إن فهم الإنسان لنفسه ومظاهر وجوده لابد أن يرتكز على دعامتين لا يتم ذلك الفهم إلا بتآزرهما هما العقل والتجربة، ولا يمكننا الادعاء مع الواقعيين بأن الواقع سابق للوعي ومحدد له، أو كما يدعي المثاليون بأن الوعي سابق للوجود ومحدد له.
بديهياً، لا يمكن إنكار الدور الذي يؤديه الوعي في فهم الواقع، أو دور الواقع في تشكيل الوعي الإنساني، وان كانت علاقة العلية بينهما ليس بمفهوم العلة الكاملة ، بل يمكن القول أن كل منهما علة لصاحبه بمعنى العلة الناقصة وليس بمعنى العلة التامة (*1)، فثمة عوامل أخرى تتفاعل مع التأثير المنفرد لكل من الوعي أو الواقع ليتم ذلك التحديد.
فالتجربة الإنسانية كانت، دائماً، وسيلة لاكتشاف المجاهيل وما خفي على العقل البشري أو عاملاً للفت النظـر إلى شيء لم يكن للعقل أن ينتبه لوجوده لولاها. لكنها، أي التجربة، ليست محددة للعقل، فالإنسان كائن حـر وليس ظاهرة طبيعية آلية تسيرها قوانين الطبيعة أو الغريزة، وله حرية الاختيار والسلوك انطلاقاً من فهمه لذاته ولحياته، وهو ما عملت التجربة بشكل أو بآخر على تحديده.
وفي الوقت نفسه لا يمكن للعقل النظري – وإن وضع القواعد والمعايير – التنبؤ بما ستؤول إليه التجارب، إلا من ناحية التوقع، أو أن يحدد الإنسان ويتنبأ بسلوكه بدقة، لأن الإنسان ليس نتاجاً للعقل فقط، بل هو في صيرورته، نتاج إشكالية أكبر مادام فيه العاطفة والأحاسيس والدوافع والرغبات والاتجاهات بأنواعها، ثم أنه ليس وحده في هذه الدنيا ليفعل ما يشاء دون تدخل الآخرين، وليس من المنتظر أن نجد من البشر من يدعي أنه قابع في حصن حصين يمنعه تأثيرات القوى الطبيعية والكونية بوصفها عناصر فاعلة في تحديد مسيرة الأشياء وظواهر الوجود.
هذا التفاعل بين العقل النظري والعقل العملي، بين العقل والتجربة، بين الفكر والعمـل،

بوصفه توازناً بين قوتين، من الممكن أن نجد في مجال الفن أحد مصاديقه الواضحة، عبر التفاعل بين التجربة الفنية ممثلة في العمل الفني وبين التنظير الفكري المجسّد في فلسفة الفن والجمال، عبر التبصر، عقلياً، بماهية الفن والجمال وضرورتهما، أو حتى بتحديد طبيعة العمل الفني التي تجب له، أو يجب لها. فان العلاقة العليَّة بين العمل الفني بوصفه تجربة محسوسة وبين ماهية الفن بصفتها مدركاً عقلياً مجرداً، هذه العلاقة ليست من نوع العلة الكاملة بل على نحو العلّة الناقصة، كما هو مبين آنفاً.
فعملية فهم وتحديد ماهية الفن وضرورته قد انطلقت من العمل ذاته وارتكزت عليه في بناء هيكلها. لكن العقل الإنساني، الذي ينطلق في تصوراته للوجود من مبادئ نظرية يلتزمها، كان قد حور ما استلمه واستعلمه من التجربة الفنية “الأثر الفني” حين استنطقه وأضاف إليه وشذبه، ليبلغ به إلى الحالة المثلى مادام الإنسان مجبولاً على حب الأفضل والأكمل. وفي الوقت ذاته فإن الإنسان حيث حدد ماهية الفن وطبيعته بخطوط دقيقة واضحة لم يكن الفنان، المبدع، ملزماً، بالضرورة، بشكل كامل بتلك الشروط ومحققاً لها في نتاجه الفني، لأن الفنان إنساناً تعتمل في داخله قوى عديدة من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه في محصلتها، هذا فضلاً عن العوامل والظروف الحياتية المؤثرة على ذات الإنسان، أضف إلى ذلك صعوبة تعامله مع مادة فنه وترويضها وفق التجربة الشعورية التي يحياها ويحاول التعبير عنها.
عموماً، يعد العمل الفني الأساس الذي انبنت عليه صروح فلسفة الفن. فقيمة الفن، أصلاً، مرهونة بوجود العمل الفني، مهما كان نوعـه، فقد اعتمده الفلاسفة والنقاد في دراستهم مستوحين وجوه الجمال فيه لتحديد طبيعة الفن وضرورته.
وليس من المستغرب أن يكون للأثر الفني تلك الأهمية في تحديد الوعي الفني والجمالي للأنسان، فقد أقرَّ كل العارفين في هذا المجال أن العمل الفني جهد واع هادف ونموذج من العمل الإنساني العظيم المتحدي المنتج .( ) وعلى مر العصور كان العقل والتجربة، في ميدان الفن، يتلاقحان ليتجسد ناتجهما في هذه المزاوجة والتكامل بين الحسي والعقلي.
والعمل الفني، بوصفه نتاجاً روحياً نابعاً من جوهر الإنسان، يعد على درجة عالية من الأهمية. فهو وإن كان ـ في جانب كبير منه ـ عبارة عن عملية خلق لمجموعة من العلاقات الصورية، إلا أنّه خلق يعكس ماهية الإنسان وقدراته الروحية والعقلية الجبارة، فنرى أنَّ الفلاسفة، تسليماً وتعزيزاً لقيمته، قد نأوا عن أن تكون قيمته محددة بالفائدة والضرورة. حتى إن الفيلسوف الألماني “كانت” بالغ في ذلك فردّ العملية الإبداعية في الفن إلى النشاط المجرد عن الغرض، المنزه عـن المنفعة، وأرجعه إلى نوع من اللعب الحر يقوم به الخيال ويقوم به العقل ، محاولا الارتقاء بالجمال الفني إلى مصاف الجمال الحر الخالص وتنزيهه عن مفهوم الجمال بالتبعية، أي الجمال المرتبط بمنفعة .

ولغرض تحديد طبيعة العمل الفني يتوجب، بدءاً، معرفة الوسط الذي يتحرك فيه النشاط الإبداعي الجمالي، فمادام الفن تجلياً محسوساً للفكرة فمجاله العاطفة والشعور وتقديـم الصور المحسوسة، لأننا في الفن في مجال ما يدرك بالحس والذوق ، ولسنا في مجال مـا يدرك بالقوة والمنطق . فكلا الشكلين (العلمي والشعري “الفني”) يحويان عناصر مشتركة من عالم الكون والطبيعة والإنسان، لكن معالجة كل منهما لها تختلف أو تتناقض. لقد عالج هذه المسألة الناقد الإنكليزي “ريتشاردز” فبين أن أربعة مجالات هي التي تؤلف ناتج أكثر التعبيرات الإنسانية( ) وهي: 1- الحس Sense وهو ملتقى مجموعة العناصر التي تؤلف مقولة الكاتب. 2- الشعور Feeling أو الموقف الذي يتخذه الكاتب مـن تلك العناصر. 3- النغم Tone أو موقف الكاتب من مستعميه، حيث ينظم ألفاظه بشكل يتناسب وتنوع هؤلاء المستمعين. 4- المغزى Intention، وهو هدف الكاتب أو الفنان، أو التأثير الذي يحاول – واعياً أو غير واع – إحداثه… ويختلف الناس فـي التأليف بين هذه المجالات حسب اهتماماتهم وطبائعهم، أما الكاتب العلمي فيضع الحس فـي المقام الأول، بينما يضع مشاعره ومشاعر الآخرين في المرتبة الأدنى، ثم يؤسس النغم على اصطلاح أكاديمي، ويبرز هدفه أخيراً بشكل واضح جلي. و أما الشاعر فيصنع من الحس أوضاعاً يوظفها أدوات للتعبير غير المباشر عن المشاعر والنغـم والمغزى. المهم هو التفاعل الداخلي بين هذه المجالات الأربعة أو عناصرها الداخلة في الأثر الفني أو النص الشعري ليكون المعنى قادراً على أن ينمو مع الحدث ليصبح هو نفسه حدثاً…
والفن بوصفه نوعاً من أنواع المعرفة أو “حدس”، كما قرره “كروتشه” ـ الذي ينفي أن يكون الفن مدركاً عقلياً أو مفهوماً منطقياً ـ نلاحظ أنه غدا مجالاً معرفياً خصباً ينتج عن اندماج الذات والموضوع ورفع الحواجز بينهما، وهو ما يمثل جوهر الحدس الذي يتطلب، في معناه، انعدام التمييز بيـن الذات والموضوع، على العكس من المعرفة المفهومية

والمنطقية أي في الصورتين الفلسفية والعلمية. فحقيقة العمل الفني عند “كروتشه” تنبع من الحدس أو الرؤيا أو قوة البصيرة المكتنزة بالامكانات النفسية الحقيقية التي يتمتع بها الفنان، أما كيفية تبلور هذه الخاصية في مادة محسوسة نحو اللون والصوت واللفظة،أي التعبير الخارجي لتوصيل البصيرة للآخرين، فيعدها ذات قيمة صناعية وليست من صميم الجمال، بـل هي تعين على تعيُِّن عملية الخلق. والبصيرة هنـا مرادفة للمعرفة، أي إن الفن في جوهره معرفة معروضة جمالياً أو معرفة جمالية ككل واحد لا يتجزأ، أو إنها مفهوم متحقق.
ويبدو أنه لا يمكن تحديد ماهية العمل الفني بالرجوع إلى أحد العوامل التي تساعد على تجليته سواء من حيـث الباعث أو التحقق أو الإدراك من قبل المتلقي. فالفن ليس عاطفة، وان كانت التجربة الشعورية هي المحك الحقيقي الذي يتوجب أن تستند إليها انطلاقة الفن القيِّم، أو نقول إن الفن فكرة أو متعة جمالية، بل إن العمل الفنـي نتاج يشترك فيه الوعي واللاوعي، للتوليف بين جميع عناصره ليكون في شكله النهائي شيئاً مختلفاً في تأثيره ومعناه عن كل أجزائه التي شاركت في إنتاجه.
ومادام العمل الفني إبداعا لشيء مغاير ونتيجة جهد مقصود من قبل الفنان، فالأولى القول بأن ((الفن خلق)) وليس عاطفة أو لذة أو فكرة، وليس هو كذلك تجميع لتلك العناصر فقط. وعملية الخلق هذه تقرها المدارس المثالية في فهمها للفن، إذ لا ترى فيه مجرد أداة للتعبير عن العواطف والمشاعر الذاتية فحسب بل إنهم يرون أنَّ العمل الفني، ومن أيِّ نوع كان، لا يصدر إلا ((عن تجربة خيالية أو حدسية تلتمس لذاتها ولا تهدف لغاية من ورائها، اللهم إلا ما في التجربة ذاتها من جمال أو لذة أو جدة، والفن عند هؤلاء ليس وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة، بقدر ما هو وسيلة لخلق صور وأخيلة وإحساسات تبعث على اللذة وتنشر الجمال للجمال وحده))( ).
إن مسألة استقلالية التجربة الفنية واكتفاء العمل الفني بذاته من دون أن يهدف إلى غاية نفعية أو أن يكون إشارة إلى شيء آخر خارج عنه، جعلت من الأثر الفني الحقيقي يتميز بوصفه رمزاً فنياً خالصاً مكتفياً بذاته على خلاف العلامة أو الرمز الاعتيادي الذي يتأسس على المنفعة حين يستعمل للإشارة إلى شيء خارج عنه. وهذه الصفة الاستقلالية للعمل الفني بوصفه رمزاً فنياً لا نفعيا هي من سمات الشكل الجمالي الهادف إلى الكشف عن الحقيقة الجمالية التي تعد أساس المتعة المتحققة فيه .
يدعونا هذا الموقف للتمييز بين معان ثلاث، وهي العلامة والرمز والرمز الفني؛ ليتسنى لنا معرفة القيمـة الجمالية للعمل الفني وتقديرها ومدى اختلافه عن باقي الاستخدامات سواء في مجال اللغة أو مواد الفنون الأخرى. فالعلامة غالباً ما تتمثل بمدرك حسي ينبئ بمدرك حسي آخر أو يشير إليه، أو إنها بصورة عامة، ظاهرة تشير إلى وجود ظاهرة أخرى وتنبئ بها، فالشوارع المبتلة علامة أن السماء قد أمطرت، ونلاحظ أن العلامة لا تقوم مقام الشيء الذي تشير إليه بحيث لا يتوقع أن تعامل معاملة الشيء المشار إليه، وهـذا على خلاف ما يحدث في الرمز، فالشيء يعتبر رمزاً لشيء آخر عندما يقوم مقامه أو يمثله؛ ومثل ذلك كمثل سفير دولة ما، فمع إن السفير ليس هو الدولة ذاتها إلا إنه يعامل نيابة عن الدولة وكما لو أن الدولة ذاتها موجودة وممثلة بالفعل. فوجود هذا الرمز “السفير هنا” قد أثار لدينا معنى كلياً هو الدولة بكافة مفاصلها ومن هنا نستنتج أنَّ الرمز جزء يقوم مقام الكل وانه مدرك حسي يقوم مقام مدرك كلي( ).
ويظهر، بناء على ما ذُكر، إن المعنى ليس صفة أصيلة سواء في العلامة أو في الرمز بل يتطلب الأمر وسائل توضيحية متفق عليها تؤهل العلامة أو الرمز ليقوما بدورهما سواء بالإشارة إلى الشيء أم بالنيابة عنه وتمثيله. أما في الرمز الفني فان المعنى متضمن في الخبرة المباشرة الملخصة في العمل الفني، وهذه صفة أصيلة من صفاته، على نحو المعنى الذي نأخذه من زهرة في حديقة، وهي إحدى القيم في الفن الجميل.

من هذا تتبين السمة الأصيلة للعمل الفني من انه ليس إشارة إلى خبرة خارجة عنه أو ممثلاً لتلك الخبرة الخارجية، بل إن الخبرة هي نفسها قارة في الأثر الفني وان الشكل الجمالي يحمل الخبرة تلك بوصفها جـزءاً أصيلاً من أجزائه. وبناء على هذا، نستطيع تعريف “الشكل الجمالي” أو العمل الفني الأصيل بأنه ((نتيجة تحويل مضمون معطي “واقعة حاضرة أو تاريخية، شخصية أو اجتماعية” إلى كلية مكتفية بذاتها))( ) وهذه الكلية ممكن أن تكون لوحة أو سمفونية أو عملاً أدبياً، قصيدة، مسرحية، رواية … الخ. والفن بوصفه كشفـاً للماهية الحقيقية للواقع، فأنه يغدو كلية مكتفية بذاتها من جهة، ومن جهة أخرى يقف العمل الفني في مقابل الواقع القائم وفاضحاً له. لذا فالشكل الجمالي يمثل “الاستقلال الذاتي” للفن عن “المعطى”، وهكذا يمارس الفن تحديه للواقع القائم الزائف، ووسيلة هذا التحدي تتمثل بخلق عالم خيالي يكون مع ذلك أكثر واقعية من الواقع نفسه.
إذن، يتضح لنا معنى القيمة الجمالية القارة في العمل الفني نتيجة تآزر سمات وخصائـص معقدة ومتداخلة أدت إلى تجسيد الشكل الجمالي بهذه الصيغة المكتنزة بالخبرات الفنية الخلاقة التي هي بدورها كانت السبب فيما بذله ويبذله الفلاسفة والمعنيون من جهود لاستكناه أسرار الاثر الفني والعملية الإبداعية الفريدة التي يمثلها ذلك العمل. والأمر ذاته يمكن ملاحظته في مجال الأدب فان النص الأدبي كان وما يزال هو المحور الذي انطلقت منه جهود المنظرين لغرض معرفة طبيعة الأدب وشروطه الإبداعية. إنه محاولة الإنسان، لتصوير الإيقاع الذي يتلقاه من الوجود في صورة جميلة موحية. والأديب شخص ذو حساسية وقدرة: حساسية تلتقط الإيقاعات الخفية، التي لا يلتقطها سائر الناس. وقدرة، تحول الإيقاعات، التي يلتقطها، إلى لون جميل من الأداء، فهو يشبه جهاز الاستقبال اللاسلكي، الذي تحس صماماته بالموجات الدقيقة الخفية، فتلتقطها وتكبرها حتى تتحول إلى صوت يهز الأسماع ( ). ومنذ “أرسطو” الذي أكد إن الأدب محاكاة الإنسان للطبيعة ومثله بقية الفنون، فإننا نلاحظ أن كل تلك التحديدات قد استنبطها النقاد من الأثر الأدبي ذاته كمنطلق تخصبه الجهود العقلية وتغنيه. بيد أننا نرى تعاريفهم التي وضعوها للأدب تتركز في جوهرها حول مفهوم النص الأدبي، بحيث يمكننا القول بأن الأدب ((هو النص الإبداعي الذي يحمل تجربة أديب ما بلغة مختارة يحملها الأديب الإحساس الصادق والعاطفة العنيفة والصياغة الفنية للشكل الأدبي شعراً أو نثراً))( ).
إن التجربة الشعورية هي أساس العمل الأدبي الذي ما أنشئ إلا للإفصاح عنها جمالياً “أي وفقا لشروط الجمال الفني”، فبإمكاننا تحديد طبيعة العمل الأدبي بوصفه ((التعبير الموحي، عن تجربة شعورية))، ويمكننا ملاحظة اشتمال هذا التعبير على الأركان الأساسية التي يتحدد بموجبها العمل الأدبي الحقيقي، من حيث الطبيعة والشروط والموضوع. فطبيعة العمل تتحدد بـ “التعبير”، والشروط الفنية للعمل تتحدد في كلمة “الموحي” أما موضوع العمل فيتحدد في إطار “التجربة الشعورية” ( ).
ولما كنا في الفن في مجال ما يدرك بالعاطفة والشعور والحس وليس في مجال المعرفة المفهومية والمنطقية، فليس هناك من داعٍ إلى تصنيف المواضيع إلى ما تصلح للعمل الأدبي وأخرى لا تصلح، وإنما مناط الحكم هو نوعية الموضوع ونوعية التجربة ،أ هي ذهنية أم شعورية. أي النظر إلى الموضوع بمنظار العاطفة والشعور وليس بمنظار “الذهن”، فحيث أن الأدب، بوصفه نوعاً من أنواع الفن، في جوهره “أسطرة للتجربة” فلا تستقيم معه إلا اللغة الأسطورية، حيث أن ((الإنسان يعيش في عالمين، عالم الحقيقة والواقع أو المحيط الموضوعي ومنه تتطور لغة منطقية Logical Language تعبيراً عن الحقيقة والعقل، وعالم الخلق والإبداع أو عالم الفن ومنه تولد لغة أسطورية Methical Language تعبيراً عن الأمل والرغبة والمعتقد والخيال))( ).

ولا يخفى إن اللغة الأسطورية هي لغة الوجدان والمشاعر بالدرجة الأساس والتي تختلف عن لغة العقل والمنطق. يتبين إن العمـل الأدبي بوصفه تعبيراً عن موضوع ما، لا يتم له ذلك إلا بعد أن يدخل ذلك الموضوع في مجال الشعور الحار ويصبح تجربة حية مؤثرة . فالعمل الإبداعي لايمكن أن يستوي كيانا محسوسا ومعتبرا ما لم يمر بثلاث مراحل:استشعار التجربة وانفعال نفس المبدع بها،ثم اختمار ونضج التجربة نتيجة معاناتها في الوجدان،ثم التعبير عن هذه التجربة في صورة فنية مؤثرة. وهذا التأكيد على قيمة التجربة في تحديد معنى العمل الأدبي هو عينه ما جرى اعتماده لتحديد معنى القصيدة؛ يحدثنا “أ.أ. ريتشاردز”، بان كل المناقشات النقدية لتعيين معنى القصيدة لا تخرج عن أربعة معان، فقد نقصد بحديثنا تجربة الفنان نفسه، أو تجربة القارئ المثقف الذي لا يخطئ في فهم واستيعاب القصيدة، أو التجربة المثالية أو المتقنة لقارئ ما، أو تجربتنا الخاصة الفعلية، ثم يخلص إلى أن أفضل الحلول الممكنة هو أن تعرف القصيدة بأنها تجربة الفنان( ).
فهذا التأكيد الشديد على إن تجربة الفنان هي معنى القصيدة، يمثل في جوهره أساس النظرية الشعرية التي أنبنى عليها المذهب الرمزي وان اختلف هذا المذهب من ناحية الطرق والأساليب التي يعبر بها عن هذه التجربة. فالمعلوم إن التجربة في مفهومها تمثل الانعكاس الخاص للموضوع أو الحدث في نفسية الفنان وما تثيره من مشاعر وانفعالات وأفكار ورؤى هي بالضرورة لا تتشابه عند أي شخصين يمران بالتجربة ذاتها بفعل اختلاف أمزجتهما ومفاهيمها للحياة فضلاً عن الاختلاف في الوعي وأساليب التعامل مع الواقع، فكإن التعبير عن التجربة هو بعينه التعبير عما يحدثه الموضوع أو الواقعة في نفس الفنان مادام الناتج هو وجهة نظر الفنان الخاصة. من هذا الفهم كان “مالارميه” يؤسس النظرية الشعرية الجديدة المتمثلة في الفن الرمزي بأنها ((تصوير الأثر الذي يحدثه الشيء، لا الشيء نفسه))( )، أو بمعنى آخر: إن وظيفة القصيدة نقل الإحساس بالتجربة وليس التجربة.
ويمكننا، انطلاقاً من عبارة “تصوير الأثر” التي جاءت في كلام “مالارميه”، أن نحاول تحديد الاتجاه الذي يمثل الأدب عـن الاتجاهات الأخرى. حيث يمكننا تصنيف الاتجاهات الأدبية في نوعين، النوع الأول: الفكري، الذي يسعى من خلال عرض تجارب جزئية للوصول إلى نتيجة فكرية من دون أن يحاول نقل انفعاله إلى الآخرين، والنوع الثانـي: الشعري، الذي لا يهمه الاستنتاج، بقدر ما يهمه نقل انفعالاته إلى الآخرين، حتى يعيشوا مشاهده وتجاربه كما عاشـها.
يتضح أن النوع الفكري، ليس من الأدب. لأن عنصر التصوير الذي يرتكز عليه الأدب الحقيقي لا نراه فـي هذا النوع بل نجده متجسداً في النوع الشعري وهذا ما يجعله ممثلاً للأدب الحق. المهم أن الشاعر حين ينقل إحساسه بالتجربة أو الأثر الذي يحدثه الشيء، فإنه لا يعمد إلى النقل المباشر التقريري لأن هذا ليس من الفن بشـئ، بل هو يسعى إلى التعبير عن مشاعره وأحاسيسه عن طريق الصور المعتمدة على عناصر حسية مادام الفن، والشعر بالذات، هو تفكير عن طريق الصور وليس وفق قوانين الكلام المنطقي المتسلسل العبارات الواضحـة والبسيطة والتي لا تحمل من هدف سوى التوصيل دون تحقيق أي بعد جمالي مثلما نجده في القصيدة التي هي، في جوهر كينونتها، ((خلق كلي وكائن عضوي في ذاته))( ).
والصورة التي يبتدعها الشاعر ليس بالضرورة أن تكون هي ذاتها ما بداخله من عواطف وإحساسات بل مـن المفترض، كما هو عند النقاد المشهورين، أن تكون قد صيغت بطريقة يتوجب أن توحي للقارئ بالإحساس الـذي استولى على دخيلة الشاعر المبدع. ومن هنا فقد جرى اعتبار العمل الفني جهدا واعيا وهادفا يرمي خلق تأثير إيحائي عن طريق ما أسماه “اليوت” بالمعادل الموضوعي. ولعل خير توضيح لحقيقة الشعر وللمعنى الصحيح للمعادل الموضوعي وما يقصده “اليوت”، هو قوله ((إن الشعر في حقيقته هو مجموعة من النماذج تعادل في موضوعيتها مشاعرنا العاطفية، وهذه النماذج – هي – في عمومها – من صنع الفكر المستحضر لشمولية التجربة الإنسانية))( ).
ويبقى الأساس في الإبداع الشعري أن تكون القصيدة كلاً مستقلاً بذاته، واقعاً مغايراً في مقابلة الواقع القائم، أن تحلق من دون أن تلحق بها شوائب وارتباطات من عالم الرتابة والأعراض، أن تصبح القصيدة في حد ذاتها عبارة عن ماهية تنعكس وتتجسد في مخيلة وفكر المتلقي من خلال الصور التي صيغت بها. على الشعر البحث عن الجوهر ، أن يتحقق فيه ما يجب أن يكون وليس ما هو كائن. وهذا الذي يجب أن يكون بالتأكيد سيبدو شيئاً مغايراً لما في الواقع، لذا يجب أن لا يبنى على ذات الأسس الراسخة في الواقع الكائن والذي لابد أن يكون زاخراً بالانحرافات. وعلى هذا كان مطلب إستقلالية القصيدة كعالم قائم بذاته، وهذا قمة المطالب الفنية التي يمكن أن تكون عليها القصيدة لكي تتحقق فيها القيمة الجمالية الحقة، لأن المعجزة القصوى ( ) التي تحققها القصيدة هي في تحقيق اكتفائها الذاتي، فالكلمات تفقد معانيها ومضامينها المألوفة إذ تنفصل عن العالم الذي نشأت فيه، وتقطع كل القيود التي تشدها بها إلى الوراء. آنذاك تصير قادرة على أن تصعد نحو ماهيتها، صعوداً أفلاطونياً، مبتعدة عن أشكالها العرضية.
هوامش :
*1) العلّة التامة: ما يجب وجود المعلول عندها، وقيل العلّة التامة جملة ما يتوقف عليه وجود الشيء، وقيل هي تمام ما يتوقف عليه وجود الشيء بمعنى انه لا يكون وراءه شيء يتوقف عليه.
العلّة الناقصة: بخلاف ذلك. ((التعريفات: ص154)).
( )ينظر: فلسفة وايتهيد في الحضارة- أ.هـ.جونسون- ترجمة: د. عبد الرحمن ياغي- المكتبة العصرية، صيدا، بيروت- 1965، د.ط: ص103 ،و في الادب الفلسفي : ص 69 .
(2ينظر: جماليات المعنى الشعري؛ التشكيل والتأويل – د. عبد القادر الرَبّاعي – المؤسسة الغربية للدراسات والنشر – ط1، 1999. : ص ص49-40
3)فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ـ د. محمد زكي العشماوي – دار النهضة العربية للطباعة والنشر، د.ط، د.ت. : ص189.
4)ينظر: أسس التربية الفنية – د. محمود البسيوني- دار المعارف بمصر – ط3، 1961: ص ـ ص 246 ـ 251.
5) البعد الجمالي – هربرت ماركيوز – ترجمة: جورج طرابيشي- دار الطليعة – بيروت- ط1، 1979: ص17.
6ينظر: العمل الأدبي- السيد حسن الشيرازي – بيروت – 1980، د.ط. : ص216 .
8)النقد التطبيقي- د. داود سلوم، د. عناد غزوان- جامعة بغداد، كلية الآداب- 1989 : ص20.
9ينظر: العمل الأدبي: ص11.
10التحليل النقدي والجمالي للأدب- د. عناد غزوان – دار آفاق عربية للصحافة والنشر، بغداد- 1985، د.ط: ص66.
11ينظر النقد النفسي عند أ.أ. ريتشاردز – د. فايز اسكندر – مكتبة الأنجلو المصرية- د. ط، د. ت: ص 5، 25، 53.
12عصر السريالية – والاس فاولي – ترجمة: خالدة سعيد – دار العودة، بيروت- 1981، د.ط: ص 63-64.
13الفنون والإنسان؛ مقدمة موجزة لعلم الجمال- إروين إدمان- ترجمة: مصطفى حبيب- مكتبة مصر- د.ط، د.ت: ص64.
14فائدة الشعر وفائـدة النقد: ص 16، 17.