يعتقد بعض من يتعاطى النقد، وتلك إحدى أكبر بلايا واقعنا الثقافي، أن الأدب، هذه الممارسة التطهيرية الذهنية الكونية، مشروع ذكوري بإمتياز وأن عملية الكتابة هي مغامرة الرجل بصفته النوعية لا مغامرة الإنسان بصفته الشمولية. ذلك أن الإنسانية في عرف بعض الرجال شيء مذكر والأدب، تأسيساً على ماسبق، فحولة مندلقة لا حظ للنساء فيه ولا نصيب.
منذ بدايات تشكل وعيه بطبيعته الذكورية، رسم المجتمع الذكوري طويلاً للمرأة حدودها ومساحة الأرض التي تتحرك عليها. عندما خرجت المرأة على هذه الأطر وغادرت مساحة الارض تلك وعندما توجب الاعتراف لها بالموهبة والعبقرية الفنية من جانب النقد الذكوري، بدل هذا الأخير من أساليب دفاعه عن ما أعتبره مكتسباته التاريخية، فبدأ يبحث، في خبايا نرجسيته العالية، عن توصيفات مخاتلة لما تجود به قريحة النساء. أثناء بحثه عن مصادر الكتابة لدى المرأة، وجد النقد، فعلا او قهرا، أن منابع النص النسائي، جلها إن لم يكن كلها، ذكورية إن تلميحا أو تصريحا. وفي هذا إيحاء إلى ما معناه أن السرد النسوي يعيش على هامش الرجل الذي لولاه لما كان لكتابة نسائية أن تكون ممكنة الوجود. على أن في ذلك بعض الصدق. فالعديد من الكاتبات من النساء لم يستطعن ان يتجاوزن بحدود مواضيعهن مملكة الرجل الحاضر الدائم في نصوصهن بصورة الحبيب، الصديق، المعجب، الزوج…الخ وكلها مصادر ذكورية. وهذا مؤداه، بحسب النقد الذكوري، أن المراة تكتب جيدا، عندما تكتب جيدا، لأنها تفكر في الرجل. يؤيد هذا الإستنتاج المستخلص بعجالة تناسب الرجال، أن الثيمات المهيمنة على أغلب النتاج النسوي كالانتظار( انتظار الزوج، الحبيب، الاب، الاخ) والفقد (فقد الأحبة من الذكور حصرا كما في “نبوءة فرعون” لميسلون هادي مثلاً) مرتبطة بشدة بالرجل الذي يختصر، بحضوره كما في غيابه، عالم المرأة. على أن الحضور الطاغي لسلطان الرجل محسوس، في بعض النصوص النسوية، منذ العنوان. يكفي، لمجرد التمثيل، تأمل عناوين مؤلفات بعض من كاتباتنا ﮐ “أجمل المخلوقات رجل” لبلقيس حميد حسن و”العالم ناقصا واحد” لميسلون هادي و “ممر إلى أحزان الرجال” للطفية الدليمي. سيوفر هذا المناخ العابق بسطوة الرجل للنقد فرصة لأن يعيب على الادب النسوي محدودية ثيماته، رغم أن النقد لن يجد السبيل لإنكار أن بعض الكتابات النسوية تبحث في اسئلة كونية، تاريخية، اشكالية تخص الوجود وتتعداه إلى الميتافيزيقيا (خذ مثالا على ذلك “نبوءة فرعون” لميسلون هادي ومعظم أعمال لطفية الدليمي).
ولأن النقد الذكوري خبير وعارف أن مفردات السرد تتقيد بالموضوع وتستجيب له، لذا فإن فرضية محدودية الثيمات المشار إليها في أعلاه يمكن أن تنفتح على فرضية أخرى تقوم على القول بأن محدودية الثيمات سيترتب عليها بروز مهيمنات سردية بعينها. والحق أن بنى قص العديد من النصوص النسوية تكاد تقتصر على سرد يجنح نحو ذاتية مفرطة تؤدي حتما الى أن تكون الأحداث مروية عن طريق زاوية نظر الراوي الذي هو في الغالب صوت الكاتبة ووكيلها الناطق بإسمها. وما دام السرد بوحاً هدفه الكشف عن الذات الأنثوية بهوية ثقافية نسائية، فلن يكون فضاء القص غير مكان مغلق يحفظ للسرد سريته وخصوصيته. ستستثمر المؤسسة النقدية الذكورية مااستطاعت هذه الملاحظات الفنية وستستخدمها لأجل محاولة إقصاء وتسطيح الكتابة النسوية ووصفها بالتدني وعدم رقي خصائصها الفنية إلى إبداع الرجل.

ربما بسبب ما تقدم حكم النقد على الكثير من النصوص الروائية والقصصية النسوية بعدم القدرة على التجديد الجمالي فيما يخص تقنيات القص واصما إياها بالتواضع والهشاشة والكثير من السهولة والتكلف والتزويق اللفظي وضعف البنية الفنية ومحدودية الخيال والافتقار إلى المنطق والموضوعية والإسراف بالعاطفة والرغبة في الإرضاء والمباشرة في الطرح وتبني وجهة نظر تسودها مرافعات أخلاقية تليق بخطب الكنائس وقداس يوم الأحد أكثر مما تليق بنص أدبي عماده التناغم الموضوعي والكمال الشكلي. ليس هذا فقط، بل أن النقد لن يتوانى عن وصف الأدب النسوي بأنه أدبُ ذاتٍ نرجسية مشحونة بمشاعر قلق دائمة ومنغلقة على نفسها وحدودها تقتصر على الاستماع الى عواطفها وانطباعاتها واحلامها مما يجعلها لا ترى العالم الا من خلال وجهة نظرها. مع ذلك ليس للنقد ان يتغافل عن قضية أن بعضا لا بأس به من النصوص النسوية اتسم بالجرأة في ملامسة المسكوت عنه، واعتمد تقنيات السرود العالمية، مثل تيار الوعي والارتداد والاستباق وكسر خط الزمن. لا بل إن قسما يعتد به من الكتابات النسوية أخذت في العقدين الأخيرين تتطلع إلى تمثيل الأساليب الحداثية وما بعد الحداثية، وتخوض غمار التجريب من خلال هدم الحكاية وتفتيت معناها وكسر التماسك بين عناصر السرد ونفي الإيهام وزعزعة طقوس القراءة لدى المتلقي.
ومهما حاولت المؤسسة الادبية الذكورية تجاهل او تحييد السرود النسوية او إدعاء استملاك مصادر إبداعها، يبقى من الصعب جدا القول بعدم امكانية وجود نص نسائي يتميز بأجوائه ومواضيعه التي خرجت، وإن قليلاً، عن دائرة الرجل وغادرت، منذ وقت ليس بالقصير، الصورة التقليدية لحضور المرأة في العمل السردي على يد المرأة ذاتها، تلك الصورة التي طالما اتسمت بالمظلومية والقهر والألم، لتبدأ البحث عن صياغة طريقة تعبير مستقلة ذات خطاب إنثوي يدرك أهمية اللغة والصنعة الفنية بكل أشكالها وقضاياها ويتفهم إسلوبية التعبير والتشكيل والتدليل والتصوير كي يوازي بخصائصه الإسلوبية واللغوية المحددة الخطاب الذكوري، خطاب غير مقيد فكرياً يتجاوز السلطة والحقيقة المذكرة ويهيمن على إيقاع مكونات السرد وعلاقاتها وسبل تجانس الحراك المتفاعل فيها ويتعالى على مجرد الرغبة في الحصول على اعتراف الرجال بهن ككاتبات.
إن وجود أدب نسوي عراقي معاصر يزاحم النتاج الرجولي ويتفوق عليه أحيانا واقع لايقبل الكثير من الجدل شاء من شاء من حراس المؤسسة النقدية الذكورية و أبى منهم من أبى. ومادام الأمر كذلك، فلا طائل من وراء طرح السؤال القديم الجديد: هل هناك أدب عراقي نسوي؟ على أن التسليم بفكرة وجود أدب نسوي لا يتعارض البتة مع طرح اسئلة من نوع آخر مثل: ماهي الدوافع العيمقة التي حركت الكتابة النسوية؟ وما خصائص هذه الكتابة على مستوى السرد كما على مستوى المحتوى؟ هل يعد تمسك المرأة بسمات الكتابة النسوية قوة أم ضعفا؟هل تجاوز أدبنا النسوي فعلا المسكوت عنه وتخطى المحظور؟ وهل الكتابة النسوية، مقارنة بما ينتجه الرجال من نصوص، ترف برجوازي؟ إن لم تكن كذلك فما سر كونها، على الدوام، إفرازاً من إفرازات المجتمعات المدينية والمخملية؟ وهل أثر هذا الرأي، إن سلباً أو إيجابا، على قيمة ما تنتج كاتباتنا من نصوص؟
ومنعا لأي التباس محتمل، لا بد أن نوضح، ونحن نصل إلى نهاية مقالنا، أننا بحديثنا عن نص نسوي وآخر رجالي، لا نرسخ لمنهج نقدي مبني على مبدأ دراسة النصوص الإبداعية على أساس الجنس. على أن تصنيف الإبداع إلى رجالي ونسوي ليس له أن يثير حفيظة كاتباتنا ذلك أن التصنيف، مع كونه إحدى أكثر علل ثقافتنا استدامة، من صلب مهام النقد. فالمؤسسة النقدية تظن، حقا أو إدعاءا، أنها سيدة الموقف، لذا فمن واجبها أن تصنف وهذا، أي التصنيف، من أفضل ما تحسن صنعه بل أكثر ما تبجله وتثني عليه. على أن جوهر المشكلة لا يكمن في هذا التصنيف أساسا رغم ما لدينا عليه من ملاحظات ليس هذا أوان طرحها. باستخدامنا لمصطلح الأدب النسوي وتركيزنا عليه، فإننا نحاول التأسيس لفكرة جعل اختلاف المنهج والرؤى في الصنعة امتيازا وخصوصية فنية تتيح للسرد النسوي مزيدا من التأصيل وكثيرا من الانفتاح ولا محدودية المعنى مما سيجعله يقبل التأويل المستمر ويرفض التأطير وأحادية القراءة فضلا عن فرض نفسه على واقع نقدي يعاني، من بين أشياء أخرى، من عطب ذاكرته وتصدع بنيته والتباس مفاهيمه الإجرائية.
وعودا على بدء، نقول أن المشهد الثقافي الراهن للأدب النسوي يثير الكثير من التفاؤل لأنه يسير وفق آليات تصاعدية، غير ممنهجة، نعم، لكنها ستشكل في النهاية بانوراما ثقافية متعددة المرايا لتجارب متميزة كانت مخبوءة تحت ركام التقاليد البالية من المعايير الثابتة لقيم المباح والمحرم بمفاهيمها الذكورية الاستحواذية. إن الإبداع الحالي لبعض كاتباتنا، باعتباره رافدا من أهم روافد أدبنا المعاصر، تعدى كونه تواصلا مع النتاجات النسائية السابقة وتجذيرا لما أنجز وامتدادا تاريخيا للمحاولات البكر. انه اليوم، أكثر من اي وقت مضى، جاوز بفضائه الأبداعي مساحات ابعد من تلك التي وصل اليها نتاج الكثير من الرجال. إذ صرنا نقرأ لأسماء نسائية متألقة تعي، فنيا، الكيفية التي تنطلق منها للوصول إلى ذائقة الآخر (القارئ) وتمتلك القدرة على التأثير فيه عبر التركيز على تحفيزه لاكتشاف الخصائص الجمالية للنص.
وهل الآن موجود أدب نسوي أو أدب حقيقي في العراق… نعم وجود كتابات مذهبية وطائفية دعائية وسطحية فقط