شروعٌ أوّل في البصرة : القلبُ يمتدُّ بلاداً كتابة وتصوير : علي وجيه

إشارة ننشر هنا نصا للكاتب والشاعر الشاب ” علي وجيه ” الذي يتطور قفزا بمثابرته وموهبته وثقافته وحدسه الإبداعي المتفرّد .يأتي هذا النص في حقل لا يحرث فيه الكتاب العراقيون عادة وهو حقل الانطباعات اليومية ورصد حياة المدينة العراقية في شبكة علاقاتها المعقدة خصوصا في هذه المرحلة التي يأكل فيها الجميع لحم المدن العراقية لأنه طيّب حسب تبرير علي . هنا يتجلى الحزن العراقي العارم ممزوجا بولاء كاسح لتراب العراق المقدس تحت خيمة سردية آسرة وجديدة النكهة .

علي وجيه: متى تنتهي المحنة يا سياب؟

(1) كلاكيت قبل السفر

– إلى أين أنت ذاهب؟

– أريد أن أنام

– ألا ترغب بالعشاء؟

– كلاّ ؛ تناولتُ شطيرة من الحزن قبل أن آتي…

الوسادة / كسلٌ قُطني…

كانتْ تنـزفُ ريشاً ؛ ألقيت برأسي على سُرّة الوسادة ، كانت دافئة ومُبتلّة : رُبَّما سقتها أمي – قبل تحضير العشاء – بزخّةٍ من الدمع…

كانتْ أنفاسي الحرّى تُضفي على الحائط المليء بخرابيش أخوتي الصغار طبقةً من الضباب…

الوسادة تُشبه لوحةً تجريديّة من الريش : آهٍ لو أننا نسمع صراخ الدجاج والديكة من ريشهم المُخبَّأ في أكياس القماش لما تمكَّنا من النوم أبداً…

دافئةٌ وسادتي ، وسادة الجميع “وجَّهتُ وجهي” إلى الحائط و”سلَّمتُ أمري” للوسادة  غريباً مُعذَّباً ما أنا من الفرحين ، كان رأسي موشوماً بإزميل الأرق : كانت عيناي توشكان على الخروج من محجريهما….

النوم كذبةٌ أحاول تصديقها.

***

(2) سمبوسة وأشياء أخرى

تدخلُ البصرةُ إلى تفكيري بلا إستئذان ؛ بلا “السلام عليكم” ؛ بدون أن تطرق باب ذاكرتي ؛ البصرةُ جُرحٌ أخضر ينزفُ شعراً وفقراً ، البصرة آهٌ على هيئة مدينة.

[ تذوّقتُ السمبوسة لأوّلِ مرّةٍ في قم ، قال لي البعض أنهم سرقوا طريقة تحضيرها من البصريين،قلتُ بلا مُبالاة :

– سرقوا الوطن بأكمله ، فليأخذوا السمبوسة ].

السمبوسة أكلة شعبيّة مُثلثة الشكل محشوّة بالجبن أو اللحم أو غيرها [ بعض المستشرقين أرجعوا أشكال المساجد وتكويناتها من مآذن و قباب إلى عقليّة العرب الشبقة! ولا أعلم ما مدى صحّة هذا الرأي الذي يمتدُّ من أقصى الخطأ إلى أقصى الصواب ، ماذا يكتب المستشرقون إن رأوا السمبوسة بشكلها المثلث؟!].

قالتْ لي عجوزٌ جنوبيّة:

– كيف تحمَّلتَ رداءة طبخهم؟

– لا أتناول شيئاً خارج المنـزل ؛ المنزل عراقي بكلّ تفاصيله بدءاً بالأكل إنتهاءً بالقلوب!

– يا ولدي حتى لحمهم – حاشا نعمة الله – يُشبه البلاستيك ، لحمنا لذيذ يا ولدي!

– طبعاً لحمنا لذيذ ! ، ألا ترين أنَّ الناس كُلّها تأكلنا؟

أكره كل انواع السفر عدا سفر العودة فالمنفى جعلني أتكوّر على ذاكرتي ، مكتبتي ، أحزاني ، كالحلزون ، يومٌ كامل بليلته قضّيتها في سيّارة للوصول لكن البصرة تستحقّ كلّ شيء ،كنتُ أنظر إلى الجبال وأرددّ قول المتنبي الكبير مع بعض التصرّف :

بيني وبيـــن أبي عليٍّ مِثْلُهُ          شُمُّ الجبال ومِثْلُهُنَّ رجاءُ

وعقابُ “إيرانٍ” وكيف بقطعها؟        وهو الشتاءُ وصيفهنَّ شتاءُ

لبس الثلوج بها عليّ مسالكي          فكأنها ببيــاضها سوداءُ

فمتى أصل لأبي علي / البصرة؟؟…

في الحافلة بدأتْ عمليّة (عرقنة) الطبيعة شيئاً فشيئاً ،فبدأ النخل بالظهور (النخل العراقي وليس النخل الإيراني الأحمق الذي لا يحتوي على ثمرٍ إضافة الى سعفه الذي يتدلى من رأسه) وبدأ الثلج القميء بالإختفاء ، الألسنة تغيّرت من الفارسيّة إلى الأهوازيّة إلى العراقيّة،كان شوقي يتضخّم لينبجس الدمع الصامت من عينيّ ؛ فأنا سأعود إلى قم مجدداً ؛ لكن كما يقولُ المثل : لا تجزع للمفقود حتى لاتفقد الموجود!.

[ لم يُزدْ حياتنا سُخاماً إلا الأمثال !!! ].

إذاً : لم يبق شيءٌ على البصرة سوى ساعة واحدة : يا هووووو!! [بالطبع لم أصرخ!].

***

(3) الشلامجة

هل الوطن عبارة عن مقبرة؟؟!…

بغضّ النظر (أو محاولة غضّ النظر) عن التسميات فالمصائب تُصبح إعتياديّة أثناء ذكرها ، لكن : ما معنى أن يمتدّ وطنك من شماله إلى جنوبه وفي كلّ شبرٍ منه مصيبة وعويل مُتخثر فوق سطح الأرض وتحتها؟؟..

مُنذ أن قام كَلكَامش برحلته (هناك مسألة لم يلتفت لها القرّاء وهو أن كَلكَامش طاغية رغم محاولته السامية للعثور على عشبة الخلود ولكم أن تراجعوا الملحمة) والعراق لم يرتحْ ، كأن هذا الوطن قد مُنح إجازة مفتوحة من الحزن ، أذكر جدتي التي تطحن روحها قرب سريري ، وجدّي الذي يبكي مع دعاء كميل رغم أنني متأكد أنه لا يبكي بسبب الدعاء ؛ لكنّ كما يقول المثل العراقي : (حجّة بحجّتين) ، جدتي وجدّي كملايين العراقيين هُم مَنْ زرعوا في أرواحنا نكهة الحزن .

وصلتُ يوم 8/8/2008 إلى الشلامجة فضحكتُ ! ، ماذا كانت هذه البقعة قبل ثلاثين عاماً؟بالطبع كانت اشبه بـ”خلاط” لصنع عصير الموت الطبيعي كامل الدسم ، الساعة الواحدة بعد الظهر وقد تساقط مني عدّة لترات من العرق بسبب الحرّ ، كنتُ بإنتظار عصام جعفر البصري الجميل ليأخذ مني (جنطة) سيزيف! التي أتعبتني جداً وأنا أردّد:

صُبَّتْ عليَّ حقائبٌ لو أنَّها صُبّت على الأيام صِرْنَ لياليا

وصل عصام مع منذر الدبّوس وركبتُ معهما في الطريق إلى البصرة…..

المرور على منطقة الشلامجة (جنوب شرق البصرة) فهذا يعني أن تنكأ ذاكرتك التي رُبَّما لم تُسجّل ما فعلته هذه الأرض وإنما كانت تلتقط الأوجاع من ألسنة الناس ، 8/8/2008 ،الذكرى الثلاثون لإنتهاء الحرب العراقيّة الإيرانيّة ؛ قال لي صديقي وهو يشير بإصبعه إلى بقعة مُعيّنة من الأرض :

– هل تعلم ما هذا؟

– ما هو؟

(كان الـ”هذا”جزءاً من الأرض لا يختلف بأي شئ عمّا يحيط به من الأرض)

– هذا ما تبقّى من نهر جاسم

سرحتُ ناظراً إلى بقعة الأرض الصفراء اللانهائيّة ، تذكّرتُ ما كتبتُ عن نهر جاسم والشلامجة قبل فترة :

“عَرّف الشلامجة:

الشلامجة:حزامٌ أصفر يُحيط بخصر البصرة ؛ حزامٌ يتآكل مع الخُوَذْ ليستفيق بعدها كفينيق الموت من رماد الحُروب؛

في الشلامجة،قاحلٌ حتى وجه النهار..

كأن (نهر جاسم) كان وريثها على الجانب الآخر…نهر جاسم هو الآخر مخنَّثٌ يعشق جثث العراقيين ودمع الهور…

إيهٍ ايتها الشلامجة…

– “ايتها”؟؟

من المضحك أن نؤنّث هذه الأرض!!!”.

نهر جاسم جفَّ ولم تبقَ سوى الذكريات  التي تركضُ على ضفتّيه التي تمتدُّ طويلاً ، ذكريات من مضوا ، حينما كانت الأمهات توصي أبناءهنَّ بوشم أجسادهم بعلامات معيّنة (رغم أن الوشم شيءٌ مُستهجن عُرفاً) لكي تتعرف الأمهات على أجساد أولادهنَّ بعد أن تتشوّه في نهر جاسم ؛ الشهداء ينتفخون ككيسٍ كبيرٍ من الماء ، الجلدُ يتحوّل إلى اللون الأزرق المُرعب [ يُذكّرني اللون الأزرق بلون جثث ثلاجة الطب العدلي في بغداد ، يبدو أنّ الشهداء الذين يقضون أيامهم بالحرّ وانقطاع الكهرباء يُكافئون ببرد الجُثّة!].

[ الزمان : لا اعلم

المكان : منزل مؤرخٍ بصري

في صحيح الحروب الخاطئة / الباب المُغلق / الصفحة المُشتعلة : “أنَّ الشلامجة كانت عجوزاً تجلس في شوارع البصرة تتصيَّدُ الشباب وإن دخلوا إلى منزلها خرجوا وهم يبحثون عن اطرافهم ورؤوسهم فعاقبها الله بمسخها أرضاً لا تنام إلى يوم القيامة”.

في الميثولوجيا اليونانية قيل أن جوبيتر حينما اراد الإلتحاق بحرب الثمانية قرون ودَّعته افروديت إلى باب السماء قائلة:

– إلى اين ستذهب يا جوبيتر؟

– إلى “شلامجوياكا”!             (هذا هو إسمها في اليونان)

– إذاً؟

– إبحثي عن زوجٍ آخر!

اما في ملحمة جلجامش فأن طه باقر نسي ترجمة هذه السطور:

“ولمّا ذهب جلجامش إلى النبع ليغتسل لم تأكل الأفعى عشبة الخلود بل اكلتها الأرض الصفراء “شلاميج” لهذا فهي خالدةٌ بدمائنا المُتَخثرة على شفتيها”.

***

(4) شطّ العرب

ali_wjeeh_3

شطّ العرب تجري أمواجه ببطء وكسل كأمرأةٍ حامل في شهرها السابع لتمتدَّ باسترخاء على بعضها ، الجسرُ الخشبي (عدّة جسور لا جسر واحد) يتحرك فوق الماء : تحت السيّارة ، المفارقة هي أنَّك لا تخاف من سقوط السيّارة في الماء : لأنَّك في البصرة! .

سفنٌ مُعطّلة وأخرى قد سحبها أصحابها إلى شاطئ (الطاعة) لتتحوّل إلى مطاعم ، الماء قرب الشاطئ يميل إلى الخضرة مع تكاثر عبوات الكولا والعصير والسجائر في الماء ، الطحالب تنمو ، لزجة ، انعكاس الضوء على الطحالب يوّلد مشهداً سورياليّاً رائعا لم يفكر به بريتون ودالي وجورج حنين!.

شط العرب أكبر من أن تحويه الروح القلقة ، ما هذا النخيل؟ ما هذه الخضرة؟ ما هذا الفقر؟؟؟؟.

شطّ العرب أو صُرماية البصرة الذهبيّة مليءٌ بالسفن التي توقفتْ ، مع القليل من القوارب الصغيرة ، كان شطّ العرب كما روي لي يعجّ بالسفن بداية الأربعينيّات وما قبلها ، وكان الملاّحة يغنّون :

– هو يا مال ، هو يا مال

بينما يحضرني صوت داخل حسن وهو يُغنّي للبصرة :

البصرة ويّ الزبير         بيها النخل ، بيها الخير

غنّى وأطرب حتى الطير    من سمع بإسم البصرة

عيني البصرة روحي البصرة فدوة البصرة!

يا داخل حسن : إذاً ما بها طيور أعمارنا وهي تسقطُ تحت صقر المنافي ولا عاصم من طوفان الدمع إلا الدمع؟!؟؟…

[ في مدينة قم ، في أجمل متنزّه بها ، سألني صديقي وهو يتأمل اللون الأخضر والورد ورذاذ المطر اللطيف :

– ماذا تتمنى؟

– أن أعود إلى العراق وأموت

– ؟؟؟!!!!

– أفضل من الموت في المُدن الباردة والبليدة ؛ أليس كذلك؟).

***

هل أعشق البصرة؟؟ ، ما هذا السؤال الغبي مني؟ ، مُنذ أن قرأت (داغستان بلدي ) لحمزاتوف وقد وضعتُ معادلة بين :

البصرة : داغستان

أنا      : حمزاتوف

رغم أنني لا أحبُّ شعر البيّاتي ، إلا أن له بيتاً جميلاً يقول فيه : (المدن التي لثمتُ خدّها حوّلتها إلى رماد) ، إذاً أيها البياتي ما للبصرة تحوّل الشاعر إلى جمرٍ يستيقظُ كلّ يوم وهو يفكّر في مدينة لم يرها إلا مرتين؟؟.

المدن نساء : والبصرة إمرأة تحمل الفتنة ، الحكمة ، الجمال ، العفاف ، العرقنة بكلّ معانيها ، [ القاص العراقي مُحمّد خضيّر لم يترك البصرة طوال فترة الحرب التي دامت 8 سنوات تعرضت فيها إلى القصف شبه اليومي ، أتصوّر لو أن محمّد خضيّر من مدينة أخرى لتركها إلى مدينة أكثر أماناً لكن محمّد خضيّر : بصري الهوى!] ، ما هو مهر البصرة لتكونَ بصرياً وتستحق هذا اللقب المقدّس؟ ، هل هو تقديس البصرة؟ أم التفكير والحنين الدائم لها أم ماذا؟ ، البصرة أم وأعتقد أن الأم ترضى بأقل الأمور من أبنائها.

***

(5) العشّار

وصلتُ لبيت صديقي ، تحت الدوش مرّت الرحلة كومضة في بالي ، أشعر بتعب فضيع لكنني لن أنام : أيّ غبي ينام في البصرة؟؟؟!!!..

درجة الحرارة عبرت الخمسين درجة مئوية ، لدرجة أنّك تتعرق تحت الماء البارد ، عصراً ذهبتُ إلى مقهى العشّار الخاصّة بأدباء البصرة…

مع الأدباء الشباب : استحضرنا الجواهري وأدونيس وأنسي الحاج والسيّاب و وتناول أصدقائي الأسماء المذكورة مع الشاي (تناولوهم بالنقد!) عشرات غيرهم ، وجوه بصريّة سُمُر تحمّصت تحت شمس البصرة ، هؤلاء الشعراء هم طينة الشعر الأوليّة ، كنا نجلسُ في أمان الله حتى دخل محمّد خضيّر :

هل سرتْ كهرباء في جسدي؟؟ لا أعلم فهذا الرجل (عوضاً عن شهرته) يملك من التلاعب بطين الحروف و بوصف الأماكن والشخوص ما لا يحمله جميع روائيي وقصاصي العالم [ ذات مرّة قرأتُ له قصة وصف بها الهواء داخل كوز مياه فأوشكتُ على الشعور بالرطوبة على وجهي!].

كان شعره رماديّاً ، يختلطُ الأبيض والأسود ، دخل بإبتسامته التي تشعّ الطمأنينة ليجلس قرب صديقيه محمود عبد الوهاب وكاظم الحجاج ، كنتُ أرمقه سرّاً وهو يبتسم ، اقترب منه شاعر شاب فقام القاص ذو الأكثر من ستين سنة ليسلّم عليه واقفاً ، ظلّ علي محمود خضيّر يشجعني بالسلام عليه (للعلم أنا لا أعرف شيئاً يدعى الخجل أبداً وأذكر كيف أن أصدقائي أقاموا رهاناً إن كنتُ أستطيع أقرأ أبيات غزل جريئة على مسامع بنت جميلة ، ففزتُ بالرهان مرّتين وبالبنت أيضاً!) ، سلّمتُ عليه ، كانت يده دافئة كابتسامته ، سألني علي :

– لِمَ لمْ تلتقط صورة معه؟

– حينما ألتقطُ صورة معه أكون كأي شخص اعتيادي عرف أن هذا محمد خضيّر فالتقط صورة معه ، لكنني قارئ جاد لمحمد خضيّر ولا احتاج لصورة.

خرجنا لنأكل الفلافل المُبجّلة [ صديقة العراقيين أيام الحصار ]، نظرتُ إلى فندق حمدان ، الفندق الذي سمعتُ به لأوّل مرّة من القاص العراقي عبد الستار ناصر في متن قصّة تضجّ بالشَبَق! ، مشيتُ في شوارع البصرة مع صديقيّ ، لم أنتبه إلى كلامهم الأدبي ، كنتُ سارحاً بالبصرةِ ، ما أجمل كلمة “حبّوبي” ، وما أروع الراء البصريّة المفتوحة ، فالبصريون يلفظون البصرة بهذا الشكل ” البصرا”.

ما أجمل اللهجة البصريّة؟ ، وما أروع أن تتجوّل في شارعٍ كلّ من فيه يتكلم لغةً تفهمها؟ هذا الشيء كنتُ محروماً منه في قم ، فحتى العرب في ايران تُخالطُ لغتهم العربيّة بعض العجمة وقلب الحروف وتسلل بعض المفردات الفارسيّة في فراش اللسان العربي..

قال لي عصام : غداً سنذهبُ إلى بيت السيّاب .

قلتُ له : فلنذهب لتمثاله في البداية…

وصلتُ قرب “عمنا” كما يحلو لي أن أُسمّيه ، رأيتُ السياب الذي تمنيّتُ ان يحتضنني بيديه الصخريتين التي نحتها نداء كاظم (نداء كاظم احد اشهر النحاتين العراقيين ؛ درس في ايطاليا وعاد الى العراق في الحرب العراقية الإيرانية – يسكن الآن في بغداد يعلوه غبار الإهمال!).

نظرتُ الى حذاء السياب الضخم ، كانت أذناه أكبر من اللازم ، يا نداء هل كان السياب كبير الأذنين ؟ هل كان يسترق السمع لصوت إمرأة تبكي في خمسميل (محلةٌ في البصرة غنيّةٌ بفقرها)؟ هل كان يسمع بكاء طفل يقول:اين ابي؟…

السيّاب هو الآخر مشكلة روحيّة مثل البصرة ، فهذا الشاعر الذي عبره الكثير من الشعراء كـ(تجربة ، تحديث ، أدوات) إلا أنَّك تعود كل مرّة لديوانه بينما لا تعود إلى ديوان الزهاوي ولو هُدّدتَ بالقتل!.

كنتُ – وما زلتُ – أقول أن الشعر الحقيقي هو الذي ينبع من التجربة الشخصيّة والتي تُنقلُ إلى الورق بسياقات القصيدة الفنّية : لهذا سيبقى السيّاب خالداً ما دام هناك في العراق جوع وموت وسل ومطر (هذا يعني أنّه سيبقى خالداً إلى يوم القيامة).

يحضرني صوت جواد الحطّاب وهو يقول :

عبرنا الدمَ..وأذكرُ كنّا جوعانين

فأكلنا (سمبوسة) من (حنّا الشيخ)

وفي مقهى (العشّار) شربنا الشاي..

وغنّينا الأبيات المكتوبة في تمثال السيّاب

عراق…قال : اعذرني

تنتظرني البصرة في موعدِنا الأول

قلتُ عراق..

يا وطناً…يعرفُ كيف يحبّ وكيف يقاتلْ

كأن الحطاب رسم رحلتي بمقطعه هذا (الذي سوف أقرأه بعد عودتي إلى إيران) ، أين كنّا؟ أها : تمثال السيّاب…

الكل يلتقطُ الصور قرب تمثال السيّاب الذي يفتحُ ذراعيه قليلاً كصليبٍ ذابل ، كان السيّاب حارس مياه شطّ العرب :

إيهٍ يا شطَّ العرب

عندما تجفّ أنتَ من الشعرِ

أجفّ أنا مِن الماء

إيهٍ يا تمثالَ السياب

إنكَ تتحدى مصرف الرافدين

بجيبٍ مثقوب

(علي الإمارة)

البصريّات اللواتي تحسّر عليهنّ السياب يقفن قرب قدميه ويلتقطن الصور : مسكين أنت أيها السيّاب! لم يحظَ بالنساء منك سوى ديوانك وتمثالك!.

عدتُ إلى بيت عصام لأنام وأنا أدندن بأغنية لفؤاد سالم :

الله شحلاته العمر يا سمرة

وأيام الجزت أيامنا خضرة

تركنا بكل غصن ذكرى ، نذرنا الروح للعشرة

ولمّن لالتْ الكَمرة ، لمّينا العتب واللوم وارجعنا إعله درب الشوكَـ

للبصرة!…

يتبع…

***

(1) سجّادة مياهٍ زرقاء

(2) علي وجيه قرب حارس المياه

(3) مقطع عرضي من أرض القيامات (الشلامجة)

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *