بلقيس ملحم : الباقي من النور (2)

balkis melhemكلاهما انقلبا عليَّ, لم ألمهما على ذلك وبقيت أدافع عن نفسي بالصمت فقط, لم أتعود أن أرفع صوتي على زوجي أو أرد عليه بحضرة عمي, تركته يصيح ويزمجر كما يحلو له, حتى بدأ يهدأ قليلا حين رآني صامتة, انتظرته ليفرغ كل ما بداخله من غضب..
وجدتُني في المطبخ أمسك بيد ضفاف والتي بدت في حيرة مني, وضعتْ في يدها الناعمة فرع نعناع أخضر كان ينام على الرف ويشعر بالملل, فبللته بماء الورد, دفعته في فمها اليابس, مضغته, وهمهمت بنفس متقطع..
–    قلقنا عليك, أين كنت يا أمي؟
–    كل ما في الأمر أنني كنت عند أم شنيشل!
خرجت من المطبخ وأنا أبتسم من أجلها, مما جعله يخجل من نفسه.. دفعت عربة عمي إلى داره- هكذا طلب مني- لأجد نفسي بعد ذلك, بين ليمونتين حامضتين, ذوبتا شحنة زوجي بقليل من السكر الذي أضفته, ابتلعت نفسه الحار وهو يُقرِّب أرنبته الضخمة
–    عيوني, سامحيني جنت كلش عصبي وياج..
غرست أصابعي في شعره المذهب بخيوط البياض..
–    أنت سامحني بلوَّل علمود أسامحك
ضغط على يدي, أغمض عينيه قليلا, حتى سقطت منه دمعتان..
–    سمعت إطلاق نار كثيف, شلون ماتريدين أخاف عليج ياعمري, المهم وصلتينا سالمة, بس آني اليوم كلش تعبان يا عفورة تعباااان, أعذرني, masatحملت همه ومشيت معاه خطوة بخطوة.. بس آآخ
–    منو تحجي عنه؟
–    صديقي أبو مروة, صار له أسبوع ما إجى على المحطة, تعرفين ليش؟
–    ليش؟!!
–     خطية طول عمره يجمع فلوسه من عرك جبينه,  الوردة بنته مروة مو تعرفين هي ممرضة بالمركز الصحي مال منطقة البلديات فجانت تساعده بمرتبها ومنا ومنا اجمعت هاي الفلوس اشترى معمل صغيرون للحلويات بشراكة مع أحد أبناء منطقتهم, البارحة قصفوه الأمريكان وادمر ومابقى بيه شي, صار يلطم على وجهه مثل النسوان وهو يكول: كل شي راح كل شي ماكو العمال ماتوا أبو ضفاف عوايلهم من وين راح تآكل وتستر على نفسها أويلي عليه أويلي ..
– خطية مافكر بخسارته هو, فكر بغيره..
كان سبب غضبه منطقيا, وطبيعي جدا لرجل يذبحه قهر الرجال!
ما استطعت أن أعبر عنه, هو أن أضمه إلى صدري كطفل ضيعه أهله, ليكمل في جيبي نحيبه المبحوح..
إنه النهار الذي يخرج كل يوم ليجد أن المدينة تخسر في كل لحظة صوتا جميلا, لتغدو مطحنة عجوز, يجرش فيها ما تبقى من حبوب استعصت على آلة الحرب, والدمار..
تمددنا على أريكة قديمة تجلس تحت النافذة الشرقية, آزرت زفرتي الطويلة حين أخرجت أصواتها والتي تشبه احتكاك أسنان مزدحمة في فك, وأنا على يقين بأن أجهزتهم اللاسلكية غير قادرة على قطع ذلكم الصوت, المروحيات  تجوب السماء وأنا أبذر صوتي في غيمات تختبئ خلف الحُجب:حسنا, أنقذنا يا ربي من مسلحي المدينة, إنهم متعبون لكنهم باقون, ولا يهدؤون!!

المصنع الذي قصفوه لم يكن الوحيد ممن تأثر مباشرة بالحادث, هناك خمس سيارات مركونة على الرصيف كانت من ضحايا القصف, ثمة نخيل باسقة أعدمت جماعيا, الزجاج المتطاير زرع نفسه في وجه وذراعي أحد المارَّة, هلع وخوف أصاب طرف قلب شاهد بعينه لون النار القاني, أعين أخرى أُغمضت ولم يفلح طبيب في فضح الضوء وتعريته لها, الأسنان الذهبية التي سقطت من فك عجوز كان يفترش رصيف عمره, كانت غنيمة لطفل متجول يعزف على أوتار جوعه, لملمها دون أن يلقي له أحدا بالا, ليبيعها فيما بعد في السوق السوداء..
أبو مروة وهو يرمم وجهه بسرحان جذاب, رمته أحد المتلفعات بنظرة حنونة أشبعته, فواصل سرحانه خلف الظِلال..

على الطاولة كانت ضفاف تغني وتدق بشكل خفيف, المروحيات أيضا فوق رؤوسنا تدق, قلبي يدق, الكهرباء تدق, قدمي تدق, رمشي يدق, العصفور يدق, الطبول تدق, كل هذا, والمطر لم يفكر بأن يدق؟؟
أخفضت رأسي, وبدأت أدق أنا الأخرى ..
–    يمه المروحيات الله لا يجيبها راحت, اختفت, وطارت لبعيد..
واصلت الدق, وبعنف..
يمه شبيج؟ حتى أبويه مشى للجامع, صدكيني  ماكو شي يخوف..

**************

حتى الكلمات تعبت منا, لم يعد بوسعها أن تتحمل بؤسا كهذا, الأيام أرهقتنا وأصابتنا بحمى اللاشيء! نكدس الأحلام لكننا لا نلبسها, فهي تضيق وتتغير ألوانها بمرور الوقت وحين نضع أسئلة بريئة, تولجنا بمزلاج بابه مخلوع, التاريخ هو الآخر والذي لطالما أطال إصغاءه لصرخاتنا الحبيسة, شعر بحتمية الخيبة وهو ينفض يديه منا, لملم عباءته, وسحب نفسه من المعركة كدخان شفاف يتلاشى فور تجاوزه حاجز التراقي,هاهو يُسرِّح جميع موظفيه المخلصين, ويتعامل بكل إنسانية عرفناها منه حفاظا على أرواحهم النظيفة, تاركا مسرحه لثورات فاشلة وفوضى مستديمة, ترقص على آخر صوت انبعث من آلة تسجيل مستعملة..
شكرا أيها التاريخ, ستبقى ذاكرتك بلا لون في نفوس الآلاف من العراقيين, لقد وفقت وبكل جدارة في تصدير حريتك, حتى ضاق النهر ببساتينه, فعافك الأغنياء, والطواويس المريَّشة, والطبيب, والمهندس والفنان والمفكر والشاعر حتى بائعات الهوى وجدن فيك وطنا لا يضمهم.!!
الفلاح والعامل الفقير, العاطل عن العمل وكل من لا حول له ولا قوة فقط, هو من بقي متشبثا ببطاقته التموينية, وبقبره المحفور صرفا, أتتبارى مع العراقي وتساوم عليه أيها التاريخ؟ تبا لك, فقد أجهزت على أمله الوحيد في الحياة الكريمة, فوفرت له مخيماتك الإنسانية على طول الحدود, ووزعت عليه أوطانك المستأجرة بمستلزماتها المتواضعة, ابتدأت فينا وليدا, ربيناك وأحسنا تربيتك, لتلبث فينا من عمرك سنين..
سنون أنت نفسك لا تعرف متى تنتهي, كيف لا, وأنت تدخل في تفاصيل مآسينا وبدقة, تبعث بفرقك المتطوعة من كل مكان, محملين في مروحيات رمادية كلونك تماما, حاملين معهم تكنولوجيا لا يفهمها الفلاحون إلا عندما تُسجل لهم أسماء مفقوديهم, فتبادلهم بالصور والمستندات لتثبت لهم جرأة التصريح بموت عزيز غالي, لتنشر بينهم عناوين الجمعيات والمنظمات الإنسانية, والتي لا تفتؤا أن تفك شفرة بساطتهم ببعض التجهيزات الرسمية من أدوات حفر وأكفان وأكياس بلاستيكيــة مخصصة للجثث.. وتوابيت ونعوش ومعونات شهرية لذوي الشهداء وخرائط لمقابر جماعية اكتشفت ذات غفوة البابليين على جسر المسيب! وهي تبث روحًا مثقوبة بحب الوطن أكثر مما مضى !
وطن تغلف بؤسه إشاعات الحكومة المؤقتة, وهي تتحدث بجدية عن الأمن والأمان, عن الانفتاح على العالم الأخر ودول الجوار التي كانت عدوة فباتت صديقة, عن افتتاح المزيد من المدارس والمستشفيات والجامعات والمتنزهات وتشجير الشوارع الغير مضاءة بالكهرباء! عن افتتاح أربعين محطة فضائية, مهمتها فقط أن  تردح ليل نهار, مبررة حسن نواياها في إدخال السرور وروح التفاؤل على كل القلوب, أليس في ذلك حسنة! وعلى الجراح يحلو السمر.. تتحدث عن دولة القانون المتسامية في مشية طاووس متصابٍ قبيل الأحداث المعتادة مع زغزغة أول عصفور, مكتفية بمسح لعاب الذئاب, وتسريحها بعد موت العصفور ذاته المكافح عن مدينته الصابرة تتحدث, ولا تجيد غير الحديث والتصريحات الكاذبة!

التاريخ, كم تذكرني أغانيك التي صارعت بقاؤك باستماتة, كم تذكرني بخلود أصوات الأمهات المتحشرجة وهي تدق طبول الأمل بفرح موجع, تنادي بأعلى تكنولوجيا توصلت لها الأمهات العراقيات في زمن التحري الدقيق الغير محتشم وهي تنادي بآلتها الوحيدة والتي لا تشبهها أي امرأة في العالم, صوتها العميق المدفون في صخر صدرها الصلد, فعند أنفاق مظلمة يشاع بأنها سراديب تكدس فيها أفواج من المعتقلين, تتجمع عشرات النسوة الشرهات في الحزن فقط, مرة يطرقن الظلام في السراديب يالجبروتهن وهن يصرخن: يمه جيناكم.. جيناكم.. ومرة يغرسن صمتهن بذهول وبلادة في وجوه أُطفئت في عيونها أعقاب السجائر ودقت في جباهها المسامير مئة مرة, وجرت من خصيانها لأمتار, عيون شرعت مصيرها المحتوم لأكوام التراب, وقوافل النمل الأحمر التي بدت أكثر تشهيا بعد إحراق جلودهم بالأحماض الكبريتية, منتصرة على الذباب الذي كان ينوي ليلتها مهاجمة السرداب لكنه لم يفلح, لذا قرر في اللحظة الأخيرة, أن يتجه إلى قمامات  متنوعة في مشاربها ومآكلها, انتشرت خارجا في هواء طلق لا مثيل له, فقد بدت في زمن التحرير متعافية الشيء الكثير..
اللذيذ في الحزن, هو اكتشافهن لملامح مشتركة بين الضحايا الممزقين, ملابس طرية يعصرها العرق, وأفواه انفرجت إما عن تكشيرة استبسل فيها طهاة الألم,  ضحكات عميقة يبست على شفاه أبنائهم, وهم يلوحون بشهادات قبولهم في الجامعة أو البكلوريا, حيث كانت بمثابة رضا الوالدين عنهم في آخر لقاء جمعهم عند لائحة الأسماء المعلنة.. ليعُدن جذلات بشهادات عالمية في أفضل قصة حزن عرفها البشر, فيرخى طنين الأيام ستارته على فصلها الأول..

كم أكرهك أيها التاريخ, وأنت تشرح مأساتي في نشرات الأخبار, عجبا منك, تفضحني ولا تفضحهم, تبكي عليهم و لا تتباكى علي, هم يخرجون للعالم  يشربون كأس نخبهم وكأنهم بريئون من أي جريمة تذكر, وأنا لا أزال في تغطيتي الإعلامية مجرد حدث وتعليق.. نعم, فأنا منشغلة إما في تقطيع الأقمشة لأغطي بها عورات الفراشات المنشقة عن ضوئها, وإما في توزيع البطانيات الموقوفة على أجساد رميت على قارعة الزمن المتفرج, لذا خذ كاميراتك الثقيلة ومراسليك, واخرج إذا لم تستطع أن تفعل لي شيئا, لأني أكره أن يتفرج علي العالم, لأنه سيصمت برهة, سيستنكر, ويبعث ببرقية, برقية؟ زمن البرقيات ولى من زمان.. نعم سيصمت برهة, ثم سيدير المفتاح على رقصة هي أشهى عنده بكثير, من امرأة تلطم أمام جثة ممدة أمام عربة لبطيخ فقير, مسالم, هو يتفرج من أجل الفرجة فقط..
أكرهك لأنك غبي جدا, ولا تحسن التدبير, فأنت تصرف ملايين الدولارات لتوثق الحقيقة, ثم تعجز أن تقبض على الحقيقة نفسها, وتتركها تعربد في دمي, اللعنة عليك, اللعنة, اللعنة, اللعنة.. يمشي في جنازتي المصورون, المحققون, الصحفيون, المراسلون, يشهدون موتي, ومراسم دفني, وبكاء قبيلة أطفالي من بعدي, تهذي على الشاشة مبتسما, ثم تغادر إلى حدث آخر, وحديث آخر يشبه الحديث الأول, نفس المراسلين, نفسها الصور, نفسها التقارير, نفسها القصص, نفس الزمان, نفس المكان, أخباري كلها كانت عاجلة, شيئا فشيئا حتى صرت تتلذذ بطعمها المر, صارت عادية بتكراراها ومملة بالنسبة إليك, لكنك سيء الصيت والسمعة, لذا فإن مأساتي تصر على اختياري رهانا لبقائك, ولأكون ندا تقليديا للفرح, فرحت تخصص برنامجا أسبوعيا عني: العراق في أسبوع, من العراق فقط, الشارع العراقي, العراق إلى أين؟ حتى البورصة العراقية تدخلت فيها؟ الله أكبر عليك, وعليهم… أي بورصة تتحدث عنها؟ ونحن لانزال نكتب بالطباشير!!

أيها التاريخ, أنتَ المرايا التي خدعتنا, وغصت في كل الذنوب وبدفعة واحدة, من أجل عشبة محرمة..
أكرهك, ولا يشفيني منك, سوى أن تُجلد, أو تحطم, أو تَسقط كما سقطت أنا! لا أن تموت مثلي, لأن موتي شهادة, والشهادة كثيرة عليك, كثيرة جدا جدا, ولا تستحقها أبدا..
تسقط؟
مثلنا تسقط؟
تسرق المتاحف, والتماثيل, وأعضاء الموتى,  بعد أن تمعن في قلع أعينهم, وكسر أنوفهم, تقتل على الهوية, تقطع الطرق السريعة بالموت السريع, تهدد, تختطف, تزور, تبيع الذمم, ترمي المدارس, المستشفيات, والأحياء السكنية بالقذائف الصديقة! تُهجر, تستوطن, تمزق الصور, تمحو الذكريات.. تحول اللصوص إلى مجانين حقيقيين, متهيجون بنهم عنيف في سرقة كل شيء, والعبث بكل ما ينبض بالحياة, حتى المجانين لم يسلموا منهم, اغتصبوهم في العنابر.. ثم خلوا سبيلهم عرايا يجوبون الطرق والشوارع لأول مرة أحرارا مسالمين, يختطفون أبصار المدينة التي بدأ يسير أمورها ثلة من اللصوص المحترفين كومة من المجنونات العرايا التصقن ببعضهن البعض تحت صفصافة مهترئة, تدفئن في أحضان بعضهن البعض, احتمين من نظرات العقلاء بأمطار الأوراق اليابسة, ثم تغوطن على صحائف حديد من سيارت محروقة, كل شيء أخلي سبيله, الحناجر, البالوعات, الحيوانات, الحدائق العامة.. الحمقى تحولن إلى ثيران هائجة, تنفث من منخارين ملتهبين بالحقد والتمرد, لا يهمها أن تنهب مثلا سبورات المدارس, أو الطباشير, أو ملاءات أسرة المواليد, الأمهات بدأن في تغيير التقويم الشهري, لتصنعن تقويما جديدا يخصهن, يبدأ بالحبيب الذي مات أول الشهر, وينتهي بالحبيبة التي ماتت أيضا في أول الشهر, تلبس أسئلة اتفقت عليها جميع الأعراق, والطوائف, حين تنظر لبعضها البعض مجتمعة في حافلة نقل عام, أو مطعم, أو سوق شعبي, وفي عينيها سؤال واحد مرتاب: هل أنت مفخخ؟!
ثم بعد ذلك كله, تخلي سبيلنا لرعاة البقر, تدون أسمائنا في استمارات اللجوء والإغاثة, توقع عنا خيبة النهر المتفسخ عن جثة طافحة, تزرع بؤس اللعنات ثم تلعن من خلفت من البغايا والأحزاب والنواب ومجالس المحافظات, لأنها أحبت نفسها فقط, آمنت بالطاغوت وكفرت بالعراق ورب العراق..
أي نور وضياء ستخدعني به وأنا وحدي في الظلام والفراغ..
كم أنت بذيء! وصبري على بذاءتك نمَّ عن غباء هائل, لا يفرق بين حشائش مشاغبة على سفوح الضفتين, وشمس تغازل الماء ساعة الغروب ..
– ضفاف, أشعر بتنمُّلٍ في جسدي,  ساعديني, أمسكي بيدي, فأنا أفكر بالنهوض!
إلى هنا
***********

الرحمة؟
لا يفهمها أحد, ولا تستوعبها بهيمة ولا بشر, الرحمة غادرت, وحده القش الأصفر والطحالب نبتت مكانها ورميت في نفايات البهجة..
بغداد تصحو على نهار مدعوك بسائل الدموع اليومي وبأسى بطيء في نهايته, تتمايل أعناق حراس الليل والحزن.. حتى إذا تسلقت الشمس بأحذيتها الطينية رموشهم اليابسة من الملح, استيقظت فزعة كما نامت..
ما إن شرعت في فتح نافذة غرفتي, حتى شممت رائحة كريـهة جزمت بأنها لموتى طريين فكانت كذلك..  حيث انبعثت من شاحنة  للحوم وأطعمة مبردة مزخرفة بألوان زاهية, عناقيد جميلة متدلية, عنب أحمر وأخضر, أشجار برتقال ورمان وتفاح وطلح منضود.. ينابيع وشلالات جارية و بحيرات مسكوبة بجانبها خراف بيضاء سمينة تنتشر في المرعى الفسيح.. وقد كتب عليها بالخط العريض: ثلاجات فلاح سعد لللحوم والمواد الغذائية المبردة.
توقف سائقاها أمام بيتنا لبضع دقائق, متبادلا أطراف الحديث مع زوجي, يبدو أنه يعرفه منذ زمن, لم تطل بحلقتي, فقد خنقتني فكرة وجود الجثث في ثلاجة عطرية كهذه, أغلقت نافذتي وإلى أقرب مغسلة نكست رأسي كنت قد ملأتها غثيانا أصفر في غضون ثوانٍ معدودة.. سمعت ضفاف ما كنت أقذفه من حمم فأسرعت ويداها تعيدان إلي رعشة باردة, أسندتني على أريكة اتخذت من الزاوية مكانا لها, وبدت كأنها مُحتجَّة, مسَّدت بيديها الصغيرتين بطني المنتفخ وهي توزع قبلاتها البريئة على خدي البارد, لقد أخذت على عاتقها تطهيري من رائحة عبثت بمزاجي فقلبته, حضرت ماء ورد, وقليلا من الزعفران, وعلى عجل خطت به آيات قرآنية وأدعية على صحن صيني ثم غسلته بماء بارد وسقتني إياه دفعة واحدة, حاولت أن تغطيني ببطانية سميكة, لكني فضلت أن أُبقى صدري عاريا أمام نفحات بدأت تطوف بأركان روحي..
في كلمة واحدة استجمعت قوتي وقلت: يا رب!
موتى, موتى, موتى, يعيش الموتى النائمون, الصامدون, الفائزون, العاشقون, النادبون اجتمعوا هنا, لاطمو الصدور في عاشوراء, الراقصون الدابكون في أعراس الجيران والأصدقاء.. عاشوا, عاشوا, عاشوا.. !!

اختفت ضفاف في كومة ما ينتظرها من مهام منزلية, ليحل أبوها مكان ظلها اللطيف..
–    من يمتى وأنت تعرفه؟
–    من زمان, الخطية عاش طول حياته يتيم, جان يدور بأكياسه السودا في شارع الرشيد يبيعها, أبويه يحن عليه هوايه و يشتريها منه بسعر الجملة, مع انه ماجان يحتاجها, شوي شوي صرنا أصدقاء, وصرنا نتلاكا في شارع أبو نؤواس ليلية كل جمعة,الله على أيام زمان ياما جمعتنا روحات وجيات للحبانية والثرثار, الله شكد جانت حلوة بغداد..
نهضت من فراشي فزعة:
–    سوده عليه, جنت تشرب جاسم؟!!
–    دففضِّيها سيره لا تصيحي هيجي عليه, عيوني بالنسبة اليه جانت بيرة وبس صدكيني أما هو فجان شره جدا في شرب العركَ.
–    ولو!
–    المهم ليش تسألين عنه؟
–    ليش أنت ما شميت الي شميته؟
–    لا.. بس آني أعرف شيشيل بشاحنته
أشعل سيجارته غير مبالٍ..
جثث غير! شي منها كامل وشي منها أعضاء, عظام ملونة شي زركَه, وشي صفره, ونآآآت نفاثة ومصقولة بطعم مر يذوب بين الأصابع, جماجم مثل الوردة! إيييه راحت بعز شبابها, أولي جانت عشب أخضر, وصارت رماد.. شسوي بعد, هي هاي وظيفته ورزقة أطفاله, مو البيت والولد ينراد الهم مصروف, والحي أبقى من الميت مثل ما يكولون! تعرفي عفورة, كل يوم يشيلها من وإلى الطب العدلي ويوزعها على أصحابها, اليوم راح ينزل حمولته الجديدة في الحلَّة.
أطفأ سيجارته في المنفضة..
ثم تابع: بس تصدكين إني مثلج حنيت عليه, وبجيت من ودعته
–    ليش؟ خو شايفتك ما مهتم
–    ذكرني وجهه الشاحب بريحة عطر ما أنساها, جانت ترشها بنته الوحيدة- المرحومة رشا- ترشه قبل ما ننزلها لمعهد الفنون الجميلة, مو شميت العطر نفسه من ملابسه..
–    الله أكبر, شكد الدنيه حقيرة, يرمم ريحة الجثث؟ ياربي شكد احنا ذايبين بالحزن!!
–    وهسه تريدين مني شي؟
–    سلامتك بس لاتتأخر, اليوم غدانا سمج, كول لضفاف ترش عليه ملح كبل ما تطلع, دير بالك على نفسك عيني, فيما الله ,الله وياك..

ألقيت برأسي مرة أخرى على الوسادة, أي زفر يملأ المكان, جثث, سمك, وصبر متبل بخلطات سرية تقاوم تعفن المومياء..

***********

ساعات الفرح تمر عابرة وسريعة, لا تلبث حتى تنساها بنفس السرعة, بينما يتجشم الحزن بكبرياء ليتدفق عليك مرة واحدة, مستجمعا كل قواه وذاكرته المشحونة, غير آبه بما أنت فيه وعليه..
هل هي سنة الحياة؟ أم لا؟
وأي بشر يتحمل كل  ذلك؟
الشاحنة, صارت هاجسا يسكنني  وظلا يرافقني حتى في نومي, أصبحت  أحلامي بائسة, فهي تترنح كالموقوذة, والنطيحة, بل وبدأت في التردي من أماكن مرتفعة, حتى دب فيَّ اليأس من تحمل أيام لا أعرف ما تحمل غير المفاجآت غير السارة, لذا فكرت بتأجيل السفر لبعد حين, الحزن وحده من ينجح في معاركه, ويثبت نفسه, ينشأ ويترعرع بيننا, يأكل ويشرب من نفس الإناء, ويتصرف وكأنه أحد أبناء البيت, وسليل العشيرة العريقة, وجدته وقد تغلغل في أحشائي وكأني في أمس الحاجة لنهوضه على رجليه, لقد استجاب لي وقام مشمرا عن ساعدين متينين, محشوين بالحديد والمسامير, وبقايا من حكايات رهيبة وكهواة حفاري المقابر يلوح بكنز مفقود, وتاريخ مجيد, يرفع أكياسا تسمع منها قرقعة العظام العذبة, وهي تتلو آخر صوتا مر بين أسنانها المطحونة, بعضها كان يرسم عظَّته الأخيرة على شفته السفلى, والتي ذابت بمرور السنين..غير أن بعضها أبدى مقاومة شديدة لضربات أعقاب البنادق وهي تنهال عليها في ساحات الإعدام المكشوفة, فبقيت صامدة تزدحم عليها الصرخات.. صفير طاعن يسحق العويل, وكلمات معلقة من نقطتين تحت الحرف, وهي ترزأ في ناحية نائية عن الجسد خوفا ورهبة من الموت الذي حدق فيها في آن واحد, الحبال المتينة, وعصابات الأعين بقيت وفية جدا, في بقائها حارسا للجماجم الجميلة, حيث التصقت بأغشية وديعة ورقيقة جدا, فقد كانت صبورة جلدة, متأخرة في التآكل, مبرمة صداقة جديدة مع الخُوذ! لم تنسَ أن بعضها دفن حيا رغما عن أبيه, وأمه المكلومة, وزوجته الملتوية على نفسها كحلزون يابس, لم تنس بأن الشعوب التي كانت تدفن النحل, والثيران, والقرود, والكلاب, والقطط, والفئران كانت تدفنها في هيبة ووقار التوابيت الفاخرة, وفي مراسيم خاصة, لم تنس أن هذه الشعوب انقرضت للأبد, ولن تعود..

************

( الأموات يعلنون عن أنفسهم ) عنوانا عريضا لبرنامج تلفزيوني تبثه إحدى الفضائيات العربية بعد نشرة الأخبار الرئيسية.
طلبت من ضفاف أن ترفع الشاي, طعمه كنشارة خشب مغشوش, ويحتاج إلى (قوري) تخدير محترف, لقد أصابني منه مغص شديد.. البطاقة التموينية أصبحت سيئة للغاية,توزع مواد منتهية الصلاحية ونحن ما علينا إلا التسليم, والازدحام على مخازن التوزيع الفارغة –سيئة الصيت-
البرنامج لم يثر في اهتماما مادامت أسمع تلك الإعلانات اليومية  فاغرة فاها– طك بطك- وبكل أنانية ينتزع منا حق الميتة الطبيعية.. أغلقت التلفاز عن وجوه منافقة تجيد وضع المساحيق والبكاء كالتماسيح.. أغلقته لأتمدد قليلا, مرت ضفاف من أمامي حاملة في يديها مكنسة يدوية, ومنشفة, كانت تريد الصعود إلى دار جدها لتنظفها, فقد تأخر هذه المرة في الجامع كعادته أحيانا يفعل ذلك حين تروق له أحاديث الجيران من أصدقاء المشيب بعد أداء الصلاة قرأت في مشيتها مللا وامتعاضا فطلبت منها تأجيل الأمر حتى الغد, فوضعت ما كانت تحمله جانبا..

–    ما رأيك هذا الأسبوع أن نذهب إلى الزوراء؟ يقولون أن جزءا منها افتتح بعد أن جددوه ..
–    ولكني أريد أن أسافر معك إلى كربلاء لم أرها إلا مرة واحدة في حياتي, لماذا تحرمينني من مرافقتك أمي؟
–    عيوني ضفاف, جدك ووالدك في حاجة إليك ثم إني لن أطيل البقاء هناك, ضفاف (وراس العباس) الشوق يقتلني لأبي عبدالله, أعدك في المرة القادمة أن ترافقيني..
–    أمي ما قصة الأموات الذين يعلنون عن أنفسهم؟
–    عندنا, أم عندهم؟
–    وهل يوجد فرق في الموت؟ إنه يزورنا جميعا مرة واحدة في العمر, مرة واحدة فقط, ويختطفنا على حين غرة..
ابتسمت لأعتدل في جلستي, ضغطت على يديها الباردتين..
–    الأحياء هنا مشاكسون كثيرا, إنهم يضايقون الموت, ويزعجونه بتكرارهم الممل لذا فهو يريد التخلص منهم بأسرع وقت ممكن وبأي طريقة كانت, تزاحمه وتصعد من دقات قلبه, شهوة جلوسهم مثلا في المطاعم لأكل الكباب والطرشي, أو اجتماعهم في المقاهي الشعبية لشرب الشاي ولعب الطاولي وتدخين الأرجيلة, كما يقلقه كثيرا الإنصات لدبيب الحياة في عروقهم, وهم يسبون, ويلعنون على سجيتهم السمحة, يطلقون النكات, يضحكون, أو يرقصون, هو الموت الذي لا يريد لأحد أن يتربع عرش الهواء سواه..
–    لذا يختطفهم دون سابق إنذار..
–    بالضبط, إلا أنهم هناك يقدسون فكرة الموت, وكأنهم يقولون لنا: من قال بأن الموت ليس شيئا جميلا؟!! وحيث جاؤوا به إلينا, تركوه يصفق معهم بحرارة في أبهة عظيمة يتلو خطاب تنصيب رئيس جمهورية فلان, هل تعرفين أن في أمريكا مثلا تدر شركات الدفن وحدها وتنظيم الجنائز أرباحا سنوية ضخمة, إنهم ينفقون المليارات عليها, يجتمعون كل عام في مؤتمرات ومعارض تقام للدعاية عن التوابيت والأكفان والشواهد حيث يزورها ألآف الفارغين..
–    مؤتمرات, ومعارض ماما!!

ضحكت ضفاف هذه المرة بقوة, انفجرت, بل وأخذت تضرب بقدمها البلاط, لأول مرة تضحك بهذه الهستيريا العجيبة, أنا أيضا ضحكت معها وبدأت أدغدغ خصرها النحيل, تضحك أكثر, وجدتها هربت مني فاختبأت خلف المنضدة حتى رمت بجسدها الغض على سريري, استمرت في البكاء ضحكا, انزلقت من السرير, وما إن انبطحت أرضا, حتى وقفت, وبدأت أركض خلفها, متناسية أمر حملي, ركضنا, وركضنا, وركضنا… حتى خرجنا إلى عالم أوسع من المقابر التي تحتل بلادي, اختبأت ثانية خلف شجرة صفصاف عجوز, أعياني التعب, فألقيت بجسدي على مصطبة الحديقة, أخذت ألهث وألهث, شعرت بأن رحمة ما قد نزلت علينا, رحمة انتزعتنا من ارستقراطية الموتى الباردين, وحملتنا إلى هواء طلق نبذر فيه كركراتنا التي لطالما أجلناها طويلا, والتي نزلت من ثقب في أروحنا, في مشهد تسمع منه خرير الماء, وهو يخرج من مسام الحياة..
حدقت في عينيها الجميلتين, الناعستين, وأنا أضغط على كتفيها :
–    متى تكبرين, ويأتي اليوم الذي آخذ بيدك إلى الكرادة لأشتري لك فستانك الأبيض؟
لم تنبس ببنت شفة, وبقيت صامتة خجلة.. حيث ضجت في رأسها صورا مطبوعة للمستقبل..
–    حتى أكبر لا أريد سوى أن أتوضأ بوجهك أمي, غالبا ما تروض الحياة فينا فكرة الفرح, ولكن بمقابل!
ضممتها إلى صدري, وأنا أسمع اغترافها من نهر دموعي الفياض, دلوا تلو الآخر, وهي تسكبه على معصم الأيام..
آآه كم أحبك ضفاف.

*************

(الحياة تتمتع عندنا بطعم لا يمكن تذوقه في أي مكان في العالم, تعال إذا لتتذوقه معنا..) أيمكن أن يكون هذا العنوان العريض, صالحا للفوز بأجمل إعلان صحفي؟  ولم لا؟
إنها تنتصر أخيرا وترقص على نغم يخرج من مجروحين عتيقين قد لبستهم الندبات المتكررة ومسحتهم فرصة الخروج للحياة بشاش محنط عُقِّم من قارورة هدايا الأسلاف الأسلاف اللذين لا يتغيرون بمرور الزمن, مفرطون جدا في تشبثهم بسر الوجــود.. والتفرد حيث أبقوا النوافذ مشرعة على المقابر فقط, وعلى الحفارين اللذين لا ينقطعون أبدا عن العمل, شعارهم لا يتبدل أيضا( اللعنة على الخونة) كم تغنوا بها, فأعدموا وشردوا ونفوا الطيور إلى خارج السرب..
ثمة طيور آمنت بالحرية, بالقدر وبقضيتها الكبرى, أفرغت جمجمتها من كل الأفكار البائسة من الماضي ومن لصوصيات مديريات الأمن.. حاولت أن تملأها بأقداح صفت على المنضدة بشكل مستقيم وأنيق ومهذب وفي صحة الجمجمة رفعت الكؤوس وشربت, ثم أشعلت سيجارتها المحترقة, ملتصقة بفمها القاني غير مبالية بشرهها الملفت للنظر والدهشة معا..
أحد الطيور جرب أن يرفع جناحيه عاليا, حاول عبثا تحريكهما لكنه نسى أنه ما يزال رهن الإقامة الجبرية, أو رهن البطاقة الخضراء أو بطاقة اللجوء المعتمدة, يرفع صوته باكيا وهو يعفر خده الذي لم يحلقه منذ أسبوعين, يعفره في التراب وهو يصيح : أمي أنا بخير, صدقيني أنا في أحسن حال, أسكن في شقة أتقاسمها مع خمسة من الأصدقاء, حصلت على وظيفة لا بأس بها, راتبي جيد, وكل الخدمات متوفرة, بعد عام سأذهب بك إلى الحج, أشواقي.. ودعواتك أمي..
أخفى وجهه بين الأشجار وراح يخفق ويخفق…

هكذا كتبت على ورقة وجدتها ملقاة على منضدتي. أفرغت صوتي المكتوم؟ إذا سيفوز الإعلان! وريثما يعلنون عنه, اضطجعت على سجادتي في انتظار الصلاة..

لون اليوم هو لون البحر حين يسكن وصوته صوت فرخ طازج خرج للتو من بيضته, أحسست بألم أمه وهي تضع بيضتها الأولى, سمعتها وهي تتألم مثلما يتألم البشر وتقول بملىء فمها: آآه, حنَّ قلبي, فقررت مساعدتها حالا, أحضرت لها شيئا من الطعام والشراب الساخن, سخنت ماءً حارا وغمست فيه منشفة صغيرة, عصرتها ثم لففتها بمنشفة أخرى, حملت صرتي بعد أن خلعت ملاءتي البيضاء ثم لبست عباءتي, مددت رأسي إلى الزقاق الضيق لأفتش عما إذا كان الطريق خاليا, كل شيء هادئ كما يبدو لي, المتسكعون لجأوا إلى بيوتهم الضيقة هروبا من يقظة المحتلين والمجاميع الإرهابية التي لا تنام, حتى بعد أن وضعت الأشهر الماضية الحرب عن أوزارها, فقد عادت لتخوض لأسبوعين متتاليين معارك شرسة واشتباكات عنيفة انتهت بتهدئة مؤقتة  يتمنى لها العدو أن تطول, الشارع فارغ من كل شيء, لا ازدحام كما هو معتاد, لا شرطي مرور يسير المركبات ولا فوضى تذكر, اختفى صخب السيارات العابرة والحافلات وأبواق سائقي الأجرة اللذين ابتلعتهم مناطق أخرى من بغداد الواسعة, اختفوا و بدفعة واحدة حيث الأمان يبسط جناحيه صدفة أحيانا!!
حتى الأطفال الأبطال والذين عرفتهم المحلة ببطولاتهم الدورية في لعب
(الطوبه) اختفوا جميعا وذابوا في شحم الورشات القريبة ومحطات البنزين وكراجات النقل المتناثرة هنا وهناك, النساء أيضا المتوشحات بالسواد واللاتي غالبا ما يحملن في أيديهن أكياسا سوداء مملوءة بالحاجيات أو بقايا النفايات أو قناني البلاستيك الفراغة الشبيهة بالبالونات, جميعهن اختفين في زحمة الصمت الرهيب, طُعّم بالتوتر والقلق..
كل ما يوجد هو مصفحات أمريكية تشبر الشارع مرة, ومرة تقضم شرائح اللحم والخبز, أو تقرأ رسائل الزوجات في استراحة عجولة, قذائف الهاون باردة, ومبعثرة, أسلاك شائكة, رجال شرطة عراقية, سيطرات مشتركة, زناد ينتظر أن يحركه رأس مملوء بالحَبِّ الذي لم ينطحن بعد! يراقبوننا من خلف نظارتهم السوداء وأقنعتهم المضادة للرصاص, يفتشون, يدخنون, المهم أنهم واقفون, ومن أجلهم يسهرون!!
كنت ألحظ كل هذا وأنا على علم بوجود القناصة فوق السطوح, لم ألق بالا لأحد, لصق جدار بيتي مشيت وعبرت نحو زقاق آخر, كدت أنزلق في حفر أكل الزمن من إسفلتها, وأتى بالباقي على بلاطها المكسر, لكننا ألفناها وألفنا معها كل شيء ممكن: رائحة القمامات الزنخة والأكوام المكدسة على جنبات الطريق وفي أركان خربة تنتشر في كل زاوية ومكان, الفقر الذي أخذ يتمشى بكل عنفوان وجبروت وكأنه سيد زمانه, رافعا من أنفه, ملوحا بيديه إليك كل صباح ومساء وبدون خجل, راسما أخاديده العريضة وبؤسه المقيت في وجوه الرجال الأكثر بؤسا ومللا واكتئابا منه, حيث البطالة ترقص في الجيوب الخالية, مترنحون على جنبات الطريق, يشاكسون أو يمضغون العلكة, الأطفال الذين تركوا المدارس, واشتغلوا بهموم جديدة هي أكبر منهم, صدَّرها الاحتلال, فابتاعوها بصدر رحب! هموم جديدة مثل أن يحوز أحدهم على مسدس ليبيعه في السوق السوداء, أو يبيع في الباب الشرقي أدوية جنسية منشطة ومهلوسات وهو ينظر في حديقة الأمة الباكية على حالها دون أن تفعل شيئا تجاهه, الفتية الذين لا هم لهم سوى العبث في هواتفهم  النقالة وهم يتلفتون يمنة ويسرة, يرقبون كل عابر سبيل ضيع مثلهم الحلم والطريق..
صوت الأم, وهي تناغي فرخها الوليد, صار يثيرني أكثر, وأكثر, ويدفعني للمزيد من حث الخطى انسللت من ضوء شمس دبت في بهو البيت الدافيء,
أخبئ تحت عباءتي كيسا فيه دود ميت يوشك أن يتفتت, كنت قد جمعته من تحت شجرة اللوز     المحاذية لجدار بيتنا, أمسكت به جيدا كي لا يفلت مني ومضيت مسرعة كي لا يُفوِّت علي هذا المعروف عصفور آخر..
ما يمكنني أن أتذكره بعد إفاقتي, هو صوت القذائف الكثيفة, حيث قسمت الشجرة إلى نصفين متساويين, وكان من المتوقع أن ينقسم الفرخ وأمه أيضا إلى نصفين تماما كالأرجوحة التي تمايلت حتى استسلمت للقصف وانكسرت
فتحت عيني, وبهما غبش يشبه زجاج مبقع بالأوساخ, وضروك الطيور, كل شيء ساكن في مكانه, أبو وليد كان الوحيد أمامي, اقشعر جلدي منه فأنا أكن عدم ارتياح لهذا المخلوق, لطالما اشتكت لي زوجته منه, حتى معاشرته إياها ماكانت تنتهي دائما إلا بزعل, هكذا كانت تحكي لي عنه زوجته البائسة, منتزعا نفسه من جميع الوظائف البشرية ومسلطا نفسه مرشدا مُحصِّنا ضد الشيطان الرجيم وألاعيبه, كان يزورنا بلا مواعيد, يخرج بلا استئذان, يثرثر بكلام لا نفهمه, وإذا ما أراد أن ينهي الموضوع أنهاه بغمزة بذيئة وحاجب مقوس يأمرانك بالطاعة الكاملة وإلا لترفع التحية له بل وتصفق له أحينا, كثيرا ما يبصق على الأرض, يسعل وبشدة,  يحمل ملامح مخيفة وغير محددة, تعلو أسنانه طبقة صفراء وأخرى بلون البندق المعفن, مكشرا فمه عن سنين بارزين تستعيذ بالله منهما, بنهم يملئ المنفضات بأعقاب السجائر الرخيصة, يشرب الشاي المخدر كعطشان لا يرتوي, لا يشبعه طعام ولا مائدة, قصير محدودب وممتلئ جدا, صلعته تلمع كالبرق وتخرج منها رائحة قشور برتقال مشوية..
على الأقل كان المقعد صالحا للجلوس, والاسترخاء, تركت ساقي ممددتـين وبدأت أتنفس حيث تكومت على صدري ألف فكرة وفكرة.. اقتربَ مني, بلل وجهي ببعض الماء بعد أن سقاني قليلا منه, مسحه وأنا أنتفض..
ورطني في الكلام!
يداه مغزولتان باللحم والطراوة وروحه هبطت بسكون القطن المندوف على حشيش أخضر, أما ابتسامته فقد كانت مثل أوراق نعناع غمست أغصانـها في كوب ماء بارد..
لم أتلوث به! وأنا أمشي صوب الغيب بذبذبات غريبة, شق غموضها صوت ناضج من إحدى المدافع..
لمست منه بردٌ نفخه بعد أن نفثه وهو يتلو آية الكرسي بصوت خاشع حنون, أمرني أن أبقى في سيارته ريثما ترافقنا زوجته إلى بيتي, مشترطة عليهم عدم التكلم عن الحادث إلى أي بشر كان خصوصا زوجي!! بعدها سلكنا طريق العودة حيث كانت نسائم العافية والنهوض تسري في عروقي من جديد..
هنا رفعت بصري للسماء, لم أشأ أن أسر بذلك لأبي وليد, خفت أن أخدش موقفه النبيل: أنا مدينة لك!
نعم, تلتقي الأضداد لخدمة الحياة..
استقريت في فراشي الدافئ, وكأن شيئا لم يكن.. حشوة الكلمات والأسئلة صعدت للجنة في زيارة خاطفة..
يا لصباحاتي الكسولة, هل خسرت العصفورة والفرخ؟ لكنهما حتما في هذه اللحظة بالذات يستطيعان الطيران في وطن آخر..
ربي, شهوتها الطيران, والتحليق, وأنا شهوتي أنت, ألصقني برحمتك, ولا تفشي لأحد سرا بيني وبينك, كن مستودع أسراري يا الله..

*************

لم ينتبه أحد للكدمات فقد كانت طفيفة جدا, ضفاف كانت الوحيدة من أشعلت في حمى الأسئلة والتي كانت تلوكها مرتبكة وترفض إخراجها دفعة واحدة, كانت محرجة من أن ترفع حجبي التي أستتر بها حين أريد أن أكون في المكان المناسب, وفي الوقت المناسب دون أن يلحظ علي أحد شيء ما ..

( لا حول ولا قوة إلا بالله) أطلقتها ضفاف بزفرة طويلة..
– حلووووة حلوووووة منج هواي.. أطلقتُها بلذة عارمة, أمرر صوتي عبر أبواق مطلية بزيت الحنان سألتها:
ها شبيج عيني؟
–    يمه تعالي شوفي مي ماكو, هم المي انقطع من عدنا, مو كافي الكهرباء!
–    هسه ما صار أحد ينحسد ببغداد, ماكو فرق تسكن بالشورجة أو الدهانة, لو أور أو سبع قصور, كلنا سوه نشتري المي من السيارات الحوضـية ودجلة يفوت من تحت رجلينا..
–    هسه لو أحنا بالبياع لو الحرية مو جان أحسن ألنا ماما!
–    عيني  كلت لج ما كو فرق, هم هناكا نفس الشي خطية رجعوا للقرون الوسطى, بعض الناس صارت تحفر آبار ببيتها .. يالله قومـي قبل ما يخلص المي علينا عبي النا جدرين ثلاثة, والله يكتلني ابوج كتل اذا ما شاف الغده.. امشي

حملت نفسها سريعا, أنظر إلى مشيتها الثقيلة, إلى قدميها المتورمتين, ترفع من ثوبها قليلا, فتنكشف عن ساقين من بلور, تبسمت كنملة سليمان, أظنها وقد تخيلت نفسها بلقيس, وهي في لجة الصرح الممرد من قوارير, سليمان يكتفي بالنظر, وأنا أكتفي بالانتظار..

كانت فرصة ذهبية لتلتقي ضفاف ببنات الجيران, الصبية الذين وقفوا أيضا في طابور طويل.. رموهن بنظــرات مرتبكة وبأحلى الكلمات والأوصاف الغزلية…
الأطفال, الرجال وحتى النساء اصطففن في الطابور ذاته, الوجوه متشابهة, النساء يشددن على رؤوسهن عصابات سوداء, أكتاف متراخية معوجة, وملامح مطاطية, زفر,وريق مبلوع, تنهدات وأغانٍ جنوبية قديمة, سراويل مجعدة ومصبوغة, أبخرة أجساد تفوح, جوارب مثقوبة, وزنخة,آباط معرقة, البعض جر عربته التي ضربها أكثر من مرة ليزحلق عجلاتها الصدئة, آملا في تعبئة أكبر قدر ممكن من الماء حيث الطوارق تكثر في هذه الأيام…. يملأون براميلهم المتثائبة, وقدورهم الصلدة الجبارة, وبعض أواني الطبـخ المأكولة صدأ وملحا وسوادا, يملؤنها بالماء السخي, من صنبور مكسـور من الحديقة  المجاورة للحي, إنـه الوحيد الذي أعلن عصيانه على انقطـاع الماء المتكرر.. محتفظا بما هو أهم لسكان المحلة, غير مبالٍ برش الأزقـة القذرة حيث يزيدها زناخة قشور البصل والباذنجان وبقايا الشاي الأســود وفتات الخبز والمخاط المتيبس والبلغم الأخضر الطازج.. الدهشة ذاتها بدأت تبرد تدريجيا, لتصبح موروثا قديما يندثر بفعل الألفية الثالثة !!
الفضاء المُدمَّى والفجر الموشوم بالنهوض متأخرا بعد فوات الأوان, الشقوق المطلية بالطحالب, الجفون المغمضة خوفا وألما, الأسمنت المعجون بالأنين, والحمى..
كل ذلك منضدتي, ووسادتي, وملحفتي, ودواتي, وقرطاسي ونشيد الدنيا القصيرة الموحشة الغارقة في قهقهة التراب, ومناشير دجلة المتثائب على باب الجنة!
نعود ولا نعود, نكذب حين ندعي القول بأننا بدأنا عهدنا الجديد, وبأننا لن نلتفت إلى الوراء أبدا, وسننظر إلى الأمام فقط, كيف ودجلة اليوم داكـن, داكن, داكن؟؟ يخيط الدمامل والجروح بالملح؟ تمنيت لو مشيت اليوم في زقاق محلتنا لأتخبط في رائحة الدرابين القديمة, أتخبط في الطين الطري, وأدوس بقدمي الوحل وبقايا القشور,أشم رائحة الطبخ وأقول لصديقتي سارة: طبخ الخاتون يخبل, مو؟ ونسوة المحلة يرمينني  بماء الغسيل, وهن يرششنه على دكات البيوت الملتصقة, يثرثرن, يشتمن, يلُبن خلف أطفالهن, يضحكن ثم يصمتن لحظة الأذان..
تعود ضفاف, ولا تعود, يدمرني مشهد القدر الضاحك علينا, وهو يتأرجح بين يديها, حيث انسكب نصف الماء قبل أن تصل إلى البيت, كانت تخفـي خلف ملابسها قلبا يدق بقوة, ثقبه على ما يبدو شاب أسمر, أحرقت نظراته لون الشمس, وهي تجفف الندى من زهور الحديقة المُنقذَة!

****************

–    شعجب, وين صار أبوج لهسه؟
–    قبل شوي خابر من المحطة, يكول أكو شغل زايد وراح يتأخر..
–    صبي لجدك غده, وخلي زرده يمه هو يحبها, لاتنسي تحضري له بعد الغده استكانة حامض, عيوني ديري بالج عليه, هسه أريد أنام, زين…

شهيتي مسدودة, أسد بها مفاتيح الحديث, أتقرفص مثل سجادة مطوية, تسقط من جيبي حبات المصقول والزبيب, نسيت أن أعطيها ضفاف, فعمي يحبها كثيرا, وأنا اشتريتها له خصيصا من دكان الباشا, انكمشت مثل الزبيب, لا ألتفت , لا أدور, لا أنا, سوى الجثة الصامتة.. يناديني عمي من خلف الباب بصوته الرخيم: بنتي عفراء, ليش ما تغديتي؟ ما ترين مكروه إن شاء الله..
محتشم هو عمي في صوته, كفوضى الحبال الصوتية المحبــوسة! لم أرد عليه, فضلت أن أصمـت, افترشت خلو المكان, نزلت بيدي على بطنــي المكورة, وكأن قيدا قد حل منها, نور خفيف يشع من وراء الجلد الأصفـر, يخترق قميصا مرقط بزهور بنية صغيرة, أخذته من ذراعه لأبطحـه على صدري مباشرة, لصقي هو وأنا برمشي أضرب على الدفوف أغنية محمومة:

وبين الظِّلال
حطي بي يا غربتي
أو ارفعيني على القباب:
نوح حمامة
…….

أصابع رجليه باردة, أفركها بأصابعي, يبدأ في تحريكها فقدعادت لها الحياة, يضرب بها بطني جائعا, بهدوء ألمس حلمتي, أتحسسها شيئا فشيئا حتـى تكبر مثل عنبة حمراء, يعلو صراخه, لا يسمعه أحد, حيث تحوم مروحيـة فوق سطح بيتنا,أدفع حلمتي المتورمة في فمه المرتجف,يمصها بشره, يعض بلا ألم أشبعه فيتوقف فجأة معلنا عن ابتسامة بليدة, يحرجني و يجبرني على تبادل الابتسامات, ابتسم, فيبتسم مقلدا إياي, نتناسل من خلية ضحوك, يطلي جدران الغرفة بالحلوى, هو من سيرافقني إلى  كربلاء
أسأله وهو في طريقه إلى النوم: علاوي حبيبي مو؟ لو مومو؟
يبتسم مرة أخرى.. لقد ارتويت منه كمن يخرج من حوض الشفاعة, مبللا برائحة الكفين الشريفتين:
يارب ارزقني ولا تحرمني..

فجأة يدخل داري,بحلق في بطني المطور, فلمعت عيناه, وانزلقت مع أصابعي المدهونة بالزيت:
–    ها شبيج تخبلتي؟
ويا مين جنت تحجي؟
وألمن هاي الابتسامة الريانة؟
ها بطنك مكشوف؟
تفحصينه مو؟
تحبيه؟
خايفه عليه؟
لعاد ليش ترفضي تروحي ويايه للطبية ياعيوني, والله أمرك عجيب, أبويـه قال لي انج ما ذقت الزاد اليوم شعجب وطفلك اللي قتلتِ نفسج علمود تحملي بيه, ما يكسر خاطرج؟
ما يجوع؟
ما يعطش؟
عفورة حياتي, خلي هذيانك بعيد, وارميه بالنهر, هذيانج هذا ما جاب النا غير المصائب, عيوني ما اريدك تذبلين قبل الأوان أرجوك, ما باقي لي بالدنيه غيرج, وقدامج كم شهر حتى تولدين, لعاد قومي غسلي وجهك هسه واسكبي النا غده من ايدج الحلوة, يالله حبيبتي خلينا ناكل سوه..
تهت في نظرات عينيه, أنزلت قميصي, نهضت من رقدتي, لملمت شعري, رفعته, وأمسكت بجنبي الثقيل أتوكأ عليه, سحبت نفسا عميقا, ثم أخرجته بتؤدة, وضعت كفي على بطني, وأنا أطمئن علاوي بأن كل شيء سيكون على ما يرام, المهم أن لا يصغي لأحد يسخر منه, أريده ان يكون كخاله عادل, شجاعا وكريما..
أطفأ سيجارته, مستمرا في التصاقه كزئبقٍ لزج..
–    لا تنسي عمري, أريدك  تكوني جاهزة بعد الغده, اشتريت لك صابونا معطر مثل ما طلبت, ومشط جديد, أغراني قميص من الشيفون الأحمر, جان نصفه نايم ورى زجاج المحل فاشتريته لك أيضا ..
–    مو تتدلل!

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *