لعبد الستار ناصر، المولود في بغداد عام 1947، أكثر من خمسين إصدارا، بين قصة ورواية وخاطرة ثقافية ونقدية. لذلك هو الكاتب الأغزر في تاريخ السرد العراقي المعاصر.
تعرفت عليه مبكرا، ولم ألتقه قط. كتبت عن بواكير رواياته “تلك الشمس كنت أحبها” أول مقال نقدي لي، نشرته مجلة “الثقافة” العراقية عام 1969، على ما أتذكر. ثم تناولته مطوّلا في كتابي “ثقافة العنف العراق”، وتبادلنا سرا وعلنا عبارات المديح واللوم، في غير مقال. لكننا لم نلتق وجها لوجه. كنت واثقا أنه مثلي، تواق الى لعبة “بوكر” مباشرة، تكفل للطرفين حق تقديم أوراق اللعب مكشوفة، على مائدة الحقيقة. لكننا اكتشفنا معا – ونحن نضحك ونبكي- أن اللعبة بأكملها لم تكن تدار بأيدينا. فنحن لم نكن لاعبين، كما توهمنا. ما نحن سوى أوراق في اللعبة، محض أوراق مدسوسة بدهاء بين أكوام الورق.
خلافا لجميع الكتاب العراقيين يختزن عبد الستار في داخله حرية خاصة، تقترب في جوانب كثيرة من حدود الاستهتار الكيدي المخطط. هو يعتقد ذلك بيقينيّة فطرية مطلقة. استهتار يشبه كبرياء الطغاة المخادع، التعويضي. لذلك وضع لنفسه مهمة شاقة ولذيذة في الوقت نفسه، قوامها الاستمتاع الذاتي بحريته النزوية الصغيرة، والولع بها، والعيش بها ومن خلالها وبوساطتها. العيش في حرية صناعة الوهم العاطفي الجميل على الورق وفي الحياة.
في لحظات كثيرة، لا يستطيع المرء ان يميّز بين أمرين: بين فكرة النص باعتبارها مكتوبة من أجل الآخر، وبين كونها مكتوبة للتلذذ بها، والتناص لغويا وشعوريا معها. أي للحياة والإقامة والعيش في داخلها، ثم الخروج منها، الى الحياة مجددا ، على هيئة كائن حي، يستمتع بحريته الفردية في مملكة الطغيان الجماعي. هذه الدورة، التي تختلط فيها البويضة باليرقة بالشرنقة بالفراشة، هي عبد الستار ناصر. لذلك يبدو لنا عبد الستار ناصر- نحن معشر العراقيين القساة والخجولين- غريبا، خاصا في بابه. يبدو لنا بيضة رخوة تارة، ويرقة لزجة تارة أخرى، وشرنقة سحرية مليئة بالأسرار ثالثة، وفراشة ملونة رابعة. ربما هو يشمت بأخيلتنا السجينة، أو ينتقم منها!
لذلك تقلبت مغامرة عبد الستار، بقوة غير قابلة للاخفاء، بين التمرغ في ما هو رديء، في نظرنا نحن غير الرديئين في نظر أنفسنا، وبين ما هو فطري وصادق الى حد يفوق خيالنا وعواطفنا ومنطقنا المبرمج والمرتب أخلاقيا وسياسيا. انتقالات عبد الستار من ذم الحرب الى الانغمار الدعائي فيها، لا يقبلها منطق عاقل سوى منطقه هو، المنطق القائم على اختراع الحريات، وعلى سهولة التنقل والتجوال في المناطق المحظورة سلوكيا وأخلاقيا وعاطفيا، وحربيا أيضا إذا عاش الحرب بطريقته الخاصة. لأن السلام أحد قوانين الحرب في العراق. هكذا قال إخوتنا الأعداء.
إن الحديث هنا عن الحرب والسلام لا يعني السياسة، وإنما يعني الاشتغال والانهمام الفني بشيء ما الى حد الانغماس القتالي. كان عبد الستار أصدق وأجرأ وأمهر الواصفين لذاته وسقطته الدعائية الممجدة لأدب الحرب الديكتاتورية. لقد افتخر مرة، وهو في أحد أطوار الشرنقة، بأنه مبتهج قتاليا لكونه أطلق فيالق مدرعة وأرسلها طوعا الى ميدان المعركة: معركة الديكتاتور طبعا. هذه السيولة اللفظية، جزء من مهارات عبد الستار الأساسية، وجزء من صدامات داخله القوية مع الخارج الأقوى. إن الاتحاد الرائع بين عفوية وعاطفية وحرية البوح النسبية، التي امتكلها، امتزجت بشرعية مقترحة من قبله، أراد أن يميز نفسه بها عن العراقيين المستعبدين عاطفيا وسياسيا. ورغما عن كونها شرعية افتراضية، إلا أنها اتحدت بسلاسة وشفافية أسلوبية رائعة، وبنزوع عاطفي عميق للحب بكل فنونه: الشبقي والمثالي، المختلق والواقعي، المتمنى والمعيش.
هذه البساطة اللغوية الحرة جعلته يكون منكشفا أكثر من غيره عند تمجيده للحرب، ومتناقضا أكثر من غيره في استخدام الحب لأغراض غاياتها الموت أو الحياة، اللذة أو الألم. وفي النهاية جعلته يكون ناقدا صادقا، أكثر من سواه، لرعونة إغراءات الحرب والسياسة ومكائدها الشريرة.
بيد أن أعظم وأخلص وأعمق اجتراحاته تظل مرتبطة باستهتاره بالحرية. وهنا نجد مفارقة، قد تبدو تناقضا في منطقنا، وهي مقدرة عبد الستار على ممارسة دور المستهتر الصادق، ليس ضد منطقنا وحدنا فحسب، بل حتى ضد منطقه الشخصي، حينما يدفع قصصه الشفيفة باتجاه معركة، لا تستقيم، باطنيا مع ظاهره الناعم المسالم. لكنها في واقع الأمر تستقيم مع مبدأ البخل في كشف ولائم استهتاره بأناه، الذي كان يقدسه. مبدأ اللذة الفردية في التلذذ بالذات ومنتجاتها، من طريق قضم تفاصيلها السرية على دفعات صغيرة، متقطعة ووجلة. وهو مبدأ نرجسي بامتياز، وذاتي بامتياز، وفاضح بامتياز، والأهم من كل هذا أنه بخيل بالاستهتار بامتياز، بخيل الى حد الذعر من إمكانية سلبه منه بالافتضاح الكامل، أو من نضوب كنوزه السريّة.
حينما نترك الذاتي والانفعال الداخلي، ونذهب الى الخارج، وننظر من أعلى الهرم العراقي الى كيان عبد الستار ناصر، تقع أعيننا على مشهد غرائبي مثير: الذات المستهترة بحريتها الصغيرة، حتى الشطط أحيانا، تسير بين كتل متراصة من عواصف السياسة، من عواصف التخلف الاجتماعي، من عواصف التناقضات العاطفية والروحية، ومن عواصف التزمت والتزاحم المرضي القاسي، الخالي من الرحمة. ذات، ترى نفسها مميزة، مغايرة، حرة من القيود، شفيفة الى حد الورطة، محشورة في صندوق عقائدي ضيق، تتدافع فيه الكتل الصلبة الجارحة، الضاغطة حتى الموت. لقد عرف عبد الستار مبكرا أن لا عاصم ينجيه من ضغط هذا العالم الخارجي الصلب والقاسي، سوى الاحتيال عليه، بمسايرته حينا، وبالتمرد عليه حينا آخر، وبالاختباء بين تناقضاته وشقوقه الكثيرة حينا ثالثا. ولكنه في كل تلك الاختباءات ظل مخلصا للحرية المستهترة، التي يكتنزها في أعماقه، حرية المتعة الشهوانية في اختلاق حريته والاستحواذ عليها والتلذذ بها.
لغته الرشيقة تجعل منه نسخة محسّنة ومطوّرة من إحسان عبد القدوس؛ وعاطفية تناوله تجعله نسخة محسّنة ومطوّرة من يوسف السباعي؛ وتهوراته الحربية تجعله نسخة أدبية من نائب عريف أمي متهور؛ وحرية المعايشة تجعله نسخة سرّيّة مكبوتة من معايشات محمد شكري المعلنة؛ وتناقضات الذات تجعله نسخة جامعة، معترفا بها من قبل العدو والصديق، من المثقف العراقي المتناقض، الذي يمتلك مهارة صناعة توازن خفي حاذق بين تناقضات الذات والخارج، بين تناقضات الحب والحرب، بين تناقضات الحرية والعبودية، بين تناقضات الذات الفردية وكلـّيّة النظام الاستبدادي.
لم يكن العراق، بقسوته ويبوسته وإرغاماته الفظة والقاتلة، وطنا ممكنا لروح شفيف مثل روح عبد الستار ناصر. ولم يكن العراق تاريخا، بتناقضاته وصراعاته وعداواته ومركزياته المميتة، وطنا فنيا لكلمة ناعمة كالأفعى، أرادت ان تضع مروقها في خدمة توازنات الواقع غير القابل للتوازن. ربما كان عبد الستار يريد ، في أحلامه المكبوته، أن يكون نسخة محسّنة، ومعرّقة، من يوسف إدريس. لكن داخله وخارجه الإلزاميين، قاداه الى حيث يريد ولا يريد. رشاقة لغته وعاطفيتها لا تشبه عبد القدوس والسباعي. هي أميل بحساسيتها اللفظية والفنية الى إدريس، لكنها أميل بخمول أهدافها العقلية الى السباعي وعبد القدوس!!
لم يكن العراق ثقافة وروحا، بتحجر مقاييسه العاطفية، وانغلاق حدوده الاجتماعية، بيئة عاطفية ممكنة لولادة مبادئ حرية الاستهتار بالحرية الفردية. ولم يكن حق التمتع بحرية الطغيان عراقيا ممكنا إلا حقيقة وواقعا، لا افتراضا شعوريا تعويضيا كما أراد عبد الستار. في العراق لا يوجد خيال من أجل الخيال. كل شيء هنا له صرامة الواقع: القسوة، التعصب، الطغيان، وحتى الحب والعذوبة والابداع، بل وحتى تمارين الخيال.
لهذا العراقي، المولع بذاته وبحريته الصغيرة الفردية النزوية، شرف لم يحمله أحد غيره، لا من السياسيين أو الأدباء أو الأفراد العاديين. له شرف الريادة، التي لم يلحق بها أحد. شرف ممارسة الأخطاء القاتلة، شرف تحدي كبرياء المجتمع العراقي الخادع كله. لقد تعددت أخطاء الصدام بين حرية عبد الستار الشخصية وحرية الآخرين، حينا بإخفاق يلام عليه، وأحيانا أخرى بنجاح، يُحسد عليه. ففي زمن مبكر مدّ حدود حريته مخترقا أسوار أبوة الطغيان، أبوة سيدنا الخليفة، الحاكم الجاهل، وأبوة سيدنا الخليفة، المجتمع العراقي بتناقضاته الأخلاقية المرعبة. ففي وطن ينقسم أبناؤه شطرين: حزبيين متحزبين وحزبيين مستحزبين، ليس غريبا ان تخسر الحرية الفردية، فتسجد مرغمة لسيدنا الخليفة، في تصالح فاشل بين الولع بالحرية الفردية واللعب بها لصالح الطغيان الجماعي. إلا أن شرفه الريادي الأكبر، تمثل في رفض الوقوع في فخ عشاق الاحتلال. لقد جاهد هؤلاء أميركيا في سبيل ثنيه عن نقد ذاته وتجربته، بأبعادها الفردية والجماعية، وجرّه الى لعبة “كلنا خطاؤون، فلماذا الاعتذار”، التي ترجمها الغزاة سياسيا، وعمموها عراقيا، من طريق نظرية تقاسم الجسد البعثي، مشيدين الأساس التطبيقي للمحاصصة السياسية، القاعدة الحسيّة لعملية قطع الجدل التاريخ، وغلق منافذ نقد الذات وطنيا. لعبد الستار ناصر شرف الشروع فرديا، بجرأة المستهترين بحب الذات، باجتراح لحظة مكاشفة كبرى، توّهم أنها ، به ومن خلاله، ستقدح شرارة الحريق، وتغدو مكاشفة وطنية شاملة، تضع الأساس لمصارحة ثقافية أقل احتقانا وأيسر مسلكا، وأكثر صدقا وانسجاما مع الذات.
لقد ولد عبد الستار ناصر وكتب ومات في المكان الخطأ، والزمان الخطأ، والأهم من ذلك في اللحظة العاطفية الخطأ.
ولأنه ما كان له إلا أن يولد ويكتب ويموت. لذلك ولد وكتب ومات كما يريد له المكان الخطأ والزمان الخطأ واللحظة العاطفية الخطأ.
لقد أراد عبد الستارناصر أن يحتال علينا وعلى نفسه، بتكيّيف العالم المحيط به على مزاجه وهواه، ليجعله نسخة مطابقة لحريته الصغيرة، النرجسية ، المبدعة. لكنه اكتشف بعد نهاية الرحلة، أنه شخصيا لم يكن سوى تكييف للواقع، للزمن الخطأ، والمكان الخطأ، واللحظة العاطفية الخطأ.
وداعا للذي من أجله تقرع أجراس الحزن، لأكثرنا صفاء ورقة في هفواته وفي ارتحالاته الناجحة.
انتظرنا على ضفة العالم الآخر، العالم الخالي من أخطاء الزمان والمكان والعواطف، العالم الذي لا وجود له في الزمان والمكان والعواطف.
ولكن، قبل اللقاء يا عبد الستار! أسألك عن الشمس البكر، التي كنـّا نحبها معا: ألم تزل تراها، وأنت تنظر الينا من نافذة القطار الأبدي، المنطلق نحو الشموس البعيدة؟
سلام عبود : ولوع ماكر خانه المكان والزمان: وداعا عبد الستار ناصر!
تعليقات الفيسبوك
بصراحة، أنا منزعج من أسلوب الكاتب. لقد تناوله في كتاب ثقافة العنف في العراق وقرأتُ الكتاب. مقاله هنا يحاول الاختباء خلف أسلوب أدبي يذكّر بأسلوب المنفلوطي الشكلي المبهرج. لا يوجد تقييم حقيقي في المقال لتجربة الكاتب ولا ذكر لأي شيء مهم. أسلوب لفظي لا يُفهم منه شيء. لو كان هذا أسلوب كاتب المقال، لما كنتُ قرأتُ له كتاب ثقافة العنف. لكن يبدو أن لديه أكثر من أسلوب: الأول واضح نقدي ومفهوم، والثاني أدبي ينتمي لتراث المنفلوطي الذي لا يُفهم منه شيء، لأنه لا يقول شيئا.