ناطق خلوصي* : هواجس عاشق البحر

natiq khulusi* بغداد 

يقول لها :
ــ ان رغبة فيه تستبد بي  هذه الأيام .
تشيح بوجهها عنه فيدرك ان ما قاله  لم يقع موقعا ً حسنا ً في تفسها  . يعود ويلتمس رأيها فتنفض صوتها في وجهه :
ــ ما لك والبحر وأنت ربيب الصحراء  ؟!
يشعر كأن ” ربيب الصحراء ” شتيمة تقذفها بوجهه . هو ربيب الصحراء حقا ً ولكننه خلـّفها وراءه منذ زمن . كان يسمع  بالبحر هناك  دون أن يراه . وحين حلـّوا في المدينة صار يسمع به ويراه ولكن على شاشة التلفزيون فيزداد ولعه في أن يبحر فيه لا أن يراه فقط . تقول وهو يعاود التماس رأيها مرة أخرى :
ــ ما الذي يجذبك فيه ؟
يزفر بعمق :
ــ أريد أن أثأر به من أيام الصحراء : أيام العطش واللهاث وراء سراب الماء ، وأيام هجير الظهيرات القائظة وعصف الرياح الرملية .
ويقول في تفسه : هل يمكن للبحر أن يكون معادلا ً للصحراء حقا ً؟
يسمعها تقول :
ــ ألم تكفِ السنوات الطوال التي عشتها ، وما تزال  ، في المدينة للثأر من صحرائك ؟ فلا يجد ما يرد به عليها  . تنهض لتبتعد عنه ، متعللة بانشغالها بأمر ما من أمور المنزل اليومية ،  لكن الرغبة في البحر لا تبتعد عنه هو  . تظل ملازمة له . يضع رأسه على الوسادة ليلا ً وتراه ، وهي تضطجع الى جواره ، ساهما ً، غارقاً ًفي التفكير . تبتسم وتهمس قريبا ً من أذنه :
ــ أين سرحت يا عاشق البحر ؟ أكثر الظن انك ستتخلى عني وتكرس نفسك لمعشوقك الجديد !
يستدير نحوها ويمد ذراعه تحت رأسها ويهمس لها :
ــ مستحيل !
تدرك تماما ً انه لا  يستغني عنها وقد جمعتهما عِشرة عمر . ألرباط الذي بينهما أمتن من أي رباط  آخر. ثلاثون عاما ً وهما ًتحت سقف واحد ، معا ًقي السرّاء والضرّاء ، وهي ، دون غيرها من أقرب الناس اليه، وقفت الى جانبه في تلكم الأيام المظلمة التي أجتازاها بصعوبة  . غير ان هذه الرغبة التي استجدّت عنده تلح ّعليه . ربما تشعر هي انها  رغبة طارئة ستتلاشي وتندثرفي زوايا النسيان . لكنها لم تكن كذلك .
يقول لها :
ــ ما الذي يضيرك في أن أبحر لمرة واحدة ؟
تقول وهي ترمقه بنظرة غامضة :
ــ أخاف عليك من البحر !
ــ  وما الذي يخيفك منه ؟
ــ كيف تبحر وأنت لا تجيد العوم ؟
يضحك :
ــ وهل تظنين أني سأبحر عوما ً ؟ سأبحر في سفينة  وليس عوما ً
ــ ليكن . أفرض ان نوبة من نوبات دوار البحر استبدت بك وان قدمك زلت من سطح السفينة   وانزلقت الى سطح الماء !
تجده يضحك من جديد فتضحك هي الأخرى .  يعود فيقول :
ــ انك تفترضين ما ليس في الحسبان .
تصمت هنيهة وما تلبث أن تقول :
ــ ولماذا تنسى ان البحر مليىء بالكواسج والتماسيح وأسماك القرش ؟
ــ وما الذي يأتي بالكواسج والتماسيح وأسماك القرش اليّ وأنا على ظهر السفينة ؟  ليس لمخاوفك ما يبررها  يا عزيزتي .
تعود فتقول :
ــ ولماذا لا تحسب حساب العواصف الثلجية وجبال الجليد ؟ ألا تتذكر ما حدث لتلك الباخرة التي اصطدمت بجبل جليد وقد رأينا ما حدث في ذلك الفيلم .. .
تصمت لحظة وكأنها تستجلي ذاكرتها لاستعادة اسم الفيلم . قال :
ــ لعلك تقصدين فيلم تايتنك .
اسرعت بالقول :
ــ نعم نعم .. انه هو . ألم نشهد المآسي التي حلت بالمسافرين على ظهر الباخرة ؟!
ــ أعرف ذلك ، لكن تلك الباخرة كانت تبحر في أحد البحار الباردة أو المنجمدة . أما أنا فأريد أن أبحر في أحد البحار الدافئة حيث لا عواصف تلجية ولا جبال جليد .
ــ مع ذلك . على المرء أن يضع كل الاحتمالات  بنظر الاعتبار !
يوجعه كلامها فيرد وهو ينهض هذه المرة :
ــ لكأنك تغلقين كل نوافذ الأمل في وجهي !
غير أنه لا يتخلى عن رغبة بدأت تستحيل الى هوس  ، ومع تنامي هذا الهوس كان يشعر بأنها صارت تلين  . لعلها لم تكن ترغب في أن تسمم العلاقة بينهما وهما يقتربان من وشالة العمر . ثم جاء اليوم الذي انتزع موافقتها . قالت :
ـــ كيف ستتدبر الأمر ؟
ــ لقد حسبت حسابه !
ــ كيف ؟
ــ  تعرفين ان قريبنا عبدالله  يعمل في الميناء . سأهاتفه  وأتفاهم معه .
هاتفه وهو كان قد زارهم قبل أشهر ، قال له بعد لحظات صمت :
ــ حسنا ً . اذا كانت هذه هي رغبتك فسأحاول مساعدتك .
ــ سنجعلني شاكرا ً ، ولكن كيف ؟
ــ أمهلني بعض الوقت . أحد معارفي قبطان سفينة سأفاتحه حين يعود من رحلة وترسو سفينته في الميناء . سأهاتفك عند ذاك .
كانت تجلس ليس بعيدا ً عنه ، وحين أغلق الهاتف سألته :
ــ ما ذا قال ؟
صمت لحظات . ربما كانت تتمنى أن يأتي رده بالرفض . اتسعت حدقتا عينيها حين قال :
ــ وعدني خيرا ً .
وربما شتمت قريبه في قرارة نفسها .
كان في انتظار أن يأتيه صوت قريبه على أحر من الجمر . يخفق قلبه حين يرن هاتفه النقـّال و يكاد يشعربما يصدمه حين يبلغه صوت غير صوته ، حتى بلغه صوته أخيرا ً في ظهيرة يوم في مطلع الخريف :
ــ أبشر . ستتحقق رغبتك .. بل أمنيتك !
ــ كيف  ؟
ــ فاتحت صاحبي القبطان وأبدى موافقته ، لكنه يطلب مبلغا ً .
ــ هذا أمر طبيعي . ما من شيء بلا ثمن .
ــ يقول انه يطلب مبلغا ً رمزيا ً
ــ كم مثلا ً ؟
ــ خمسمائة .
ــ دينار ؟
ورنت ضحكة قريبه التي استحالت الى قهقهة ربما كاد يسنلقي على ظهره معها . جاءه صوته خلل بقايا ضحكته :
ــ ما هذا الذي تقوله يا قريبي العزيز ؟ لعلك تمزح !
ــ ألم تقل انه يطلب مبلغا ً رمزيا ً ؟
ــ قلت ولكن المبلغ الذي ذكرنه لا يكفي لشراء بيضة ورغيفي خبزلإفطارك هذه الأيام !
ــ إذن ؟
ــ بالدولار يا عزيزي بالدولار !
كان عليه ، مدفوعا ً بهوسه  بالبحر ، أن يوافق مع انه لا يملك هذا المبلغ . قال لنفسه : لكل مشكلة حل . وحل مشكلتي عند زوجتي العزيزة وهي ما زالت تحتفظ ببقايا نصيبها من الإرث الذي أصابها من أبيها المرحوم .
قالت ، وقد التقط سمعها  بعض ما دار بيبه وبين قريبه :
ــ ما حكاية المبلغ الرمزي الذي ورد على لسانك ؟
ــ لا شيء .. لا شيء .
ــ كيف تقول لا ئيء وقد رأيت وجهك يمتقع وأنت تهاتف قريبك ؟  انه أجور الرحلة ، أليس كذلك ؟
وجم هنيهة وانتزعه صوتها من وجومه :
ــ كم طلب منك ؟
ــ ولماذا تسألين ؟
ــ لعلي أستطيع مساعدتك ؟
ــ حقا ً ؟!
ــ لا أكذب عليك .
ارتعشت شفتاه وهو  يقول وقد تملكه شعور بالقلق :
ــ خمس أوراق .
لبثت لحظات تتأمل وجهه ، ثم قالت عبر ابتسامة صغيرة  :
ــ بسيطة .
قفز نحوها وكاد يطوق عنقها بذراعيه :
ــ هل حقا ً ما تقولين ؟
ــ ولماذا لا تصدّق ؟ هل أبخل عليك بمبلغ كهذا ؟ لكن …
واوجع صمتها قلبه فقد خشي من أن تتراجع عما قالت ، غير انها ما لبثت أن كسرت صمتها :
ــ  هذه أجور الرحلة . ماذا عن مصاريفك الشخصبة  ؟
ألجمه ما قالت . حقا ، لماذا لم يفكر في ذلك ؟ كاد يطير فرحا ً حين سمعتها تقول :
ــ لا عليك . سأتدبر أنا ذلك أيضا ً .
صمتت لحظات وقالت وقد شابت صوتها نبرة حزن :
ــ ستتركني وحدي !
هذا إذن هو سر ممانعتها في البداية . ضغط على يدها :
ــ لماذا تقولين هذا ؟ أنسيت ابننا الذي يساكننا البيت هو وزوجته وأولاده ؟ ! ثم انني سأتصل بك ياستمرار من هاتفي النقال .
احتد صوتها قليلا ً :
ــ كيف ستتصل بي وأنت في عرض البحر ؟
******
حاملا ً حقيبته ، تسلق ، أول المساء ، سلـّم العربة وأعولت صافرة القطار ايذانا ً بالحركة ، فساوره شعور غريب بأنه ربما أخطأ بحقها . يعرف ان القلق سيكون رفيق وحدتها في غرفة نومهما . القلق والخوف معا ً . هذه هي المرة الثانية التي يبتعد فيها عنها بعد ذلك الغياب القسري الذي فرض عليه قي مطلع سنوات زواجهما حين حل ضيفا  ً على أحد مراكز الاعتقال  .
ظل القطار يهز جسده طوال الليل وهو موزع بين اليقظة والنوم ، حتى طرً الفجر . رأى طلائعه تخترق صفحة الأفق بضوء باهت ما لبث أن أخذ يتوهج شيئا ً فشيئا ًوينتشر في كل مكان ويضيء كل شيء . لمح خيوطا ً منه تلتمع على ذؤابات سعف النخل  ، وبدات حركة القطار تبطؤ حتى توقف . التقط حقيبته ونزل . توقف في رصيف المحطة . ضغط على زر هاتفه النقال والتقط سمعه المتلهف رنين هاتفها ، وإذ تأخر الرد ساوره شعور بالندم ولام نفسه . لعلها نائمة . أوشك أن يغلق الهاتف حين جأءه صوتها النعس . قال :
ــ وصلت توا ً .
جاءه ردها هادئا ً ، خافتا ً كأنه يعاتبه :
ــ حمدا ً لله على سلامة الوصول !
لم يُطل الحديث معها فهو لم يكن يريد أن يثير المزيد من شجونها . أومأ الى سائق سيارة أجرة أوصله الى الميناء . وجد قريبه ، وهو عند حسن ظنه دائما ً، قد رتـّب كل شيء . كان أول ما فعله أن أخذه الى صاحبه القبطان : رجل ممتلىء الجسد باعتدال ، مرح ، متواضع  ،عركته الحياة ، ويجيد أكثر من لغة . قال له وهو يضغط على يده :
ــ حدّثني  صديقي العزيز عبدالله عنك ولكنني أريد أن أعرف من لسانك سبب رغبتك في الإبحار معي . أعرف سببك المعلن ولكنني أريد أن أطمئن الى أن ليس هناك سبب أخر خفي .
ــ مثلا ً ؟
ــ كأن تبحث عن  هجرة غير شرعية  وتتسلل في غفلة مني الى أحد  الموانىء التي نتوقف فيها فيتم التحقيق معك وتقع المسؤولية على عاتقي . سامحني على صراحتي أيها الصديق فأنا لا أريد أن أغامر بمصدر رزقي .
قال :
ــ إطمئن . لست طالب لجوء ولا راغبا ً في الهجرة . يعرف عبدالله ذلك .
عاد يقول :
ــ سأضع في اعتباري إذن انك راغب في أن تتعرف على البحرفقط . هذا جيد مع انك ستكون مسافرا ً بدون جواز سفر أو أوراق ثبوتية . سأغامر وآخذك معي وليكن الله في عوننا .
عليه أن يبيت الليلة في ضيافة عبدالله . أيقظه وأخذه معه بسيارته قبل أن يطل أول خيط للضوء وتحت عتمة الفجر تسلل بحقيبته الى السفينة . انها سفينة لنقل البضائع وبدا انها كانت في انتظاره فما أن صار على سطحها حتى أعولت صافرتها ايذانا ً بالإبحار .
استقبله القبطان بابتسامة عريضة وهو يشد على يده . فال :
ــ أنت في ضيافة البحر . أهلاً بك بيننا .
والتفت الى رجاله وقال :
ــ انه قريب صديق عزيز . سيرافقنا في رحلتنا ويعود معنا . هو عاشق كبير للبحر مثلنا .
سمع أصوات البحارة ترحب به فاطمأن قلبه . قال القبطان :
ــ لم ندخل البحر بعد . ما زلنا عند حافته .
ومر وقت طال بعض الشيء قبل أن يهتف :
ــ صرنا في البحر الآن !
يقف على سطح سفينة لا يعرف اسمها وأي علم ترفع ، تشق عباب البحر الذي يمتد أمامه  واسعا ً بشكل مخيف . سأل نفسه : ما الفرق بينه وبين الصحراء ؟ كلاهما امتداد واسع ينفتح على المجهول .
أخرج هاتفه النقال وقبل أن يضغط على الزر جاءه صوت من ورائه :
ــ لا تتعب نفسك .
التفت الى حيث أتاه الصوت . قال :
ــ نحن في البحريا صاحبي . أعني خارج التغطية .
أنه على سرير الآن وأمامه منضدة صغيرة ولكنها تفي بالغرض . أخرج دفترا  واستل من جيبه قلما ً وشرع بالكتابة . سأله القبطان  :
ــ هل تنوي تأليف كتاب ؟
ــ  ربما .. ولكنني أدون ملاحظاتي الآن .
و الوقت يمر وهو يتنقل بين هذا المكان وسطح السفينة . يقف على السطح ويمد بصره ويراقب ما يجري وينتبه الى تكسر موجات الماء ، يشعر بالرهبة حين يفكر  بعمق البحر المخيف فيرتد بحركة لا ارادية الى الوراء كأنه يحمي تفسه من احتمال السقوط . ويعود الي مكانه ، يعود الى دفتره يدون فيه انطباعاته وما يخطر في ذهنه .
الرجل كريم   معه . أصر على أن يتناولا الغداء من صحن واحد .أنها أول وجبة غداء يتناولها وهوعلى سطح البحر . يجالسه بعد أن يوكل قيادة دفة السفينة الى مساعده ، فيتجاذبان أطراف الحديث . على حين غرة لاحت أمام بصره هياكل بدت كأنها رؤوس قلاع ناتئة من البحر . قال القبطان  وكأنه اكتشف فضوله :
ــ انها سفن المارينز.
ــ انهم هنا  أيضا ؟!
ــ انهم في كل مكان .
قفز من مكانه دون سبب واضح واقترب من السياج لينظر عن كثب ، متجاهلا ً نوبة دوار البحر ،. رأى جنود المارينز يتجمعون وراء أسيجة سفنهم ، ينظرون  متضاحكين وكأنهم يرون كائنا ً غريبا ً هبط من كوكب آخر . لا يدري ما الذي جعله  ، وقد صار قبالتهم ، يتحرر من الخوف ،يقترب  من السياج أكثر، ويرفع ذراعه ويلوّح لهم ، فردّوا على تلويحته بصياح ماجن وقد رفعوا أياديهم مشكلين حركات بذيئة بأصابعهم . تراجع الى مكانه علي عجل وهو يرتجف غضبا ً . رأى القبطان يبتسم فهمس :
ــ سمعتهم يشتمون أمي بأقذع الكلمات شعرت معها كأنهم نبشوا عظامها التي ربما أصبحت ترابا ً الآن !
شعر كأنه يلومه :
ــ لماذا فعلت ذلك ؟ اننا نتحاشى استفزازهم .
ــ هل يعتبرون التلويحة استفزازا ؟ !
ــ نعم . يعتبرون كل شيء لا يروق لهم استفزازا ً فهم يرون  انفسهم سادة الماء واليابسة معا ً .  يخرجون من أرحام امهاتهم والبذاءة موشومة على ألسنتهم !
صمت هنيهة وما لبث أن قال وهو ينهض :
ــ ألم تتعرفوا عليهم وقد جثموا على صدوركم كل هذه السنوات وداسوا على ترابكم وتاريخكم معا ً.
شعر بخجل مضاعف فخفض رأسه . جاءه صوت القبطان وهو يبتعد قليلا ً عنه :
ــ على أية حال  . قد يفيدك ما حدث في كتابك  .
ليلا يبدو له البحر مخيفا ً وهوينوء بعبء ظلام دامس . أشعره  بخوف حقيقي فعلا . لاذ بسريره  ساهما ً وهو ينظر عبر زجاج نافذة صغيرة الى جوار السرير ارتعاشة الضوء وهو يسقط على الماء من مصباح فوق النافذة . لاشيء سوى الظلام الذي  لاتبدده بقعة ضوء المصباح الصغيرة . صار ما كان قرأه عن البحر يستيقظ في ذاكرته وخيل اليه انه يرى سانتياغو همنغواي في قاربه، قريبا ً من السفينة وهو في صراعه المستميت مع البحر وسمك القرش معا ً ، ومالبث أن أغفى معه .
سأله القبطان عندما استيقظ صباحا ً :
ــ كيف كانت أول ليلة لك في البحر ؟
تحايل على نفسه :
ــ لقد مرت بسلام على أية حال !
ظل القبطان أنيسه وقد بدد  مخاوفه . يجالسه أً ويحدثه عن البحر وهمومه وخفاياه . قال له :
ــ ضع في حسابك انك لن تستطيع أن تكشف عن أسرار البحر في رحلة مثل هذه .
رجل قضى ثلثي عمره مع الماء . حدّثه عن عمق صلته  بعبدالله ولم يستغرب أن يوليه هذا الاهتمام . وقته وزعه بين سطح السفينة ودفتره . فاجأه الرجل على حين غرة :
ــ أي عنوان ستختاره  لكتابك المنتظر ؟
ــ لم أفكر في العنوان بعد.
ــ ما رأيك في ” أيام في البحر ” ؟
ــ ربما .. وربما ” ضيف البحر ” أو ” في ضيافة البحر ” . ألست في ضيافة البحر الآن ؟
ضحك القبطان وعاد لينشغل بعمله  .
هذا هو يومه الثالث وقد شعر بضيق مفاجىء في الصدر .يعترف  انه كان على وهم حين استسلم لهوس الرغبة في هذه الرحلة ، بل أنه بدأ يتحاشى تذكر زوجته لأنه شعر بأنه  لم يراع وضعها النفسي على وجه التحديد . لا يشك في انها في غاية القلق عليه الآن .أًراد  ان يشغل نفسه بالكتابة هروبا ً مما هو  فيه  وقد حيّرته حياة الذين يعملون في البحر . قال للقبطان :
ــ أليست لكم بيوت ؟
ضحك :
ــ بيتنا هنا . في البحر . وإذا ما مات أحدنا فإننا ندفنه في البحر أيضا ً .
أرعبه ما قال وزاد من نفوره من حياة مثل هذه. اوى الى سريره ليلا ً وغاب في نوم عميق . استيقظ على لغط واكتشف عبر زجاج النافذة ان السفينة توقفت وكانت طلائع خيوط الشمس قد بدأت تنتشر . سمع لغطا مصحوبا ً بالضحك . دفعه فضوله لأن يغادر السرير وحين خرج الى السطح اصطدم بصره بمرأى بضعة رجال ببزات عسكرية . أوجعه قلبه حين لمح القبطان يشير عليه بحركة من يده من وراء ظهره أن يعود الى مكانه لكن أحد العسكريين لمحه وهو يفعل ذلك وركض نحوه وأمسك بيده . سمع القبطان يشتمه بهمس ويلومه على تصرفه الأحمق فأدرك انه وقع قي فخ ربما يصعب الافلات منه ، والقبطان يتحدث معهم رأجيا ً تارة ً ، متوسلا ً تارة بلغة لم يفهمها ، عرف ذلك من تعابير وجهه وحركة يديه ونبرة صوته المتخاذلة ، لكنه لم يفلح في مسعاه . اقترب منه وقال :
ــ انظر ما فعلت بنفسك ! كانوا على وشك  مغادرة السفينة حين خرجت . انهم يعتبرونك مهاجرا ً غير شرعي وربما يرون فيك ارهابيا ً !
ارتعش الصوت في حنجرته :
ــ كل شيء الاّ هذا . ألن تفعل شيئا ً من أجلي ؟!
ــ سأحاول .
نزل به العسكري الى زورق دورية بخاري وهو وسط ثلة من الرجال مدججين بالسلاح . أي مأزق أوقع نفسه فيه!  توقف الزورق عند رصيف الميناء . وجد نفسه في غرفة تحقيق وهو مصدوم وقد صار يلعن نفسه  ً. الآن يعترف بأنه احتكم الى قلبه وعاطفته ونحّى عقله جانبا ً .
انتظر طويلا ً الى أن أطل وجه القبطان . صار يلومه من جديد . قال له :
ــ لا وقت للوم الآن . ماذا ستفعل من أجلي ؟
همس :
ــ كم معك من أوراق ؟
أفرد اصبعين  . قال هامسا :
ــ هاتها دون أن تجعل أحدا ً يراك ،  وسأحاول .
غاب  بعض الوقت  . عاد وقد ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه استبشر خيرا ًبها . ً . قال :
ــ  أقنعتهم بأن يبقوك هنا الى أن أعود وأعيدك الى ديارك . كتبت لهم تعهدا ً بذلك .
ــ كم ستغيب  ؟
ــ ليس أكثر من اسبوع .
ــ نركت حقيبتي في السفينة !
ــ  لا تقلق . سأحتفظ لك بها  .
هل سيفي بوعده أم أنه سيظل في هذا المكان الى أن يخيس جسده ؟  لم يفقد الأمل . القبطان لا يستطيع أن يغامر برزقه وبعلاقته  بعبدالله الذي ييسر عمله في الميناء خلال زيارت سفينته المتكررة . وجد نفسه بين رجال يتحدثون بلغات متعددة : طالبو لجوء ضاقت بهم بلدانهم فبحثوا عن مهجر ، عاطلون أتعبتهم البطالة فتركوا عيالهم وراءهم وغامروا بركوب البحر يلهثون وراء فرصة عمل ، هاربون من ظلم وبطش وملاحقة سلطات بلدانهم : كلهم محشورون ، وهو بينهم ، في هذا المكان الضيق  ، سمع صوت صراخ طفل ولغط نسوة آتيا ً من مكان قريب  .  قال له رجل يتحدث بلغته نفسها لكن بلكنة مختلفة  انه نجا باعجوبة  بعد أن ألقى المركب حمولته البشرية في البحر ، ربما عمدا ً ربما  خوفا ً من رجال خفر السواحل المتأهبين لاصطياد  الذين يحاولون الاقتراب من سواحل بلدانهم .
انه يعد الأيام ساعة ساعة ورغم ان ثمة نافذة في غرفة الحجز في الطابق الثاني تطل على البحر ألا انه كره النظر عبرها . فقط كان ينتظر اطلالة وجه صاحبه القبطان وقد جاءه  صوته أخيرا ً :
ــ هيا يا صاحبي !
حدّق في وجهه وتلمس بأصابعه شعر لحيته النابت . قال :
ــ لا يهم . ستنسي ذلك .
لم يتنفس الصعداء إلا ّ حين صار في السفينة وسط ترحيب البحارة . قال القبطان متضاحكا ً  :
ــ ألن تكرر التجربة ؟!
هز رأسه بأسى ولم يرد عليه . سحب حقيبته من تحت السريروأخرج الدفتر . ساوره القلق . ماذا سيقول لها وهي تراه يعود عودة قارب مكسور الشراع  فتسأله : ” ما الذي كسبته من رحلتك ؟” ربما لن يجد ما يقوله لها سوى ” ألا يكفي  هذا الكتاب ثمنا ً للعناء الذي كابدته ؟ ”  أمدته الأيام القليلة التي قضاها محتجزا ً بكثير من القصص :عن مهربي المهاجرين غير الشرعيين ، عن القوارب التي تغرق في البحر بحمولتها من طالبي اللجوء ومنها ما يتم إغراقه عمدا ً ، عن مآسي النسوة والأطفال الذين يوضعون في مراكز الاحتجاز . قصص تكفي لأن تملأ  أكثر من كتاب .
قال  القبطان وهو يراه يشرع بالكتابة :
ــ ها انك عدت إلى كتابك . هل استقر رأيك على عنوان ؟
ــ نعم !
ــ  ما هو ؟
ــ العائد مهزوما ً من البحر!

     2013

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *