* مدرس علم النفس جامعةالموصل e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com
e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com
احد الابوين دالة على الانكسار النفسي وإخفاق حياتي ما . وهذه المناجاة تعد بمثابة حيلة هروبية اعتمادية .. يتكأ عليها صاحب الهم النفسي . المناجاة هي رغبة لاوعية في العودة الى احضان الاب او الام لكي يعيد صاحب هذا الهم بناء مسار حياته من جديد ؛ إما بدعوات أحدهما او بقدرتهما وخبراتهما وفي كلتا الحالتين يعد هذا اللجوء عملا نكوصيا ينتمي الى دائرة اليات الدفاع النفسي التي تعمل على تحريك المخيلة نحو الماضي وسحب الارادات لمواجهة الحاضر والاستعداد لمواجهة ما يخفيه مجهول المستقبل . ومن هنا الشعور بالاسف وهو شكل من الحسرة regert وخاصة الحسرة الناشئة عن عاطفة الحب ، ومن ثم فالاسى ضرب رقيق من الحسرة (1)وعنوان القصيدة نفسه يضعنا في طائلة الظن ان حجازي يحلم ببناء يوتوبيا .. اي المدينة الفاضلة .. المدنية التي رسمتها مخيلة ابيه له .. وعلى تلك الرؤى مضى حجازي الى مدن العالم وممالكه ليبحث عنها . ترى هل وجد حجازي ما زرع في مخيلة الصبي ذلك الاب الحالم الذي أورث حلمه لشاعرنا التائه هذا ؟؟ . يقول حجازي في قصيدته هذه :-أبي ..
إليك حيث أنت
إليك في مدينة ، مجهولة السبيل ،
مجهولة العنوان والدليل
إليك في مدينة الموتى ، إليك حيث أنت
أولى رسائلي ،
وإنها رسالة حزينة حزينة
بغير حد !
لأنها سترتمي امام هذه المدينة
بغير رد
يا غارقا في الصمت ، يا مكفّنا به الأبد
لن تستطيع ان ترد
فأقرأ رسالتي ولا ترد
وان أهاجت شوقك القديم للكلام
هب لي لقاء في المنام
(الديوان ، ص 222)
*******************
ان حجازي عاشق لمدينته على الرغم من كل الاوصاف والنعوت التي ينعتها لأنها في المحصلة مدينته . هو متبرم على حالها وعلى موتها ومجهوليتها . الاب هو محور الرسالة على ما يبدو . لم يبدأ رسالته ولم يعنونها إلا له . وفي المقطع مصادرة . حجازي .. لا يعلم !! بمكان ابيه … وفي نهاية المقطع نراه يلجأ الى التواصل معه عبر الرؤى .. وهو يعلم ايضا بان رسالته لن تصل إلى ابيه لأن مدينته ؛ علاوة على نعوتها التي ذكرناها ، لن تجعل الرسالة ان تصل إلى ابيه . المدينة لا بريد لها . مقطوعة الصلة بالعالم . ربما في عالم يحرسها الجان وليس من طريق اليها .. اباه ملفوف بالصمت منذ ان عرفه . لم يعرف غير الصمت علامة له . فكيف تريد ايها الشاعر المسكين ان يقرأ رسالتك وان يرد عليها وأنت تعرف كل هذه المسلمات . حجازي ، هنا ، يرفع راية الاستسلام . ويأمل برؤيا يزوره بها ابيه . تلك هي علامة الاستسلام والضعف لديه .. في المقطع الثاني نراه ، أي حجازي ، يحدثنا عن صوره ابيه التي علقت بذاكرته .. هنا استرجاع لتلك الذكريات . لنرى ما هي تلك الانطباعات التي علقت في ذاكرة الصبي حجازي . يقول الشاعر عن ذلك :-
أبي ..
وكان ان ذهبت ، دون أن أودعك
حملت لحظة الفراق كلها معك
حملت آلام النهاية ، أحتبست أدمعك
اخفيت موجعك
فوجهوك الحمول ، كان آخر الذي حملته معي ،
يوم افترقنا ، لا يزال مضجعي
يراك ، حينما أراك ، بسمة على الظلام
تنير لي مسالك الأيام
وتفرش الطريق بالسلام ، بالسلام !
(الديوان ، ص 222 – 223)
******************
الصورة التي علقت بذاكرة حجازي عن ابيه هي صورة مأساوية بكل ما تحمله هذه المفردة من معنى .. وعلى ضوء ذلك كان الانطباع الذي كوّنه حجازي عنه انه بطل يستحق ان يكون منارا .. ولذلك كانت رؤيته لتلك الصورة بمثابة البسمة التي تنير عالم حجازي المغمور بالظلمة . لنرى كيف يصف لنا شاعرنا ظلمته تلك . ها هو يقول في المقطع الثالث :-
أبي ..
وكان أن عبرت’ في الصبا البحور
رسوت’ في مدينة من الزجاج والحجر
الصيف فيها خالد ، ما بعده فصول
بحثت فيها عن حديقة ٍ فلم أجد لها أثر
وأهلها تحت اللهيب والغبار صامتون
ودائما على سفر !
(الديوان ، ص 223)
***********************
حجازي فارق اباه وهو لم يزل صبي بعد . من هنا كثرة اسفاره ورحلاته . وان لم يك الامر كذلك فان المعنى المراد هنا هو انه عانى الكثير .. الكثير . في الحالتين الامر غير مختلف .. المهم في المقطع هو رسوه على هذه المدينة التي يضع خريطتها النفسية ان صحت العبارة . خريطة ساكنيها على وجه الخصوص .. لأن لا معنى لمدينة بلا سكان . هوية المدينة بهوية ساكنيها .. اول ما تصادف وانت على عتبات تلك المدينة هو انها مبنية من زجاج وحجر .. التناقض بين العنصرين صارخ وواضح ولا يحتاج الى وقوف طويل .. كيف يتعايشان من يتحمل ولا يتحمل الطرقات معا . والذي يريد ان يقوله حجازي هو ان تناقض في تركيب البنى في هذه المدينة . ونميل الى الظن ان التصور هو توظيف التصور الماركسي لطبيعة حركة المجتمع .. حركة تلك المدينة .. من هنا صيفها الابدي .. الصيف المهيمن على جميع الفصول .. حجازي يبحث عن المحال . يبحث عن حديقة في ذلك الصيف اللاهب .. هنا حجازي يبدو لا معقولا نوعا ما .. فهو إذا كان يعرف ان هذه المدينة التي رسا عندها تحت طائلة الصيف الخالد فلماذا يتوقع وجود حديقة وبالتالي يحركه هذا التوقع للبحث عنها ؟؟ . ويستنتج حجازي تبعا لملاحظته عن صيف المدينة الخالد ان الناس في المدينة يعيشون تحت اللهيب والغبار صامتون .. بمعنى انه ليسوا قادرين على تغيير واقعهم هذا وتحديه بل هم دائما على سفر .. اي هم يتوقون للخلاص من لهيب هذا الصيف ولكن بالفرار والسفر الى مدن آخرى ليتركون مدينتهم قابعة في صمتها الخالد وتحت طائلة صيفها الذي ما بعده فصول .. جل ما يفعلون عندما يواجههم غريب ما ؛ مثل حجازي هو انه يسألونه :-
– كم تكون ساعتك ؟
وهذا السؤال ليس الا للدلالة على كونهم خارج الزمن فالصيف الدائم افقدهم الشعور بصيرورة الزمان وتعاقب الفصول ولا يعرفون من هذه الفصول غير صيفهم الخالد هذا . ترى ماذا سيفعل حجازي وهو يتجول في هذه المدينة بعدما يأس من وجود حديقته المرتقبة .. لنرى تفاصيل ذالك التجوال . يقول حجازي :-
مضيت صامتا موزع النظر
رأيتهم يحترقون وحدهم في الشارع الطويل
حتى إذا صاروا رمادا في نهايته ،
نما سواهم في بدايته ،
وجدفت ساق الوليد فوق جثة الفقيد
كأن من مات قضى ولم يلد
ومن أتى ، أتى بغير أب
فجعت فيهم يا أبي ، كرهتهم في أول النهار
وفي المساء .. قارب الظلام بين خطونا
رأيتهم . . واروا وراء الليل موتاهم ،
وانهمرت دموعهم ، وأخضل مبكاهم ،
وامتدت الأيدي ، وأجهش الطريق بالبكاء
قلت لهم .. يا أصدقاء !
(الديوان ، ص ، 224 )
*******************
بعدما اطال حجازي النظر في هذه المدينة التي زادت في غربته اغترابا وفي وحشته توحشا ؛ حيث الاموات يمضون بلا هوية والذين يعقبونهم ليسوا اكثر حظا منهم فلا راية توصلهم ببعضهم البعض ولا جسر يعبر احدهما من خلاله الى الاخر كل يحمل سره وهويته ويمضي الى حيث لا يدري .. ليس هناك الا زمن الساعات المعلقة على الجدران او التي يصادفونها على يد غريبهم او احدهم .. حتى انهم نسيوا الوقت فهم لا يعلمون الى اي زمن ينتموا . فهم محض ضياع وتيه صرف .. لا علامة على ادميتهم الا دموعهم ومرارة بكائهم .. ولقد وقف حجازي يهتف بهم .. يصرخ بوجه هذا الضياع كأنه ذالك الصوت الصارخ في البرية المعلن على بشارة الخلاص لتشرق على الظلمة . لنرى ما هي رسالة هذا الذي جال في صباه بحورا ومدانا وكل بلاد الله ليعثر على مدينته الضائعة ولكنه وجد على غير ما يحلم .. يقول حجازي :-
عبرت في الصبا البحور
حملت كأس عمري الصغير فارغا ،
لمن يصب فيه قطرتي سرور
’طفت بدور
طردت مرة ، وقيل لي تفضل مرتين
مر الزمان . . كل ليلة سنة
لم أغف فيها غير ساعة . وغفوة الغريب لا تطول
وفي السهاد يرحل الخيال يعرف الكثير
زماننا بخيل !
أو ّاه ! نحن لا نريد غير أن نظل
نريد ما يقيم ساقنا لنشهد الحياة
ونعبر البحور خلف حلمنا الضئيل
ونعرف الغربة في الصبا ، والخوف ان نجوع
في الصباح
لكنما زماننا بخيل !
يبخل حتى بالوداع ، حينما يفـّرق الطريق بين
صاحبين
مات أبي يا أصدقاء !
الغرباء ودّعوه ، بينما أنا هنا ،
لمحتهم في الضفة الأخرى ظلالا ، في غروب
الشمس تنحني ،
على القبور ، ما وجدت زورقا ’يقلني ،
لم أستطع وداعه قي يومه الأخير !
(الديوان ، ص 224 – 225)
**************
ياللمفاجأة … ياللمفارقة العجيبة .. حال حجازي المبشر بالخلاص ، على ما يبدو ، ليست افضل من مدينته ولا من ساكنيها .. فالغربة والتوهان أو الضياع هو الآخر كان ملازما صاحبنا المبشر بمدينة جديدة .. لقد اضاع صباه في حلم لم يتحقق او كما قال الشاعر على محمود طه :-
أنا من ضيع في الأوهام عمره
******************
انها مشكلة كل الحالمين ؛ عشاق .. شعراء .. اصحاب اليوتوبيات .. الفلاسفة .. الباحثين عن الحقيقة !! .. كلهم غرباء .. وحيدين يبقوا .. حتى يخيل اليهم انهم وقعوا في فخ الوهم .. ذلك الفخ الذي لا مفتاح له و لا مهرب منه . يبقوا اسرى ازليين له .. شاعرنا حجازي وقع في ذات الفخ .. فخ الوهم .. الشاعر يوغل في احزان الذات في هذا المقطع .. تلك الاحزان التي عاشتها تلك الذات في ذلك القطاع من العمر .. لقد مات اباه ولم يودعه الوداع .. لم يقبله قبلة الوداع .. لم .. لم … إلخ .. وتلك من نكبات الحياة أو من سوء الاقدار التى تواجه الانسان . ان يموت اباه وهو في المنفى .. في الغربة .. من المقصين .. المبعدين .. ولم يجد زورقا ينجيه من عذاب الغربة ليودع ابيه .. حجازي يشعر بالملل . كل ليلة سنه .. لم يغفو غير غفوة التعب والجهد والإرهاق .. هذا حال الغريب انى ذهب .. هكذا يقول لنا حجازي . مطالب حجازي ليست سوى الحياة التي ينبغي ان يحياها الانسان .. حياة حرة .. كريمة .. سعيدة .. لا غير من ذلك .. لقد وصف الشاعر في هذا المقطع الزمان برمته بالبخل .. هكذا هو يراه … وقد لا يراه غير هكذا على هذه الصورة . لنتخيل ان حجازي صار مكان الجلاد .. فهل كان سيصف زمانه مثلما وصفه هو في مقطعه هذا ؟؟ . سؤال نتركه لحجازي نفسه .. يواصل حجازي سرد مآساته مع هذا الزمان البخيل فيقول :-
يبخل حتى بالوداع ، حينما يفرق الطريق بين
صاحبين
مات أبي يا أصدقاء !
الغرباء ودعوه ، بينما أنا هنا ،
لمحتهم في الضفة الأخرى ظلالا ، في غروب
الشمس تنحني ،
على القبور ، ما وجدت زورقا ’يقلّني ،
لم أستطع وداعه في يومه الأخير !
(الديوان ، ص 226)
**********************
في هذا المقطع مفردتين لهما دلالاتهما الرمزية وسوف نتعرف على تلك الدلالات من خلال ما يقوله الباحث اللبناني خليل احمد خليل في معجمه عن الرموز . والمفردة الأولى هي الغريب والثانية هي الزورق . يقول هذا الباحث في رمزية الغريب ما يلي ” الغريب stranger هو المهاجر ، رمز الانسان في غير موطنه أو موقعه ، وهو المنفي ، الضيف العابر ، الغريب في بلده ، وفي كل بلد آخر (الفقر في الوطن غربة) . الغريب رمز النفي والطرد ؛ رمز حرمان الإنسان من حقوقه ومكانته ومواطنيته . من وجه آخر ، يرمز الغريب إلى الخصم المحتمل ، العدو الكامن . ويكون الغريب ، في كل مجتمع ، كل من يكون هواه في مكان آخر . إذ لا تجمعه بالآخرين مصالح واحدة . يتساءل بودلير :-
ما أحب ّ شيء إليك ، أيها الغريب ؟
أتحب أمك َ ، أباك َ ، أخاك َ أو أختك َ …
أم أصدقئك َ ، أم الوطن والجمال والذهب ؟
آه ، ماذا تحب أيها الغريب العجيب ؟
– أحب الغيوم … الغيوم العابرة … هناك …
الغيوم العجيبة (2) .
ويرمز الزورق إلى أنه ” رمز السفر ، علامة عبور الأحياء أو الموتى . هذا معنى عرض الجثة على سطح زورق أو قارب .
1- لدى الملانيزيينثلاق وقائع سحرية – دينية ، متصلة برمزية الزورق .
أ- زورق لطرد الشياطين والأمراض .
ب- زورق للساحر الأندونيسي ، المسافر في الجو بحثا عن نفس المريض .
ت- زورق الارواح الذي ينقل نفوس الموتى في الآخرة .
2- نكاد نجد زورق الموتى لدى معظم الحضارات المائية أو البحرية ، حيث تسود الاعتقادات بأن الأموات يواكبون الشمس في المحيط ، على متن زوارق شمسية (أوقيانيا ، إيرلندة ، مصر) .
3- يرمز الزورق أو القارب إلى التابوت ، ويعبّر عن الدفن الانتقالي للميت ، قبل استقراره في عالم آخر ، عالم الجنة أو الجحيم . هنا الموت هو السفر الأول ، لا الأخير .
4- يلاحظ غاستون باشلار أنّ زورق الموتى يوقظ وعيّ الذنب ، مثلما توحي العاصفة بفكرة العقاب . لذا فإن زورق قارون يذهب دوما إلى الجحيم . وهو بذلك رمز لتعاسة الإنسان الدائمة .
5- الحياة الحاضرة سفر خطير ، ولذا ’يعبّر الزورق عن الأمان ويرمز إلى حاجة المؤمن إلى الرعاية الإلهية أو الرحمة . من هذه الزاوية ، يمكن التقريب بين رمزية الجامع أو الكنيسة ورمزية الزورق (سفينة النجاة ، مثلا ) (3) .
تلك إذن هي رمزيات الزورق . لكن حجازي ، هنا ، يستخدم الزورق للعبور الى مدينته لحضور مأتم والده وتوديعه الوداع الأخير . حجازي مغتربا وبلا زورق يقله الى حيث يشاء . خطواته هي التي تقوده وليس العكس . في المقطع التالي سوف يستذكر حجازي اباه وأشيائه وكأنها حاضرة لديه . انها نوع من الفيتيش fetishism لديه ولكنه نوع من التثبيت على هيمنة حضور الاب . يقول حجازي في هذا المقطع :-
أبي .
أقول يا أبي شكرا
ما مر يوم دون أن توميء الي ّ
ما مر يوم دونما ذكرى
تأتي على جناح لحن تائه في الليل ،
يقول للمحبوب .. طالت غيبتك !
تأتي إلي عبر طفل ،
يسير وحده ، وحين أضل
وتثقل الأحزان روحي ، حينما أتوه
أقول يا عين اطلبيه !
ما زلت طفلا يا أبي ، ما زالت الآلام ،
أكبر مني ، ما استطعت أن أنام ،
فتستجيب يا أبي ،
ومثلما كنت تعود في اماسَّي الشتاء
تأتي إلي
عباءتك
لا تفتأ الرياح تستثيرها ،
تشدها الى الوراء
كأنها شراع يصارع الأنواء ْ
ووجهك الحمول يفرش الرضى على العناء
وفي يديك من نبات الأرض ما جمعته
وفي اللسان رفرفت تحية المساء !
ومثل غيم في ليالي الصيف ، يترك السماء للقمر
تنقشع الأحزان من روحي وأحضنك
بجفن عيني أحضنك
وأستضيفك المساء كله .. حتى السحر !
(الديوان ، ص 227 -228)
********************
في هذا المقطع اجترا جلي لدور الاب وصورته ورمزياته المتعددة (عبائته على سبيل المثال) . انها بمثابة الحارس لمسيرته .. الدليل لطريقه .. الفنار لأبحارته .. المثل لمرجعياته .. هذه الصورة مستقرة لديه . على المستوى النفسي هذا النزوع يمثل تثبيتا اعتماديا على الاب . هذه الهيمنة لصورة قد لم تمنح حجازي حرية تكوين الذات . من هنا هذا الاعتماد وهذا اللجوء الدائمي له . الليل كله يقضيه وهو حبيس ذلك الانتظار ورهين ذلك التوقع . لقد قطع الامل بحضوره . فصار ينتظره في الحلم . مراودة الاب للحالم في حلمه دليل على هيمنة المبادئ الذكرية بصورتها الاولية او البسيطة (4) . علاوة على انها فكرة مهيمنة على مجمل مسار الشخصية . من جهة اخرى يتحول الى الاب من مستوى الابوة الى مستوى القداسة . من هنا قدرته على التجوال والمرور بالحالم انى ومتى يشاء . الا ان هذه الزيارة مقرونة بحالة الحالم ووضعيته في حياته اليومية . ففي حالة شاعرنا الدائمة الانكسار والدائمة الضياع نراه ينتظر تلك الزيارة بشكل دائم ولذلك يعيش شاعرنا ما يمكن تسميته بقلق الانتظار والترقب . لكن الشاعر مدرك تمام الادراك ان مثل هذه الزيارات ما هي إلا اضغاث احلام لا غير . فلماذا هذا التشبث بها ؟ . التشبث هنا دليل على يأسه الحياتي من جهة والاتكاء على عكاز الاعتماد على ابيه من جهة اخرى . انها ضرب من ضروب خداع الذات قد صارت مثل سحابة في سماء الشاعر ليله او نهاره .. في المقطع الاخير سنجد الشاعر قد وقع اسير التمرد على تلك المثل التي طالما حملها على اكتافه وهو يجوب شوارع مدينته وازقتها . وفي المقطع نجد ان الشاعر يلتمس الاعذار من ابيه .. لنرى ماذا فعل الشاعر ليقدم اعتذاراته لذلك الاب الجبار الرحيم في آن واحد . يقول حجازي :-
أبي ..
أقول يا أبي عذرا
وقعت في هوى بنيّة ٍ هنا
وأنت كم حذرتني من نسوة المدن
لكنني رأيتها كأنها أنا
فقيرة ، حزينة ، مات أبوها يا أبي
وتقرأ الشعرا !
أحببتها ، لكن طريقها طويل
وكل احبابي طريقهم طويل
زماننا بخيل
والله كم اوحشتني .. سنة
مضت علي ّ دون أن أراك
وسوف تنقضي سنة ،
أخرى ، وتنقضي سنين ،
ولا أراك
وربما انساك ْ!
***************
رسالتي اليك يا أبي حزينة
في البدء والختام
فان أهاجت شوقك القديم للكلام
هب لي لقاء في المنام !
(الديوان ، ص 228 -230)
****************************
ذلك إذن هو المقطع الاخير من تلك التي وجهها الشاعر الى مدينته المجهولة ! . وكان بطل الرسالة هو الاب الغائب . لكن الشاعر اراد ان يجعل من ذلك الغياب حظورا حيا يسانده اينما مضى . وفي الرسالة اعترافات الشاعر بإخفاقه وفشله في رحلته تلك . هذا الاخفاق كان عند الشاعر مؤشرا لخروج وعصيانه وتمرده على وصايا الاب ونواهيه . بل ان رحلته بحد ذاتها هي ذلك العصيان وذلك التمرد . وفي الرسالة خروج المكبوت وطفحه وسيلانه وصيرورته هما وكربا وعائقا امام سعادة الشاعر فاستحالت حياته في هذه المدينة محض مأساة ومحض حزن . وكان لجوئه الى ابيه بمثابة آلية دفاعية لمواجهة تلك المأساة . وكان الشاعر يعلم ، علم اليقين ، انه يعيش محض وهم ويمض نحو محض سراب لا غير . الا ان المكاشفة الحقيقية بينه وبين اباه او ، ان شئنا الدقة ، اناه الاعلى ، هو تورطه في قصة حب لم تك غير سراب ووهم ايضا . ويرى حجازي ان تورطه هذا كان بمثابة الخروج عن نواهي ذلك الاب الجليل الذي امتلأ قداسة وحظورا في حياته . لقد اصبح مثل الرقيب يلازمه ملازمة الظل لصاحبه . ويستعرض حجازي صفات محبوبته حتى انه اعتقد انها نسخة منه بل انها هو . كان الاب قد حذر ابنه من مغبه الوقوع في مكائد نسوة المدينة . ها هو حجازي ينسى او قل يتناسى تحت ضغوط حاجاته الانسانية من جهة وتحت ضغوط قوة المثيرات البراقة التي تقنعت بها تلك البنية التي رآها في مدينته القاحلة تلك . انها مثله .. فقيرة .. حزينة .. فاقدة الاب مثله وعلاوة على هذا ، وهذا هو الاهم بنظر حجازي .. انها تقرأ الشعرا . انهما شبيهان في كل شيء حتى دربهما طويل لا ينتهي . لكن سرعان ما اختارت دربا آخر غير درب حجازي تاركة حجازي يسهر الليل كله حتى يزوره ابوه القديس في المنام ويقدم له رسالة توبيخ وانذار والفات نظر .. دربك لا يشبه .. يا ولدي غير دربي .. فحذار ان تخذلني وتختار درب آخر .. ترى هل تمسك حجازي الانسان بدرب ابيه ام خرج ليختار درب آخر … ؟ .
الهوامش :-
1- د . الحفني ، عبد المنعم ، 1978 ، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي ، دار العودة ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ج2 ، ص 321 .
2- د. خليل ، احمد خليل ، 1995 ، معجم الرموز ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 125 – 126 .
3- د. خليل ، المصدر السابق ، ص 84 – 85 .
4- دي ، نيريز ، 1989 ، قاموس تفسير الاحلام ، دار الجليل ، دمشق ، سورية ، ط1 ، ص 9 .
تاطير النص
حظي الشعر الحر بتسميات عدة أهمها الشعر المعاصر، والشعر الحديث ، والشعر الجديد ،و الشعر المنطلق، و الشعر المرسل ،وشعر الشكل الجديد،والشعر المرسل، وشعر الشكل الجديد.يعد بدر شاكر السياب،ونازك الملائكة،اول من نظم الشعر على منوال شعر التفعلة(الحر) ،واقتفى اثرهما جم غفير من الشعراء المحدثين،امثال البياتي،والناقد صلاح عبد الصبور،ويوسف الخال،ونزار قباني،ومحمود درويش،واحمد المجاطي،واحمد عبد المعطي صاحب هدا النص المعنون ب(رسالة الى مدينة مجهولة) ،وهي من ديوانه (مدينة بلا قلب).ادن فما هو موقفه من المدينة وماهي الوسلئل الفنية التي تحقق جمالية النص ثم ماهي المقاصد الي يراهن عليها النص
قراءة في العنوان
عنوان النص عبارة عن جملة اسمية،مكونة من مبتدا على صيغة التنكير،والدي يفيد العام لا الخاص،وخبر هدا المبتدا جاء شبه جملة.فالرسالة توجه عادة الى مرسل اليه يتصف بالحياة (عقل،فكر،وعي،هوية).لكن صاحب النص وجهها الى مدينة مجهولة،وهدا الجهل ادل على شيء وانما يدل على الضياع ،والاغتراب،والحنين…