( ليست الحداثة أنْ يكتب الشاعر قصيدة ذات شكل مستحدث ، شكل لم يعرفه الماضي ، بل الحداثة موقف وعقلية ، إنها طريقة نظر وطريقة فهم ، وهي فوق ذلك وقبله ممارسة ومعاناة *) اختار الكاتب حميد المختار في مجموعة (فصل في العشق ) قصيدة الومضة في أغلب نصوصها ، لتفي بإيجازها وتكثيفها ما يبغي قوله ، وقد تميز الكاتب الكبير بأنه عبّر عن أحاسيسه بإيجاز أوضح من خلالها أدق الجزيئات المخبوءة ، بينما نرى شعراء القصيد تكون القصائد الوجدانية اقل مستوى وابخس تعبير عما يختلج بين الجوانح من القصائد الوطنية مثلا ، لقد كانت الكلمة صادقة ، وعارية دون أردية . وفي القسم الثاني منها بث مكابداته ولوعته في عمق مقدساته ومعتقداته ومُثله ، وسُمو خلقه ، مما دعاني أن ألج مجموعة ( فصل في العشق ) من خلال هذه النصوص لأظهر ما تفيض به عن – مثل أعلى – حيث يقول :
واليك أبث الوجد
واكتب في الخلد
قصائد حب في أزمنة الوأد
(مازال الموروث المقدس تحرسه الروايات وهيبة الماضي وخيبة الحاضر والطموح بمستقبل يشبه الماضي ، ولقد بلغ من القداسة حدا غير معقول )، فمن نظرتي إلى هذه المفردة ( المقدَّس) أجدها منوّعة تتجاذبها عوامل ونوازع نفسية وعواطف ، وهناك تقديس عن دراية وحكم عقلي ،إعتمد المُقدِّس فيها على مقدار عظمة العطاء أو الإعجاز والتماهي ، وتؤثره بشروط اللانهاية في الوصول إلى درجة المقدَّس . وأحيانا حب أعمى وترغيب بحكم التأثير، وتعلق من موقع الشهرة ، (ولما الماضي يعيش معاصرا بكل ازدهاره ولأنه- أي الماضي – يتخذ من خيال الشاعر وطنا ، ولأن رفعة ذلك التراث تصل أحيانا إلى حد القداسة ، نجد الشاعر يفتش في ماضي أمته عن مستقبلها أو عن مستقبله الشخصي *):
أيها العاشر الأخير
دمك نجوم .. ووجهك أفلاك
ويداك قارتان من الألم ..رأسك هيولي
وقدماك ساريتان للعرش
أيها الكون النائم في سِّم الخياط
اخرجني من جوف الآبار
فثمة من يترصدني على الناصية
ياسيدي
أحيانا التشارك في ما وقع على المقدَّس ذات الفرد فيرى فيه إنه وصل الى قمة الإيثار والتضحية التي ينشدها ، ولكنه أقل شأناً لبلوغ ما وصل إليه ، فيرى نفسه عاجز واهن القوى ، لذا تراه يمجّد مآثره بإعتزاز فوقي ، كحب العلاهيين لعظمة علي بن ابي طالب (ع) والتي وصلت التأليه ووصفه بالمُعْجِز. واحيانا لتبعية الشاعر في خدمة العقيدة التي يؤمن .. يقول عبدالرحمن منيف :(هل يستطيع عد كبير من المثقفين أن ينكر إنَّ الصلاة وراء علي أثوب وان الأكل على مائدة معاوية أدسم ، وإنهم يفعلون ذلك*) هنا يقول المختار:
على سفرة واحدة مع الغياب
اصنع حباحب من روحي
أنا شوط فان
سفرداشيتي جنود وبدو ولصوص
كلهم يقتفون آثامي
ويعلقون حيواتهم بالسنة النار
الإنموذج في أن يرى الشخص الشاعر أنموذجه غاية الشرف والرفعة والسّمو في عالم الدنيا المهيب ، ومنزلة الأثر عبر العصور ليصبح مثلاً أعلى ، ودائما يكون المثل الأعلى تراثياً (مؤكد ان الإسلام قلّص من حجم العنصر السحري والإسطوري الذي انسرب في هذا النموذج الأصلي للشاعر* ) لكن المختار يرى السُمَّ الذي سقي به الإمام موسى الكاظم (ع) رسم خلوده على صفحات الزمن :
لم يكن سُمّاُ
هذا الذي تناوله السجين
انه إكسير حياة
وخلود
أما الحب فهو الشيء الوحيد الأقل عشوائية في الوجود ، لأنه المُصلح بلا وعظ ولا أوامر كتابية وقوانينه لا إرادية ، فعين المجد لا تعرف سوى رأس القمة . وقمة كل شيء منتهى الغاية. لكن الشاعر الصادق غير معنى بأسباب النجاح التي أوصلت الشاعر الأول ، فلا يمكن أن يتكررالنجاح مع المتأثر لأنه يبقى هدفاً يُنشد فعملية نجاح وشهرة الماضين تبقى سلالم دوافع لأفكار وجهود الباحثين عن الشهرة ونيل المجد . ولي وقفة مع الشاعر أو الأديب حول نوازعه وخلود شخصيته عبر الزمن ، وما يترك من أثر مذموما أو محمودا ،بأن تيجان المجد المُهْدات تأتي عن تنازلات عظيمة تغلفها الدسائس الكبيرة والظلم من اجل الإطاحة بالمنافسين ، وانقياد لرغبات وانسياق لنزوات رذيلة أمّا المختار ناشدا تيجان مقدَّسِهِ دون الإلتفاته لكل الأصوات :
إنني أشمُّ رائحته في أنهاره الراحلة
وفي عتماته بالغة الضيق
أشمّه في أنينه المتواصل
وجسده المتصل بظلال موته
للزمن تأثير كبير في العشق والتقديس وأنا مع الزمن يعيد نفسه . اذاً لابد من وجود رمزاً يحتذى به ، نجد التهتك القيمي بالمجتمع طويل النجاد فقطع حبل الترابط الأسري وتناثر العائلة ، وأصبحت الأسماء المشتركة بالأسماء فقط مجردة على هوية الأحوال ، تتنامى أشجار المنافع متسلقة على معاني الإخوة وتجسيدها في شخصية الأخوة الحقة التي أبداها أبي الفضل العباس (ع) حينما امتلك الماء ، وهو غاية في واقعة ألزمت كل عواملها – من حرب طعان وجراح وثقل حديد وحرّ لصيف لاهب وتعب نزال – مع برودة الماء وهو غاية المقاتل في تلك الساعة ، وعملية حمله بكفّه إلى فمه وإلقائه لإيثار النفس العظيمة ، لمعظم الرابطة الأخوية الصادقة ، إن تترك عبر كل زمن ودهر إنِّ الإخوة ليست شعار بمقارنة الواقع المعيش لذلك يكون مثلا أعلى :
لم يشرب من الماء
قطرة واحدة
فقد أيقن
إنه يقف على نهر من الدموع
………….
وقفوا على ضفة الشريعة
هو والسيوف تصده
والأفق رايته الصريعة
ذر رماد الضغينة وبعث رياح الحقد من هوّة سحيقة قي بؤرة الماضي المكفهر ومحاسبة المتأثرين على إنهم عوامل لديمومة المثل الأعلى ، لمن أراد محقه دون جناية لمجر تمسكهم بحب يعتقدون به ، أنه حبل النجاة في الفوز بمرضاة الخالق وكبت المعتقدات و العقائد التي لا يمكن ان تتغير مهما بلغ الفرد في تطوره وثقافته ، يقول الشيخ الدكتور الوائلي (رحمه الله) : (كل شيء في الكون ممكن التغيير إلاّ العقائد). إعجاب الشاعر برمز لا يتكرر وهذا يأتي من إن المقدِّس يحمل له تبعية عقائدية و انتسابية ومذهبية ، لنسمعه:
احمل الحسين كقمر على خضرة مجفلة
وامسك بالكفين المقطوعتين
فأزرعهما في الحديقة
وأية حديقة تسع كل هذه الكفوف
النهضة الكونية التي سطرها الحسين(ع) بمناهضة الظلم ،أصبحت عالمية الخلود ومثل يحتذى به من قبل القادة هم بعيدون كل البعد عن مناهل الوِرد . وإنما اتخذوه منبرا لبلوغ آية الجهاد العظمى ورفع الظلم والإنتصار الدائم عبر العصور وتحول المثل الأعلى إلى أسطورة لكي ينشد أو يتمثل به أحرار العالم وأساس متين لبلوغ تاج التحرر كما فعل عدة قادة باستلهام روح النصر في القلة وتحطيم المملكة العظمى لتاج التجبر والقوة ومنهم (غاندي) محرر القارة الصفراء حين قال:(تعلمت من الحسين أنْ أكونُ مظلوما كي انتصر) وهنا لابد للشاعر أن يستمد العز ويفتخر بأنه جزء من هذه الدائرة لنسمع المختار:
محياك حياة
في باصرة الدنيا وعيونك دمع
وأذان العالم حان لصلاة الفجر جنان
أنت المحيا لا أرى سواك فجرا نديا
الفضل الحياتي لمن يعتقد بان المضحّي جعل من طريق حياته السالك دربا من النور وان تضحيته هي السبب بالحفاظ على تناسل عرقه ووجوده في الأرض ، رغم قصر بقائه الدنيوي ، وان وجوده الروحي مرتهن بحب وتقديس حجم المضحي وثوب فخره وجلباب بهاءه ،وانه ينتمي انتماءا حقيقيا جعلت منه شخصا متميزا ومكانه دنيوية وأخروية عند بلوغ القاهر الكبير الموت ، وانه حبل المغفرة في حياض الخالق ، فيقول :
إليك
أموت وأحيا فيك
وارحل منك إليك
يا حبل الرب الواصل في ملكوت يديك
(التراث يشير إلى الماضي ويدل على السكون والخمود وكأن العربي كتب عليه دون البشر كافة أن يسير إلى الأمام بينما رأسه يلتفت إلى الخلف ، فلا هو يحقق التقدم ولا يقنع بحياة ورثها عن الأسلاف *) ولكي لا نغض الطرف عن التقديس الأعمى كمعادل اجتماعي بإيجاد بطل اسطوري او مثل أعلى مصنوع قاصر الأسس ، لتأسيس مجدا ينتشل التخبط كرد فعل ، قد تجنح نحو العنف ، والتأليف الكاذب وتكوين شخصية وهمية مبنية على سوء النية وشق العصا لوجود ارث واهن ليصبح مبتغى مطلوب وإطلاق ألقاب عليه لينفخوا برماد العدم وأجلّها أغراض سياسية ، دون دراية ،وهل هو على حق وحقيقة لها تخريج شرعي أو توصيف حكمي ، وهنا يجعل المقدِّس يتشبث بقوة بمثُله وعاداته وحبه كمعادل موضوعي لما يجابه بمعتقده رغم علمه بقوة حجته ، وقويم طريقه:
أخرجونا من البيوت وحدانا وزرافات
متجهين إلى أماكن مجهولة
تقودنا سلاسل طويلة ونزوات
أصبحت صورا بشرائط سود على الجدار
أمامنا أرامل يافعات
وخلفنا أطفال مخطوفون من حدائق أعمارهم
كزهور مرمية على الرصيف
………………………………………………………..
*القصيدة الإعلامية في الشعر العراقي \حسين القاصد
عيال الظالمي
آب\2013-08-24