لم أصدق ما تقوله.. كانت تهذي مثل طفلة ضيعت أهلها وسط ضجيج الحجيج, وأنا أكتفي بسماع من يبحث عنها دون أن أدلهم على مكانها, حيث كنت منشغلة بإطعام تلك الجائعة! لكن الضجيج الذي غزا رأسي و بقوة, أفزعني من مكاني, فنهضت مسرعة إلى مصدر الصوت.. لكن بلا جدوى, فالحجيج كانوا قد تركوا المكان, وانتقلوا إلى مكان آخر لعلهم يجدون من يدلهم عليها..
– ( شلعتي لي كلبي) وهل أتيت إليك لتودعيني بكل هذه البساطة؟ ثم من متى وأنت تحت رحمة تلك السارقة؟ لماذا كذبت علي وقلت بأنك تزوجت رجلا مرموقا من التيار الصدري, ثم تأتين إلى هنا لتعيشي معه في تلك الحفرة..
– وهل تريدين مني أن أشرح لك في الهاتف قصتي البالغة عشرين عاما مثلا!!
– هات ما عندك إذا, أين ذهب بيت عبد الستار, أين ذهب؟!!
أقولها وأنا أصرخ من أعماقي..
– في نفس السنة التي انتقلتِ فيها من كربلاء, عبد الستار لقي عملا جديدا في بغداد, كانت فرصة للتخلص منه, ومن كابوسه الفضيع, لم يكن أحد يشتاق له سوى جدتي, أنا شخصيا أكرهه, لأنه لم يذِقني من هذه الحياة الجميلة سوى العذاب والخوف والرهبة..
في كل أسبوع يأتي لزيارتنا محملا بشياطين في رأسه الأصلع, ليبدأ بتفريغها علينا خصوصا أنا الأكبر سنا والضحية الأولى, يبدأ بحزامه العريض,وينتهي بـ(البوط) الذي كان يؤلمني بطعم الإهانة, فبمجرد أن أفكر في الجواب عليه, أو أتأخر في تلبية طلبه فسيتحول إلى غضب يلغي كل الأعراف, لا توسلي يفيد, ولن يستطيع أحد حينها أن يرده عني, أأِنُّ دون أن أبكي, أتصنع الشجاعة والتحمل, كمن يعلل عذر من يُسلَّط عليه, شعري منفوش, شرائطي محلولة, ساقي مجروح, أزحف وأنا أراقب النمل المسالم وهو يحمل عشاءه إلى أطفاله, أدفع بحبة أرز يابسة إلى جحرهم الضيق, ثم أستسلم للألم, لم يكن بوسعي سوى أن أتبول على نفسي, لتغسلني هي الأخرى – جدتي- ببعض الشتائم, والأدعية البذيئة! أحيانا تتحول موجتها إلى أمي التي لم تنجب سوى البنات لوريث عرشها الموقر, تقرفص شفتيها السوداء كدجاجة ميتة للتو, تبصق, وتسعل, ثم تقولها في وجه الجميع
( لو متزوج لك احطبة مو أحسن) عوْدته تمثل لنا ظهور جاسوس سري في حياتنا, أو كابوس حقيقي, كان يخترق كل شيء حتى صوت عظامنا, وأسنانا وهي تصطك خوفا من قدومه, كان يسمعها! وكأن أحدا ينقلها إليه, جربت أن أهرب من سوطه إلى حضن جدتي المريضة, لكنها تدفعني بجفاء, وترميني في حضن أمي التي كانت تختبيء خلف باب حجرتها وهي تلطم على صدرها بلا صوت, تلتفت جدتي على أبي المتوقد بالشرار:
( أمها ما عرفت تربيها)
أبلع نصف ريقي الممتزج بالدم, لا أمجه وأنا أتمتم في حضن أمي:
( ليته يربيج بالوَّل يالساحرة)
يسمع كل همس تحت الوسادة, وصوت الشخير الذان لم يكونا يمران عليه مرور الكرام إلا أن هذه المرة مرت بسلام,الجميع يضرب له السلام, لكنه يضرب الجميع, موفرا بذلك لنفسه الاحترام كما يظن, يمشي كطاووس, وحين يتعثر يتحسس من موضع مسدسه المربوط في حزامه, يتأكد من وجوده, فيعاود تحريك رقبته المسفطة وكتفيه العريضين يمينا وشمالا..
كعفريت أزرق يعيش بين قلوب بيضاء.. يطيل السهر, ولا يعود إلا متأخرا, يسكر في البار القريب من حلتنا أو في بيت أحد أصدقاءه, يعود مترنحا.. يهذي كعجوز هرم, وهو يتغنى باسم عشيقته, يحمله رجال المحلة إلى بيتنا, يتركونه عند عتبة باب الحوش ويمضون..
كانت أمي تدثرنا بالألحفة السميكة, تضمدنا بالزيت الدافئ, وبأهازيج حنونة ذات صوت عذب كانت تهدهدنا, وتخفيفا من حمى الموت وسكراته, كانت تعالجنا بسورة يس, تتلوها بصوت خاشع ومنخفض, وحين يسأل عنا تجيبه حركات يدها المباركة, وهي تلمح له بوجوب الإنصات لتلاوة القرآن, بينما كنا لا نجرؤ على فتح عيوننا لنلمحه, ليتنا ننام إلى الأبد ولا نراه..
– صدقيني هو لا يكرهك, وحين تتزوجين وتنجبين أطفالا, سيضعك فوق رأسه..
لم تشأ تفاجئني, ولا أن تستبق الأحداث, وفضلت أن تنهي قصتها فصلا فصلا..
– دائما ما كان يحرجني أمام الجيران, يسحبني من الشارع, يجرني من ظفيرتي, أشهق وأمخط, وأبكي دون رجاء, أسأل أمي لماذا لا يضرب أبو رشا ابنته؟ ليش أبويه بس هو الي يضرب؟
تمسح عن وجهي الدموع مبتسمة:
( غدا سيعود إلى بغداد, جدتك ستذهب أيضا إلى عمتك بدرية في الناصرية, ستمكث عندها ثلاثة أيام, باستطاعتنا أن نزور الحسين, وفي طريق عودتنا نشتري من أم فلاح الخرساء حمص, وحلويات..)
بالله عليك يا عفراء, أتوجد كائنات أطيب من الأمهات؟ أمي التي لم تعنفني يوما, تجرعت غصص الحياة من أجلنا, المرض الذي أقعدها لم يقعدها عني..
في بيت جدي كانت تودع أيامها الأخيرة وهي في أشد حالات المرض, تسعل بشدة وتدخل في غيبوبتها, ولما تصحو تدنيني منها لأدير لها ظهري, وتحتويني بين فخذيها الهزيلين:
( حبابة, بس أمشط شعرج وبعدين تروحي تلعبين..زين) يدها ترتعش.. والمشط يكاد ينكسر, تدخل في نوبة جديدة.. تسعل وتسعل, لكنها تقاوم, تلك الجبارة بهدوء, الجميلة كالحوريات, كقديسة تشد على رأسها عصابة ملونة, وحين تطلب الراحة من المرض وهموم الرجل الذي أحبته حتى الجنون, تفتح عينيها الزرقاوين نصف فتحة ثم تغمضهما..
لكنها أغمضتهما للأبد, سقط المشط من يدها, سقطت أنا وأختي في مرحاض الحياة..
سقط مني ( قوري) الشاي, اندلقت معه صرخاتنا المدفونة, لم يكن هناك أحد ليواسيني, سوى ثكلى مغرورة بأحزانها!! سألتها بحروف مقطعة:
– ماتت؟!- قلتها بشهقة-
فتابعت:
انتهت أيام العزاء, وفرغ البيت من البهجة, تحولتُ إلى كائن لا جدوى منه, أو طفيلي يعيش على بقايا الذكريات, ولما تأخرت عن الجلوس على مائدة العشاء الأول حيث كانت جدتيوأختي بيداء في انتظاري, فتحت علي جدتي الغرفة, أدارت رأسي نحوها, وأمسكت بوجهي المتورم, عصرته بكفيها القويتين, عيناها تبرقان كالنجوم البعيدة, تكلمني بصوتها المتحشرج:
( زنوبة اسمعيي زين, بعد ما ظل عندي صبر عليكم, أمج مريضة وتبصق دم وأنتو نايمين بالليل, موهي راحت وارتاحت,أبوج هم مريض وخلصان, وصاير سكران على طول, عطال بطال بوجهي, خلصت فلوسه على السم, وبنت الحرام بقي أنتو لا تصيروا بآخر عمري أعداء إلي! افتهمتي لو لا…) انفجرتْ بالبكاء, لأول مرة تحضنني, كعاشق طوقتني بذراعيها, تحسست ثدييها الطريين, كبيرين منحنيين إلى الأسفل بشدة, باردين وقد شممت منهما رائحة عرق الجدات الفواح..دفنت بينهما رأسي, وهناك نضجت, باستني يا عفراء باستني!
رفعت رأسي أنظر إليها, متأملة رقبتها المجعدة, طويلة, وبيضاء, وجهها حزين, وعيناها صافيتان كالرقراق, تطلق منها سراح الحسرات والندامة في جولتها الأخيرة, أدركت أنها كانت تتنكر بثياب الجبروت والتسلط, فهي لا تحب أن تكسر كلمة والدي أمامنا مهما كانت قاسية, لكنها في لحظة ضعيفة كهذه, لم تستطع إخفاء قلبها الذي لا يكذب, وروحها التي لا تخون, قبل أن ننام كانت تحشوني بالنصائح, بيداء صغيرة, وتذهب في النوم سريعا, أما أنا فكانت دائما ما تقول لي:
( إذا سألك أحدا عن أبيك, فقولي لا أدري.. أحفظ أسرار الآخرين, ولا تودعي سرك لأحد مهما كان .. )
هل تصدقين عفراء بأن موت أمي الباكر, وسفر أبي الدائم, أعاد إليها شبابها وعنفوانه, فقد مثل لها مهمات صعبة, واختبارات يومية, كل يوم تذهب إلى السوق وحدها, صار يعرفها كل أصحاب المحلات, يحبونها كثيرا, ويفتحون لها البضاعة الجديدة, ينتقون لها الحبوب النظيفة, الأرز المعطر, والعدس المقشر, يفرشون لها الخضار الطازجة لتنتقيها بعناية, حتى إذا ما اشتهينا شيئا, فعلت المستحيل لتوفره لنا, لتعود محملة بالأكياس السوداء الممتلئة, تتصرف وكأنها شيخ التجار, تشتري بلا نقود, لا يكتبون اسمها في القائمة, فهم يثقون فيها كثيرا, وحين يضع والدي مصروفنا في جيبها أول الشهر, تعود إليهم, وتحلف أيمانا ليأخذوه..
– أتخيل لو كان لك أخ, كيف سيكون شكله؟ أمير مدلل.. على الأقل كان سيجبر أباك على التقاعد من الهموم, والجلوس بجانب والدته العجوز..
– كما تعرفين, لم تنجب أمي لأبي سوى ضفدعتين مريضتين, هكذا كان أبي يصفنا, أما حارس النهر, كما يحلو له أن يصف ولده الحالم بقدومه, فقد يبس مع الأسماك التي انتحرت على حافة الجرف احتجاجا على الشمس القاسية والتي بخرت مياه النهر, لم تظهر مملكة أبي الخالدة ليولد الحارس المجيد, يبدو أن النهر قد ابتلعه, لذا قرر والدي أن يتزوج من امرأة أخرى تخلد اسمه, وترفع رأسه بين أقرانه, وكباقي النساء, كانت أمي رافضة لمشروعه الذي سيشتت بيت عبد الستار, وحدث فعلا حين وزعهم كمدافع متفرقة على حدود الوطن, كانت في أوج مرضها لكنها ما تلبث حتى تنهض من عقال فور عودته, وتلعن المرض الذي أقعدها كل هذه المدة, لقد تغيرت في أيامها الأخيرة وكأنها كانت على يقين من موتها القريب, كانت تفكر فقط في فكرة الانتصار, ومبدأ القوة! فصارت ترفع صوتها عليه, تؤنبه, توبخه, تحول البيت إلى لهيب مستمر, أنا وجدتي كنا نكتفي بالتنصت عليهما من خارج الغرفة, في مشهد يثير الضحك, والسخرية معا, حيث نتحول إلى صديقتين, وفيتين أحيانا! هي تصرخ وتقول: أكاد أختنق..
فيخنقها بالمزيد من قذائف كلامه.. والذي كان يثير فيَّ أحيانا العطف عليه! ذات مرة سمعته يقول لها: يكفي ماجدة يكفي, أنا أقاسي هناك, في الصباح أوامر المدير التي لا تنتهي, صراخه, وسخريته, إنه يستخدمني عنده كالحمار, كل هذا من أجلك, ومن أجل بناتك المرضى..
لكنها ترد عليه بلهجة تذوِّبني: هل صحيح أنك ستتزوج علي؟ أنا أحبك عبدالستار, وبناتي مستحيل أن يعيشوا مع زوجة أبيهم..
تجهش بالبكاء.. ولنحيبها داخل صدرها أزيز كمقلاة تغلي, فجأة تتحول إلى قربان يتوسل بذابحه, تنزل إليه, وهي تمسح دموعها, تقبل رجليه المتسختين, تتمتم له بدعوات وأمنيات,راجية منه التخلي عن فكرة مدمرة كهذه, بيديها المرتجفتين ترفع ساقيه على الكرسي, تنزع منهما الجوارب الزنخة, تضعهما في ماء ساخن مملح, ترفعهما وتدلكهما.. تستمر في التدليك..وهي تهذي عليه مبتسمة ابتسامة المجانين, ابتسامة تكشف عن طيبتها الخلابة
( أكيد ما راح تتزوج عليه ستوري مو؟) يفكر في رفع يده عليها لكنه يتردد( مو حرام عليج يامره أنتي يمته تفتهمي ها؟ أنت ما وراج ولد, ولا اشاريج أطلب منج الأذن بالزواج أغاتي! والله نسوان آخر زمان, شوفي ماجدة انتي ماوراج الا المطاردة في المستشفيات, يابه خلصت فلوسي عليج وعلى بناتج وأني أشتري الكم الدوه ماكو فايده منج أبد, دا عوفيني زين عوفيني.. وإذا ما عاجبج فبيت أهلج مفتوح, كاهم مكوشين على نص بساتين كربلاء, خليهم ينطوج واحد من بساتينهم.. روحي الله وياج )
المجنونة صارت أكثر جنونا, بعفوية تنوح أمي, وهي المسكونة بالحب, والحزن والأنين, تلطم وجهها بانتظام وتصرخ, تغني قصائد لا أفهمها, أسمع جدتي, وهي تميل رأسها يمينا وشمالا: أي والله صدكت ماجدة.. بعويلها تغني غناء مسموعا يوقظ البيوت والمدن..
تعصرني ببكائها وتوسلها داخل الغرفة مخاطبة أبي:
( سوده على وجهي, وشرف أمك لا تتزوج عليه.. ) لحظتها ما كان من جدتي سوى أن تفتح عليهم الباب, لتفاجئنا بخبر زواج أبي فعلا!!
لقد تزوج قبل شهرين بفتاة جميلة في بغداد,تصغره بخمسة عشر عاما, تعمل في شركة حجوزات الطيران, تعرف عليها من صديق له يعمل في نفس الدائرة, ذلك المتمرس في النساء وعوالمهن الغريبة..
زير النساء– الشبعان – دبر له زيجته بسهولة, في بغداد وحدها النساء الجميلات بعدد نخيل البصرة, تسكنهن ثورة غاضبة من الجمال والروعة, متوفر فيها كل ما تشتهيه من جميع الأجناس, صغيرات, وحلوات, ولا يشبع منهن, جنوبيات, بدويات, كرديات, غجريات, شركسيات, فارسيات, تركمانيات.. جو مملوء بالفتن, رجال يصطادون من الشباك أو من عتبة الباب الرئيسي أو حتى من رصيف الشارع!!
لم يفعل والدي حراما.. هكذا فهمت من جدتي, لكن أمي ساءت حالتها وتدهورت, وكان هذا هو الحرام بعينه.. لذا قررت أن تستجيب لإرادة أبي وقراره المفتوح, وهي أن تغادرنا إلى الأبد, لتترك البيت في مشهد صامت متفرج..
قبل مغادرتها, حاولتْ أن تتخلص من حنينها الذي سيقتلها, أراقبها, وأنا أحمل أختي بين ذراعي.. كنورسين ضائعين في تيه الرمال.. نبحث عن واحة تظلنا, هاهي تحضن خزانتها الكبيرة والتي اشترتها بذهبها الذي باعته حين خسر أبي في صفقات القمار وحتى تشمها, أطالت الالتصاق هناك, وكأنها خشب مدهون بالعنبر, أو شبك مذهب لأحدى الأضرحة, لكنها لم تشم سوى رائحتها المحشوة بالخيبة, والإنكسار, تخنقني عبرة, وهي تدور في أنحاء البيت, تطيل النظر في أشيائها الخاصة, في ملاءات السرير الحريرية المنقوشة, في ثياب أبي, قمصانه, سراويله, دشاديشه, فنيلاته البيضاء, مسابحه المتعددة الأحجام, نقوده المعرقه بين يديه, صورته المعلقة على الجدار
تبحلق فيه.. إنه يشبه رجل ولد من رحم الحرب, ذاب فيها فصار بلا ملامح تذكر, تنظر في عطوراتها المصفوفة بعناية, كحلها, وحنائها, ثوبها الزهري المطرز المشغول بالخرز الذهبي, خلخالها الذي أهداه إياها تعويضا لصفقة خسرها في القمار فتضرب بكفيها بعضهما على بعض, لا شيء يدعو للرقص, فكل شيء انتهى..تستمر في نظرة الوداع الأخير, في أثاث غرفتي التي تقع بجانب غرفتها, في أواني المطبخ النظيفة, في الرفوف المرتبة, في المصحف الكبير, والسجادة الناعمة, في النباتات التي كانت تحرص على سقيها بنفسها يوميا, النباتات التي ماتت فور خروجها من البيت, تنظر في الستائر, والمناضد, في عيني, وعيني بيداء البليدة, تشنجت, ثم فتحت فمها كمن تقف على أطلال تشاهدها لأول مرة, ثم ودعتها
( سويتها ياولد أمك سويتها)
استدارت إلى مرآة المغسلة, بدأت في صراع علني مع إثبات وجودها, ومدى جدوى بقائها تحت مسمى أنثى جميلة أسرت زوجها فلم ينظر إلى غيرها, ترفع شعرها الناعم لأعلى, تتفحصه خصلة خصلة.. لا شيب, ولا صلع, ترفع من رقبتها أكثر, وأكثر… تتركه ينام كالحرير على كتفيها, تزم شفتيها بطريقة مغرية, متوردتان وتبعثان على الغرور, تتحسس موضع شامتها أسفل خدها, بارزة ومثيرة للغاية, تدخل يدها تحت قميصها, تفحص صدرها المشدود, تضغط عليه, إنه ناضج, وممتلئ, تكورهما أكثر بمعاودة الضغط..
تدور و تدور كغصن ريان يقوى بفعل الأيام ويزدان,تكلم نفسها في المرآة: أجمل أخواتي أنا, أعقلهن وأذكاهن, بذلت المستحيل لتتزوجني يا ستار ثم أفلحت في انتزاعي من ابن عمي, ما الذي غيرك يا عبد الستار؟ اللعنة عليك يا (كاكا) يا قواد,اللعنة عليك يا بغداد!!
يا أم الملاهي والمعاصي والمآثم, اللعنة, اللعنة, اللعنة, تعالي يمه وشوفي ماجدة, زوجها تزوج عليها, لو وبعد حبَّل غيرها بولد..
لم ينفع الشاي في تخديري, فقد اندلق من على المنضدة, ولمّا أشرب منه قدحا واحدا, صار يسيل, ويسقي النمل المتعثر حظه, حيث لم يحصل اليوم على فتات خبزه, لذا طلبت منها حبتين مهدئتين أربط بهما أعصاب رأسي التي تفللت من حديثها, حيث فكرت في عودتي المكللة بالألم..
ومن فتحة باب صغير مجاور,خرجت زينب إلى فسحة أكبر حيث أحضرت ما طلبته منها مشفوعا بكأس ماء بارد استلفته من بيت زوجة أبيها التي تحتضنها لمدة محدودة, ريثما يفرجها الله..
– وحتى وصلتِ إلى هنا ماذا حدث؟ وأين هي بيداء الآن؟
– بعد رحيل أمي كبرت ألف عام, لأول مرة أشعر بضعف أبي, فقد كان معتمدا بشكل كبير على أمي, حتى حملت عنها كل الأثقال..
من يملأ أوعيته الدموية بالحياة, ويجعلها تفور من جديد؟ إنه أنا, صرت كل شيء في حياته, حين يطلب مني شيئا فإنه يصيح في وجهي ولا أتكلم كالأموات, أمشي بروحي التي تدفعني في الدروب الطويلة, أفعل كل شيء يطلبه مني بالإشارة وبكل طواعية, أحضِّر بعناية أرجيلته الخاصة, أقرب إليه خرطومها الطويل بعد غسله, أرش بالكلونيا ذقنه المحفور بالجدري, حين أقترب من وجهه الخمري, أقرأ في عينيه الناعستين لعابه الذي سال على جميلات المحلة, وهو معبأ بشبق يعود به من بغداد الفاتنة, أغازله فأقلد أمي: اسم الله عليك يابه اسم الله, الله يحميك ستوري!!
ينتفخ, ويصير مثل البارود المشتعل: صدق جِذب زنوبه هلكد أبوج حلو؟ من كل خليه يسحبني بسؤاله هذا, يشتهي لو يطول حديثه معي, لكنه لا يلبث حتى تعكر جدتي مزاجه المخبول, تسحبني من ذراعي وهي تدفعني إلى يباب الواجبات اليومية التي لاتنتهي.. من خلف نظارتها الطبية المتينة كانت تلقي أوامرها الصارمة وأنا لا أحسن سوى الشهيق والزفير المتقطع.. وبعض المخاط الذي أبلعه, ثم أتكوم على بعضي..
وأخيرا.. يأس أبي من جدتي المتسلطة, كان ينتظر منها أن تبادره بطلب إحضار زوجته إلى كربلاء, لكنه ظل قبل أسبوع يستجدي ببعض أمله الذي راوده من مجيئها..يقرأ القرآن بصوت عال وهو يعسكر في غرفته, صوته جميل ويهز القلوب.. لأول مرة أعرف بأن أبي يمتلك صوتا جميلا كهذا! يهبط من زجاج النافذة فتجتمع العصافير عليها, جدتي وهي غير مصدقة تسأل نفسها:
ما هذا السكون؟ لا سعال؟ لا دم فاسد.. قرآن وملائكة ربي..
شعجب!
بفعله هذا أفصح عن توبته المزيفة وإقلاعه المضطرب عن صبيانيته.. فتحت جدتي نافذة غرفة أمي الشمالية, وطلبت مني أن أقوم بتنظيفها استعدادا للعروس الجديدة.. وهي تردد معروفها على مسامع الجميع:
من أجل الولد فقط.
عنوة أمسكت بجروحي وربطتها بإحكام, نثرت عليها مسحوقا من البودرة حتى لا تنزف, الهواء يتسرب بهدوء, والوقت هو من وقف حائر ينتظر, ربما أتحول إلى معتوهة إذا ماأقنعت نفسي بأني ربما أكون خادمة لزوجة أبي المغرورة كما كنت أقرأ في كتب الحكايات..
لكني استجمعت قواي وتخيلت أنني أمثل دور فتاة مسكينة في فيلم سينمائي, لذا تخيلت أن أطلب من أبي أن يأخذني لزيارة أمي لأشكو إليها أمره بعد أن تخلت عني السماء لكنه حتى في الخيال رفض طلبي, رميت مكنستي وأخذت بيد أختي بيداء إلى السطح, كنت أعرف مدى حاجتها إلي, هناك.. حيث لا غنائم غير النجوم والدموع والقمر الذي سرب لنا نوره الخفي.. وبدوري سربت له دعائي الخفي أيضا: آمنت بالله..
أبي في الأسفل ينتظر خروج مولوده من بطن زوجته الجديدة, وهو يفرك يديه قلقا: ايه اطلع, اطلع بابا, بحق محمد وآل محمد, يلي جدتك جانت تقرا عزا الحسين..
وهو يرفض أي قدر آخر, لكنها الأقدار أقوى منا جميعا.. مات الولد أثناء خروجه, وراح أبي في عالم لانهاية له, يشرب ويشر ويشرب.. بينما حملت زوجته عفشها فورا طالبة منه الطلاق, دون أن يرضخ طبعا لطلبها, فقد كان مجنونا بحبها, ولا يتصور أنه سيفارقها يوما ما, أذكر جيدا ما قاله لها, وهي ذاهبة برفقة أخيها الذي جاء في اليوم الثالث من ولادتها قال لها وهو في حالة حب وكبرياء في آن معا:
حبيبتي, بوسي إيد أمي كبل ما ترحين!..
ذهبت, ولم يزاحمني أحد في حياتي, حتى بيداء المسالمة صارت تصغر في كل شهر يمر علينا, وتذوي شيئا فشيئا كالشمعة, وحين تمسك النار عن لهيبها وتتجمد تجد فسحة في ملاحقة النمل, تتتبعه إلى الممرات, تسلي نفسها بلعبة كسر الخبز ومراقبة النمل حيث لا تجيد لعبة سواها.. أبي صار يذوي أيضا.. كل شيء صار عنده مدعاة للملل, غرفته مليئة بأعقاب السجائر التي صار يدخنها فقط.. وصوت عفيف يستجدي جسد امرأة جميلة مرت كالطيف على حياته,النوم خصم عنيد له, لاحبة الفاليوم تنفعه ولا التحديق في السقف, لذا فهو يلعن الليل والنهار ويبقى متعفنا داخل دشداشته أياما, يحاول استعاده مجده الضائع..
يزأر ولكن على نفسه, وكضفدع عجوز يقف على بحيرة يابسة, ينتظر من يأتيه بغدائه وبعشائه الخفيف رافضا طبق (اليابسة) والتي كان يعشقها كثيرا, يزيحها عنه ولايفكر لحظتها سوى بالبحيرة الوهمية, لذا فهو يملأ أقداحا ثلاثة من قنينة(العرك) ليعبها عبا, يناغيها وكأنها نديمه الوحيد في غربته الروحية, لقد عاد مدمنا كما كان, لم يفلح مع النساء, ولم تفهمه واحدة منهن, كذا لم تهبه إحداهن حبا ولو عابرا, هكذا كتب حظه أن يكون…
أراه يترنح ويسند رأسه على الحائط البارد, لا يجد من يتشبث به, يشرب المزيد حتى تنفذ القنينة, يقضم خيارة صحيحة, ثم يحاول أن يتقيأ لكنه لا يستطيع, يصيح بي:
زينب رأسي يؤلمني, أكاد أموت من الألم, أسنديني على كتفيك ابنتي..
لأول مرة أشعر بأن أبي ضعيفا! لقد انهار باكيا على صدري وهو يعترف بأخطائه: كل شيء يذبحني, أنا نادم, نادم على كل ما أفعله بكم, غير أن هذا ابن الحرام- العرك- لذيذ جدا, إنه ينتشلني من صحوي الحزين, ومن لعنات الماضي, وفواجع المستقبل.. حين أركب القطار ويمشي مودعا كربلاء, أتذكر عينيك المرتجفتين وأمك المريضة التي كانت تحبني جنونا رغم قساوتي عليها, أتخيل نفسي لو كنت ذبابة أو قملة أو جرادة أو فأرة, كنت على الأقل سأرتاح من محاسبة نفسي وتعنيفها, هل تصدقين بأنهم أصدقائي, بل وكانوا أوفياء جدا معي, كل من كان في القطار يتأفف من كمية الدم التي أقذفها مع سعالي, ويلفون أنوفهم بكوفياتهم, أو يسدونها بمناديلهم القطنية, معبرين عن اشمئزازهم مني, إلا هم.. فقد كانوا يصطادون دمي الذي كنت أبصقه, لقد كانوا يمحونه من الوجود كي لا يؤذي أحد…
عيوني زينب, اقتربي مني أكثر, اذهبي ونادي بيداء فأنا أحبكم كثيرا, ولا أستطيع مفارقتكم بعد اليوم, هيا اقتربوا مني, التصقوا بي فأنا لست مخيفا لهذا الحد..
كلتانا تنتفض وتنظر بعجب لكننا التصقنا, وفي تلك اللحظة أصبحنا متكافئين تماما, كلانا لا يستطيع التخلي عن الآخر ولا يحتمل أن يفقد بعضنا البعض, وكأن العَثَّ الذي كان يعطب أحلامي بدأ يتساقط وتنقشع منه ذرات الملح, على الأقل صرت أثق بنفسي, وأكبر داخل ثيابي..
فتجرأت ولأول مرة أن أنظر في سطح الجيران من بين ثقوب الطابوق الأصفر, هناك.. فتحت عيني على أول رجل ملهم في حياتي, حيث تبادلنا غمزات الحب القاتلة, والتي حبست أنفاسي لأشتبك معه في حفلة للعضات اللذيذة والتي أتذوقها لأول مرة, بعد أن كان أبي يسعني ضربا والذي شبعت منه في طفولتي..لقد خبأها لي وفاجأني بها بينما كنت أقرأ الجريدة التي كان ينشر فيها قصائده الغزلية, عضة في خدي وأخرى في عنقي وفي بطني.. كان يطعمني فاكهته الشهية, وأنا أرقص بين ذراعيه بسيقان مقوسة, لأسقط فيها مغشية من الحب وابتسامة مشرقة تزين موتي المسرحي, ليقول لي وهو يرفع رأسه تجاهي, ملصقا أنفه بأنفي: تبدين أجمل حين تموتين مبتسمة! إنه يدوخني بكلامه ومواعيده, فلا يحييني سوى انتظاري له في أول الزقاق.. متعللة برمي القمامة, أرقبه حين يعود من جامعته, ودفاتره يطويها تحت أبطه, فأطمأن أكثر بأننا كسبنا معركة الحب والحياة..
معه يا عفراء, أصبحت أحب أبي أكثر, وصار إيماني بالحياة ضرورة لا تقبل الرهان تحول إلى كائن لطيف محبوب ينظر إلينا بعينين ملؤهما االحنان, أتجاهل النظر فيها مباشرة, أنا أسوي شعر بيداء, أسرحه, أفرقه, وأرجعه للوراء, بينما هو يجلس قبلاتها, يرفع يدها إليه, ينظر في أظافرها الطويلة النابتة من أصابعها المعوجة:
عيوني, قولي لزينب أن تقلمها لك طيب.. تعشيتي بابا؟
تهز رأسها لا..
ما رأيك أن أشتري لك ولأختك كبابا؟
لأول مرة يقبل أبي بيداء, لقد ألهمنا الأمان حين قبلنا من وجنتينا وأنا أشطف وأمسح عنه دموعه التي سالت كما لم تسِل من قبل..
– لدينا قصص حقيقية, لا تستطيع أن تمثلها السينما الأمريكية – قلتها, وأنا أحاول اقتناص فريسة من غابة زينب الشجاعة- أشارت إلى جرح غائر في جبهتها على وشك الالتئام للتو..
– انظري, حتى هذا الجرح لا يستطيعون أن يأتوا بمثله, مو؟ الكذابون في العالم كثر, المنافقون, والمدنسون للحقيقة كذلك..
مر أسبوع, وحيدر مختف عن المحلة, وحين تطاير حديث النسوان والصبيان, عرفت أنه اعتقل مع من اعتقل من أبناء المحلة بسبب مواقفه المعارضة, جننت من البكاء متظاهرة أمام والدي ببكائي على فراق أمي, حتى سقطت رموشي دفعة واحدة ذات جنون أصابني, أحرقت جدتي قصائد حيدر في التنور, سجرت بها قلبي وهي تلوب فوق رأسي:
تفو عليج وعليه, طيش وكذب وتهور وأحلام مغرورة, تهني بهلحب الحرام!
لقد عرفتْ عن قصة حبنا من أمه المكلومة, فحطمت موائدي التي زينتها بورود بيضاء تشبه لون حبنا, ظانة بأنها ستحرق بهذا ذكراه مني..
هناك نقطة بيضاء في عيني اليمنى ألا ترينها؟
فتَحتها أمامي, لم يكن بوسعي سوى أن أشرع في فرش ذراعي الوحيدة على ظهرها, أصب نافورة الروح, ونقطة البياض هذه تزداد لمعانا وشراهة..
راحت تشرب من غصص دموعها:
بيت عبد الستار راح, راح يا عفراء راح..
حتى جدتي التي بدأت أتصالح معها قررت أن تذهب وتتركنا, فهي لن تدوم لنا طويلا, لذا كان لزاما أن يطرق المرض باب صحتها, الورم الخبيث كان شرسا, أخرجها عن سيطرتها, فتحولت إلى وحش مخيف, لكننا ألفناه فصار أليفا لدينا, تصرخ من أول النهار إلى آخره, لا تهدأ لا تنام لا تأكل ولا تشرب, لا أعرف كيف تعيش وتتنفس, جبارة أم عبد الستار, لكن آفة الذوي هذه يبد أنها وراثية حين أقعدها المرض عن كل شيء, فظلت تنتظر بشغف زيارة الموت..
أن يخطأ مثلا طريقه فلا يذهب إلى بيت عمار الدواس- الشبعان موت- كما كانت تصفه, لكنه لم يكن عند حسن ظنها فاختطفه الموت أولا وأراحه قبلها.. فكر أبي كثيرا في أن يذهب بها إلى دولة مجاورة كإيران مثلا حيث امتدحوا له المستشفيات الحديثة هناك, فوجدت الفرصة فألححت عليه أن يصطحب بيداء معه, كانت فرصة ذهبية لتذهب مع جدتي, ويعالجها من ضمور نموها وبلادتها التي أرهقتنا..لم تعبأ جدتي بفكرة أبي, لم تضف أملا جديدا لديها, فجل ما كانت تفكر به, هو أن تغادر الدنيا بسلام, فظلت تداوم على صلواتها في اختطاف الموت لها, لأول مرة يستجيب الله لها, طالما دعته, ودعته.. لم يخيبها هذه المرة, لكنه أنا من خيبني, وتركني رقما صعبا تلعب بروحه الأحزان..
ففي طريق عودتهم من إيران, انفجر لغم أرضي من مخلفات الحرب, فبتر ساق جدتي التي نزفت حتى ماتت كما أرادت من الله, بينما أحرقت الشظايا أختي الضعيفة وهي في أوج سعادتها بكلماتها الأولى, فذرتها الرياح كسنابل هشيمة حصرتها بين حجرين, وبقي أبي يتضرع.. في أن يبقيه الله على قيد الحياة ولو معوقا من أجلي.. تجسَّر أبي وغامر بأنفاسه المتقطعة, لكنه سقط في حقل آخر من الموت الجريء, حيث انفجر لغم آخر على بعد كيلو فقط من حقل وديع كانوا يزرعون فيه الفاكهة..
هنا انتهى صوتها ببحة مالحة, صحبتها نوبة صراخ مخنوقة..
طلبت منها الهدوء, أن تكذب مثل الممثلين فتتظاهر بعدم الاكتراث..
وقفت محتجة على نفسها:
لقد مثلت الدور كما أُريد لي كان عليَّ أن أتصرف كمجنونة, يومها خرجت من بيت عمتي قدرية, قطعت(الدربونة)المزدحمة بمعزين لا ملامح لهم حيث الحزن المفرط,ركضت غير عابئة بالنائحات اللاتي بكين بكاءً عميقا فسرته بأنه ما كان إلا تكفيرا عن ذنوبهن!!
في حضرة المطر الأسود, والذي أغرقتهن به نائحة مستأجرة أحضرتها صديقة قديمة لأمي تدعى بحسنة مضر..عبرت شوارع كربلاء بلا حذاء, لا ألتفت يمنيا ولا شمالا, أهرب إلى مكان ينتظرني ولا أعرفه, أقفز كأرنب مذعور من نور الكشاف, غير مبالية بالشتائم التي كان يرميها علي سائقو السيارات المسرعة, ألوح بحزني لشجرة بعيدة تقف هناك, علها تدنو مني لتظلني, أو تعزف بحفيفها على فجيعتي بعد أن تعثرت بحقيقة الصدمة, بي شهوة محضة للبكاء وحدي, بيد أن فضاء المكان أخذ يزيد في اختناقي, أحدهم عثر على حسنة جديدة في حسابه, مد لي يده فنثر نقوده في حضني الذي كنت مرتمية فيه, تحاملت على نفسي لأقبل النقود وبرغم زهدها إلا أنني وجدتُني محتاجة إليها فقد بدأت تنفذ مني تدريجيا بعد أن رهن أبي داره بكل أثاثه ومتاعه لمقامرين خبثاء. تحاشيت أن يراني أحد وأنا أعد الدنانير, أسندت ظهري وبدأت أتنفس المطر الأسود الذي هربت منه ثم رفعت رأسي للسماء التي اقترحت عليّ أن أفعل شيئا!!
لم أنتظر أن تقول لي ما فعلتْه, فقد نزلتُ بيدي على شعرها الطويل, قبلت جبينها وسحبتها متباطئة إلى الداخل, غرست رأسها بصدري, وأطلقت لها العنان.. هناك كان بإمكانها أن تبكي وتنوح, وتنعس..لا أدري لماذا في تلك اللحظة اشتممنا رائحة القداح النفاذة- الشبو الليلي- وكأن طيفا زائرا من أرواح من فقدتهم قد حام فوق رأسينا..
– زينب, هذا البيت لا يصلح لك! لماذا لم تذهبي إلى بيت عمتك حوراء لتعيشي معها, حسب علمي أنها سيدة فاضلة تقية, طيبة, وغنية وبإمكانها أن تساعدك, كانت الوحيدة من المعلمات الآتي لا يضربن ألا تذكرين..
– (جاوينها) الطيبة والتقوى الذي تتحدثين عنه؟المال أعمى بصرها وطمس على قلبها يا عفراء, أنت طبعا لا تعرفين أن زوجها صار عضوا في البرلمان, وعلى هذا فإن كل شيء سيتغير بالنسبة لها, فهي زوجة عضو في البرلمان( دا عوفيها) واغسلي يدك منها لن تنفعني أبدا مادامت تعيش تحت رحمة ضوء ( الباج) والأسوار الخضراء..
أستعادت شيئا ما من حيويتها..
أشعلت سيجارة ثانية, مصتها بعصبية وأضافت: زوجة أبي ليست سيئة جدا, صحيح عندها(خرابيط) … تبيع حبوب مهربة ومستحضرات جنسية غريبة عجيبة ولأنها لا تسرق كما يسرق الوزراء والبرلمانيون,فإنها دائما ما تنجو من كبسات العسس المفاجئة,لا أدري لماذا يركزون عليها ويتركون الرؤوس الكبيرة تسرح وتمرح,لا يهم.. على الأقل لمتني من الضياع, لولاها لصرت بائعة للخضار في دكان زوج خالتي, ولبعت شرفي ثمنا بخسا لعيشي في بيته( الخايس) ذلك المهووس بالنساء..
في البداية بنت الحلال لم تقصر معي,في كراج لنهضة كانت لحظات رهيبة وأنا أقترب من بغداد, حيث هي أزورها لأول مرة في حياتي أحط برحالي في مدينة لا أعرفها ولا يعرفني فيها أحد سوى سيدة جميلة, شاء الله الرحمن الرحيم, أن تكون زوجة أبي و كفيلتي من بعده!! إنه آخر الزمان, والأقدار الخرافية أن تحن عليك زوجة أب ,بعد أن يضيق بك الأقارب وتقترب ساعة الخلاص منك..
وأنا أطالع في لون الماء المنساب من عيون السماء, أتساءل عن الماضي, وماذا عساه أن يقدم لي سوى الحسرة, مضى وصار ذكريات لا تنسى… أتحسس مواضع الضرب التي كانت تنهال علي من أبي وجدتي وخالتي التي كانت تتظاهر بالشفقة عليَّ أمام عمي المسكين, متوسلا إياها بأن ترسلني إليه وهي ترفض في كل مرة طامعة في نفقته التي تقاصرت وانتهت بموته, فقررت أن ترسلني إلى عيش رغيد كما كانت تقول, ليفتح لي نافذة الخروج نهائيا من هذا العفن..
عفراء, لو كنت مكاني ماذا كنت ستفعلين؟ كم سنة مضت ونحن لا نعرف عن بعضنا شيء, لم تسأل عني وأنا لم أسأل عنك, والحنين, أين هو؟ هل وُجِد ليؤرخ الحزن والانتكاسات؟؟ ولما أصابه الوهن اكتشف بأن لا جدوى من وجود المكان بلا زمان, مادامت هويتنا مقهورة, حيث لم يحتوينا سوى الخوف والحرمان..
لقد عشنا حياة القلق والتربص والشك والنفاق وزمن الوشاية..
أنا وأنت وجميع العراقيين أصبحنا رهائن لجحيم الحمقى, ولعبة الموت, حتى ألفنا وألفناه, ليرمينا في مرماه معلنا فوزه بجَداره, واستسلامنا لضرباته الموجعة: رعب وقتل وتغيب واضطهاد وخطف واغتيالات.. حتى تفاقمت الأحقاد ونالت التصفيات التي لم يسلم منها أحد من البسطاء إلى الساسة وأساتذة الجامعات والعلماء والضباط والفنانون..
فصار الأخ يخاف من أخيه, والجار لا يأمن بوائق جاره, فهاجر من هاجر واعتقل من اعتقل, وغُيّب الكثير في مقابر جماعية مجهولة, أنت لا تعلمين طبعا أن أبا كريم زوج خالتي كان من ضحايا المقبورين مما حدا بخالتي أن تتطوع بخبزي الفائض لأطفالها الأيتام.
أليس من حقنا أن نولد من جديد؟ أن نجرب طعم الحرية؟ لقد سأمت الحياة هنا وبدأت أفكر فيما هو أبعد, لذا أقنعتني بفكرة ذهابي إلى بغداد والعيش فيها, كان وصولي سهلا و ميسرا..
في استقبالي أرسلت زوجة أبي إلي من يأخذني من الكراج, صعدت في سيارة الكيا خط الباب الشرقي- مدينة الثورة, حتى سارت بي إلى هنا, وسرعان ما تأقلمت مع كل شيء, مع الناس والضجيج.. ووجوه الفقراء المسكونة بالخيبة والجمال..
أنظري..
فتحت حقيبة جلدية ذات رائحة طيبة لماعز جبلي, نثرت أمامي رزم من الدولارات: أخيرا سأنتقل من هذه الجيفة, سأسكن بيت واسع ونظيف, مبلط, ومدلل بالكهرباء, والمياه النقية.. تقول ذلك بكل وثوق!!
أتحسس أكوام الدولارات, أفرشها, لامعة, وجديدة..تدفع شكي, بعد أن تشعل سيجارة ثالثة:
(أغاتي)لا تذهبي بعيدا, ليست ثمة سماء أمطرتني بها لكنها حلال مية بالمية
.. بعد أيام سأزف نفسي بنفسي إلى دبي, تاركة خلفي أياما ملونة, ستذكرين جيدا أنك كنت أحد أبطالها الشجعان لأنك وحدك من سيلوح لي بيده البيضاء
زينب!! أويلي عليها زينب! لم يكن هناك من أرواح تلوح لها حين غادرت كربلاء, سوى حيدر وأربعة قبور!
بطرف عباءتي غطيت المبلغ, أحسست بأن كشافا كبيرا سلط علينا من فوهة لا نراها.. بدت آثار القلق على وجهي:
– أصدقيني القول, أي نوع من الحواسم تتعاملين معهم؟
لصقي جلست وهي مرتبكة, تخلصت من زفير طويل له صوت مخدوش..
– اسمعي عفراء, أرجوك اسمعيني للنهاية.. وإذا شئت أن تبصق علي فلك ذلك..
التفتت إلى الوراء مفضلة أن تعطيني قفاها, كجدران الطفولة التي تركناها تشهد على شقاوتنا..
شعرت بأن هناك من عبث بها لحظة ضعف وخيانة..
تابعت حديثها:
لم أفكر يوما في أن يدلك ظهري أحد, ولا حتى في قالب الصابون المعطر, ولا في دبق النعاس الهانيء ولا في ضوء خافت مسلطا على كرسي العري, بدون خجل أجلسَته بجانبي, لتتركني مولية ظهرها لصفقة منتظرة.. بعد أن أقنعتني بفاعلية العمل معه, وبأن ثمن ما أروجه من مبيعاتها الممنوعة لم يعد كافيا لغلاء المعيشة.. تركتنا لوحدنا وأنا على يقين من مراقبتها لنا من ثقب صغير في الباب, لم تتأخر, دخلت بلا استئذان وهي تحمل صينية دسمة, أوصال تكة وكبابطرشي حار وكأسين من لبن خاثر, وضعت الصينية فتبعها إلى الداخل محضرا معه قنينة ويسكي فاخر وقدحين زجاجيين يملؤ نصفهما ثلج بلوري, بعفوية نزع عنه قميصه وبنطاله الضيق..
بقي أمامي عاري الصدر والفخذين, بدأ يأكل دون أن يطلب مني مشاركته, قضم خيارتين متتابعتين, ثم صب في الكأسين دون أن يملأهما تماما, كل شيء بدأ يدور من حولي, قلبي يخفق بشدة, كبدي تختض, روحي تنازعني, لأول مرة أختلي برجل شبه عار!! بدأ يقترب مني أكثر وأكثر, ثم رفع إلي كأسا دون أن يسأل نفسه إن كنت أشرب أم لا, انحرفت بوجهي المكسور فأمسكه بلطف, رمقني بنظرة عجيبة, كمن ينتظر مني جوابا, أدركت بأني سأشوَّه, وبأن مسدسه الذي تدلى من جيب بنطاله سيكون مستعد لطلقاته حال رفضي, رفع إلى فمي الكأس, فكانت الكأس الأولى, لأول مرة أتذوق طعم الكحول, طعمها مر لاذع, لكنها دوختني بعد أن أضاف إليها قليلا من الماء, حاورني بهمس ملسوع.. وبأصابع باردة شقت أنفي برائحة عرق ممزوج بعطر مركز, بين الحيرة والفكرة غنى ترنيمة عنيدة, فانبعثت موسيقى خلابة من جسده المكشوف, جعلتني أرتشف شفتيه السفلى دون علم مني,رأسي أخذ دوره في الخدر, جسدي أيضا تنمل وكأني أريد الهروب من شيء ما, أشعل لي سيجارة بعد أن أعاد ظهري إلى الأريكة الناعمة, بنظراته الشبقة أخذ صدري يعلو ويهبط.. تلمس عنقي الطويل, وكأنه يكتشف طريقا مسدودا, امتدت يداه إلى بئر محفورة قد ردمت بالحجارة الثقيلة, بدأ يعبث بشعري, مسندا رأسي على صدره المشعَّر, لا أدري أي حمق جعلني أسدد فاتورة أبي الذي ما عانقني يوما, بدأ يقص علي القصص, لقد وعدني بأن من يعمل معه سيربح حتما, فهو لم يخسر صفقة في حياته, أغراني بالمال قال لي بأنه يحتاج فقط إلى فتاة جميلة وذكية مثلي, حينها عدلت من هندامي, وزررت قميصي, وقفت كمن نشطت من عقال, وحين مددت يدي مجبرة لأعاهده وأقبض الثمن مقدما, ودون علم مني على ما كان يخططان له مسبقا, تلقفها برفق, قبلها مرة أخرى وأجلسني في حضنه الدافيء, أنزلها لأتحسس خصيتيه المتورمتين كفضيحة تفاحة, أبقاها هناك لفترة, كمن يريد مني التأكد من صحة فحولته, تابع مهنته كعازب مهووس, وبعيني حيوان جائع تلمع في عينيه مدن مُدمَّرة, فتحول المكان إلى دغل تحيطه الوحوش من كل جهة, لم يكن المطر يقظا, لذلك تلوثتُ الأشجار, هي الأخرى لم تمشِ مفسحة أمامي الطريق, لذلك اشتبكت مع أول شجرة غاوية, أكلتُ أسناني, فتابع..
عصر ثديي البريين قبل أن يمزق ثوبي بيديه الضخمتين, لقد طوقني بهما ياعفراء, وبخفة استدل على مكامن جسدي وأسراره, لعقني في كل مكان.. وانهال علي بالقبل, أدركت بأني في خطر محتوم وفي مقامرة لم أحسب لها حساب, أعرف أن لا ملاذ من الصراخ, وبأن الغطاء انكشف, لذا حاولت ولكن متأخرة في التملص منه ومن همجيته.. توسلت بشرف أمه وأبيه أن يتركني وشأني, لكنه رماني أرضا, عرّاني, وعلى أرض غرفتي ضاجعني, حاولت أن أكتم الصرخة,ارتخيت تماما وأطلقت صرخة حبستها منذ ولادتي, صرخة دفنتني في مكاني وللأبد..
حتى المسدس الذي لمع في عيني والذي تمنيت لو أفرغه في رأسي, حتى هو لم يعد قادرا على إنقاذي منه, بغداد لاتفعل شيئا,إنها مثل سحلية ملتصقة بالسقف, وأنا فاتحة عينيَّ لها, جسدي فيه ألف ندبة, وأنا أفكر في الخلاص, شيء واحد يمكنه أن يطهرني, إنه النار, فأنا أضعف من الحديد والزئبق, ولكن.. لا الماء الذي سكبته على جسدي لساعات طويلة.. ولا وجه أمي الغائب يستطيعان أن يطهراني مما أنا فيه, حتى الحاكم الجديد لن أشتكيه, أوشتكي عليه؟!
أوليس مهمة الحكام الأولى بعد أن يقتلوا الحاكم الذي سبقهم, أن يشتروا جارية جميلة؟
أنا من نسل هؤلاء الجواري, هكذا أقنعت حيرتي..
ولما أفقت من غيبوبتي, شعرت بالبرد وكأني في نفق مظلم تزوره الكهرباء الوطنية نصف ساعة, أولا تأتي ربما, سكاكين طويلة, وليل بغدادي وحيد, أدوس فيه على جسد مقطوع الرأس, أوعلى بقايا من جثث متفحمة, أوبضع عيون وأنوف, أصطدم بزجاجات فارغة هشمتها بقدمي المرتجفتين,لأجد في نفقي هذا صحفا وجرائد لأحزاب بائسة, أغرقت البلد من كثرتها.. أمسح بها جراحي, ألهث, جائعة وعطشانة, أبحث عن قنينة ماء أشربه, لا حنفية, لا قداحة غاز, لا ثلاجة, ولا صحون, هل يعقل أن سرقها اللصوص؟
السرقة عمل بطولي في أيامنا هذه, الحكومة تسرق, الشعب يسرق, وشيئان يتناوبان علي, اللصوص, والبغاة, سيلعبان لعبتهما القذرة بينما أستمر أنا في التقيؤ, أشعر بالقرف من نفسي, لقد استرخصتها دون ممانعة مني..
وبلدي, ألم يغتصبوه؟
لقد قام عني, وقلبي غارق في حزن عميق, أفقت بعد أن شعرت بفخذي وقد تقلصتا,تحسست المكان فإذ بسائل دافيء يخرج من بينهما, رفعت إليَّ يديي, لزجة وملطخة بالدم وسائل أبيض, شعرت بالخمول, وحين سألت نفسي : هل أنا عاهرة فعلا؟
شل لساني لأني رأيت الناس وهي ترجمني بهمزاتها ولمزاتها..
وصمة عار أليس كذلك؟ أبذلك رددت الجميل لزوجة أبي؟
لكني المذنبة أولا, وأخيرا..
غدا ربما سيصطف الذين أهدروا دمي, وقرنوا اسمي بالجحيم ووعدوني بالسحل في شوارع بغداد, هاتفين بالموت للعاهرة.. الموت للعاهرة.. غدا سينتظمون في طابور طويل ينتظرون فرصة النوم معي! رضيت بذلك أم لم أرض, لكن ماذا عن عهرهم؟
رمى علي ثيابي وأمرني بارتدائها فورا, وكأن شيئا لم يحدث, وعدني بأن كل شيء له حل! لقد تجاهل إهانته لي, وقطع وعد شرف ألا يقربني مرة أخرى, فقد شفي مني وانتهى كل شيء!
لبست ثيابي كما شاء, مسحت وصايا الشرف بحمالة صدري, فتحت عيني وكأنها زهرتين تنفتح على صوت مدفع, صرت حقلا منسيا, أهمله فلاح لا يملك حق البذور,اغتسلت وكأن شيئا لم يحدث مما زادني بلادة وزاده وقاحة
عفراء, أرجو أن تفهمي زينب جيدا, زينب التي تؤمن بأن ليالي الجدات وهن ينسجن قصص السحرة والأشباح الخرافية من سعف الليف, وقصص الأبطال وقد انتحر أحدهم لأجل قلعة استعصت عليه, أو أعمامي الذين فقدتهم واحدا تلو الآخر.. هي أفضل بكثير من ليالي تشرب في كؤوس أبي نؤاس وقد أحاطت به الدبابات السمينة من كل جهة, سوى الجهة الخامسة التي أغراها طراوة يد من قدمت له الكأس..
عفراء..
يوما ما سأضطر للمشي وأنا مربوطة العينين على صراط ليس بمستقيم, يعني أن أكون كما يشاؤون ولا أشاء..
ألملم من صوت بحة كاد أن يخرج مع أنفاسي وهي تتابع:
أنت تعرفين أن الأندية الليلية الأنيقة عادت إلى بغداد وإن كانت على خجل من نفسها, لكنها حتما تحظى بحراسة مشددة, محيين لياليهم مع بدأ حظر التجوال و منهين لها مع إطلالة الفجر, لقد بدأت تنتعش بفضل زبائنها الذين انتفشوا فجأة مع دخول المحتل, حتى أبناء (شلة) من –قدس الله سره- وسماحة الشيخ فلان, هم الآخرين أغراهم التمرد فشربوا من نفس الكأس, وانتفشوا جميعا ليخرجوا من تحت جنح الظلام, هم يشتركون مع الضباط الكبار, وأبناؤهم الذين يعيشون في نعمة مثلما نعيش نحن في جحيم, معادلة موفقة يبدو للبعض..
إنهم يزرعون أنفسهم ملوكا وديعين وسط من يدللهم, محركين اقتصاد الليالي الحمراء, وهم ينثرون بخفة وبيد واثقة كومة الدولارات الخضراء بين طاولات السكارى, ينثرونها على رأس مطربة غنوج لم يخطر ببالها قبل عام, التفكير مثلا في الخروج من منطقة الغزالية بغير حجاب, أو المشي على كورنيش الأعظمية بعد منتصف الليل, اليوم لم تعد المليشيات تتحكم بقدرها, لذا فالسيد مدير الملهى سيهمس في أذن مطربته, وسترفع صوتها ( الملعلع) المدرب جدا في بارات دمشق وعمان ودبي.. ستحييهم كالعادة بالتحية لأهالي الناصرية والبصرة والأنبار, وسيرد مبادرتها السلمية تلك, شيخ كان وقورا في صباحه الباكر, حشر نفسه بين تجار معروفين وشباب يافعين وفتيات حسناوات أتين للرقص أو مجالسة الزبائن, فعاد للشباب عشرون عام, سيرد عليها بالتحية ذاتهه, باسم عشيرته وباسم مجالس الصحوة البواسل, وسيرد بالمثل رجل مصقول بتجارب وحكايات العشق, رجل من الجنوب الذي مواويل الحزن والآه, سيملؤون جيبها الذي أحكمت خياطته بمزيد من الثقوب التي تنفسوا منها.. الثقوب التي رتقت مناوشات النهار, لتمسك يد الشيعي بيد السني ويد الكردي بيد التركماني, محيين رقصة جوبي..
بينما أدبك لوحدي بثياب ليس فيها ثقوب, بل هي جيوب في جيوب, أخبيء فيها أسراري التي ترتطم بالحيطان لحظة عنفوان رقصي, لماذا يُسقطونني ولا يُسقطونها!! أتمنى لو تحررت من عصمة البحث عن الممنوعات, لأن وطنيتهم حاذقة في تفتيش جيوب الفقراء فقط, وينسون أن الحرامية لا تخبئ مسروقاتها في جيوبها, بل وحتى في خصيانها, حين يفتشون ثيابي ويمزقونها أشعر بأنهم يبحثون عني فقط, أحزن ليس غبطة في ابتسامة المطربة, ولكن غبطة في ثقوبها التي استطاعت أن تخيط بها الجروح.. لذا كان علي أن أدبك, وأدبك.. ربما احتفالا بحظي الغريب, وبغربة جديدة واضحة الملامح, خفية الأسرار…
هو بدوره أكمل مهمته, و أحضر لي في اليوم التالي تلفزيونا يعمل بالستلايت, رمى علي الريموت كنترول, وهو يقهقه مازحا: شوفي اتفرجي على العالم, تحررنا خلص, الصنم وسقط وماكو دكتاتورية بعد اليوم.
من غير قصد أخرجت من صوتي نحنحة أشعرتها بضرورة التوقف عن الحديث, لكني عدت لأطلب منها مواصلة الكلام فواصلت بمقطوعات تصلح أن تكون أناشيد في ألواح معبد…
ماذا بقي للعراق يا حسن مُطلَك؟
ألستَ الذي شهدت رجلا وجد صندوقا مرمريا جميلا ثم باعه بأربعة دنانير فقط إلى رجل انكليزي..
آنذاك تعذبتَ, ومازلتَ تتعذب!
ألا فلنرفس معك يا حسن هذا التاريخ المريض, التاريخ الذي أفزعنا حتى في مناماتنا البنفسجية..
اجتمع ماء مر في فمي, كنت أنتظر لحظة انتهائها من الكلام لأبصق عليها كما أرادت لكني ابتلعته و تذكرت يوم أن يدوسك من هو أقوى منك فتصرخ ولا أحد يسمعك..
تذكرت صراخي وأنا أشوى عارية على البلاط البارد, صراخي الذي أفلح فقط في بذر المزيد من الأوكسوجين في الهواء ليتنفس به الظالمون ونحن تحت أقدامهم!!
لقد هيأ لها ذلك العالوس كل ما تحتاجُه من الهروب من الواقع, وضمن لها وظيفة- الله أعلم بها- تستر بها حالها, وتفتح أمامها مستقبلا ربما يكون أخف ضبابية.. لقد وثقت به ولا أدري كيف, ربما لأنه وفى بوعده ولم يقربها مرة أخرى!!!
هاهي تعد نفسها للهروب إلى الآخر, أيا كان ذلك الآخر, إلى السعادة ربما, تلك الكلمة, خاوية وباردة, تخرج من فتحات الطوب وتنحدر في الدغل الموشى بفرو الذئاب..
بدأت أنفض عقلي وتفكيري, صوت العود الذي حمله الريح إلينا من سيارة توقفت في الخارج أنعش فيَّ الكلام, لكنها سبقتني به:
– أعرف بأن السعادة لا تأتي دفعة واحدة وبدون متاعب أو ثمن, ثمة نكبات وحروب وجراح لابد أن تُنكأ, كيف أنسى طفولتي؟ رائحة العيد وألوانه, والصبيات المصبوغات بالدلال, كيف أنسى وقد تهت في ظلمات رحم أمي حيث التي هي أرحم من كل الأنوار! كيف أنسى بشرا محطمين كجرار الطين المكسورة, ينكسرون؟
نعم ألا تذكرين العيد الذي يقام في المقبرة؟ لقد كنس دموعهم بالتراب..
ترمي بجسدها على السرير..
بعد أن خدر لساني ونشط لسانها: أنا لا أريد سوى التخلص من العاطفة, من القلق, وكبرياء الأسلاف,أطمع في التورط بالحياة, في كوكب آخر لا تعني له كلمة الموت سوى الإنعتاق من خطيئة جماعية استدعتهم حماقتهم يوما ما أن يضحكوا بقوة أمام عاصفة حمراء تنذر بعذاب الله, أطمع في رقصة لا يراها أحد.
أقف أمام المرآة أصفف شعري أبري قلم الكحل المنقوع, وأستغرق في شرب أسراري, أطمع لو تحولت إلى ملاك مكافح يُخرس نباح الكلاب التي طوقت بلادي ويغير نظام العادات, وقد أدمنت على دعم تكاثر الديدان حتى في غير مواسمها, وتكاثر أبراج الحظ الساقطة سهوا, وانتشار الأخطاء المعللة بالنسيان, وكثرة شرب( العرَك) بين الجنود المعفرين بحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل, ملاك يكنس مخلفات العناكب الشرسة وقد تمخطت برائحة كريهة, يكنس عظام مطحونة كانت لأجساد نُمِّشت بفعل الذباب..
يكنس الماضي الخالد بخساراته..
أطمع في ضوء واسع يفرك عيني المُغمَّضتين, أطمع بمعصرة للعطور وبقاعة كبيرة للرقص, وبخزائن ملوك حكموا بابل وقد أسند الأبطال رماحهم على بوابة المعبد, أطمع في زبدة سائحة على رغيف ساخن, وبلب ثمرة برتقال طازجة, أطمع في بيضة, لا جمجمة, في كفن من قطن رخيص, لا معطف من جلد الأفاعي, أطمع في رغوة حلم يفقدني الذاكرة, وبسياج الآس وقد بدد بعطره أنينا مذبوحا في زاوية الحديقة فغنى, أطمع في نعاج تملأ الوادي, لا عشب تأكله أسنان الغزاة..
عاد صوت العود كزائر خفيف, وكأن أحدا يتعمد أن يسمعنا إياه, مما جعلني أرمي بجسدي كذلك, حاولت أن أنطق بكلمة, لساني مشوه معكوف, لذا لم أشأ أن أعكر صفاء العود, وفضلت أن يكون السقف حلبة لرقصنا الصوفي, ولما انتهى واختفى بصوت مزامير السيارات الطاحنة, نهضت مفزوعة, أمّا زينب, فقد استمرت في تصويب بصرها للسقف, أنا من وضعتها في جبهة الشمس فنامت كطفل ملاك, تركتُ وجهها السابح في الملكوت وأخذتُ أكرر محاولة الاتصال بزوجي, لا أبراج ولا قصور, حطبي بدأ في النفاذ, ولابد أن أعود فورا, أحدق مرة أخرى في ثقوب الستارة, والتي أمسك طرفها إصبع زينب الحذر, كمن تشد وثاقها عني, وهي التي تخشى أن يهاجمنا ضوء مُضبب, أسأل الضوء:
ما الذي ستفعله في غيابها بعد أن تجاهلها الزمن وتركها لانتظار اللاشيء؟
لم يجب, شعرت بأننا محاطون بصيحات النسور المحتجة على نفاذ الفريسة
وسنحاريب؟
نائم, نائم..
أليس هو من تعود المكان وألفه؟ رغم أن نينوى مسكونة بالنوى وبعظام الجنود التي يستخرجها المطر حين يغضب, مدحرجا إياها من تلة قرب ضريح يونس وبصحبة آلاف الجماجم التي استقرت أسفل الوادي؟؟!….
والعراق؟
استنسخوه وحولوه إلى عاهرة مشرعة أفخاذها أمام مئة مجنون وقفوا في طابور نخاسي, مستندين بساق غراب مبقع, ولما بذروا فيها ما بذروا, حلقوا رأسها, وباعوه لصالونات التجميل لسد عجز الغانيات..
والعراق؟
بعد أن فقد أمله في التقاط آخر صوت انبعث من قبور لموتى ما كان لهم أن يُدفنوا وهم أحياء, ضيع المكان, استمر في مشيه, ثم رأى بهلولا, ففكر أن ينزل للبئر ليسقي ذلك البهلول التائه في صحراء السماوة, ففقد أمله مرة أخرى, فقد كان البئر ناشفا ومطمورا, فأقنع نفسه أن الأصوات المنبعثة من القبور ما هي إلا (بروفا) لحديقة خرجت باكرا لتغني في البرزخ..
والعراق؟
وحده من يفتح يده مسالما ومتصالحا مع مخلفات القيامة, الفائضة من قنطرة تضيق بالمحاصرين الذين فقدوا طعم الاستغراق في النوم, وبفائض الموت, والدمار والخوف والفوضى, ألم تسقط كواكب العراق, وتُسجَّر أنهاره؟
والعراق؟
طائر رخ- عنقاء- أو -فينيق- استغل خلو العالم من ساكنيه, فسكن الْجَنَّة، حيث كانت ولا تزال, أرضُ جَمالٍ لا يوصَف، هادئةٌ بطبيعتها الخلابة, تترقرق فيها الأنهار من خلفَ الأُفُق البعيد الذي منه تشرق الشمس, مهد لا يموت فيه أحد, ولكن بعد ألف عام يأسَ الرخ ومل من الحياة, وأصبح يرزح تَحت وطأة عمره الطويل، فكر في الخلاص, فما وجد أحسن من أن يَجيء وقتُه فيموت, المصيبة أنه لم يمت,ولأن في العالَم السفلي أرضا يمكنه أن يموت فيها، ثقب من الجنة ثقبا بمنقاره, شقّ طريقه إلى العالم الأرضي، طار وطار, حلق فوق أدغال بورما وسهول الهند الفسيحة.. رائحةُ البَخور والتوابل الشرقية شدت أنفه, فقرر النزول إليها, مشى متبخترا فهو الوحيد, وقد ملك الأرض وجزر البحر بتفرده.
جمع غمراً من الأعشاب العَطِرة وحَملها معه إلى شواطئ فينيقيا، هناك.. َحَطّ على شجرة عالية و بنى فيها عشَّه -الأسطورة- عشا فريدا من نوعه, فهو من تلك الأعشاب العَطِرة فقط.. كانت مهمته أن يَجمع العنبر والطيب والْمُر واللبان, إنه لا يأكل الفاكهة أو الزهور, ولا الديدان, بل يعيش على الطيب والعنبر.. كان ذلك وقت الْمغيب، فراح ينتظر بزوغ الفجر الجديد, والذي سيؤذن أخيرا بموت الطائر, وحين أشرقت الشمس من خلف الأفق العالي، تطلَّع صوب الشرق، فتح منقاره وابتهل بأغنية جميلة لإله الشمس الذي أرسل عربته فورا, ولما انتهى من أغنيته, انطلقت العربة وفرَّت من حوافر أحصنتها شرارةٌ أصابت عش الطائر المتأمل -البطران- فاحترق العش واحترق معه الطائر، وبذلكَ انتهت حياته, لكن قدرا ما حرك الرماد فانبعث منه طائر صغير, نفض جناحيه الصغيرين حيث أطلق عليه الآشوريون اسم الفينيق,كان ذلك في اليوم الثالث من موت الرَّخ, مرة أخرى نفض جناحيه وطار صوب الشرق، حيث واكبه إلى أبواب الجنة رفُّ من الطيور,عاش خمس مئة عام حتى تكوم في عشه وانكمش, لفظ نفسه الأخير فمات, ليولد من رماده من تنالُه لعنة الأمنيات, ولفظُ نعمة الخلود, الذنب ذنبه: تمنى الموت فاختاره العراق ليذيقه الموت ألف مره في يومه, أليس هذا ما كان يتمناه؟
.
.
.
استيقظتْ, فهي ليست مثل سنحاريب السعيد بنومته الأبدية, لتخبرني بأن زوجة أبيها الملعونة اعتذرت عن فعلته الخسيسة, والتي بررت بأنها لم تكن تعلم عنها شيئا واكتفت بأنه تاجر قديم لها ومعروف ولم يصدر منه سابقا ما يشوب أخلاقه!!
فربما نزوة شيطان ألمت به أمام جمال باهر كهذا..
وبدل أن أبصق عليها, شددت على يدها, وأمرتها بالنسيان, فالنسيان وحده من يداوي ضحايا العنف والاضطهاد, كما أن الصمود سيجعلها أكثر قوة وتحمل, بيد أن تحاول الصراخ مرة أخرى لو أزعجها أحد فذلك هو الأجدى وهذا ما كنت أتمنى أن تتسلح به!
فتحت لي صندوقا خشبيا ملفوفا بقماش حريري أخضر, كشفت عن وجهه الجميل, حجمه كبير ومذهب, يبدو أنه ورثته من أمها, قبلتْه وقبلتُه, تلت منه بعض الآيات كميثاق جديد مع الله..
أعادته إلى مكانه ثم دفعت إلي ثلاث شمعات, قالت بأني يوما ما سأضطر لإشعالها..
********************
طال حديثنا وتشعب.. لقد حيرتني بين صمودها وضعفها, بين هرجها وجدها, فهي بطلة, ولكن مهزومة, وسطر عريض ولكن في كتاب غامض, هي دمعة غالية,لكن لم يبك عليها أحد وقبر شريف, ولكن داسته الأقدام غير مبالية به.. تمشي في طريق منتهي منذ بدايته..تطرق أبواب الخروج فلا يسمعها أحد وتظل ماشية في ظل تلاوة خاشعة من ندم الأقمار عليها…
يا الله! كيف لإنسان أن يحتمل كل هذا العناء, كل هذا العذاب, أسأل نفسي, وأنا أطالعها تتصفح تعليمات هاتفها المحمول,تعبث بأزراره, تنهض, ترميه على الأريكة المعاقة وتبدأ في لف الأقمشة الجميلة على صدرها الفاتن.. تشدها ثم تطلق سراحها أسفل البطن, تجرب المشي بها لكنها تتعثر, ابتلع ضحكة كنت سأطلقها, كأنها ملكة في بلاد كلكامش, أضحك بعد تسمر: كلكامش مرة وحده؟؟ يا عراق الله, كابدت لهيب البرد والحر معا فورثت في أبنائك عاطفتين حادتين لا يمكن أن تتقابل في كائن آخر.. ولا يمكنها التعايش إلا مع العراقي وحده,العراقي الذي ينوح ويغني, يقتل ويعفو, يصلي العيد بثيابه الجديدة ثم يزور المقابر في نزهة جماعية, يأكل المحشي بشهية ويسميه (مدفونة!)..يطار الرشيد غزالته مرحا فيكتشف قبر الإمام علي حيث ساقته ناقة الله, يعشق الماء ويسكن المنفى, يضرب و(يبوس زايد).. يزني ويلطم في عاشوراء, يدخل حرب ويخرج من أخرى..!!
ليت كلكامش لم يمت تبا لعشبة الخلود
خداعة وماكرة مثل مواعيد الجنرالات!
لقد فقدت زينب كل شيء, وأوشكت أن تتمدد على سكة قطار وهي تسد أذنيها بقطن الأكفان خشية أن يلوث دخان البوق ألوان موسيقى الوداع الأخيرة..
لكنها كانت الأضعف في مواجهة الموت والقطار كان هو الأقوى والأجسر, لذا كان عليها أن تنبي لنفسها عشا جديدا في ظل مملكة خاوية على عروشها لتسقي فؤادها الذي ماااااااع.. ودهسته المصائب مرة تلو الأخرى, تسقيه من قطرة ماء شجاعة استقرت في قاع بئر معطلة..
هكذا نزلت عند رغبتها, وكنت الوحيدة من لوح لها بيده, يدي التي احتارت بين أن أرفعها متمايلة كالأغصان.. أو أن أمسح بها دموعي التي هطلت مجنونة بحبها..
ومن بين سحابة الأحزان تلك.. خرجت كوردة منطفئة وسط السفح, تشيعني حيرتي التي شُلّت, ووقفت بين ماضيين يتنافسان في الآلام, ينفخان في بالون من حديد, يتسع ويتسع, لكنه لا ينفجر!!
كيف لا يتسع وأنا في محطة خروجي الأولى من مدينة الصدر؟
أليست هي المدينة السخية في فتح صدرها لكل الأحزان والمتسعة لكل الخرائب التي ينعق من على أشجارها الفاسدون من كل الأحزاب؟
أجدني أهتز تحت صوت انفجار عبوة ناسفة خطفت مني حيرتي وبلادتي.. فوجدت نفسي من رعب الفُجآءة ألملم أصوات الراكضين من هنا وهناك, القادمين للاطمئنان على سلامة ذويهم وهو يصرخون: يابا يابا أولي يابااا.. وفور وصولهم كنت قد سحبت أرواحا فارق بعضها الحياة في لحظة, بينما أصيب لبعضهم بالجروح إثر الزجاج المحطم من واجهة إحدى المحلات, كان علينا سحبناها إلى زقاق قريب خوفا من تعاقب انفجار آخر, بقينا في انتظار سيارة إسعاف كانت في طريقها لتقلهم إلى مستشفى الصدر العام, حملنا الجرحى بمساعدة بعض الجمهرة من الرجال والأطفال والنساء اللاتي أمرهم الرجال بالانصراف فورا خشية وقوع انفجار آخر..
وقد صحونا على بدالة أبو تيسير التي دُمرت بالكامل, دمرت حين كانت منشغلة تماما عن كركرات مارَّة كانوا قد عبروا نحو الجنة بالقرب منها وهي تتنصت في لحظاتها الأخيرة على هواتف عاطفية متقطعة الأوصال..
لُكت غصتي حين خيم السكون المريب والذي خلفته البدّالة الفاضلة, أخذت أفكر في طريق العودة لمنزلي, باحثة عن قطعة ثلج تذوب تلك الغصة الحرة, لأجدها عند بائع متجول يقف مرتبكا بين مخلفات البناء والآليات العاطلة وقطع التصليح والسكراب المنتشرة على حواف الطرق يقف بجانب النفايات التي تجمعت بلا ميعاد في الشوارع والأزقة والساحات والجزرات, مزاحمة أكشاك ضاحكة لرزق جميل..
جلست على مصطبة مقهى قذر يدعى بمقهى الشعلة, يبدو أن صاحبه أقامه عشوائيا وسط الفوضى الخلاقة وانفلات الأمن.. دفعت قطعة الثلج لأطفأ ما بيَّ من حرارة ووجع,أسمعني أحدهم مغازلته إياي بترحيبه برواد مقهاه وفي عينيه نار القبائل ونفاق العواليس, ملونا صوته الحلو أصلا, غمز بعينه :
الله بالخير عيوني..
التفت إلى ساعتي المتأخرة وقلق البيت, عقربان يقتربان مني ليلسعاني.. فنهضت قلقة إلى الشارع الرئيس لأستقل من هناك سيارة أجرة وبأسرع وقت ممكن..
لم يتوقف أحد, ربطت رأسي المنفجر بذيل حجابي الأسود وبدأت أخطو خطواتي نحو شارع آخر فلعل حظا يصيبني هناك, قلت لنفسي: يبدو أنني محظوظة بامتياز فقد نجوت بأعجوبة من المفخخة الثانية, بينما قضى من قضى في المفخختين وتعانق الباقي بين التوقيتين في ممرات مستشفى الصدر القاني! يبكون.. لا لشيء إلا على أنفسهم التي باتوا يبحثون من يبكي عليها غدا, حيث يحصدهم موتا ليس ببعيد عن الأول.
بصعوبة عبرت فقد أنهكت قدميَّ الجثث التي سحبتها بيدي, فكي هو الآخر بدأ يرتخي و يتنمل, آآي أسناني هشة وعلى وشك السقوط, أوه إنني أتذكر, كان شعرها كثيفا, ما أجملها تلك الفتاة التي سحبتها بأسناني!! أيقنت أنني فعلا في ساحة حرب لا ترحم, السيارات بدأت تتناقص, نور الشمس يحجبه دخان المروحيات, والناس تعود إلى بيوتها زرافات ووحدانا, بينما أحدق في صور هنا وهناك, غيرت معالم شوارع المدينة, ملصقات كبيرة جدا, بعضها مصبوغ وبعضها محطم, صورة السيد الرئيس صدام حسين بدت مريضة! وهو يحدق فينا بعينين بائستين وقد حلت مكانها صورة تفوق حجمها للسيد مقتدى الصدر -المختفي تحت جفون جبانة- وأنا أهمس في أذني متنهدة:
من كان يصدق أنك ستخرج من حفرة تتعفن فيها الديدان؟
أكانت إشاعات روجها وزير إعلامك حين قال بأن معركة طاحنة ستنتظر الغزاة؟ وبأن حرب الشوارع ستفاجيء العالم؟ وبأن النظام قد استعد لها أتم استعداد..؟؟
ياخسارة.. الشعب توقف عن القتال منذ زمن بعيد, أنهكته الحروب وحطمه جنون العظمة, طعنتَه وهو الذبيح فسقطت بلا أدنى مقاومة؟
من كان يجرؤ أن يُسقط صورتك من على الجدران وساحات المدن؟ يطلق عليك الرصاص ويبصق ويضربك بالنعال؟!!
جاء الليل ونهبك من نفسك المتعالية, لم يستجب لك أحد وبقينا في حيرة من أمرنا, نحن أيضا لا نعرف الجواب..
وقصورك؟
هل سألتْ نفسَها وهي تتنفس خراء الأمريكان الذين بالوا وتغوطوا ولاطوا فيها, تسألهم: هل سيعود أصحاب القصر يوما ما إلى هنا؟
وهل سيلحظون التغير الذي حصل؟
القتلة في كل مكان, ينتشرون كالبعوض الأخضر, إنهم منظمون ولهم أجندة, وبطاقات تعريفية بتوكيل دولي.
بلا شك لم يكن ذلك أفضع من دخول الدبابات الأمريكية إلى شوارع بغداد في غضون ساعات, يومها بكيت وبكى كل شريف, ليس عليك يا صدام, بل على بغداد العصية, على العروبة, صرنا محتلين يا سيادة الرئيس, يحكمنا رعاع أتوا من كل حدب وصوب, وكأيجوج ومأجوج استهدفوا ذاكرة المدينة حيث يهزم الأنسان ويباد, أذكر يومها أني لم أرد على أي أحد, جميعنا التزم الصمت, كنا خجولين حتى من أنفسنا!
أسبح في عينه السليمة بعد أن شوه أحدهم عينه الأخرى ففقأها انتقاما ربما من أخيه الذي فقأت عينه في مبنى المخابرات, أصمت وأنا ألوك حسرتي:
الله لا يسامحك يا صدام على الي سويته فينا!
كل شي بعدك راح يا بوعدي رااااااح.. ضيعت نفسك وضيعتنا, ايييه جنا نخاف منك وهسه صرنا نخاف حتى من أنفسنا! كل شيء باعوه وبأقل ثمن, بلدنا باعوها, والأمريكان صاروا يعاملونا مثل الحيوانات, كل ما نطلع من حرب نكول جنا أفضل, وهسه؟
ما ألنا عذر مادام ملينا قلب إمامنا علي بالقيح والصديد, الأفضل دائما مارح يرجع ولا راح يعووود..
ركلت جهازي المحمول فتفككت أجزاؤه, حيث لا إشارة توصلني بزوجي الذي أكلته نار القلق,إنه عديم الفائدة كأبراج الكهرباء المقامرة! أمشي ورأسي مرفوعة, ليس عزة ولا شموخا ولكني أبحث عن الله الذي يراني, منتظرة جوابه السريع, كأن يبعث بيد رحيمة تنقذني مما أنا فيه, وفجأة تعثرت في بركة من الوحل, انزلقت وغاصت قدماي ففقدت إحدى فردتي مما أفقدني توازني, تماسكت حتى وصلت للدكة, في (الكاع) انبطحت على (صفحة) حيث ألمَّ بأضلاعي وجع رهيب, لا أحد يلتفت علي, بدؤا يتلاشون تماما.. وأنا أعصر طرف عباءتي أمام بناية متهالكة يبدو أن الحواسم نهبوا كل ما فيها بعد أن دمروها, لكني لمحت فوق البناية عيونا ترصد المكان وتمشط الغادين والرائحين, كأنهم يستعدون لمعركة ما أو لتصدي رتل أمريكي سيمر بالقرب منهم, كنت على صواب فقد دوى انفجار بعيد بعد دقائق, ضاع مني مواء القطط السائبة التي اختبأت وهي اثقة من مخابئها الآمنة تحت أكوام الصناديق, أما أنا فركضت بلا هدف, حيث الأمكنة الجديدة تشتمني, تتابع صوت الصليات النارية, صار صوتها أقرب, لم أشعر حتى غطتني سحابة من دخان, صرت ألهث وألهث حتى انقطت أنفاسي, اختنقت وبدأت أركل نفسي, أتلوى مثل حية, أبحث عن ذرة أكسوجين عابرة, أحاول أن أرفع من صوتي علَّ أحدهم يسمعني فينتبه لي, يمرون بهمراتهم مسرعين:
لا صبحتوااااا.. لا مسيتوااااا.. يا كلاب يا أمريكان..
قلتها بصوت اختلط ببكائي..
دخت ونسيت بطني الذي أصبح يركلني محتجا, تدحرجت إليّ..
وأخيرا أحسست ببرد يد أحدهم يقترب مني وهو يمسح الدم عن جبهتي بلثامه الذي أزاحه عن وجهه:
أنت بخير ياوخيتي؟
لم أرد, لساني ثقيل وقلبي ميت ورأسي يدووور, سألني بعطف وأنا أشم أنفاسه محفوفة براحتيه اللتين أدراتا بوجهي نحوه:
بيتكم كريب؟ لوحدج؟ تحتاجي مساعدة؟ دا كومي أوصلج عيوني الدنيه كربت تصير ليل..
لم أجبه…
رن هاتفه المحمول, سمعته يقول: مره طايحة بالكاع, تعال بسرعة ننقذها.. أكيد, أكيد هي على طريقنا..
وفي ثواني معدودة توقفت سيارة ( بطة) فتح أحدهم صندوقها الكبير, فبدأ الدوار يأخذني بشدة, تخيلت لو أنهم خدعوني فعلا وقاموا باختطافي, لكن من يختطف لايحتاج إلى كل هذه الدماثة!
حملوني إليها وهم يبتسمون شفقة وحنانا, مخلفة بين ساقي كل ما أكلته عند زينب بعد أن قذفته دفعة واحدة, حملوني ممدة والصندوق لا يزال مفتوحا, رموا فيه بعض العتاد ثم أغلقوه, وسط شابين يافعين وجدت نفسي مسندة, يمسك كلاهما بكلاكنشوف مستعد, مربوط بشريط لاصق أخضر خزنت فيه الطلقات, بدا وكأنه محشو بالموت وقد انتقل دفئه إلى برودة أصابعهم, أسمع صوت تنفسهما, ضخمين, مقنعين, ينظران كنجم ثاقب, ويتنفسان بوثوق من ثلاث فتحات شقت من قناعيهما, أحدهم يمتلك عضلات قوية تشبه زنود من يرافق الوزراء والشخصيات المهمة لحمايتهم أثناء خروجهم من جحورهم الرخامية, يحيطون بهم من كل جانب كأشواك تحلقت حول زهرة فاسدة, فالتحسن الأمني الذي يزعموه في تصريحاتهم في واد.. وهم في واد آخر, أولئك الذين جاؤوا مع الاحتلال كظاهرة تتنوع بحسب أهمية الشخصية, مثلهم مثل العواليس والدفاتر الخضراء تماما, جل وقتهم يقضونه في تربية عضلاتهم وتصغير عقولهم, يلبسون نظارات شمسية ليخفوا الشرر المتطاير من عيونهم, ينتشرون في بنايات الوزارات وأمام المصارف ومداخل الأحياء السكنية, كثير منهم وبحفنة من الدولارات ينبشون في دقيقة عن إبرة اختفت وسط القش إن هم أُمروا بذلك, إنهم في حقيقتهم جزارون وقتلة مأجورون, يعملون في دوائر حساسة, جهاز الشرطة والاستخبارات والحرس الوطني مأواهم, مرتزقة جدد.. فما إن يجدوا من يسنح لهم الفرصة لتنجنيدهم مقابل أن يقتلوا أويخطفوا بأبخس الأثمان, إلا ومدوا أيديهم المدهونة بالدولارات, ليس لديهم شيء يخسرونه, كيف لا, وهم بكل ببساطة يشفقون عليك ربما, ثم يغتصبونك في وضح النهار, وفي أقرب مزبلة تصادفهم يرموا بجثتك, لامبادىء, لا قيم, لا أخلاق, لا حب, ولا إنسانية تحكمهم, وحده الفساد تكفل بتحويل الوطن إلى بركة وحلة يغسلون فيها كل ما تعلموه صغارا وأنشدوه في طابور المدرسة, حيث لا حق ولا باطل يميزونه بعد, الرغبة في القتل هي الغاية والمشاعر ترفٌ لايتحملونه..
تحسس السائق من وجود مسدسه الذي اشتراه بأبخس ثمن من شرطي كئيب سرح نفسه بنفسه وراح يضرب بنعله صورة السيد الرئيس بدلا من إطلاق رصاصة من مسدسه الثمين, ثم بسرعة هائلة انطلقوا, محاولين إسنادي حين تنعطف بنا السيارة, لم أتكلم معهم كثيرا, اكتفيت بالإشارة إلى عنوان بيتي, وأنا أأكل بداخلي أطباق الحسرة والندامة على فعلتي هذه, أفكر فقط فيما لو كانوا ينون اختطافي فعلا؟ لكنه سرعان ما أطرد الفكرة من رأسي وأنا أقرأ شهامة الموقف في عيونهم التي لا تكاد تظهر..
عبرنا نقطتي تفتيش دون توقف, فسحوا لنا المجال ملوحين باحترام وكأننا شرطة عراقية, رن هاتف السائق الذي بقي صامتا حتى انفجرت كلاماته غاضبا:
زين, زين الزموه أنتوا, واذا ما دفعوا الفدية والله راح أخلص عليه بايدي, ودماغي الي يشم الهوا ما يرجع لأهله إلا جثة خايسة..
لعنت دماغي الذي توقف عن التفكير حين صعدت معهم طواعية, عادت لي الرعشة والغثيان, ليتني رفضت الذهاب معهم, ساذجة أنا, كيف وثقت بهم, إنهم( علاس) محترفون ويقدمون على القتل بكل بساطة..
ترى كيف يعيش الضحية دقائقه الأخيرة منتظرا فرجا من جيب أبيه العاجز؟
بأي ذنب يخطفون؟ ترى من سيعدمون؟ أي تصفية يتحدثون عنها؟ ماذا لو عرفوا أن زوجي سنيا؟…؟
أسئلة لا تنتهي كل شيء سريع في إيقاعه إلا الخلاص من تلك العصابة التي ظننت فيها خيرا, رعب ويأس ورجاء, ثلاثية لا أدري أيها سينتصر!! من بجانبي شعر برعشتي: لا تقلقِ, تماسكي, تعرفين حبيبة صارت لنا مهام جديدة, إننا نحفظ الأمن وندافع عن مناطقنا المشتعلة, ستعودين بقدميك وأنت سالمة صدقيني.. وعد رجال!
تفحصت في عينيه التي بدأت تشعان بأمل عليل.. (الله كريـم) قلتها هذه المرة بأريحية عجيبة, وفورا رحت في غفوة ثقيلة استيقظت منها على توقف البطة المفاجئ في إحدى الكراجات خارج المدينة, بعد أن سلكوا بي طرقا فرعية وأخرى ضيقة, متحاشين سيطرات وهمية. هناك في المحطة أنزلوني متأسفين على عدم المواصلة لأسباب معروفة, انزلقت من كابوس الموت, شاكرة إياهم بـ (أبوذية) مرتجلة! مرممة انصهاري برشة ماء على وجهي المتقرح, صدى الوجوه المقنعة ذاب واختفى.. المواويل التي كنت أعدها مساء كل جمعة اختفت هي الأخرى وجفت كعود سواك, بعد أن ابتلعها هسيس قبرتين تصرخان. نزفت مرة أخرى على عتبات الطريق, كيف لا؟ والغيمة التي أظلتني لم تمطر نبيذها بعد على أديم الله, سحبت من دماغي الذي بدأ يتعافى خمسين كلمة وكلمة سأقولها لعائلتي فور وصولي إليهم. لا بد طبعا! بللت حنجرتي, دربتها على الفتح والإغلاق: آآآآآ .. اممممم. أيقنت بأني قادرة على الحديث مجددا, أطعمتها من عشب الكلام الذي اعشوشب بين فتحات الأسنان الهشة, الديدان أكلت سيقان الفلاحين وأنا حيلتي أن أدندن حتى أصل:
أطحن بقايا الروح مو أطحن شعير..
مضيت.. ولما قاربت الوصول بدأ دعاء واحد يأكلني:
اللهم سلم, سلم!
أشياء كثيرة داهمتني, الشوارع التي قطعها الأمريكان ونصبوا نقاط تفتيشهم, أصوات المترجمين وبلهجة عراقية تطلب الأسراع في العودة إلى المنازل, والتزام البقاء في البيوت حتى إشعار آخر:
تفتيش, كبسة, كلاب مسعورة, اقتحام لحرمات بيوت آمنة, رؤوس مكيسة, أعين معصوبة, أيدٍ مقيدة للخلف, الإسهال الحاد الذي سيصيب ضفاف, مترجم عراقي أعرفه كان ممن خذل الوطن وفر من الخدمة العسكرية, هو الآن يرقص مع الغجريات غير مبال بأمه التي ماتت ولم تأكل بعد من راتبه الأول, المسكينة التي أكلها الحصار كانت تجمع له فلسا فلسا لتشتري له عربة يدفعها في سوق الخضار.. ماذا بعد يريد أن يفتشه الأمريكان؟ الأمر سيان, لماذا لم أفكر في البندقيتين المخبئتين في بيتي؟ ماذا لو عثروا عليهما؟ ولكنهما أمانة, سيعود يوما (أبو صياح الطرفي) من الأنبار وسيأخذهما مني, ابتهلت إلى الله بأن يعمي أبصارهم, اللهم سلم سلم..
تخيلت النساء اللاتي سيجبرن على رفع أيديهن ونزع عباءاتهن امتهانا, تخيلت تحسس الجنود نهودهن الكبيرة وربما فركها خوفا من أن يكن قد حشينها بمتفجرات وقد نصبن فوهات بنادقهم في كل مكان, تذكرت هويتي التي نسيتها ونقودي التي نفذت.. تذكرت أشياء كثيرة..
صدى كلماتهم البذيئة أسمعه من كل اتجاه, الشوارع محترقة وفوق كل ذلك يفتحون أفواههم النتنة وهم يصيحون بالمارَّة اللذين التزموا أوامرهم فأداروا ظهورهم مسرعين:
فك يو.. فك يو..!
هناك من وصل بيته قبلنا, إنه العم راضي أبو قناني الغاز, كان يمتلك عربة يجرها حصان أعور! وصل سريعا لأن الحاويات كما يبدو كانت فارغة, لقد نفذت من أول النهار, تاركا على جانب الطريق امرأة توسلت به وبوالديه أن يبيعها واحدة وهي تقول له:الله يرحم والديك, الله يخليك, لخاطر الله, لخاطر الجهال اليتامى, قنينة كاز وحده أوكِّل بيها هلولد..
لم ينفعها أن تتوسل, ما يهمه الآن هو ألا يموت هو أوحصانه وإلا فستفقد كافلها عائلته وعائلة أخيه المرحوم..
تفرق الجميع.. والفراغ والسكون هو من ملأ المكان, انزويت عن مصدر الصدى, رششت وجهي بقطرات ماء كانت تسقط بهدوء من صنبور صدأ خرج عن مساره على جانب الرصيف, رفعت بصري إلى السماء ساحبة أنفاسا متقطعة, صحت بهم بعد أن ابتعدوا قليلا:
جبناء, ساقطين, ملاعين أنتم والحكومة الله ياخذكم!!
أمسكت بطرف قدمي بكيس لعبت به الريح, فتحته وقذفت ما في معدتي,
لكنه الله سلم..
فلا ضير مادامت البوابة بلا حراسة, أُمَّنا فاطمة شقوا أذنها فسقط قرطها على أديم الأرض, ثم داسته أقدام المنافقين واختفوا في الظلام.. لم يفتشوا إذا, لم يأخذوا أحدا ليدُقَّ لهم مسامير أحذيتِهم, لقد فسحوا الطريق للعابرين كي يعودوا إلى بيوتهم, أكانت حقا أُمنا تفتدينا في تلك اللحظة؟!!
لحظتها فقط شعرت بأن الله يحبني..
**************
اما بعد اشكرك جزيل الشكر عن هده الاسهامات الجليلة هدا ان دل على شيء انما يدل على انتمائك العميق للعروبة و الاسلام وفقك الله و مزيدا من النجاحات .
حبيبتي سيدتي الغالية
يعجز القلم
تعجز الحروف
اخشى على قلبي …احبك ايتها المبدعة
سلامي واحترامي
فرح دوسكي – بغداد