميلة ومن أفواههم الشاهقة بالندى, وقد اسودت جلودهم البيضاء بعد أن استنشقوا رائحة الألوان الجانحة, فكل ما يخرج من بطن هذه الأرض كان دم وبلغم وجثث منتنة.. وما كان بيد الناجين سوى أن يعبروا كل هذه الألوان فالمطر لم يرتدِ الخصوبة حينها, الأصفر قاتل والبرتقالي مميت أما الأسود فوجه الوحش المتوحش! والبحر ظلام فاض من متاهة عمياء..
هو الأمل منشطر حتى على نفسه فلا فرصة وجود لأحياء من بعد القصف, حيث طواه العدم في رحلة البحث عن المفقودين, لا غزالة سترضعك حلبيها السكري ولا عشب أخضر لترتديه ولا أم ستمسك بيدك على الصراط..
لذا كانت أروح الشهداء الدسمة تنشد تعاويذها وهي فاغرة فاهها الصغير.. أحد الناجين يا عادل كان عازف للجوزة, بكى نائحا وهو ينقل الجثث إلى شاحنته فغنى:
سأنسلخ إلى الأبد..
فكيف لي أن أستنسخ من أزمنتي المنسية أغنية حلوة
أم كيف تطوقني بهذا العناق وأنا نغمة نشاز في مطاحن الحروب..
ثم جال ببصره على السفوح وقد امتلأت بالأغنام والأبقار الميتة, فأكمل نواحه بما كان يحفظه من لوركا الزاهد!
(إذا كانت الثيران الصغيرة تحلم بمنثور زاهر, دوَّت أصوات موت قرب النهر)
وكما سمعتُ من صديقتي ليال المسيحية, فإن المسيح عيسى بكى ليلتها في قداس أقامه في السماء حين استمع لـ(سيفان بروار) وهو يرتل المذبحة داخل المذبح!!
مددت ساقيَّ, شعرت بثقل الماء فيهما, ليس لدي سوى ذراع واحد أقلب فيه صوري أو التقط للمارة الزوار صورا تذكارية مع أحبابهم, سقطت مني دمعة فلحستها, أغمضت عيني على الماضي لأجد فيه السلوان, لم أجده ووجـدت مكانه قبر أبي فانكشفت لي السنون الخوالي عن صورة كبيرة لمقبرة تضم أجدادي فأورثتني كل هذه الوحشة, ها أنا أستأنس بالموتى وكأنهم حاضرون يتحلقون حول خروف ذبحته لمولدي –علي- ضحكنا كثيرا, نعم ضحكنا في قصر كبير يدعى بالمقبرة, هذه الدنيا الجميلة لا تمنحني العزاء ولا خـيوط الشمس المذهبة..
يخفق قلبي بسرعة كشفق يساومني على النزول أرضا, شددت يـدي إلى قلبي, كأنه عصفور طار وحط على فنن الوجع, تحولت إلى زهرة ذاوية من الشغف وعلى الرغم من الحصى الكبير المتناثر هنا بكثرة, إلا أنه لم يستطع أن يسد مجرى عيوني..
تحولت إلى نهر موجوع ينساب على تراب أخي فأورق من أوردتي: وردة الأحزان!!
أيها الحزن, أيها العصفور عد إلى قلبي وارقد بسلام, كن كنسيم الربيـع وهو ينام بين الأشجار الصامتة.. واترك الفضاء لصوتنا النادب كل هذه الحروب.
لكن استشهادك يا عادل كان أكبر من كل الحروب التي ألقت بظلالها علي, تبحث أنت عن ملجأ تهرب إليه من الحرب فتبتر ذراعك اليمنى تماما مثلما بُترت ذراعي!تبحث عن تشرد أكثر أمانا من وطنك فتقذفك المدافع إلى فوهة صغيرة تخنقك, بينما الكلاب السائبة والمخنثون والقوادون والعاهرات والزناة يملؤون سراديبهم وردحات قصورهم.. دون أن يرسل أحد منهم إلى جبهات الحرب ولو على الأقل الكلاب! لقد تركوهم يتفرجون على ساحات الإعدام والأجساد المعلقة على المقاصل وبجانبهم منفضات السجائر الغالية الثمن بعد أن يسيمونها بقطع آذنها وجدع أنوفها ورخص خصيانها ليشتعل الرأس شيبا في لحظة واحدة فقط..
شوَّهوكُم ياعادل, شوهوكم, خلعوا أرواحكم أمام أعينكم ثم طحنوكم بعد أن تعروا للتاريخ, كافر أيها التاريخ كافر, وعربيد كأبي العباس السفـاح حين أخرج جثث بني أمية من قبورها وراح يجلدها.. ثم استراح ضميره بعد أن حرقها وذر رمادها في الريح..ولكن مثلما سريعا ما تذهب الشهوة فإن شهوة السلطة ذهبت ذات عشية وضحاها.. ذلك حين وقف الطـاغية كأبي عبدالله الصغير- آخر ملوك غرناطة- ملقيا بنظرته الأخيرة من على جبل الريحان الحزين وقد غص بالدموع الحرَّة حينها اقتربت منه أمه فطعنته في كبريائه قائلة له: إبكِ مثل النساء ملكا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال!!
ملكا مضاعا؟ أيُّ بغداد أحدثك عنها؟ بعد السقوط صارت البهجة كذبة عابرة والصباحات بيضاء داكنة وكل ما هنالك صخب من هسيس القيامة القريب.. أما الحرية الموعودة فهي حمَّى لشهوة تأكل حسرتها.. والحبور يا بغداد ذُرَّ مع الرماد برياح أخذت أرواح الموتى للفناء أو بلجوء صديقة وفية لا أدري أين نأت بها الديار!
الديمقراطية والوطن الحر, كلاهما زورق يسبح فوق أسباخ رجراجة طافحة ببقع الزنخ.. بغداد أسئلة مؤجلة ومنفى داخل أسوار لو غن كروانه لفتت صخرة القلب العنيد..
اسخر من الآن وابتسم, صار لنا نواب يا عادل, ننتخب, نرشح, نفوووز!! النواب يترشحون للكراسي الدوارة منها والهزازة ونحن نترشح في كل يوم للموت عبر تصويت يساندنا فيه تصويت الموتى عن طريق البريد الروحي.
أي غبطة أغبطك بها إذا يا عادل؟ وأنت الحي الذي لم يمت بداخلي والطفل المذعور في أحضاني من هزيع المطر والروح التواقة للانعتاق, ضائعة أنا في عراء الأودية, عارية من وشاح الطفولة وبركان الذكريات,إي عادل بات الوادي مليء بالجراد واليباب والسراب العكر, هل تذكر الجراد يوم أن كانت أم ستوري تطعمنا إياه مسلوقاوهي منتشية بصيده: كلوه عيونـي والله يخبل كأنه محاح بيض!!.. والقمل؟ أيضا كان طعمه لذيذ! وأنت تضحك مني ومن أمي التي توسطت صحن الدار تحت دش من أشعة الشمس وهي تفلي رأسي وتقول لك: تعال ولك شوف شلون نقصع القمل!! ثم تحكي لنا حكاية أم القمل والسيبان, كيف يختبىء القمل خلف الآذان وأسفل الرقبة.. وهي تنادي على صغيراتها: حبيباتي بناتي إجاكم المشط وإيد أم عادل الفلاية يلله تخبوا ورى أذن هالبنية.آآه يا عادل حتى القمل جميل في بلادي! كيف لنا أن نستعيد بعد ذلك الزمن المفقود وطيور الروح شتتت الأصدقاء في المنافي, لقد سمعت أن أحدهم بات يأكل فطيرة محشوة بضفدع محتجا بذلك على الحرب, ولما شبع منها سقط من فوره جثة مجيفة تهرب منها الكلاب المشردة, إنه أبو طـاهر ديكان, الطباخ الماهر الذي كان يشوي الدجاج في سوق الشورجة, حتما أنت لا تعرفه فلا داعي أن أقلقك بحكايات الروائح, ولكني يوم أن أخبرني زوجي بنهايته البائسة, جرحت معصمي لأتطهر من روث الحقيقة التي تقول بـأن الفرق بين الحيوان والإنسان كبير جدا..
أي فرق حين ألونك في توابيت الذاكرة مستحضرة بخور الماضي الذي لا يعود, إني أشم بخوره مع حفنة السنابل التي تطير فوق الحقول البعيدة المدى ..
عادل, ما بك؟! أسألك ولا تجيب كأنك ترقد تحت شجرة ليمون هادئة زرعتَها بيديك في غيابي, أجبني فأنا أبكي حنينا إليك إلى أبي وأمي, إلى أول حليـب رضعتُه ودويٌّ ضج في رأسي فيما أنت مستأنس ومندمج في عالمك الفسيح. مبهر ذلك العالم أليس كذلك؟؟ كم هو حميم عالمك وأنت تثب كأرنب علـى أحضان غافية, أعرف بأنك وجدت أمي هناك, هل ضحكتما؟ اجعلها تضحك أكثر يا عادل فقد نسيت الضحك منذ أن خلت روحها منك فعوت في روحها الذئاب وصارت تأكل علف الحيوانات الكريهة! سابقا في مسراتنا الكربلائية, كنت تهبط إليَّ على غير ميعاد فتقوم بنصب خيمتك الرحبة وتهبـط بمائدتك الخرافية: لحم مشوي وزجاجات خمر معتق وعظام دسمة وحلوى لم أتذوق مثلها من قبل..طوال غيابك لم تغادرني أبدا وعلى نهر الضوء تكرتني ممدة حتى نهاية الأفق.. ثم تصعد هادئا لأكابد مجددا كل هذه المسرات! لأصرخ في في هذا الفضاء: شوهني غيابك يا عادل.. وعلى مضض تُغمض عيـني ضفاف وهي متوجسة من احمرارها وثقل الهواء المحيط بي.. آآه أنت الذي هبطت علي من غير ميعاد ونفيت روحي إليك.. مشطورة, منفية, ومُشظَّاة أنا, يحدث ذلك حين تسهو عنِّي وأنت متواطئ مع أزمنتك الجديدة, مشظاة وكأنَّ أمي التي نزلتُ من رحمها البارحة ماتت فور خروجي إلى الدنيا.. إيه أخي.. بي رغبة للبقاء معك كفلاح عنيد يرفض أن يترك أرضه التي رواها بعرقه, ولكن البئر التي حفرها لعشرة أمتار اكتشف أنها ناضبة, لذا لم تنفع معها المضخات اليدوية.. فعاد الفلاح إلى مصطبته المسقوفة بالقصب يلعن السماسرة في قلبه, السماسرة اللذين شربوا حتى ماء البحر ومسخوا بغداد عن بكرة أبيها, ممسوخة كالصراخ الذي لم يعد يناسبنا بعد أن غصصنا به وذبلت في وجوهنا كل الغصون الناضجة بالهناء, ولإنها صارت ممسوخة فإني أتوق إلى النسيان والعزلة.. أما أنت فلا بد وأنك قد سهوت عني فوق كرسيك القماشي الهزاز.. ثم رحت تشخر مستلذا بكسلك المخملي وعليك مئة وردة بيضاء تهف بعطرها البارد, تسهو عنِّي وأنا وبغداد حكاية للبوح وورقة سقطت في زحام الخريف, لذا كان عليك أن تأخذ فسحة من شخيرك لتزدهر بفتوتك وفضاءات حريتك, فكِّر مثلا أن تنقرض في غلاف الزمن وأن نترشح نحن للموت في أي وقت يغافلنا كذبابة تصفعها على حين غرة, ستجـد بأن الهذر أكل رأس الموت الذبابي فراح يترنح ويطلب الراحة منا ومن مآسينا الموروثة دون أن يشعر حتى بتأنيب الضمير!! لهذا عصب رأسه بعصابـة برتقالية وأخذ يفتك فينا نحن البسطاء, يفتك ضربا بيديه, بالقنابل, بالوشاية, بالحصار, بالطائفية, يدخلنا الحمام دفعة واحدة, حمام لونه أحمر,هناك يُجبر الطفل الجميل ذو الخمس سنوات على أن يغتسل بدمه, لأنه كما يبدو أفسـد طفولته باللعب والدلال المفرط, والموت لا يريد منا سوى الثأر والانتقــام والاحتفاء الرمزي لوحشيته حتى لو غطَّ الرماد جمرته, فسيظل يبـحث عن خمرة التطهر من بني آدم ليمارس فينا عفنه النجس الموروث من بؤر إبليس السرمدية, ذلك ليهبنا الموت ألف مرَّة, مرة يبقر البطون, مرة يشرب الوردة, مرة يصُبٌّ العيون, مرة يمضغ الكبد, مرة يبيع الجثث المخطوفة كأنه يفلسف الموت بطريقته الخاصة حتى لا تستطيع أن تميز بين الإعدام موتا والإعدام حياة!!
كل بقعة ضوء يا عادل حولوها إلى تابوت واغتصاب واعتقال ونهب ودماء وكأننا عدنا للوراء وبأبشع ما يكون.. حتى غدت الكلاب والذباب والقطط أحسن حالا منا, لقد قدموا بالمجان مآدب من طقوس مدججة بالعبث العربيد في مزرعة الأجساد..
يا إلهي من يؤرخ لكل هذا الخراب؟!!
أنت الذي رأيت كل شيء يا عادل, رأيت الأصفاد وذقت الرعب وتجرعت غصص الجوع ووجع الجلاد.. شربت قصص أصدقائك القدامى في كأس مليء بالقيح, كيف لا وقد واراهم التراب وعفن الحياة بنهاية غير مألـوفة سوى على الوحوش السائبة.. أنت من قرضتك الأيام مودعا يوما بعد يوم صحبك ورفقائك البائسين وبقيت تعبر حاشية الظلام مخبئا فانوسك تحت سترتك خشية من الريح المتربصة بإطفائه.. عبرتها وقد شددت على وردة قلبك الأخرى والتي كادت تفصح عن احتجاجك على الموت غدرا, يومها دخلت علينا منتصف الليل ونحن نيام, صعدت إلى خلوتك التي مزقتك شوكا, فكرتَ بالهروب من وحدتك ولكن الأبواب كانت موصدة نحوك, أتذكرُ هلال موزع البريد؟ وعلوان راعي الحب والزنابق, تذكره جيدا؟ وغايب الذي تاه في قلبه؟ تعرف بأن صديقك هلال ترك وراءه كيسا من شوال أبيض وجدوه أسفل خندقه الذي دخن فيه آخر سيجارة حرب, فجمع فيه الرفـاق بسطاله المتهالك, قبعته المرقطة, سنه الذهبي الذي خلعه حين أحس بقرب منيـته!! رسائل كانت يكتبها كيوميات محارب, وصورة, شمسية تجمعه بطفلته خلود الباسمة ولكنك لا تعرف حتما بعد ذلك أن خلود ناعمة الخدين, صارت تمسك بعباءة أمها كل يوم لتتسولا في مدينة الجياع بالقرب من الجامع الكبيـر, فيلعنهم اللصوص والأكباد المجنونة من فرط الحلوى! علوان -الشقي الآخر- استعجل نفسه وأراد لها الثأر والكرامة, فعلق نفسه قبل أن يعلقوه على أعواد المشنقة, مخلفا وراءه ابتسامة ساخرة من صوت مفاتيح الزنزانة الانفرادية والتي تقيأت زيتها قبل أن تنزلق في بقع المفاجأة.. أمَّا غايب فعاد إلى بيته متأخرا بعد أن وضعت الحرب أوزارها..عاد مترنحا في مشيته الثقيلة وهو يرى نصف الطريق الترابي الذي ما برحت تفراقه المدرعات الثقيلة وأكداس الجنود.. كان صوت القصف لايزال يسكن أذنيه التي ما نسيت صوت العود يوم أن كان يدندن عليه ( صغيرة جنت وأنت صغيرون..) لقد خسر خـاتم خطوبته من نُوَّار بعد أن فقد إحدى عينيه بقذيفة إيرانية, فظفر بتسريحه من الخدمة العسكرية, وبساق نصف مبتورة بلغم لعين, كان هذا كفيل بأن يشوه دمامته الأصلية..
إيه عادل… رأيت الموت الذي ربما اعتدنا على صوره البشعة, ولكنك لم تر ما فعلته آلة الحرب الأمريكية المتطورة وهي تحرق الأخضر واليابس بأسلحة تحرمها دوليا وتبيحها لنفسها وقت الضرورة! متحاشية آبار نفطها الذي شربته دفعة واحدة ولا تزال.. فظيع أن ترى وطنك يستباح, فظيع أن يتحول ليل بغداد الجميل إلى ليل مضاء بالقنابل الفسفورية, أنت لم تر ذلك.. ولا ندى الأعشاب المولع برائحة الأجساد المدخنة,هل تتخيل مولودا انتظرته أمه بفارغ الصبر يولد بلا أصابع؟ أو بلا ملامح؟ أو بلا أطراف؟ أو بعيـن واحدة؟ أو بدماغ ضخم كدينصور منقرض؟تلك هي المآسي ومراثينا بلا عدد
نسيتُ بأن أقول لك يا عادل
بأن خلود المدللة ببقايا الأطعمة, ونكات الساخرين تخلت عن مشروعها المستهلكة فكرته!! وتحولت إلى ضحية جديدة من ضحايا الحصار الـذي ضربته علينا أمريكا مطلع التسعيينات, انتقلت إلى بغداد طمعا في الرزق, ولكن الحصار كان بالمرصاد, بدأت مع والدتها ببيع كل ما تملك كما باع غيرها من العراقيين, باعت شبابيك نافذة غرفتهم الوحيدة وبقايا غرفة نومهم المستعملة وكتب هلال المترجمة التي كانت تحتفظ بها والدتها كذرى حميمة لزوج اشتهر بين أوساطه بثقافته الروسية, كما كانتا كثيرا ما تبيعان دمهما للمحتاجين, ولمن يدفع أكثر طبعا وبالرغم من أن زوجة هلال فكرت في بيع إحدى كليتي خلود حين تراكمت عليها الديون بعد أن دلـها أحد( الشرُوكِيِّه) على أطباء يمكنهم مساعدتها في ذلك,حيث ينتشرون في حي البتاوين, جارها سعدون الذي كان مهندسا كهربائيا شعر بخيبة أمل بسبب بطالته الممتدة منذ أيام النظام السابق ولما سقط النظام وقامت الفوضى مكانه, تصور بأن أملا جديدا سينبلج ولكن بعدما دُمرت معظم محطات الكهرباء في بغداد تخلى عن أمله وقدرته على التفكير في جدية فكرة الوطن أوالمهنة الشريفة حتى أصبح عميلا لعصابة تبيع الأعضاء البشرية, وحين يأخذ العنف استراحته من بغداد يتحول لبيع الصحف وأشرطة الفيديو والأقراص المدمجة الممنوعة ولفائف الحشيش..
هناك في البتاوين تستطيع الحصول على كل شيء, الوجوه التي سيمـاها السمسرة, العيون التي تسألك بكم تبيع؟ وماذا ستشتري؟ أجساد؟؟ حشيش؟ جثث طازجة؟ شهادات عليا؟ رهائن مُختطفة؟ إلا أن خلود وأمها المسكينة تخلتا عن فكرة بيع الكلى وتحولتا إلى بيع من نوع آخر..
نعم,رأيت كل شيء ولكنك لم تر مجنون المحلَّة الذي أصبح من اليوم الأول للاحتلال يطارد دجاجة نجت بأعجوبة حين أفلتت منه محاولة الطيران, ولكن الصاروخ الذي أحرق الحظيرة بما فيها ظفر بريشها الفتان فنتفه عن بكرة أبيه فعاد المجنون يطاردها وهو يشتم بشتائم بعثتنا على الضحك في أشـد وقت نحن بحاجة فيه إلى البكاء.. ويحٌ لعاطفتنا التي تبكي كل شيء, شعب مَن حتى يخلقنا الله بكل هذه العاطفة؟ أدركنا يا عادل, أدركنا واشـرح لله أسباب حزننا الطافح فلعله يرحمنـا, قل له بأن جسر الصرافية الذي غرق في دجلة بكاه العراقيون كما يبكي أحدهم ابنا أخذه الموت في غرة شبابه.., وبأن الحمائم ناحت مع النسوة الاتي تجمعن أسفل الجسر عند الجرف.. وهن يلطمن في مسيرة جماعية للبكاء, قل له بأن الفجيعة أنهكت العشاق ولم يجدوا طريقا أقرب إلى الله من أن يرموا بأنفسهم في عرض النهر!!!
أي عادل, تصوَّر بأننا نعيش في حماية اللهفة للفرح.. اللهفة فقط, ولم أقل الفرح ذاته,لأن الفرح عندنا مثل طائر جريح ضيَّع الصياد المكان الذي سقط فيه وتعفَّر!كم هو أحمق ذلك الصياد حين يتأهب لطلقاته ثم يغادر الغابة خاليا وهو يرى بأم عينيه كيف يهوي الطائر متأرجحا أمامه..
أي سِكيِّنةٌ تُرى تضامنت معه؟!
الحزن تورط فينا بشكل فظيع, افترسنا من ناب القحط ومن وشائج الوجع مشَّطنا وقضمنا قضمة قاضية فانشطرنا وتشَّيظنا وما عاد ينقصنا سوى أنين المطر الذي يهطل متأخرًا.. ممتزجا ببرك الدم المبقَّعة, النازلة من مزاريب البنايات المحترقة.. والوزارات المستهدفة والحاضنات اللاهية والمـدارس الضاحكة في الطابور وهي تنشد موطني.. موطني.. ينزل المطر بعدما تهدأ العاصفة وتصمت صافرات الإنذار وسيارات الإسعاف عن عويلها, وحالما تُعيد سيــارات الإطفاء خراطيمها يائسة إلى استراحة شبيه بنعاس الضحى و تُوقف مطرها الاصطناعي, يعود فيستمر بعد ذلك الدم في النزيف على طول طريق الموت ومدن الموت وساعة الموت وكل مافي بغداد موت في موت وعَدَمٌ غلَّفته حرارة الرصاص المُوشَّى بالعواء..
يا إلهي كيف يروق للرصاص أن يرقص بين الأعظمية والكاظمية؟ دون أن تأخذه رهبة من نام في المراقد؟ أوليست السماءُ سديم لأرض الله!!
ثمة ارتعاشة تأخني يا عادل حين أرفع عباءتي عن تلك البقع وأنا أعبـر شارع حيفا المكتظ بصلوات من نجا بأعجوبة !! من عبوات ناسفة يلصقها المرشحون وقذائف يطلقها المعتوهون بالسَّفح المجاني, وكل ما هنالك حكاية الملح اللحوح وهو يسأل دون أن يجيبه أحد: من يحرقنا بالنار؟ من يقتل من؟ وهل هناك أقسى من أن يقتل الأخ أخاه؟؟! الجواب يا عادل أن تبقى مكتوف الدهشة عن العيون الملونة بالأحمر وبالأزرق وبالبنفسجي لتَكُفَّ عن الأطفال المرحين بدبق الحلوى, أمامك ينصهرون, ينعجنون, حيـن تأخذهم على حين غرَّة عجينة المتفجرات لتشكلهم كحيوانات مُصَّت عظامها الطرية.. فبـانت مرتخية الأعضاء أو طيور نتف ريشها, ستنكسر دهشتك وسيطعنك النهر في خاصرتك كما طُعن الكرخ والرصافة!
هي بغداد في حلتها الجديدة, بغداد الله التي تسربلت بأقدارها الخرافية, كم هي مزعجة تلك الأقدار ومخيبة للظنون..لئيمة هي فواجعنا فلا شيء يُغرينا بالمواساة غير فواتح الراحلين التي يتقاسمها العراقيون بلا استثناء, الحزن نفسه لم يجد ما يستره بعد أن تجمد في الضلوع.. لا بطانيات, ولا سترات واقية من برد الحنين للأحبة لا غاز ولا مصباح يؤنس وحشة الشاي المخدَّر حتى القمر الذي كان يدخل شرفتي بلا استئذان, استحى من الشوارع التي ستنفجر غدا في وجوه الكاسبين على باب الله, دون أن يطلق إنذاره المبكر بالاختفاء عن الكون بالكلية مثلا, فقرر أن يحتجب جزئيا لينخسف إلى أجل مسمى, مما دعى أسراب النمل الباردة الدخول خفية إلى فراشي, باحثة عن دفء وضوء تقسم فيه حبة سمسم يابسة, تلك النملات البائسة عبثت بأحلامي وشبعت من الخسارات..
هي بغداد لم تتنصل من تاريخها:حرائق نينوى وسد ينخره المغول بأظفارهم الحديد, هي قارب من خشب نقش في مؤخرته: سيَستحِلُّك ملكٌ لايبالي أن يلتهم ثلاثة خراف مشوية دفعة واحدة!!
تلك بغداد يا عادل: مُبرَّدةٌ في حافظات فلينية مغمورة بثلج قذر, يدور بها صبي يتصبب عرقا, يكسره فيشتريه بائس مثله فيشربها على قارعة أيامه الخاوية وهو منتشٍ بكأس العَرَق وفي صحة العراق أغاتي!!! بعد ذلك ليس عيبا أن تقذف بغثيانك في حديقة الأمة, فهي ليست سوى أحشاء مبتهجة في ليلة عرسها وأحماض مُرَّة انزلقت من حافة الروح الصاعدة من كبد مقلوبة, (والله يكون بعون السكرانين!) بجرأة يتجشأون يا عادل, لو أننا أعطيناهم نصف كأس من ماء البحر لما تلوثت الأمة! ولكن بغداد خربت كما خربت البصرة! وكل ما فيها يصلح بأن يكون مشروع سكارى بخمرة الموت, إلا الأسماك الرديئة!!
دعنا من بغداد الآن, لقد أصبت بالغثيان!
آه لو أنك نهضت من قبرك, ثم اصطدتني من غيبوبتي برائحة ثيابك التي أعدمت فيها.. أي إيقاع سيضربه السومريون لي؟!
الزمن السعيد؟
أم ذراع المرساة؟
أم زغرودة العالم المقدس؟
أم صمت الخلاخل في حضرة رئيس الكهنة؟
أنا لا أداعبك بهذا الهذيان, فأنت زنبقة في تاج المعبد, التاج الذي يضعه كل ملك على رأسه في السبع الليالي الأولى من توليه العرش..
هيا دعنا نقف على حافة المعبد, تحت الظلال الممتدة على بصر الطفولة, تلك أسطورة أعشقها وترنيمة الكون الأولى حين صدحت أصوات الحيوانات والإنسان معا, غير مبالين بالخوف, مستأنسين بدفقات الروح وصِبيِةٌ ينامون كل ليلية وهم يحلمون بالليالي المقمرة على السطوح, والقمر يثب على حبال أمنياتهم أو وهم يركضون بين الأزقة خلف الشمس العنيدة وهي تؤجل لهم غروبها ما استطاعت من أجل ملاعب الصبا والأزقة الصاخبة بصراخهم وكركراتهم..إيـــه عادل, كبر الأطفال وماتت سلالة الضحك, استحالت الكركرات وانقلبت إلى قصيدة سائغ مرها على لسان الصائغ يوسف, أليس هو القائل:
أنا لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني
لكني أنظر من قلب مثقوب
و أميز بين
الوطن الغالب والوطن المغلوب ..
لم يكن هو المغلوب وحده, سيدة التفاحات الأربع التي غنتها الجنائز كانت مغلوبة أيضا وغالبة في نفس الوقت, لحظتها نطقت على لسانه:
حين صبوا على القبر
ماء الوداع الأخير
فكــرت :
لعبة الموت مضحكة
و راحت تقارن
بين تابوتها والسرير !!
بيد أنها لو عاشت ما عشناه ورأت ما رأت من بغداد, لما اختارت سوى تابوتها سبيلا.. هي من رأت مشهد النسوان الخمسة التي انصرفت إلى فعل بطولي في نظر عشتار وهن يُدِنَّ بفعلهن صمود نصب الحرية إلى الآن, لقد نطقت على لسان الصائغ مرة أخرى:
الليلة قبل طلوع الفجر
نزلت من نصب الحرية
خمس نساء في مقتبل العمر
يحملن شموعا موقدة للشهداء
لم يبق على النصب
سوى تلك السيدة الثكلى
تمسح بالزيت وبالطين
عيون القتلى
مرة أخرى أعيد أصابع يدي إلى رخامته,أمسحها بلطف:كم هو نظيف وطني حين تضع الدجاجات بيضها دون أن يسرقها ثعلب الجيران!! أمسح مـرة أخرى واقترب أكثر من عادل, أخاطبه في رجاء:
حدثني يا عادل هل تتناسخ الزنابق؟
بعد أسبوعين من خروجك من بيتنا وأنت محمولا على أكتاف الرجال السبعة خرجت جنازة من بيت حجي سالم, عرفت من أخته أنه من ضحايا النظام, لقد مددوه على ظهره المهشم وبكاه أهل بيته بنواح هشم الأخشاب الموقوفة على روح آل سجَّاد,أمه شمت فيه كل شيء, وجهه, رقبته, صدره, ورائحة ثقوب الرصاص, حتى أنها لحست طرف ابتسامته الجريئة.. خجلة التعابير أن تصور مشهد التناسخ هذا, عيناه برَّاقتان مثلك, وحزينتان يشع منهما لهب الالتياع, كم هو حميم أن تُقبِّل ميتا في شفتيه, أخته علياء فعلت ذلك مرارا فتطهرت من تشرد روحها وروث الحياة!! كما تشردت أنا, ألم أقل لك بأن الزنابق تتناسخ, ذلك لأن كل ما مر بنا من حروب كانت لامجدية, كطيارة ورقية علقت بشجرة الرصيف حتى انقطع خيطها الساذج وكان نسيا منسيا في مهب الريح..
مابك صامت يا عادل وكأنك تغبطني على حياة تعاش مرة واحدة, أي حياة وأزهار اللوتس تطفوا على مستنقعات شبه منفية في وطن متوحش يرقـص فيه الإرهابيون بعصيهم التي سرقوها ذات غسق أحمر, سرقوها من سمـر الفلاحين الضاحكين في حضن العنَّاب ووادي الفرات المقدس, لقد شذبوها بحطام الخديعة وحولوها إلى سيوف قطعوا بها رقاب المزامير الهاتفة بالحياة وبعد هذا,قل لي بربك أي كفاف للخبز تبحث عنه إذا الزوجات بارعات في الإنجاب ولعق القضيب؟!
ما عليك الآن, هو أن تتذكر جيدا وأنت مستلق على ظهرك, أن ما فـوق الأرض: شبح الغيمة العابرة وكأنها نذير شؤم لكل من داهم الفرح قلبه وبأن من خلع العينين انفرد ببكائه كشيطان انزوى عن سجدة موحد!! وبأن مرارة حمل أثقال الجيرة إلى قِبلة تولي وجهك نحوها وأنت مُهجَّرٌ أحلى بكثير من بارود الأصدقاء المختلفين معك في المذهب أو الدين, وبأن الأزمنة الضائعة تذهب, بينما مراثي الأيام هي من تبقى ذكرى تُغلِّف الأوردة والشرايين.. عليك أن تدرك بأن الرمق الأخير الذي أخذك.. كانت صورته أخلد من كل الفواجع المكفنة بالدماء..
آه.. مالي أراني حزينة وعزلى سوى من الغصَّات الخانقة بالرغم أني أراني على حافة الساقية.. أحملك كطفل نائم, لم تكن ثقيلا, كنت محدقا في السماء المنطفئة النور, كنت مثقوبا بطلقات رسمت خريطة على جسدك الرشيق, كدمات ورضوض أشبه بالأوسمة الوطنية, ملفوفا في بطانية تفوح منـها رائحة الحموضة والعرق والرطوبة, تلك بطانيات الجنود التي جمعوها من إحدى الخنادق التي يشخر فيها البقُّ والصراصير, كانت الثقوب شاهد حي على الوطن البريء لذا كان علي أن أحزن وأن أرفع مرساة السماء!! لم تعوضني الشمس المتثائبة شيئا من نورك وأنا أرمم بقبلاتي تشوهات جسدك المنطفيء بأعقاب السجائر, كان على الشمس فقط أن تلون حنجرتي بزيت الظلام والحُمَّى المتكررة دون أن تواريها المدافن, لأن ثمة احتيـاطيا وفيرا للحزن فأنَّى يوارى وهو يُشيُّع حتى ضباب اللذين فنوا قبل دهور في حروب نشبت هنا وهناك.. وإذ طرحتُ عليك فكرة التناسخ معك انكسرت الأبواق وراح الغجر يتشتتون في البلاد بعد أن باعوا كل ما يملكون من الطبـول والصوالج النحاسية وجوقة الزغاريد وخلخال الزمن مرددا صداه في الوديان البعيدة ينعى هذا الزحف الجماعي لقبيلته فخرجتُ دونهم مكلَّلة بالخيبة لاعنة كل ماهو أمامي, حتى نصب الحرية لعنته يا عادل, صرخت في وجهه لأني رأيته يتفرج على شتاتنا, على نفي من نُفي وذبح من ذُبح وتهجير من هُجِّر وتحزيب البسطاء وتسييس التُقاة وتقسيم الطوائف وعبث المفسدين وتـآمر الخائنين وضجر المرضى بالديمقراطية والمصالحة الوطنية المُزيَّـفة, حتى شبعت من سبابي وأيقنت بأني ألعن فيسفاء خالدة لاحول لها ولا قوة!!!
كما أن النُّصبَ ذاته وقف بليدا أمام آخر جندي هرب من نقطة التماس مع الأمريكيين الغزاة, ما كان بيده وهو يرى بغداد تهوي وتُستباح سوى أن فتح كيسا كان عابر إلى قمامة التاريخ, فتحه وبال فيه ثم ربطه وأعلن ندمه على بغداد.. مشى إلى بيته القريب من ساحة النسور وهو مهزوم من الداخل وقد ظل طريقه بين زحمة الرتلات الأمريكية التي شوهت المدينة.. بدا وكأنـه يسكن شقة مشبوهة والدخلاء هم من يعرفون أين يسكنون!! أعلن ندمه مرة أخرى لأنه فقد جرأته على البصق في وجوههم المدججة حين رأى علمنا ( الله أكبر) بيد أحدهم وهو يمزقه في حالة هستيرية.. لم يفعل شيئا, توقف ليشرب من حنفية أيامه السوداء..
أمه التي تعيره دائما بأنه ( مصَخَّم الحظ) كانت صدقت هذه المرة, سأل نفسه: اللعنة هل سيأتي علينا يوم يبيعنا الخونة من عَرق أجسادنا؟ هل سيقبل الفلاح- أبو التمر-أن يبيع( كَاعَه) مقابل ثكنة عسكرية تقام على أرضه؟
آآخ هاي شلون بلوة وحظ خَرَا, أنعل أبوكم شلون عملاء مناويج وقنادر أولاد كَحبة, وساقط ابن ساقط الي يمشي وياكم..
لم يكمل مسبَّاته لأنه ارتطم بزجاج أحد المقاهي المغلقة, وهناك أرشده أحد المارَّة الهارعين إلى ملجأ في البناية المقابلة, يصيح به: أمشي خويه ويايه الأميركان دا يقصفوا كل شي, ولكنه فضَّل أن يمشي وحده منكس رأسه ولما رفع رأسه ليرى الطائرات الحربية وهي تحلق في سماء بغداد,بكى كالنساء: باب المعَظَّم؟!! بويه شجابك لهنا؟!! استمر في بكائه, يومها بكى كل الشرفاء يا عادل, حتى بائعة الهوى فتحت نافذة شقتها ورأت الكرَّادة وهي تُشوى قبل أن ينتف ريشها, البائعة التي كانت تضحك كثيرا هزَّت معصمها الذي رن بأساوره, سمعت رنينه الباكي لآخر مرة فانزوت على كرسي بعد أن أخـذ منها الشراب وبكت..
الفرات نفسه الذي كان يسقي ضيوفه العطشى, منتصرا بكَرَمِه على بطاقة الحصَّة التموينية والتي ذاب شحمها على خد القدور: شمعًا مغشوشا, الفرات الذي غصَّ بحِراب الطوائف وهي تتسابق على فضيلة الذبح وقربان الضحيَّة الفرات الذي قسَّموه حصصا لكل طائفة نصيب…!! إلى الرمادي والناصرية إلى الفلوجة وكربلاء إلى الحويجة والحلَّة والنجف..لك مو هذاعيــــب!
الفرات الذي سيقصُّ على النبي محمد اختلافنا في علي وعمر والأوليـاء الصالحين, الفرات الذي يروح فدوة للعراق!!
الفرات أخو دجلة الخير, الفرات الذي شيَّع جسر الأئمة في تابوت عثمان الزبيدي
– مُنجي الغرقى- الفرات بكى وإن كانت دمعته عزيزة!
كل شيء تحول إلى شبح, حتى تماثيل بغداد صارت أشباح, صـوب جسر الشهداء سيلوح لك شبح الرصافي والذي وقف أمامه سكـران أثناء حفلة المحتل وقد كان يُحسن الحديث إلى الموتى, اعتذر إليه بداية عن تأخره في المجيء إليه وإنقاذه, ثم اقترح عليه أن يذهب به إلى بيته خوفا من جشـع اللصوص ولكنه لم يرعه سمعه, فتركه وجلس تحت شجرة تين يابسة, جلس نادما وحزينا كآدم, مرددا في خراب روحه:لا والي اليوم عليكم!! يسـألهم: لماذا تختبؤون عيوني؟ هيا اخرجوا من البنايات واسرقوا كل شيء..
حتى الرصافي العظيم عليكم به اسرِقوه كما حملتم على ظهوركـم الكراسي والحواسيب والثريات والكمنجات الطبول, عربدوا كما تشاؤون ولكن إياكم أن تغنوا(يايمه انطيني الدربيل) لن توقفكم الهمرات من أجل أحلامكم البسيطة سيمر بعد قليل رتل من الهمرات ليمشطكم, وستقف النساء ترقب الجـنود المعتلين إياها بنصف عين من الترقب والشك والخوف.. وقد غطين نصف وجوههن بعباءاتهن, وجوه الأمريكان تبدو مثل مراحيض مدارس الثانوية, قذرة ومليئة بالعبارات السوقية.. إنهم شبقون جدا لدرجة أنهم يبحلقـون في صدورهن النافرة.. أنعل أبو الي جابهم..
رفع بصره مرة أخرى فوجد نفسه في الحيدر خانه أمام الجامع, كان مفتوحا وكأن شيئا لم يحدث, يدخل المصلون فيلمح أحدهم وإذ به أحمد ابن الحـجي لَفتَه, يسأل نفسه ويجيب, تذكَّر بأنه كان صديقا له في كتيبة الجنود المشـاة, هل حقا عاد من إيران ضمن وجبة الأسرى العراقيين؟ تركه دون أن يُنغِّص عليه صفو إيمانه, بينما استدار هو ليشعل سيجارة مُرَّة ليحرق بها ذكرياته.. والآن دعني أسألك: هل كنتَ فائضا عن حاجتي يا عادل؟
أنا رأيتُني في المرايا فانعكست صورتي هباءا في هباء, إذ كيف لوطـن مفقود أن ينهض دون رجاله؟ أم كيف لإمرأة ضائعة بين أصابع تراجيدية, كيف لها أن تحدد معالم حاجبيها الرقيقين وتخضِّب يدا واحدة بالحناء؟! هاهو تيار من ريح طيبة أخذني إلى إغفاءة قريبة منك, هبطت بي إلى سلم الأرض, كان ممرا ضيقا جدا ولكنه أوصلني إلى ميدان فسيح, هناك رأيتك كعروس مسجاة في تابوت تحيط به الزهور, مبتهج وأنت ترنو ببصرك إلى السماء التـي تلونت بالمسرات, وكل ما في الأمر يستدعي للتأمل والابتهاج, هناك رأيت صديقك رشيد, عبر بجانبك دون أن يتوقف أمامك ليتأملك مثلا أو ليقرأ عـليك الفاتحة..
رأيته يقطع الساحة وهو يدور ثملا وقد حمل صندوقا خشبيا من الوسيكي, مطوقة إياه فتاة شقراء, رائعة الجمال, فارعة الطول, وكان بجانبها يمشي كبطريق عجوز, رشيد- رجل المَهام السِّرية- أعلن عن توبته من دروشته كما يحلو أن يصف بذلك نفسه مفتخرا بصق على الزمن الغابر وعلى النظام السابق, كولد برَّ بأبيه ليأتيه بخبر صعب المنال, لكنه ركب الحمار ومـشى بالعكس, تلك هي الخيانات التي تربى عليها.. والضمائر الميتة ومستنقعات الوحل التي رمته في هاوية العزلة, العزلة بإبليس أيًّا كان نوعه, بعد أن فقد الأمل في الاستمرار في مهامه الصعبة المستحيلة, ماذا يفعل وقد تحول كل شيء إلى البيع, الوطن, الالهة, والأنبياء في بازار كبير, يدعى ببازار البيت الأبيض, يُروَّج فيه باجتثاث كل ما هو عراقي!
أمسك رشيد بشيطانته مفتخرا بإعادة شبابه وما فاته من الملذَّات, مر من حانة شعبية, توقف دون أن يدخل إليها رغم إغراءه بالدخول من زبائن ظهرت على سيماهم عبث التطهر من بؤس الواقع, مطلقين سبابهم البذيء والذي دوَّى في أذن عشيقته فخدش كبرياءها: كس أم شرموطتك!!
رفع يده لينهال عليهم بالضرب, لكنه تذكر تحيته العسكرية التي كان يرفعـها لأسياده وهم يلعنون والديه إلى سابع جده حين يتأخر في جلب الأخبار السرية لهم ومكاتيب الوشاية فتنازل عن حقه في الرد وهذا سياَّن عنده فذراعه مخلوعة منذ ذلك اليوم الذي نام فيه ببذلته الخاكية على كرسي رئيسه سهوا عن ملذات السُلطة, لذا صار يفكر أكثر واقعية, بطعم ورائحة تلك اللعوب فهي من ستدخله حتما إلى تيه الجنون حتى لا يقوى على مغادرة العالم الآخر.. حيث لـم تنفعه نياشين وأوسمة الرجال اللذين ظنوا بأنهم سيغيرون وجه العالم بالدكتاتوريـة.. تمايل على كتف عشيقته جميلة, ضاحكا ضحكة هزت الميدان الصاخب بمقاهيه: في صحتك وصحة الأيام السعيدة, في صحتك وصحة العراق الجديد! ردَّت عليه بخبث: ليش هو عدنا عراق قديم وجديد!! مو كله نهب وشفط وخراب وزبـل وضراط متوضي بدجله والفرات..
تابعا مشيتهما وهما مترنحان بصمت, ثم تلألأت دمعة في طرف عينيها لمحتُها وهي على حافة ابتسامتها الشَّهية..!
نزلت دمعتان من رشيد, ثم أمسك بها مسرعا وكأن صحوا أنعش فؤاده وأطلق رجليه ..
بقيتَ فاتحا عينيك للرياحين, اقتربتُ منك وفكرت أن أرهن لديك كل مـاهو نفيس لدي, كل ما ادخرتُه من سلاسل ذهبية, وقلائـد طبع عليها اسم والدينا ومشابك شعر مذهبة وزمن الأعراس الحلوة لكني تذكرت بأني أخبؤها في علب المخمل داخل أدراج محكمة, كنت أحتفظ بها للنوائب أو لأشتري بها لضفاف تاجا من ياقوت..
عدت إليك منكفئة على يقظتي وقد رُفعت السلالم بيننا, ما كان لي أن أسأل ماذا حدث بالضبط؟ أو ماذا شاهدتُ؟ يكفي بأني شممت رائحتك الزكية وأدركتُ بأن السلالم رفعت حقا..
لا عليك أخي, فاليقظة كانت خضراء ولا يهم إن كان بعدها سيشي بك الخبراء الأمنيون إلى مرتزقة رموا بفضلات عظام البشر-االخِراف- في الوادي السحيق دفعة واحدة, ثم طمروها حتى يكتب الله بأن ترى العينُ عينَ حبيبها وقد يبست واتسعت في حدقة تصلح بأن تكون حفرة ترمى فيها كل حاجيات الروح.. آه كم وسادة كان سيتوسدها قلب لولا المقابر الجماعية!
والآن..نم قرير العين فالموت لم يعد كابوسا يخشاه العراقيون فهو ظلهم المديد ورغد أحلامهم الماثلة أماهم في كل محطة.. نحن لا يرعبنا الموت, كما ولا نستمع إلى وقع الرصاص بمعاناة شديدة, كما أن الجلاد لا يطلب من ضحيته الانحناء فسيفه يقطع وردة حياته بحدَّة,نم قرير العين لن يشي بك أحد, لن تقوم من نومك فزعا ولن تأتيك أمي بطاسة الماء البارد لتصلي على رأستك, لن تحضنك في صدرها المجوف بالدر كحواصل الطير ولن تدعو في خفوت بأخذ أرواح الأشباح اللذين يتناوبون على زيارتك في الكوابيس كل ليلة,ابتسم فوجهك الآن أجمل مما كان عليه ومحياك فضة بيضاء ناصعة, لن يبحث عنك حـزب البعث لتنضم إليه رغما عن أنف أبيك ولن يبصق شرطي الأمن ليلة العيد التي اعتقلت فيها, لن يبصق على أبيك الذي احتال دون حيلة بأنك تنام في العبَّاسية عند صديق لا يعرفه, لن تنام موقوفا في مراحيض البقر, لن يؤتى بأمك وأبيك وشقيقتك عفراء ليُهددوا بالتسفير قسرا..
لن تقطع أمامك أوصال الأصدقاء إربا.. إربا!!
أي طعنة تبحث عنك الآن لكي تُشفى منك؟!!
ما جدوى الصراخ حين تُعطَّل الحناجر؟
أنت الألم فهل يوجد من يستحق أن يبكى عليه بعدك؟
وطني صار تابوت وأنت وردة جاثمة على صدره تسيران والنواح بعدكما خلَّف ضرسين وحيدين لإمرأة ثكلى لمَّا تبلغ الأربعيـن بعد, وشفتين ناهضتين ككبد فاسد يزبد بدمه من كثرة البكاء وساقين لا تتردد في ترك شعرها يطول وفاء لزوجها الراحل, ماذا تفعل وجدران بيتها مُلبَّخة بصوره الشمسية التـي علاها غبار الذكريات..؟ الليالي وحدها من تعرف كيف يجف الماء في جذور الجسد المرتجف تحت السحاب العقيم, لقد خلف تابوت الوطن لحية تطول وتطول دون أن يهذبها الرجل الخمسيني, لحية لا ترجـو مغازلة الأرامـل اللاهيات بجمع القواطي من مزابل بغداد..
الكسوف والخسوف يتعاقبان فينا ليل نهار, وأزقة بغداد تخفي حكايات المفقودين والمخطوفين والمعتقلين والمعربدين والجثث المجهولة والسائحين في زبدة القلب والمولثين بالصلاح وحبال القضايا التي لا تنقطع رغم قصرها وكذبها وفجورها ونساء السواد اللاتي يبصقن و يتمخَّطن في عكر المجاري الطافحة في الأزقة:
سودة علينه, تف على حكومة مصخُّمة!!
عادل, أعد علي ابتهالك, ماذا قلت حين أخبرتُك بنفقة عفتي على يد ضباط الشعبة؟
خراااااااااااااا, نعم تذكَّرتُ قلتَ: خراااااااااااا!!
حسين قال أيضا: خرااااااااا!!
قلها مرة أخرى أعلنها من تحت التراب وفي سبات الجفاف, أريد سماعها منك الآن, قلها لمن بتر ذراعي وقطع معها مئة رأس.. قل: خرااااااااااااااااااااااا!!!
المهم أني احترفتُك بقدر ما يحترف الهواة صيد الأثمان بأصعب مشقَّة..!! صعدتُّ إلى السلم دون أن ألتفت ورائي وأنت ساهٍ بابتسامتك عني, بينما كنت أغرق في الدموع..
فيما بعد ستتذكر يا عادل أنك كنت الرابح الأكبر من كل الخسارات.. وبـأن اللذين باعوا الوطن وهم على الطاولات الخضراء المستديرة بحظوظ قمارهم وهم يشربون عصير الطحالب أو ما يسمى بالشامبانيا الغالية المستـوردة, مدخنين السيجار الكوبي الفاخر وهم يلوكون في بطونهم ضحكة الدولارات التي تخرج من بطونهم مباشرة لتصب في مصارف أوروبا.. حيث يعـاد تصنيعها هناك وتدويرها بعيدا عن دَوِيُّ النَّبيَّات اللحوحات في صلاة الليل, الدوي الملوَّن بأسماء أبنائهن الراحلين.. وسيكون هؤلاء الواثقون بتحكمهم في مصائر الحياة, الجشعون في المقامرة بالوطن, بالأكاذيب, بالنميمة والتقارير الأمنية الكاذبة… سيكونون مغمورون تحت ظلام التراب وقد أضاء موشور النور سقوطهم في ذاك الوجه الذابل الذي محت معالم جماله قساوة الحياة..
شكرًا عادل..
شكرا لأنك منحتني القوة لأجهر بصلاتي, في زمن كان الجهر بالوجع نوعا من الانقلاب! الجهر كان عصيًّا وفريسة جرَّارة لتعكير صفو الحياة ولكن شكرا مرة أخي لشائعات الرَّياحين وهي تبوح لي بأسرارك, وكأننا في أوج العصر الذهبي للبوح بالحب قبل الموت, الزمن الذي خرج علينا في صورة امرأة كسا شعرُها نهديها العاريين حتى صارت تهذي تحت وقع الكمان وهو متوسط بهو عُرسٍ, وقد طوقته النوافير من كل مكان, ترشف منها سمكات البركة الصغيرة فإذ بها ترشف قهوة الحديقة التي تُخلِّد كل من يشربها في طقس مُقدَّس..!! بينما العالم الخارجي يختزل لحظة استمتاعه الشبقي بالتواري رويدًا.. رويدًا.. وقد شخُرتَ بشخير طويل يذكرني بقرب موعد إقفال باب المقبرة فقد تعبَت اليوم كثيرا وهي تستقبل المولعين مثلي, ولكني تسمَّرت أمامك قبل الخروج, كنجمة معلقـة في سقف السماء ونحن لا نلحظ دورانها حولنا..
التفت إلى الباب الكبير وإلى الحارس الذي كان يعيد تثبيت رأس شاهدة بـدت مائلة بعض الشيء وقد بدى عليه أثر التذمر حيث لم أبق إلا أنا وهو! .. التفت إليه مستشفعة إياه بطرف عبائتي الذي رقص مع الريح ولكن من جهة الذراع المبتور: أنا قادمة من بغداد ومنذ عشر سنوات لم أزر أخي أرجوك أمهلني قليلا يا حجِّي..
جاوبني فقام بتشذيب حدائق الدفن حانيا ظهره الذي رجوت أن يكون ممن يسجدُ له حين يكشف الله عن ساقه يوم العرض, فيأمر بالسجود فلا يسجد له إلا مـن حنى له ظهره في الدنيا!!
فيما فكرتُ أن أريحه قليلا من استجدائي ولكني وجدتُني أفرُّ منك إليك, أنبش في الروح التي دمَّرتني بحبك وكأنها في حقل انفجر بألغامه فتشظى العالم في لحظة واحدة..
هل أوشكت فعلا على أن أودعك؟!!
أين زمانك يا عادل؟ أين الأطياف التي لونت الماضي بالبروق؟ أين وثبتـك والحناجر التي صرخت في ردهات الوشم الذي نقشتَه ورسمته مع رفاقك أيام الثانوية وأنت ممهورٌ بفتوتك وحماستك اللاّهبة والتي أردت أن تُُغير بها فقط نحو الأصلح حتى نفذ بجلده من نفذ من الرفاق خارج الوطن وقد نجـح في تشييد حلمه بالحرية في المدن البعيدة.. الباردة منها والرطبة والتي أزهرت حياتهم برئة الأطفال الرَّاطنين والزوجات الجميلات.. فهناك قرؤوا ما كـانوا ممنوعين من قراءته وكتبوا ما كانوا يخشون تحديث أنفسهم به, ولكن أشواقهم السندبادية المولعة بحب العراق حاصرت سعادتهم المؤقتة ووخزت بعضهم في قلبه الذي بكى في شكل صرخة بعجة يبست تحتها البحيرة, بينما بكى بعضهم الآخر في شكل فرشاة مرتبكة الألوان أو طين منحوت متصبب بصبباته أو آه مكبوته داخل صندوق عود, كيف لا وهم يرون بغداد الجميلة مشوهة بالمسلحين الذين ملؤوا شوارعها ومرافقها ودوائرها.. وقد نصبوا نقاط سيطراتهم في كل مكان, يخطفون الضوء ويحرقون النور ويشطبون الأسماء التي اعتادوها.. بل وكل الذاكرة المخزنة في مسلة الألحان البابلية.. كيف لا يبكي ابن الكرخ وهو يتخيل ماذا سيفعل لو أنه كان مكان ذلك الشاب الذي هبَّ لمساعدة صبي سقطت كرته في دجلة, وقد هرع معه متلعثما في دهشته لما رأى بأم عينه كيف طفحت الكرة كرأس صغير بين رؤوس كبيرة, متسمرا أمام الجرف وهو يرى رؤوس آدمية طافية تتقاذفها دون أن يفعل شيء سوى أن نبتت الأقفال على فمه وكأنه يقول ما جدوى الصراخ حتى لو طُعنت في خاصرتي؟! عطِّل فمك يا هذا, عطَِل احتجاجك.. واحتطب شجاعتك بفأس الرؤوس الشاخصة إليك, بغداد ذاهبة إلى الخراب وعليَّ أن أطوف من أجلها كي أنقذها بالنذور التي سأذبحها حتى في الحانات!!
قل لي, هل بياضات الأمل قادرة على على غسل كل هذه الأحزان؟؟
أم أن ضوضاء السعادة أخرست محاولة الدَّعك!!
كيف له أن يبتسم وقد حولت نشرة الأخبار بستان الله إلى زريبة ترضع فيها الذئاب من الشياه؟ ليتحول العراق إلى كائن ينبح ويعوي ويجيد كل فنون التعبير عن الدفاع عن الوجع!! صاحبك تخيل نفسه ذلك الكرخي الشَّهم ولكنه منذ ذلك اليوم صار مثل أعزل بصولجانه كما أنه صار يتبول كثيرا كلما قرر أن يشرع في عزفه, كطقس يطرد به الخيط الأسود الي رآه أكثر من مرة في مرآة حمامه الأنيق..
كيف لا تفسد بغداد فرحته وقد اشتمَّ صباح اليـوم في نشرة الأخبار من خلف شاشة الكريستال, رائحة الصَّدرية الآسنة.. تلك المحلَّة المحصورة بين مرقـد الشيخ عبد القادر الجيلاني وسوق الصّدرية نفسه والتي تطل أمانة بغداد عليها بشحمها ولحمها, آسنة بانفجار أنابيب المجاري الرئيس ليأخذ الطوفان المساكين بلا ذنب, آخذ الانفجار في عربدته بثياب المحلَّة المسروقة وكلامها المطحون.. لدرجة أنك تشم من خلف الزجاج رائحة الشواء من بركها الآسنة,شواء النفايات الحرِّيفة والكلاب الهزيلة والميتة على قارعة البرك, والذباب الرطب الذي طنَّ بطنينه الممزوج بأغاني الرحى.. ولكنها ضجر الأيام الرتيبة وذكريات العراق المالحة.. والرفاق ..
آه ما الرفاق؟ من زاخو إلى البصرة, أولئك الذين قضوا تحت سياط التعذيب في نكرَة السلمان وأبو غريب فخرج بعضهم مُكفَّنًا مثلك, من يأتيني الآن براعي الديوانية ليحدثني بتفاصيل ذلك؟ الراعي الذي شهد دفن الضحايا- المعارضين السياسيين- وهم أحياء بعد أن رشوا عليهم الماء وهم يسخرون منهم: ها عيني عطشانين؟ ثم تركوهم يرقصون ببكائهم تحت التراب بعد أن أخمدوا أصواتهم للأبد, معمقين الحفر التي دُفنوا فيها, الراعي والذي اسمه عطشان الشيباني روى ذلك لأبنائه قبل أن يعدم هو الآخر! وكما خرج مثك مكفنا, خرج البعض وهـو مكسور الأضلاع, ذلك حين فكر أن يخرج آه مكبوته كان يريد أن يطلقها وهو يسمع رمي الرصاص الذي انهال على رفاقه في ساحة الرمي الخارجية داخل السجن, رغم أنه كان قادرا على الصراخ إلا أن الصوت انهزم في حنجرته لما فتح السجان الباب عليه واقتاده إلى مكتب المدير ليحقق معه إن كان محتجا فعلا على إعدام رفاقه السبعة أو بكى على أرواحهم الطيبة أو على حطام أجساد هي في هُلام إنسان..
انهزم الصوت فيه مرة أخرى ولم يكن بوسعه سوى أن يدخن دموعه وينفث بسحابة كبيرة غطت ظلام الزنزانه, فراح يدعو وجثث رفاقه مسجاة أمامه في أثوابهم التي أعدموا فيها, منتظرين منه أن يَهزم الجُبن لكي يدفنهم بيديه التـي توضوءا بدفئها حين قطعت لهم البارحة أقراص الخبز, يدعو على اليد التـي امتدت على مسرَّاتهم: اللهم اقطع يديه ورجليه وأعمي بصره وأدخله النار.. كان ذاك الدعاء هو ما كانت تقصه أمه عليه من دعاء عثمان ابن عفان على من لطم زوجته أثناء حصاره في بيته وهو يقرأ القرآن وقد رُأي بعد ذلك في أزقة الشام يدعو: ياويلاه ..النار, النار.. أصابتني دعوة عثمان..
فجأة توقف نفسه هو الآخر..أخرجه دفعة واحدة وبكى متحديا بكى ذلك الرجل الصلب المطعون في كبرياءه وهو يمدد الجثث السبعة أمامه محتار في أيهم يبدأ بالدفن! الأسى يوقظ فيه نواحا يعيشه في آخر أمسية مع رفاقه, أي يقظة تُقارع العيون المغمضة والأكباد المثقوبة والوجوه المشوهة الفكين!
ترى أي كلام تخفيه وجوههم أي ألم؟وهم اللذين يتقنون فنون الآه فور سماعهم لأغنية عاطفية كان راديو الزنزانة يبثها مساء دون أن تزعج من كان يغط في نوم عميق, ثمة تشابه بين النوم واليقظة.. كما تتشابه تماما أحلام الشبقين من السجناء بإمرأة تضيء لهم ظلام الروح وتلسع الجسد البارد, هذه الوجوه نفسها من كانت تلعب الشطرنج وتدخن رسائل يومياتهم المتشابهة, أحدهم صرَّح لي بأن أهله لا يعرفون عن مكانه حتى الآن وقد أمضى سنواته الأربع هنا يدخن ويكتب ويبكي, لم يكن قوادا كما اتهموه, بل كان جوالا يبيع السجائر في الباب الشرقي, لم يكن سياسيا ولا عضوا في حزب محظور, ما يقودك إلى هنا هو أن تكون عاملا في محطة سكك الحديد أو معلما في إحدى قرى الجنوب.. أو تهمة جاهزة غير مخبوزة, وحين تعاقر اليأس فإن كلمة واحدة تبقى بعيدة عنك وهي الإنتظار, الإنتظار الذي يسقي القلب بشراب مسموم, يجعلك مدمن التفكير في اللاشيء.. في انقلاب معدتك ورأسك, في تصور من يمشـي خارج أسوار المعتقل وهو يقفز في عواء البوابات حين تفتح لإحضار صيـد جديـد, ولكي تخفف على الضيوف الجدد, عليك أن توصيهم بأن يرشوا مـوزع الشاي كي يدخلوا المرحاض أكثر من مرة في اليوم أو بأن يتحولوا إلى إسمنت لا يصغي إلى عويل الرياح النائحة من أجلك,لأن موزع الشاي نفسه أعدم قبلهم في ساعة متأخرة من الليل.. وقبيل بزوغ الفجر بدقائق أخشى على هاؤلاء أن يتبلدوا مثل جاري في الزنزانة المقابلة فذات يوم لاك في فمه كلمة لكنها التقطها ومضغـها بين أسنانه الصفراء بينما راح لسانه يخلطها بلعابه المر:
أخشى أن تتحولي يا زوجتي إلى عاهرة!
أخذ يتحسس برودة قدميه الحافيتين وشقوقهما المدماة ثم راح يلوك كلمة أخرى: أنا خبزة حافية هنا.. لن يلومك أحد يا حبيبتي!!
فيما راح في الغد يكنس الساحة الخارجية ويغسل الصحون وهو منتش بزيارة أهله, إنه يوم المواجهة فارتدى مثل ما ارتدى الجميع.. لبس دشداشة نظيفـة وحلق ذقنه لكنه بقي حافيا! المكان المخصص للزيارة ضيق وهذا ما جعله يدور بعينيه في النساء الجميلات واللاتي يذكرنه بروعة الحياة خارج المعتقل, ماعت يده في يد زوجته فشعر بخسارة أكبر, شعر بأنه سيفتقد الربيع برمته, لقد خسر الجسر الذي كانا يعبرانه كل ليلة جمعة ولم يتبق من ذلك الربيع, سوى خيـال يضرب في رأسه, خيال امرأة من قطن تمتد أصابعها لتغرسها في شعره, لكنهم سحقوها في جلسة اعتراف إجبارية, قضاها مكبلا من رجليه, مجاهدا في حماية وجهه من دموع الشفقة التي كادت أن تكسر كبرياءه, لكنه فور انزلاق المفاتيح وهم قافلون بها استسلم لجدار مظلم في زنزانته, شعر بعزلة تامة فبكى..
الجلادون الجبناء, إنهم يعدون المشنقة الآن, لقد أخذو وزنه وطوله وحجم رقبته الهزيلة, لم يخرأ على نفسه كما يخرأ البعض قبل الإعدام,أراد أن يموت شريفا نعم لقد بكى من أجل كل شيء ولكنه الآن يمتلك الشجاعة الكافية ليموت واقفا!!
بحث عن نظارته التي دسَّها داخل جيبه ليخفي تحتها الدموع!!.. ينظر في مدى الحزن البعيد ممتنا له ببريقه, يحدق للمرة الأخيرة في وجوههم المشنوقة بزمة الشفتين: الله يعلم كم أححبت أن أكون معكم وأنا الميت في حياة!!
آآآه.. ذاكرتنا ليست من ورق!!
أتخيل الجثث المكشوفة في الشوارع لوقت طويل, أتسائل: هل بقيت هنا ليتسنى لمن يشاء أن يبكيه ويلازمه ملازمة حميمية قبل أن يُرفع مع الأنقاض؟!