د. حسين سرمك حسن : هل يستفيد العراق من تجربة جنوب أفريقيا ؟

hussein sarmakمن وجهة نظري أرى أن كل مسؤول قيادي عراقي تُناط به واجبات إعادة اللحمة إلى نسيج الشعب العراقي الممزق ، ونقله من جحيم التعامل العنفي إلى رياض التفاعل السلمي ، عليه أن يقرأ هذا الكتاب : ( مراقبة الريح : حلّ النزاعات خلال انتقال جنوب أفريقيا إلى الديمقراطية ) لمؤلفته ( سوزان كولن ماركس ) والذي أعادت طباعته ونشره لجنة تنسيق المنظمات غير الحكومية في العراق كجزء من نشاطات حملة ” الحق في العيش بأمان ” والتي تشكل المرحلة الثانية من برنامج الحوار الوطني الذي تنفذه لجنة تنسيق المنظمات غير الحكومية في العراق بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي . ومما يزيد من أهمية هذا الكتاب الذي يتحدث عن معجزة التحول من العنف إلى السلام في جنوب أفريقيا ، وهي معجزة بكل المقاييس ، أن مؤلفته ( سوزان كولن ماركس ) تقدم تجربتها العملية اليومية التي عاشتها وهي تعمل من أجل تحقيق تلك المعجزة ، حيث تدخلت هي وزملاؤها بشكل يومي في الأزمات وتوسطت في حل النزاعات بين رجال الشرطة ومجتمعات السود والمجموعات السياسية المتناحرة والأطراف المتعادية في حروب التاكسيات ، كذلك بين المتظاهرين وقوات الأمن وبين الحكومة والشباب الغاضبين ، وقد تعرضت للعنف ولمحاولات القتل وهي تؤدي عملها . لقد عاش مجتمع جنوب أفريقيا حربا عنصرية طاحنة لعشرات السنين لكنه حقق المعجزة بعقد لتفاق السلام الوطني الذي أسهم ( على مستوى القاعدة الشعبية ) في مساعدة جنوب أفريقيا على سلوك طريق شديد الخطورة ومليء بالتضحيات للوصول إلى أول انتخابات ديمقراطية عامة في تاريخها خلال أربع سنوات ( 1990 – 1994 ) . لقد كان الدم والعنف يصبغ جميع مجالات الحياة في تلك البلاد ، ولم تكن kh sozan colin marxعمليات القتل والتصفيات والكره شائعة بين البيض والسود حسب ، بل بين السود أنفسهم خصوصا بين الكزوسا والزولو. وقد بلغ الشعور بالرعب وعدم الأمان حدّا – كما تقول الكاتبة – جعل الكثير من الناس يغادرون بيوتهم مساء ليقضوا الليل في الأحراش لأنها أكثر أمنا وانفتاحا للهروب عند حصول هجمات  عليهم تحت جنح الظلام ، ويعودون إلى بيوتهم نهارا . ( لقد امتلأت وسائل الإعلام بصور جديدة لفئات سياسية معارضة امتهنت أعمال التخريب والقتل . وتصاعدت وتيرة الجرائم والقتل السياسي وانتشرت العصابات ، وأُفلت الشباب المهمش من عقاله وراحت إفرازات الماضي الوحشي تفتح الطريق أمام أزمات لا نهاية لها . دخل العنف قلب الحياة في جنوب أفريقيا وتداخل العنف السياسي بالجنائي فحين يُقتل رجل من أجل امرأة يُقال أنه قتل في صراع حزبي بين المؤتمر الأفريقي وحزب الحرية أنكاثا . لقد اختبأ البعض في الغابات مفضلين متاعب الحياة البدائية على متاعب الأحياء والنزُل والعصابات ) . أمام هذه المحنة جاء اتفاق القيادات السياسية العليا ، والذي دشن بالقرار الخطير المتمثل في إطلاق سراح ( نلسون مانديلا ) ، ليمثل الخطوة الإبتدائية المفتاحية التي خرقت دائرة التابوات ، لكن لم يقيض لها النجاح أبدا دون العمل على مستوى الشعب . وهنا تقدم لنا المؤلفة برامج عملية تفصيلية في كيفية عقد الاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات بين الفئات المتعادية وإدارتها بنجاح ، كيفية بناء مؤسسات مجتمع مدني سلمي فاعلة وليست هامشية كما هو الحال عندنا ، كيفية إدارة أزمات العنف الدموية والسيطرة عليها حين تحصل ، كيفية حل مشكلات المهجّرين من أملاكهم ، والأهم كيفية بناء جهاز شرطة مستقل ومؤمن بحقوق الإنسان ولا يكون طرفا في الصراع المسلح كما كان حال شرطة جنوب أفريقيا الفاسدة التي وضعت لها برامج تفصيلية للتدريب والتعامل مع المجتمع يجدها القاريء في الكتاب . لقد كانت الفلسفة الأساسية التي قام عليها برنامج المصالحة في جنوب أفريقيا هو ماوضع في صورة شعار ثابت : ( من أجل تحقيق سلام دائم يجب أن نتخلى عن الشعور بالانتقام ؛ يجب أن نسامح ولكن يجب أن لا ننسى ) وهي المقولة التي ننسبها خطأ إلى ( نلسون مانديلا ) وهي لـ ( فنسنت ديبا ) القائد الأسود في حزب المؤتمر الأفريقي وقالها بعد إطلاق سراحه من السجن الذي أمضى فيه ، ظلما ، ثماني سنوات . وقد يقول قائل أن هناك اختلافات بين طبيعة المجتمع العراقي والمجتمع الجنوب أفريقي ، وهذا أمر صحيح ، لكن دائما هناك مشتركات بين المجتمعات . وتجيب المؤلفة على مثل هذا الاعتراض بالقول : ( لا توجد معادلة واحدة ، أو نسخة أو خطة ، ولكن في بعض الظروف ، قد يكون هناك شيء مشابه ، ربما يحتاج المنهج إلى أن يثنى قليلا دون ليّه ، إلى شكل ثقافي أو سياسي جديد . في عام 1999 جاءت بعثة من شمال إيرلندا إلى جنوب أفريقيا من أجل تعزيز التزامهم باتفاقية السلام ، كما ترأس أحد الأفارقة الجنوبيين إحدى بعثات الشرطة الإيرلندية الشمالية .. يمكن لتجاربنا أن تكون ملهمة . فالعمل الذي نقوم به في مكان ما ، والاتصالات التي نقوم بها بخصوصه يمكن أن تلهم الآخرين وتدفعهم إلى قول : إذن هناك طريقة أخرى للتجاوب مع الصراع ، السلام ممكن ، ويمكننا أن نصنعه أيضا . وهذا هو المكان الذي يبدأ منه هذا الكتاب ) .. وهذا ما نحتاجه في العراق .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

2 تعليقان

  1. سعاد الطائي

    سلام وتحية الى موقعكم الرائد وجهدكم الاداري المبدع
    اسمحوا لي ان اعلق على اقتراحكم في الاستفادة من تجربة جنوب افريقيا، ففي البدء علينا ان نتساءل هل يوجد في العراق منظمات مجتمع مدني ام اشباه ذلك، وهل يوجد رجال سياسة اصحاب خبرة سياسية ام اشباه ذلك. فقبل ان نحاول الاستفادة من نماذج حلول مطروحة لدول اخرى ارى انه من الضروري ان نتساءل عن خرائب سلسلة التراتبيات الاسرية و منظومات التعليم الهرمية وتصنيفات لغتنا الطبقية التي جعلت من مرجعيات اصولنا المكانية والمذهبية والدينية ناهيك عن لون البشرة والكيفية التي ننطق بها الكلمات والتي نحاسب عليها منذ نعومة اظافرنا لاننا ولدنا في احضان اسر تحكمها لغة ما دون غيرها وماعليك الا الامتثال اليها والاذعان لها فما يحصل الان لا يكفيه نسخ نموذج وانما التركيز على انجاز دراسات عميقة وابحاث تكشف اصول التراتبيات التي ساعدت كل من قيمنا ومعاييرنا واخلاقنا على تأسيسها وهذا هو بالضبط ما حصل ولا زال يحصل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في اوروبا عندما عكف الباحثون في مختلف العلوم الانسانية والاجتماعية لمحاولة الاجابة عن اسئلة كثيرة اهمها لماذا ظهرت النازية والفاشية وجرى احتضان مبادئها وافكارها دون مساءلة ولماذا كان هنالك استعداد مسبق لكل ما هو استبدادي فيها اذا لاحظنا بدايات تشكل اذهاننا ولساننا وسلوكياتنا نجد اننا داخل برنامج اعداد لتراتبية انفعالية قابلة لان تظهر في اي موقف يحاول ان يثيرها ويحثها على الاستجابة من بعيد او من قريب. في النهاية ما عساني الا ان اشكركم الشكر الجزيل لموقفكم الفكري الابداعي في محاولاتكم الدائمة لتشخيص مواضع الوجع والقهر فينا.

  2. شكرا جزيلا للأخت الفاضلة سعاد الطائي على هذه الملاحظات القيمة التي تصلح بذرة لمقالة مستقلة . إنها ملاحظات عميقة ودقيقة تثير لدينا الحاجة لمشروع وطني تعليمي تربوي سياسي وجتماعي يعيد بناء الإنسان في تراتبياته الإنفعالية – كما سمتها بدقة – المشوّهة والكامنة القابلة للتفجر في الظروف الملائمة كما حصل عندنا في ظل المتغيرات الأخيرة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *