انتهينا إلى مشارف كربلاء..
بدأت أتصرف كالأطفال, ليس لدي أظافر طويلة لأفتح النافذة, أطل برأسي نحوها. وبالرغم من يباب المشهد الذي ابتلعته السنون إلا أني أصررت على النهوض إليها فالذكريات أبقى من الحقيقة..
شرعت في فك أزرار روحي… أكاد أختنق من كمية الأكسجين الذي حبسته في رئتي, سارعت في إخراجه فتبلل كم عباءتي برذاذ خفيف رشته غيمة عابرة أرادت أن تجمع بين متحابين في جلال الله تحت ظل عرشه!
كم هو شاسع هذا الفضاء, أخشى أن أضيع فيه أو أنزلق على حافة إحدى سواقيه, حتما سينقذني فلاح طيب أخذ قسطا من الراحه ليستريح من حرث بستانه فأفسدت عليه غفوته,بالطبع سينقذني ويخوض في الساقية ليلتقط حقيبتي الصغيرة, سيسندني على صخرة قريبة وسيفرش لي بساطه الخوصي الملون, سيفتح قشته الساخنة, سيخرج منها خبزا وطماطة لم تقطع بعد ليطعمني إياها ثم يتركني أنام, أحقا أنا من صاح علي أبي وهو يبحث عني حتى نهاية النهار ليجدني في أمانة فلاح يركن جراره؟ ليحملني بعد ذلك إليه خارجا من ورطة رد جميله بتقديم سيجارة ملفوفة بعناية لذلك الفلاح الطيب؟ أبي يوسع من اعتذاره: الملعونة لقد حذرتها أكثر من مرة من اللعب قرب النهر والسواقي, لكنها تجيبني بالغوص في الطين دون أن تنزع حذاءها وكأني ما خلقت إلا لأشتري لها حذاءً جديدا كلما أوغرت قدماها في الوحل.. يرد عليه الفلاح الذي نسيت اسمه بكل لطف: إنها بريئة كالملاك, انظر ما جمعته في حقيبتها من طحالب..
أبي يستمر في غضبه:قلت لك بأنها ملعونة حتى الطنطل لم يفلح في إخافتها, السعلوة لم تخفها أيضا, قلت لها مرارا بأنها ستفترسك قبل أن تطلب منك مص ثديها الضخم والذي يقع خلف ظهرها..
المهم أني وصلت لبيتي بسلام, وقتها كانت الرطوبة تتنفس النخيل والذباب الذي أخذ يتكاثف بفعل طنينه مع صفير الصراصير المجنحة وهي تطير من جدار لآخر, أما البعوض فهو يمص بشره من أفخاذ أمي وهي ترفع ثيابها للتبريد , تغني لسعدي الحلي الذي كانت تعشق أغانيه..
تغني أغنية أنا وحيد وهي (تطك اصبع) ما تلبث أن تضع يدها على جبهتها تمسح العرق ثم تتنفس باقي الموال: العشك هو الأمر
ويلي تموتين مظلومة ياروح.. ويلي ..
الكهرباء مقطوعة وعادل يحاول اصطياد فراشة تحوم حول الفانوس اللامع راكضا نحوي لما رآني ملطخة بالطين وهو ينادي على أمي:جابوها جابوها
سألت نفسي عن كل هذه الحكاية وأنا أرتطم بباب الحافلة الذي ظل مغلقا طيلة الرحلة حيث لم نكن نتوقف بعد تماما..
تفرق كل من كان في الحافلة, وبقيت وحدي انتظر من يعلن بقائي على قيد الحياة!
صاح بوقها إيذانا بوصولنا فأذعنت لها أجراس السماء مجلجلة صوتها في أزقة قلبي المخموم, وكأنها تؤذن بموسم جديد لتحرث فيه غيماتها النائمة, كل الأنهار هدرت في جسدي وشقت قنوات الضياع فيه وبسرعة حادة, أخذ شلال دموعي يهبط خاشعا غير مكترث بأحد, لوحت لفاتن وابنة ديالى من بعيد.. حتى شيعني أحد الركاب وهو يحمل حقيبتي عني إلى رصيف قريب, سألني إن كان هناك من يوصلني, فرفعت بصري إليه, كانت الأنهار وقتها تحرث حدائق من عويل, كل رموشي سقطت وبقيت إذا بلا سقف ولا عنوان, فوجئت بأني أطهو ملح آلامي الذي أخذ يتكتل بدل من أن يتبخر, ابتلعتها دفعة واحدة.. أسعفني هو بدوره بقارورة ماء أخرجها من صرته, رشح بها وجهي المنتفخ وبللتُ شفتي ببعض القطرات..
– شبيك اوخيتي؟ خو مرضانه لو تعبانه من شي؟ تريدين مساعدة؟
تلفتَ يمينا, ويسارا, أشو ماكو أحد يمج!
بقيت مدة طويلة وأنا(صافنه) في وجهه الأسمر أنصت لنبرة صوته الحنون, أحدق في حميمية عينيه الصافيتين, التقطت عمقها وضغطت على زنده بقوة, لا أعرف كيف امتدت يدي إلى أنفه الدقيق لأتلمسه وأطمئن على شموخه, أحاكي حركة أصابعي فأتجه أسفل منه, أدور بأصبعي على شامته السمراء التي تسكن طرف شفته السفلى, كأنها بغداد في جمالها, أعود مسافرة إليه فأغرسها في شعره الكثيف, أشبر عرض منكبيه وطول قامته… أشاهدني أدخل من باب وأخرج من باب, عبثا أرصع سمائي بنوارس محنطة أو بأقواس مغرورة بألوانها السبعة, لكنها تأبى إلا أن تسقط علينا جثثا تغطينا بريشها المنتوف, أما الألوان فقد تتبدد في زحمة الثقوب والانكسارات.. مرة أخرى تيقنت بأني على حافة الوهم والخيال, استجمعت قواي.. أخرجت من محفظتي صورته, مددتها إليه دون أن يصدر أي حركة أو صوت يدل على ارتباكه أودهشته..
– العفو, شوف أنت كربون من أخويه المرحوم عادل! من جنت أجي لهنانا جان هو من يستقبلني, سامحني ما اكدرت أشوفك واظل واكفه, آآه لجمت جرحي لجم..
مشكور عيني مشكور هسه عوف الجنطة وروح كبل ما حد يشوفك, هسه جماعتي يجيوا ياخذوني.
ألم من عبائتي التي تطايرت, الريح شديدة وأنا بذراع واحدة ألمها, وكأني أجمع النبق من تحت شجرة, أفترش الرصيف في انتظار أن ابتسم في وجه النبق لآكله, أمضغ انتظاري وأشعل عود ثقاب, لكنها الريح تطفئه وتبدد دفئه
هي ليلتي الأولى أقضيها بصحبة القمر, اضطجعت على جنبي, القمر أرقبه من شقوق في النافذة, اكتمل فصار بدرا فأشرقت به روحي المتعبة..
أشعر بنوع من دعابة القدر وأنا أنام في بيت عمي الذي صفعني ذات مرة دون ذنب, لا أدري كيف حولته الأيام إلى كائن لطيف متسامح, ربما الفَقد من يربي فينا العاطفة الجموح, ليس النسيان ما يداوينا!! إنه الفقد: وصفة زورها طبيب تخرَّج من فتحة قارورة!
عمي سلمان لا يزال يحتفظ بنكهته الحلوة وفكاهته العفوية الجميلة, يعيش في منزله وحيدا بعد وفاة زوجته التي أكرهها, تتناوب عليه بناته الأربع ووريثه الأوحد –حسين- وما تبقى من جيرانه الأوفياء..
كانت ليلة دافئة وبشكل أدق كانت محاولة لنسيان خلافات الماضي ورميها بحرا.. مرة أخرى النسيان؟!!
فضلت ابنة عمي سلمى أن تتركني لأنام وحدي فالجو حار والكهرباء عليلة ومن المؤكد بأني سأتخفف من ملابسي, أغلقت علي باب الحجرة وهي تتمتم لي بدعواتها الصافية.. وحدي مع الظلام والفراغ وكأنهما يتلذذان بي!
بالرغم أنني في كل مرة أتعهد لنفسي بأن لا ألمس الجراح, وأنَّى لي ذلك! والذكريات نصفها جراح ونصفها مكويٌّ بأسياخ الحديد التي لم تمحَ آثاره!! جميعهم ينصحونني بذلك فحالة التذكر في حد ذاتها قد تصيب معدتي بالتهيج ثم بالتشنج الذي سيؤذيني بلا شك, حملي جاء بصعوبة ومشقة, لكنني كطفلة عنيدة أعاود فأنكأها باختياري, لا أطيق صبرا عن تذوق الذكريات حتى لو كانت حزينة, إنها حرقة الحزن الدفين..
الحزن؟
هو خالد فينا كخلود فكرة الموت في الحياة! لكن كيف لي أن أتجاهل ذلك؟ والفرات نفسه لا يقوى على تذويب الرماد ولا استجلاب المطر ولا حتى إخماد الحرائق..
لقد صادفني في أول محطة أضع فيها قدمي ففتح لي الممرات وأوصلني إلى أزقة البساتين في قريتي, رمى بي هناك.. وكأنه يريد أن يفتح جبهته لمرة واحدة ليريح ضميره!!هكذا دفعة واحدة وبدون مقدمات لأصافح البيوت التي كانت تضيق بأفرادها وتتعفن بعد سقوط الأمطار في كل مرة..
في الأزقة يركض الصبيان, يصطدمون بعربة بائع الحب المحمص فينتثر رزقه أمام عينيه, يكنس غضبه بشتمه إياهم, بينما يهربون منه فارين وكأن شيئا لم يحدث, يعتلون السطوح والتي كانت الفتيات يطيرن منها طائراتهن الورقية, يتغازلون فيما بينهم من بعيد, كما يفعل مواء القطة ذات الوجه المفلطح, لكن سرعان ما تغيب الشمس الساطعة فتغيب معها الشوارع والسطوح والأيام الجميلة التي لن تعود, وقد احتفظت بأسرار من باح إليها..
نفس الأطفال.. يتدافعون وهم نائمون تحت سقفها الواطئة, أمهاتهم يهفهفن عليهم بمروحة عباءاتهن الواسعة بعد أن تركن قدورهن المتسخة بتشريب البامية ليغسلوها غدا في مياه الساقية العكرة, يهفهفن وهن يحيكن حكايات الجدات, يحك أحدهم شعره فتصيح به أمه: غدا ستذهب بنفسك لأم جماس البدري لتحضر منها الكاز, سأغسل شعرك بالكاز, يابو القمل والصيبان..
تتركه يتلذذ ببكائه الذي سيجربه غدا حين تحترق فروة رأسه!
تلك البيوت النابضة بالحياة بحديث النسوان والزيارات المتبادلة.. أمّا رجال القرية المدللون دائما فكانوا ينزعون عنهم أحزمتهم بعد تناولهم وجبة العشاء ثم يخرجون ليلا بدشاديشهم الواسعة غير المكوية عادة, عند دكان أبو سهيل يجتمعون ويشربون الكوكا الباردة في قواريرها الزجاجية..
قريتي التي كانت باتساع حضن أمي كانت أكبر من كل المدن, كريمة تجود بكل ما في يدها, تجعلك تتذوق كل شيء, تدفع بلسانك خارج فمك الصغير, تفتح منخاريك الصغيرين لتتسع أكثر, تفتح أذنيك للباعة المتجولين في السوق الكبير الذي يبيعون فيه كل شيء حتى حليب الهدهد!!
عبر أزقة مسقوفة ومرصوفة بالحجارة كان النور الصافي يتسلل من بين فتحات الطوب البارد, يدخل فيشق بياضه في روحي الهائمة والتي أخذت ترفع بصرها للأعلى وتدور, تلك الأشعة استطاعت أن تفرش بداخلي سريرا خشبيا وخزانة ملابس محفورة بالعاج وبساطا أحمر اللون قد التهم السرير بأكمله وستائر قرنفلية طبعت عليها زهور بلون البنفسج ورفوف اعتلت عليها دمى يدوية محشوة بقطن ووسائد مطرزة, أخذت نفسا عميقا, سقطت مغشية عليَّ.. غير أني كدت أقع على ذراعي المبتور لولا أن تداركتني شابة لطيفة, شكرتها بحيرة سبحت في عيني, دون أن أنطق بكلمة واحدة, شهقت!! رائحة الطين هنا عتيقة, يفتق عنها صنبور ماء أوقف على أرواح شهداء الطَّف, عبر حشود المارة والمتبضعين أمضي, أصطدم بأحدهم, فلا يلقي لي بالا, هو مشغول ببضاعته الجوالة وخشخشة كؤوسه المعدنية التي يحملها على كتفه, نظرت في عينيه فابتسم, ورغم شاربه الكثيف وحاجبيه الكثين, إلا أنه كان كريم المُحيَّا وقد أثرت فيه ندوب تقرأ منها جدري أصابه في الصغر, دفعت إليه نقودي فسقاني من شربت الرمان شرابا دفعت به ما كنت أمضغه من بسكويت محشو بكريمة الليمون, مشيت قليلا فحشوت رأسي في جمع من النساء كن يتحلَّقن حول عربات خشبية مركونة بعضها محمل بالملابس وأدوات الزينة, وبعضها محمل بالأواني المنزلية الرخيصة, اشترت منهم من اشترت ثم مضين محملات مقتنياتهن على رؤوسهن دون أن يسقط منها شيء, إحداهن حملت ابنتها الصغيرة دون أن تتبضع, مغرية إياي بالمشي خلفها, وتتبع آثارها.. إنها تشبه زهور ابنة الكندرجي, لها نفس الشعر الأشقر لها عينان بلون الأخضر الشاحب, شعرها مفروق إلى نصفين, متموج وقد ثبت في مقدمته مشبكين زهريين على شكل فراشة, تُدوِّر عينيها في المارّة وهي محمولة على كتف أمها وكأنها تسأل: إلى أين ذاهبة بي يا أمي؟ لكن سرعان ما اختفت في حشود المارة المتسوقين, مُطيّرةً لها بوسة في الهواء..
هاهم يصيحون على بضاعتهم وكأنها جمان منزل من سابع سماء أو رمان مدلى فوق رؤوس أهل الجنة أو كؤوس الغلمان المخلدين.. يطوفون في سوق العلاوي بين شارع العباس وشارع الإمام علي, بينما أمسك بعباءة أمي التي كانت كثيرا ما ترتاده برفقة أبي, فقد كانت تجد ضالتها في قارئة البخت أو في بائع الأعشاب-الحميداوي- ذلك حين تأخر حملها بي, وفي رمضان كان حبلها البكر الذي تمنته, مررت بجانب العطار, قرأت لوحة بائع الأعشاب ذرفت دمعة عليها وطلبت لها المغفرة..
آه.. كم تبدو كربلاء بأسواقها القديمة كقصص ألف ليلة وليلة, تحول الخيال الخصب إلى حقيقة ملازمة لك, فالحصان الطائر صار يطير فعلا! والجزيرة العائمة فوق ظهر حوت غاصت مرة أخرى وعامت والأبواب التي تغلق من نفسها صارت تفتح وتغلق دون أن يدفعها أحد والحورية التي قتلت السمكة المتوحشة عادت مرة أخرى للخروج مع صويحباتها الحوريات لتتمدد على ظمأ الشط! أحد الحوريات كانت على موعد ليعقد قرانها بتاجر المصابيح لكن صوت الآذان الذي يرتفع ثلاث مرات في اليوم أجبره على دفع مزلاجه وتوثيقه بأقفال حديدية, متوجها إلى مسجد قريب لينال البركة أولا بالصلاة!
بقعة ضوء وهاجة يزخرفها هديل الحمام الذي يملأ الساحة الخارجية, صوت خرير الماء لذيذ جدا وهو يخرج من صنبور معشوشب ويصب في بركة يسبح فيها السمك الذهبي والطحالب القانية الاخضرار, بجانب البركة الصغيرة وقف أحدهم يحرِّج على ببَّغائه المدرب, إنه يجيد الكلام ويحي الأصدقاء كما يجيد تقليد الحركات, لاعبه ثم أعاده إلى القفص, طلب منه أن يتكلم ليسمعه الجميع: احجي يا غازي!
لم يتأخر غازي بالنطق بها: الله بالخير حجي, الله بالخير عيوني..
الجميع أعجب بغازي, لكنهم انصرفوا بعد ذلك.. أظنه صاح حتى يأس ممن سيبتاعه و نشف ريقه وهو يصيح عليه.. ليجرب في الغد مكانا آخر ليبيعه ولو بثمن بخس..
المشي في أزقة كربلاء يبعث على السكينة والطمأنينة
تابعت خطواتي فساورتني رغبة في الوقوف أمام مكتبة المنار, كنت أريد بذلك الوقوف الاحتجاج على من تسول له نفسه بمحو الآخر ليس لشيء.. إلا لمجرد امتلاكه لبعض الكتب!الكتب التي كانت تجسد الواقع في روايات وقصص مثيرة للاهتمام, كانت المنار ممن تروج لمنشورات ومؤلفات كبار الكتاب مثل الدكتور صباح مهدي والذي نشر قصته القصيرة( الطماطة الفاسدة) كانت مستوحاة من الخيال, منزلا إيها إلى الى الواقع, الخيال الذي ينسج لنا كل ما نريد قوله دون أن تتبرم لنا خيبات الأمل في التعبير عن الربح أو الخسارة,ومن يومها انقطعت كتاباته عن الصحيفة وعرفت فيما بعد أن حياته الآن أصبح يقضيها في البحث الدائم عن قوت يومه بين أكوام القمامة المليئة بالورق الصالح للكتابة!! والتي كان يظفر بها أيضا ليحرقها لا من أجل شيء إلا لأن شيئا بداخله مات واحترق
حاله حال الكثير من الكتاب العراقيين الممزقين في المنافي..
المنار؟ كنت أعرف مكانها تحديدا وأحفظها عن ظهر قلب, تصورت بأن حانوتا آخر سيحل مكانها لكني أصررت في الذهاب إليها, فتفاجأت بوجود لوحة المكتبة معلقة كما هي وقد تقشرت منها بعض الحروف المكتوبة بالصبغ الأبيض, لماذا لم يرفعوا اللوحة بعدما اعتقلوه؟؟ هل لتبقى درسا للآخرين!!
هل راودته فكرة أن يبسط جناحه وينشره في الفضاء ساخرا من سجَّانه واضعا بذلك نهاية للألم؟ أم يكفيه أن يقف خلف النافذة متلبسا بلباس الرهبة المعصورة وهو يراقب هطول المطر الذي كان نادرا ما يسقط على فسيسفاء قباب المساجد الكربلائية!
أي درس ينفع مع الزوجات اللاتي لا حول لهن ولا قوة, زوجته كريمة أوشكت على الجنون بعد الحادثة, خافت من أن تمحى هي أيضا, فكرت جديا بالهروب ففعلت, حزمت أمتعتها إلى الكويت حيث تعيش أسرتها, بعد أن فشل من أقنعها أن تبيع ابنتها الوحيدة لتاجر إيراني يبيع العقيق الأحمر ويكبرها بعشرين عاما, لم يفلح كذلك حين أغراها هي الأخرى بالهروب معه إلى الأهواز والزواج منه..
كان احتجاجي يشبه طفلا معوقا يريد الكلام لكنه لا يستطيع, يصرخ لكن تنفسه ينقطع. ييأس من أن يسعل أو من أن يئنَّ ببؤس أو حتى من أن يضحك بشكل هستيري!! فيستعيض ذلك بالبكاء..
يمر صبي بجانبي في غاية الجمال, لديه عِرق أخضر ينبض بين حاجبيه, لابد وأنه من غلمان الجنة الذين يقدمون عصير الرمان القادم! لو كان هذا الفتى في بغداد, لكُنِـس في سوق الطيور, وطار إلى القيامة مع الأقفاص الملقاة على الرصيف..
قدم لي حلوى المن والسلوى: ذوكيه عيوني
لا أحب أن أرد أحدا,أمد يدي مترددة وهي ترتجف وكأني أقطف ثمرة من ثمار الجنة, سألته عن اسمه, حكّ رأسه فقال: عادل… عادل رضا نصّار, أمي هناكا شوفيها تبيع طماطه وخيار.. وخاطرج اللي ما يتأذى,,أجيب لج منها خيارة ترد لج روحيتج..
شكرته بابتسامة داكنة في وجهه الصافي..
عادل أيضا!! هل قال بأن اسمه عادل؟!!
قضمت الخيارة, فابتعد عني مناديا على منه وسلواه, بينما أخذت أراقب الحمام الذي ينقد الأرض بعشوائية ويطير..
جناح الحمامة الذي خفق بعيدا في سماء شاسعة ذكرني بـكلمة يرددها زوجي بعد الاحتلال( وين جنا.. وهسه وين صرنا) !!
أنصفيني يابغداد.. أنصفيني, أنصفيني يادار السلام, أنصفيني يا أحلى أغنية, ليتك ياحمام تتوقف عن النواح وتغني معي :
وطن مد على الأفق جناحا
وارتدى مجد الحضارات وشاحا
بوركت أرض الفراتين وطن
عبقري المجد عزما وسماحة
***
هذة الأرض لهيب وسنا
وشموخ لا تدانية سماء
جبل يسمو على هام الدنى
وسهول جسدت فينا الإباء
بابل فينا وآشور لنا
وبنا التاريخ يخضل ضياء
نحن في الناس جمعنا وحدنا
غضبة السيف وحلم الأنبياء
***
حين أوقدنا رمال العرب ثورة
وحملنا راية التحرير فكرة
منذ أن لز مثنى الخيل مهره
وصلاح الدين غطاها رماحا
***
قسمآ بالسيف والقول الأبي
وصهيل الخيل عند الطلب
إننا سور مداها الارحب
وهدير الشعب يوم النوب
أورثتنا البيد رايات النبي
والسجايا والشموخ اليعربي
فاهزجي جذلى بلاد العرب
نحن أشرقنا فيا شمس اغربي
***
أنتظر أن تغرب الشمس, فتغرب لكنها تغرب وهي تولِّي ظهرها لي كشاحنة مسرعة تشق الليل بزئيرها الغاضب, تلك الشاحنة التي لم تحشر الجراد الهالك من الصفرة, بل فتحت صندوقها لتحشر فيه كتابا مشهورين أو شعراء صعاليك أو أمراء كانوا في بلاط الطواويس يغطون في نومهم وهي تهف عليه, زنخة تلك الشاحنة, لزج صندوقها وقد التصق فيه المهرَّبون بأليات الأغنام العفنة دون أن يفكروا بسد أنوفهم عن رائحتها الكريهة فقد ألفوها كما ألفوا الوجوه البليدة, الكبيرة والموحشة منها, يصطلحون مع ثغائها مغرمين لأن لهم المصير نفسه, قد يباعون أو يسرقون أو يتركون كما اتفق عليه من يدري:
صفقة هروب جماعية لغانيات أو متسولات إلى وطن تغلف دنانيره مدعوكة بغار النخاسة..
يتمايلون على هسيس الرياح التي صفعت كل من كان في طريقها من جنود مذعورين وهياكل لسيارات محترقة وجثث تطفو فوق الرمال ونفايات تبحث فيها النساء عن زيف الوعود الكاذبة بتحسين مستوى معيشتهن ولما يتعافين بعد من بيع خيام أقاموا فيها سرادق من اختطف من أبنائهن حين عجزن عن دفع الفدية فاعتزلن إقامة الفاتحة بختمة قرآن كاملة في إحدى المساجد!..
أنصفينا يابغداد ولاتلبسي وجه خنزير!!
أنصفينا كغزال يقدِّسه بنو حارث, كفنينا واحزني من أجلنا ستة أيام, لاتكوني مثل آلهة البراغيث!!
لم تسكت جوعي تلك الخيارة الصلبة فابتعت ذرة تشوى على قارعة الطريق, وجدت صعوبة في أكلها بيد واحدة فطلبت من البائع أن يغمسها في الماء والملح لتكون أكثر طراوة, قضمتها ببلادة وأنا أتصفح الساحات التي عجت بالناس, رائحة الفحم تضفي نوعا خاصا من الرائحة التي تشدني أكثر للبقاء وكأني هنا بلا موعد فلم لا أفتعله وأبقى.. لكني سرعان ما تذكرت بأن ثمة شوارع مغلقة فهناك حفريات لا تنتهي لأنها لا تبدأ وهذا سيعرضني للتأخير عن العودة إلى بيت عمي, رغم ذلك استمررت في إشباع روحي التي ضربت الأرض بأداتها البدائية في حفر بئر عميق, بدا كل شيء طبيعيا فالحرب لم تشوه كربلاء كثيرا كما شوهت بغداد, نمط الحياة أيضا لم يتغير بالشكل الملفت, بعكس ماتعيشه بغداد من متغيرات سريعة, الجيران هم أول من خرج من ذلكم البئر الجاف! الجيران هم الجيران وإن رحل بعضهم أو مات بينما البناية التي تقابل بيتنا في بغداد تفرقت عن بكرة أبيها وكأنها تنكر نفسها, المستأجرون صاروا جدد وربما غرباء, وفيهم الوحشة بعض الشيء! كان ذلك بهدف تغير الخارطة الديمغرافية لبعض الأحياء ذات الطابع الطائفي, وكان لابد أن نتأقلم أيضا على تهجيرنا قسريا يوما ما!! ولو على أبسط الأشكال كأن نهجر من أفراحنا.. هناك شابان غريبا الأطباع يتحاشاهما كل من في الشارع, يسكنان شقة السيدة فريدة والتي كانت يوما ما تعج بالسيدات متوسطات الثراء حيث تدير منها أشهر الصالونات النسائية في المحلة, الشابان يشغلانها منذ عام بعد أن قررت ترك شقتها بشكل مفاجيء! بابل, الفتى المتدفق حيوية و الذي رباه خاله صفاء, لم نراه منذ ذلك اليوم المشؤؤوم, كان في زيارة لعمته في الفلوجة لإنهاء معاملة ما وفي الوقت الذي وصلت رسالة التهديد لصفاء بالقتل أوالمغادرة فورا كانت الفلوجة تقصف والطرق انقطعت بشكل تام.. ومن مفاجآت القدر بأن يقضي الوديع بابل في معارك الفلوجة, فكان للموت موقفا بطوليا حين ضمدت رحمته شهقة الأوراح ( المشلوعة شلع) فمنعت العيون من أن ترى محبوبيها وهم يصارعون آخر غصة أبدية, أما المستأجرة الأرملة فقد لحقت بزوجها كمدا وحزنا عندما علمت بأنه أعدم من قبل فرق الموت الطائفية, كنت أظن بأن المصائب وحدها من يسبب الهم حتى توالت علينا الكوارث والمذابح بأنواعها وهي تتوالى الواحدة تلو الأخرى, لقد انفردت بنا وتوحدت بنهم الصراخ الطويــل.. الطويـل.. كتمثال معجون, تاركة كل شعوب العالم, متخلصة بذلك من مخزونها الوفير, مشهرة سيفها القاني على رؤوس المصلين في كل المعابد, من زاخو للبصرة!! وكأنها تقول مقولة زياد بن أبيه: أرى في قتلك صلاح الأمة!!
فتحولنا إما إلى ضحايا أو جناة!
يالبؤس الزمن!!
إحساسي بصفاء الذهن تحطم, إحساسي بلذة كربلاء تلاشى, تماما مثل كأس مهشم, هل يستطيع أحد أن يعيده لك كما كان؟!! حياتي التي حاولت جاهدة في تجميعها أصبحت مثل عملية الرجوع إلى الوراء دون أن تكون لك نهاية تقول عندها: كفى….!!!
حاولت أن أهز ذكرياتي كدمية بيد طفلة, فتعثرت.. لأن فستانها الطويل أعاقها عن الرقص والدوران, تجولت بين مهدي وأنا فإذا فناء فسيح تملأه الشجيرات وصوت أمي الذي كان يتسرب كماء يجري بين شقوق الجدار الطيني, كانت تصلي وتدعو بدعاء الندبة في يوم الجمعة والذي كانت تحفظه كاملا عن ظهر قلب, حينها جمعت كل خساراتي ورحت أستمع وأتنهد, شعرت بأني في حضرة الندبة أتغيب عن الدنيا بضع سويعات, حتى تعيدني إليها بصوتها المبحوح من البكاء وهي تنادي عليَّ بأن أنهض للمطبخ..
الندبة؟؟
أن تغيب في ملكوت آخر وأنت تدعو بـ
لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوَى، بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرَى، أَ بِرَضْوَى أَمْ غَيْرِهَا أَمْ ذِي طُوًى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى الْخَلْقَ وَ لا تُرَى، وَ لا أَسْمَعَ لَكَ حَسِيساً وَ لا نَجْوَى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيطَ بِكَ دُونِيَ الْبَلْوَى، وَ لا يَنَالَكَ مِنِّي ضَجِيجٌ وَ لا شَكْوَى، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا ، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نَازِحٍ مَا نَزَحَ عَنَّا ، بِنَفْسِي أَنْتَ أُمْنِيَّةُ شَائِقٍ يَتَمَنَّى مِنْ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ ذَكَرَا فَحَنَّا ، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ عَقِيدِ عِزٍّ لا يُسَامَى ، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ أَثِيلِ مَجْدٍ لا يُجَازَى ، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ تِلادِ نِعَمٍ لا تُضَاهَى ، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نَصِيفِ شَرَفٍ لا يُسَاوَى ، إِلَى مَتَى أَحَارُ فِيكَ يَا مَوْلَايَ ، وَ إِلَى مَتَى وَ أَيَّ خِطَابٍ أَصِفُ فِيكَ وَ أَيَّ نَجْوَى ، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أُجَابَ دُونَكَ وَ أُنَاغَى ، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَبْكِيَكَ وَ يَخْذُلَكَ الْوَرَى ، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ مَا جَرَى .
هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَوِيلَ وَ الْبُكَاءَ ، هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُسَاعِدَ جَزَعَهُ إِذَا خَلا ، هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَسَاعَدَتْهَا عَيْنِي عَلَى الْقَذَى ، هَلْ إِلَيْكَ يَا ابْنَ أَحْمَدَ سَبِيلٌ فَتُلْقَى ، هَلْ يَتَّصِلُ يَوْمُنَا مِنْكَ بِغَدِهِ فَنَحْظَى .
مَتَى نَرِدُ مَنَاهِلَكَ الرَّوِيَّةَ فَنَرْوَى ، مَتَى نَنْتَفِعُ مِنْ عَذْبِ مَائِكَ فَقَدْ طَالَ الصَّدَى ، مَتَى نُغَادِيكَ وَ نُرَاوِحُكَ فَنُقِرَّ مِنْهَا عَيْناً ، مَتَى تَرَانَا وَ نَرَاكَ وَ قَدْ نَشَرْتَ لِوَاءَ النَّصْرِ تُرَى ، أَ تَرَانَا نَحُفُّ بِكَ وَ أَنْتَ تَؤُمُّ الْمَلأ وَ قَدْ مَلأتَ الْأَرْضَ عدلا، وَ أَذَقْتَ أَعْدَاءَكَ هَوَاناً وَ عِقَاباً ، وَ أَبَرْتَ الْعُتَاةَ وَ جَحَدَةَ الْحَقِّ ، وَ قَطَعْتَ دَابِرَ الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَ اجْتَثَثْتَ أُصُولَ الظَّالِمِينَ ، وَ نَحْنُ نَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ أَنْتَ كَشَّافُ الْكُرَبِ وَ الْبَلْوَى ، وَ إِلَيْكَ أَسْتَعْدِي فَعِنْدَكَ الْعَدْوَى ، وَ أَنْتَ رَبُّ الآخِرَةِ وَ الْأُولَى ، فَأَغِثْ يَا غِيَاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ عُبَيْدَكَ الْمُبْتَلَى ، وَ أَرِهِ سَيِّدَهُ يَا شَدِيدَ الْقُوَى ، وَ أَزِلْ عَنْهُ بِهِ الْأَسَى وَ الْجَوَى ، وَ بَرِّدْ غَلِيلَهُ يَا مَنْ
﴿ … عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ وَ مَنْ إِلَيْهِ الرُّجْعَى وَالْمُنْتَهَى .
اللَّهُمَّ وَ نَحْنُ عَبِيدُكَ الشَّائِقُونَ إِلَى وَلِيِّكَ الْمُذَكِّرِ بِكَ وَ بِنَبِيِّكَ ، خَلَقْتَهُ لَنَا عِصْمَةً وَ مَلاذاً ، وَ أَقَمْتَهُ لَنَا قِوَاماً وَ مَعَاذاً ، وَ جَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَّا إِمَاماً ، فَبَلِّغْهُ مِنَّا تَحِيَّةً وَ سَلَاماً ، وَ زِدْنَا بِذَلِكَ يَا رَبِّ إِكْرَاماً ، وَ اجْعَلْ مُسْتَقَرَّهُ لَنَا مُسْتَقَرّاً وَ مُقَاماً ، وَ أَتْمِمْ نِعْمَتَكَ بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ أَمَامَنَا ، حَتَّى تُورِدَنَا جِنَانَكَ وَ مُرَافَقَةَ الشُّهَدَاءِ مِنْ خُلَصَائِكَ .
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ ، وَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ جَدِّهِ وَ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الأكْبَرِ ، وَ عَلَى أَبِيهِ السَّيِّدِ الْأَصْغَرِ ، وَ جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ ، وَ عَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ ، وَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ وَ أَكْمَلَ وَ أَتَمَّ وَ أَدْوَمَ وَ أَكْبَرَ وَ أَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَ خِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ ، وَ صَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لا غَايَةَ لِعَدَدِهَا ، وَ لا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا ، وَ لا نَفَادَ لِأَمَدِهَا .
أي دواء يجدي مع ندوبنا يا أمي؟
حين هممت بالانصراف ألصقت أنفي بعباءتي النظيفة فشممت منها رائحة التوابل والزعفران, تنفست هواء عبقا وأنا أسمع لجة لا تنقطع..
يكاد النور يهرب من بين شقوق السقف ليحل الغسق بحمرته البرتقالية, بدأت السماء مخططة والحمام ينعس, لكن لون البياض هو ما ودعني نهاية العلاوي, الأقمشة التي كانت معلقة ومرصوصة فوق بعضها البعض كانت جميعها بيضاء حينها تذكرت خالتي بتول, كانت امرأة تقية ومنقطعة إلى الله, كنت أتردد عليها مع أمي كل جمعة لأجدها جالسة بطمأنينة وبيديها قماش أبيض طويل, إبرة ومقص, كنت أسألها عن ذلك فتجيبني دون أن ترفع رأسها, بإنه الكفن! أنصت ولكن بخوف, لأجد برد يدها وهي تمررها على خصلات شعري, طالبة مني أن ابتسم, لأن الموت حقيقة سيواجهها كل البشر وما علينا هو أن نكثر من الصالحات لعل الله أن يتغمدنا برحمته, سنموت ويحملنا الأهل والأصدقاء على الأكتاف, سندفن ويسألنا الملك, سيطير بنا الملائكة إلى الجنة إن نحن وفقنا في الإجابة.. ابتسمُ على مضض وأعدها بزيارة أخرى..
يتركني البياض مودعا إياي بالأصوات التي أفسدت علي إنصاتي للأكفان, أهز من رأسي قليلا كمن يرضى عن نفسه المقصرة..
الجنة تعرض نفسها؟!
تلك هي سجادة كبيرة غطت مساحة المحل بأكمله, مطرزة بألوان الجنة وهي تصور أشجارها الدانية وأنهارها طيبة الطعم.. وخيامها المجوفة من الذهب والفضة وحورياتها الاتي يحملن أطباق الفاكهة لأزواجهن وقد زينهن نصيف وضعنه على رؤوسهن, رجال كثر ونساء أكثر.. وقد اتكؤوا جميعا متقابلين على سرر مصفوفة, ملائكة تحييهم من كل مكان وعلى أطراف السجادة الكبيرة طرزت عصافير بلون الزهر ساقط أحدها على طبق,مشويا لأحد الجالسين حين اشتهاها فقط.. خلف نفسي وقفت أتفحص كم ثقبا في السماء ثقبته تلك السجادة العجيبة, كيف سمح مطرزها أن يسترق السمع والنظر معا!! هل أسامحه لأنه عقد لساني عن الكلام, وراح يجرب معي لعبة اختباء الأرنب خلف صخرة بعيدة في قيلولة تفصله عن مرعى فسيح؟؟
لفتت نظري لوحة أخرى زيتية معلقة, رسم عليها امرأة ريفية جميلة وهي تدير وجهها إليَّ مبتسمة, كأنها تريد أن تقول لي شيئا! وقد حملت ولدا رضيعا على كتفها وتمسك بيدها الأخرى فتاة في السابعة من عمرها, وقفت خلف ساقية صافية ونخلتين باسقتين..شعرت بأن هذه اللوحة جزء مني فابتعتها دون تردد أو مفاصلة صاحبها في الثمن..
حملتها تحت إبطي, بدأت أسير وأنا مزهوة بنفسي, وكأني حصلت على وسام شرف, خرجت من ذلكم الزقاق المقدس الذي بدا وكأنه يدللني ويخيرني بين أي بيوت الجنة أسكن!!
أعود للتنفس مجددا, رائحة المخللات النجفية الشهيرة تعصر على لساني قطرات خل تمر معتق وتلذعه بحرارة فلفل لذيذ, أغمض عيني:
أح ح ح .. أقترب من باعة المخللات, يكشفون عنها والذباب يحوم حولها دون أن يحول ذلك عن طلبها بكثرة, الصف الذي رصت فيه طاسات المخلل انتهى بمخللات عون أبو حسين, المحل لا يزال مغلقا منذ زمن, لقد تخلص ذلك المسكين من عذابات الانتظار اللامجدي, استنشق الغاز فمات لتكتشف جثته بعد ثلاثة أيام وقد تعفنت وتـفسخت عن جلد كان كثيرا ما يحكه حين يمتزج بنوبـات الهستيريا, مات منتحرا أبو حسين, مات محتجًّا دون أن ترف له عين السلطة التي غيَّبت مصيرا أبنائه الثلاثة في سجن نقرة السلمان وللأبد, فتحولت حياته من فوضى الذكرى الحمراء.. إلى هدوء الذاكرة الصفراء, بل وربما إلى نسيانها..
أشعر بحنين صافٍ لافتراش الذاكرة, ساورتني رغبة حقيقة في التحديق في أفق كربلاء الواسع, لم يكن أمامي سوى مصطبة حانوته المتهالكة, حينها شعرت بالتعب فافترشتها, لا أدري لحظتها لماذا تخيلت نفسي كيتيمة مهضومة!!
هل تعرفون كيف تبدو سيقان الأيتام؟
ضعيفة ومتقوسة, ومع ذلك فإن أيتام العراق يتحاملون على عكازين من أعمدة خشب الأسرة والطاولات المكسورة والمرمية قرب المزابل المنتشرة بكثرة.. كم أشتهي الآن أن أقف وسط جموع الأيتام اللذين حصدت الحروب آبائهم, يقفون بعكاكيزهم المرممة وأنا أطوقهم بذراعي المبتورة نبتسم في وقت واحد فيلتقط لنا المصور صورة كبيرة تذكارية, توضع على واجهة المعمل بجانب الأطفال المفرجين بابتسامتهم عن سنَّين ساقطين أو إلى جانب طفلة بريئة الملامح تمسك في يدها بأرنب قطني وباليد الأخرى سلة لبيض ملون أو صورة لمهرج يقفز في حفلة عيد ميلاد..
أليس كل هذا ملائكيا؟؟!
يوقظني من هذا التحديق أصوات الأيتام الذين تفرقوا عني, فقد أخذت من وقتهم الثمين ليجوبوا حظوظهم بصوانيهم النحاسية القذرة والتي ملؤها بقسوة الجواب لأم ثكلى تحاسبهم على الفلس الواحد إن هم خسروه, تختلط أصواتهم بمن يصيح كسمفونية خالدة لا تبدلها الأزمنة ولا الأمكنة, إنهم أحفاد مقدسون ولِدوا من الماء المدفون تحت التراب!! الماء الذي سقاه الله للحسين وللعطاشى في سابع سماء..
أتعمد فتح النافذة أكثر, تقابلني نافذة المرشدي وقد علاها غبار حجب الستائر المخرمة, كم تذكرني تلك النافذة بابنة المرشدي, هكذا كنا نسميها في المدرسة, أُسر والدها في الحرب العراقية الإيرانية, ولما استيأست والدتها وخلُصت نَجِيَّا, شدت رحالها إلى الكوت لتبدأ حدادها الذي ما انتهى, تسمرت أمام النافذة وودت حينها لو كان لقاؤنا في ذكرى أسعد من هذه الذكرى! كان لي أن أبقيها مفتوحة مشرعة لأستلقي, أشرع صدري لإنصات لذيذ مزجت حلاوته بمرارة لعبت بريقي, صوت دوى أسمعه في صدري المخنوق, أقفلت جناحي وصككتهما على وجهي ورحت أرتعش في حضرة أطباق من كيمياء شهية, وهي تعلن عن نفسها:
بائع الرقي : أحمر وحلو شرط السچين. .
بائع الخس : لهانة يا خس خس ابو الطوبه
بائع النبق : خستاوي يا نبق.
بائع الشلغم: حار وحلو مايع.. هذا للنشله دوه.. هذا للگحه دوه..
بائع الخيار : قلم قلم يا خيار.. بارد والوكت حار.. نبع صافي يا خيار
بائع الرمان : ماي وشكر يا رمان.. شرابي يا رمان
بائع العنب : ديس العنز يا عنب.. صاير زبيب العنب
بائع الصمون : صمون حار.. ابيض وحار الصمون
بائع الحب : حب يالوز.. سلّس ونس نفسك
بائع الطماطم : حمره الطماطه.. تصبغ الگدر.. حمره ومخططه.. من بغداد جبناچ وعلى الجسر عبرناج
بائع التين : أكل الخواتين ياتين.. بالجنة منّك ياتين
بائع الباقلاء: شاميه ومن الشام.. شاميه والشام بلادچ.. فولية الباگله
بائع اللبلبي : مالح وطيب لبلبي.. خوش زلمه هالچلبي.. يا لبلبي يا لبلوب وبعانه ترس الجيوب
بائع الباذنجان: أسود بالسوگ لاگاني وضوگه عماني
بائع البطيخ : حلو حافظ أمه.. بطيخ سامرّا حلو لو رگي بغداد
بائع النومي : حلو حلو يا نومي.. شگگ اهدومي.. يا مبرد الحراره
بائع الشربت؟؟ وما أكثرك يا شربت العراق!!
شربت ماي رمان شربت برتقال شربت مشمش شربت نومي بصره شربت آلو بالو شربت نومي شربت بالنگو شربت الحاج زباله!!
هنا شعرت بالعطش وبالبلل في آن واحد, ثمة دمعتان صافيتان سكبتهما على خدي, أحاول أن أختبئ تحت شجرة بعيدة وأصفن طويلا, أنتظر أن يوقظني الأطفال الذين تقافزوا فرحين بمنظر الشمس التي تسللت من بين الغيوم وهم يغنون بأهزوجة لها طعم المطر:
طلعت الشميسه
على كبر عيشه
عيشه بنت الباشا
تلعب بالخرخاشه
صاح الديج بالبستان
الله ينصر السلطان
يا ملتنا صرفينا
راح الوكت علينا
وشموسنا غابت
ورواحنا ذابت
طلع رسول الله
بيت قلم فضة
يكتب كتاب الله
. . .
استيقظت لأغني معهم, لكنهم ابتعدوا عني بطائراتهم الورقية وكأنهم ينكرونني! طيَّروها عاليا حتى ملأوا بها سماء كربلاء الجميلة, فتحولت إلى قوس قزح كبير, ولما انتهت هناك فوق السحب البيضاء وربطت بها الطيور سيقانها, عاد الأطفال دونما يأخذوني معهم..
عادوا يلعبون الـ(صقلة) و(دعبل) يركبون الـ( بايسكلات) يصيدون العصافير بـ(الكزوه ) يطوفون على (جوب مال تاير) سيارة سكراب ويسبحون في الشط يقفزون وهم عراة, يخلعون أحذيتهم ويمشون حفاة على الطين لايهم أن يمرغوا أقدامهم في سبخة أو اسفلت يلتصق بجلودهم, لقد اعتادوا على قرص البعوض ونقيق الضفادع والسحالي المشاكسة, إنهم يكركرون دائما, يُلوِّحون لفتيان يافعين يجدفون بقواربهم الصغيرة التي يأجرونها للمتنزهين في استراحة الششمس, كل شيء هناك يبعث على الحياة..
رطوبة الروح, صوت هدير الماء, مظلات القش, السماء المنقوشة بالنخيل الباسق دون أن يغير من ملامحها الدخان الأسود المنبعث من الانفجارت الجشعة, ينشدون بصوت جماعي:
غزالي غزلوكي
بالماي دعبلوكي
اجت تكعد عل الشط
بيدها المشط تتمشط
اجاها نومي.. نومي
كاللها كومي كومي
كالتله ابد ماكوم
الا تنطيني حجولي
راح اشتكي لخويه
احجولي باربعمية
أزدحم مع نفسي لأتفرس وجه محبوبي, لا أجده مع الصبيان, فأتوسل بترنمية عنيدة:
ياربي بس مطرها
وبلل درب محبوبي
لا تتأخر المزاريب عني, ترش رذاذا خفيفا ثم تهطل بشدة, يخرج الصبيان مبللون من كل جهة, يضحكون فوق ذلك ويرددون:
مطر.. مطر عاصي
بلل شعر راسي
راسي بالمدينة
ياكل خوخ وتينة
يتبلل حسين, لكني رغم ذلك لا أراه يعود كما الآخرين, حتى القمر الذي أكله الحوت عاد لهيئته وصار الصبيان يغنون له:
يا كمرنا يابو شامه
جيب أبونا بالسلامه
هل أكله بنات آوى؟!!
أنفض رأسي لا ..لا ..ليس بدجاجة ليأكلوه, لكني وجدت نفسي أفتح قن الدجاج لأطمأن عليه وإذ به خلفي يدغدغني:
عفوراااااا
ليش يا واوي تاكل دجاج
بيت عمتنه
خلي الفرخ بس يكبر
ويتناطح ويه العسكر
العسكر خضيراوي
بيه الطعم حلاوي
لكلماتك يا حسين طعم فريد على لساني الناشف, طعم الزلابية, حلاوة راشي, حلاوة شكرليه, حلاوة دبس, بقلاوه, كليچه, حلاوة جزر, شعر بنات, شكرلمه أبو العسل, حلاوة شعرية, ناف عروس, أصابع العروس, حلاوة تمر, حلاوة سمسمية, حلاوة دبس, جلاتين, مشبّچ, خرّيط, منّ السما, حلقوم, كعب الغزال, ملبّس, لو حلاوة السَّيد, شلون حلاوة تخبّل وريحة الراشي المحمص تفوح منها!
أمد إصبعي إلى لساني, أووف إنه مالح! كم أنا بليدة, يبدو أنني نسيت خيانته! سألت نفسي معاتبة: حسين(مو عافني..!) أبكي على كفي عصارة روحي التي أزهقت رغم أنف الكبرياء الذي وقف على حافة أنفي الطويل بعدما استرد عمي مني الخاتم بتكشيرة صامتة عاتب فيها قلة حيلتي وضعف قوتي!! حضنت أمي التي ما كانت تحسن الكثير من فهم عيني المنكسرتين, أهز كتفيها وأصرخ: حسين عافني يمه عافني چاوينها النخوة ها خليه يتزوجني إذا هو زلمه صحيح!
يومها لم تنفعني التعاويذ التي جلبتها أمي من الحاجة فليحة, ولا حتى مساحيق العطارين المغشوشة ولا دورانها في الحوش وهي تهذي كالمجنونة, شيء واحد أثبت جدارته في علاجي, إنه بكائي المسكون بالأسئلة دون جواب, بكائي الذي أُفلت به من عصبة جماعة قذرة, إلى محميَّة ظننت أنها ستكون أرحم..! لكنها الساعات التي عشتها وأنا أُشوى بسجائرهم الفاخرة, ليست أوجع من استدارة ظهر حسين لوجهي البريء بعد أن رُميت على قارعة الطريق..
كأنما أناجي الماء الذي أشمه ولا أراه, أشمه ولا أتذوقه, أشمه ويأفل في جَزر بعيد.. كأنما بطن حوت ابتلعني وهو لا يزال يفكر بجدوى لفظي على اليابسة, كانت هي المرة الأولى التي أشعرتني بأني غريبة في كربلاء, بلا حقيبة سفر رموني, بلا غطاء شعر وقفت, بينما الجوامع تصدح بالآذان! كل شيء أنكرني.. وجوه المارة, الشوارع, المحلات التجارية وأنا كأنني أنتظر صدفة أخرى تُنبت يقطينًا أتغذى منه فأنمو كالفرخ الصغير أو تلة أعتلي عليها وأتمدد وأنا أراقب منارة ضريح النبي يونس.
كأني ضجيج يغادر الأفواه ويسكن الصدور.. لكن هذا الضجيج الساكن عُبِّد بممر مظلم, تشعر وكأنك تودع ممتلكاتك الأخيرة فيه كي يخرجوك منه فقط, حتى تبدأ فعلا بخلعها لهم وتقليدها إياهم, أأسد أنفي؟ كيف ويدي مقيدة بأصابع معرقة؟ رائحة كريهة, صدمة وأنا في أقذر مكان تحت الأرض.. سرر أربعة أظنها لأربع فتيات وخمسين فاعلا, بطانيات رثة, مبقعة, ممزقة, ويابسة من حليبهم المجفف بدم الضحايا, مزعجة تلك الرائحة, حريفة جدا وتزيدها الشموع المضاءة اختناقا, مزعجة ضحكاتهم وكأنها دوي في مرجل, هذا المرجل الذي كان ما يحسن أن يسكت إلا حين تتنمَّل أطرافه في خندق مصحوب بوهج السجائر ليفسحوا الطريق لمن بعدهم من أشباههم تماما كلهم وشاة كلهم بعثيُّون كلهم جبناء خونة قوادون محترفون..
لا يدفعون للجياع حتى يبيعوهم الكلام ويحصدون الرؤوس بمناجل النخيل, ولا يصبغون أيديهم بالدولارات حتى يسوقوا لهم نعاجا لم يطأها أحد من قبلهم.. نعاجا أكثر إلى جليب سحيق تعيش فيه الذئاب..
الزبانية أزاحوا بكل وقاحة ما كنت أراه من أفق ملبد, كل شيء اختفى من أمامي, بغداد كلها ابتلعوها بشراهة, كأني مشيمة فصلوها عن رحمها عنوة, حددوني في زوايا أربعة, أدور وأطحن رأسي بها, زوايا لا تحسن أن ترطن إلا بالارتجاف والرعب المسكون بالسواد, زبانية يصفعونني ولكن بلطف اللذة! يقضمون ثدي الأيسر, يأكلوني بنظراتهم الشبقة حتى يشعروني بأني خسرت آخر صفقة في حياتي, همساتي المشفوعة لا تجدي, جسدي العاري وصفحتي الباردة أصبحت مثل صحراء تركض فيها الخيول دون رقيب أو حسيب, لقد انهالوا علي بالقبل وببنادق أعينهم العميقة, المتشهية والتي كانت أشع وألمع من ضوء الفانوس, انهالوا بالضغط على جرس الطلبات الذي لم يكف عن تزويدهم بالماء البارد والثلج النظيف! قبل أن يسحقوني مع آخر كعب سيجارة محترق, أغمضت عيني وتمنيت لو كنت مثل (بدور) والتي كانت تسكن محلة قريبة من محلتنا, تلك الفتاة التي عشقت شابا إيرانيا وفرت مع عشيقها إلى عابدان, حتى مرت السنون ولا أحد يعرف عنها شيئا حتى الآن, كنت أفكر فقط لو أنني بقيت على قيد الحياة.. كيف سأواجه كربلاء بمن فيها؟أي فقد يمكنه أن يمحو تلك الذاكرة؟
حتى بغداد التي ألحت عليّ بالنسيان خذلتُها يوم أن خذلتني وسلمتني لعصابة عُدي وهي تطارد فتيات الجامعة الجميلات وتصطادهن كفريسة مصرح لها بالموت على أيدي العتاة, لقد اغتصبوني يا بغداد فكيف للصابون أن يمحو آثار السخام!! فالبياض الساحق لم يعد يجدي نفعا, فهو لا حياة فيه تماما كشخير المروحيات التي ترمينا بأحذية الجنود بدلا من أكياس الطحين!! هم لاكوني لقمة هنية دون أن يرفعوا أبصارهم للسماء ويشكروا الرزاق, تناولوني بدون ملعقة أو شوكة أو سكين, مصوا مخ عظامي قبل أن يرموني في نفاية بغداد الكبيرة التي غالبا ما توزع الجثث على باقي المحافظات ويندر فعلا أن يعيدوا الفتيات إلى مفترق الطرق, بعد أن يدسوا في يدها بضعة دنانير لتدبر بنفسها طريق عودتها..
قُمَمٌ.. قمم..
صح فينا يا مظفر: قمم, صح دون أن تسكت: قمـــــــم..
وأنت يا حسين قهقه كما يقهقهون أو هون علي بنظرة شفقة ورحمة تعطف بها على حالي أو ضع على وجهك كيسا مرقما كما يضعه الأمريكان على رؤوسنا انهض ولو على قدم واحدة, أنظر إليَّ ها أنا أسير إليَّ وبذراع واحده أربط على قلبي المفتوق, أرتقه بوجهي المنكسر في عينيك المغرورتين.. إنهض وليسندك ظهر عمي, تقيَّء حتى ييبس قيؤك الدافئ في كفيك الباردتين, فأنت أعمى مادام الكيس على رأسك, لا تذكر الله!! ولا تقل حسبي الله ونعم الوكيل.. وإنا لله وإنا إليه راجعون, لا تتوسل, ولا تردد أدعية الشفاعة, لأنك بت تستغفر في زمن ضربك في صدرك, هنا وبكل عنف حيث لا يرحم الوجع صاحبه, حتى خبز العباس الذي نذرته أمك أن تطعمه أبناء المرحوم (مطشر المحبوب) صار لا ينفع, فالسمسم واللوز والكبابة والبيض والطحين… جميهم فسدوا و صاروا عجاف مثل قلبك الصدئ يوم أن تبرأت مني!عليك أن تتعرى للزمن وألا تشعر بالعار, لأن رتابة الحياة أصبحت أكبر من كل الأحداث, كل يوم نفس الوجوه, ميتة, حائرة, الزناد بارد, ساخن ,سيان, مادامت هناك بندقية وأصابع, الإهانة نفسها, مرة يصعدون فوقي, مرة تحتي, مرة من الخلف, مرة من الأمام, وأنت تسد أنفك بلثام المقاتلين عن أنفسهم فقط, تتقزز من رائحتي ومن صوت أنيني الذي ملأ الحوش.. تخرج منهزما من عيني المسبلتين, ترمي في صحن الدار بندقيتك مستسلما لآخر معقل سقط في الجبهة.. تزم شفتيك وتهز برأسك يمنة ويسرة, هل تذكر؟ هزيلة, قذرة, مغتصبة, مظلومة.. معادلة صعبة في تقديرك, لكنك سرعان ماأنهيتها بقضائك الجائر, أعدتَّ إلي الليل حافيا كمن يضع على مصطبة بيت فقير في ليلة العيد كيسا يحوي قليلا من الأرز والطماطم والبطاطا والعدس والطحين والزيت والسكر ونصف دجاجة غير مطبوخة, ورزمة من النقود! يومها طرقت بابنا بطرقة أميزها حتى الآن, وفسخت أنت وأبوك كل ما بيننا من مواثيق,خرجت دون أن تنبس ببنت شفة, تشفعك نظرات عيني الناطقة بك: أركل حسين كل ما يقف باتجاهك فأنا بعيدة عنك كثيرا, ذقتُ من الركل بما فيه الكفاية..
كل ما أتمناه أن أعرف وجه من اقتادني إلى سيارة ابن الرئيس الفارهة لأبصق عليه, أشك بأني شاهدته مرة يبيع العلكة في سوق الغزل,لحظتها تصرفت وكأن شيئا يدفعني للانتقام, اشتريت رغيفين وقمت بدفعهما إليه, شكرني وقال: رحم الله والديج بنتي الله يستر عليج!
لم يعرفني لكني عرفته, رحمته لأنه صار يعيش مثلنا تماما ذليلا بعد عز, في دولة تحكمها المليشيات والمنظمات السرية فالموت إن أتاه فلربما لن يجد من يتصدق عليه بدفنه, من يرحم من؟ لا أحد, غير شوارع محترقة, كلاب تعوي, رصاص يرشقك من بيت جيرانكم المجاور, وملثمون ينصبون نقاط تفتيشهم الوهمية, مروحيات تطحن, مزابل تتبخر, عويل متقطع, حزن يطول, ومقابر تناضل بخلودها, غمامة الدخان الباكر والمحتلون لا يحسنون سوى التهديد لكل من يقترب منهم بقولهم: فك يو.. والتي يترجمها العراقيون عادة : بابتعد عني!! بائع العلكة- الضابط الكبير- خرج من دهاليز القصور وأقبيتها إلى فناء كبير يزهق فيه روحه كل يوم بثمن العلكة التي يبيعها..
أما أنا فخرجت وأنا أشعر بأني لا أمتلك سوى الثياب التي علي وما تخيلت قط أن أخرج من بين أيديهم سالمة, لحظتها حين رأيت النور يتقافز من خلف فندق فلسطين, حاصرتني نوبة بكاء وحمى مصحوبة بهلوسة الكوابيس.. كئيبة كنت ومحطمة, أشعر وكأني عجوز مجنونة يتصدق عليها الناس وهم يضحكون منها بفضل طعامهم وملابسهم, أرى ذلك في لون النخيل فاللون الأخضر يذكرني بنصف الجدران المطلية باللون ذاته, باهتة كليمونة يابسة, تحاملت على نفسي, عرجت بروحي,آلام مفاصلي منكسرة ومطحون نخاعها العظمي, أفكاري تزداد في الشتات ولا أدري كيف سأتصرف, حسين الوحيد الذي ظننت أنه سيعوضني الثمن, ولكن تبا لي ثم تبا.. رغم ذلك كله إلا أنني مازالت أحتفظ بمحبته!!
حسين, تذكر بأن شيئا ما سيبقى بيننا؟
*************