مهدي شاكر العبيدي : على هامش هذا السفر المهم “أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث”

mehdi 5أكثر من اسبوعين أمضيتهما في قراءة هذا السفر المهم “أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث” لمؤلفه الباحث البريطاني السيد ستيفن هيمسلي لونكريك ، وترجمه الى العربية جعفر الخياط ، ونفسي أثناء القراءة يعتصرها الندم لأني توانيت حتى هذه السن المجاوزة للعقود الثمانية في قراءة هذا الكتاب النفيس الملم والمحيط بتاريخ أهل العراق طوال أربعمائة عام تبتدئ من عام 1500 م وتنتهي بخواتيم القرن التاسع عشر يوم كانت الدولة العثمانية الباسطة هيمنتها على بلاد الرافدين وبعض البلدان العربية في آسيا في غاية الانحلال والانباء بوشك زوالها بصورة نهائية ، بعد أن انسلخت عنها كثير من الديارات والمرابع غير المتجانسة في أجناسها ولغات أهليها وأديانهم ومذاهبهم ، والممتدة في قارات ثلاث هي أوربا وآسيا وأفريقيا ، إذ استحوذت عليها بعض الدول الأوربية التي تضرّت أطماعها في ما تمتلكه من خامات وموارد ، مهتبلة في ذلك ما آلت إليه الدولة الأم من ضعف وعجز عن مداومة سيطرتها على هاتيك الأنحاء المتباعدة عن العاصمة استانبول التي منها تصدر القرارات والتشريعات الملزمة للموظفين والولاة باتباعها والسير على هداها وصولاً لتثبيت الأمن وسيادة النظام وإعلاء كلمة الدين الحق ، وبعدها يحق للملأ أن يلهجوا بالدعاء مبتهلين الى بارئ الأكوان أن ينصر السلطان ويديمه لهم وعليهم ، من بعد ما أتخموه بما تيسر من عوائد كدحهم وسعيهم في دنيا العمل على أنها ضرائب تستوفى منهم لا لشيء أو مقابله ومن أجله سوى أنهم وُجِدوا في أرض الله ، وناهيك بالأساليب والوسائل وضروب العقاب التي يلجأ إليها الجباة المكلفون باستيفائها إن توانوا في تأديتها لقلة ما بيدهم وتردي أحوالهم ، على ما دَوّنه شهود العيان من الذين مروا بهذه الربوع ، وتفرجوا على مشاهد مروعة من عيش الأهالي فيها ،

جعفر الخيّاط
جعفر الخيّاط
سعيد الديوجي
سعيد الديوجي

وجلهم من السواح والمولعين بالأسفار بقصد الاطلاع على المعالم الأثرية في البلدان ، وقد لايكون في نيتهم ان ينتظموا في عداد النقلة والمنبين عما تركته في نفوسهم من آثار وأصداء تلكم المعالم ، وقد غادرها بُناتها وأهلها جيلاً بعد جيل ، لكن يبدو ان الحال المحزنة التي تعتري الانسان الملم بهذه الديار ، وقد تحصلت لديه نتيجة ذلك صنوف شتى من المعارف والمعلومات والانطباعات عن واقع حالها في الحاضر ، أي في وقت تعريسه فيها وإيلافه لها ، كل ذلك كان مُحفزاً له على الكتابة وشاحذاً لما يمتلكه من دوافع انسانية تغري بالتأسي والتفجع لاوضاعها.

ولك أن تراع وتعجب بما لدى المؤلف الانجليزي من إمكانية في التحري والاستقصاء واستخراج الحقائق والتمييز بينها لمعرفة الصحيح وما شابه الخطل أو الشك في حقيقته وأحوجه الى الاستيثاق والصواب ، من مئات المدونات التي أسلفها المؤرخون في العصور الخالية ، وجميع هاته المراجع كتبت باللغات العربية والتركية والفارسية ومنها المخطوط والمطبوع والمُحَقَق بجهد أولئك الجنود المجهولين ممن منوا بالكنود والزراية نتيجة حرصهم على تراث الأسلاف وانتوائهم تقديمه لأفراد الجيل علَّهم يزدادون دراية وسعة اطلاع على ما حفل به تاريخهم من مفاخر تُعزى للأوساط الشعبية من جهة ومن صور قبيحة للدناءة والخزي تـُـنسَب لحاكميهم والمتولين عليهم من جهة اخرى ، ولا حاجة لان تذكرنا هذه المراجع المهمة في تسجيل الحوادث التي شهدتها بغداد والبصرة والموصل ومدن اخرى في الوطن في غير حقبة من حقب التاريخ كـ (مرآة الزوراء) و (غاية المرام) و (غرائب الأثر) و (تاريخ الموصل) ، بمؤلفيها المتوثقين الاثبات والمتوارين طي النسيان وجلهم يمتون الى أسرات علمية محترمة ، إنما الأخلق للدلالة على جحود أبنائنا وضآلة معرفتهم بما كابده صفوة من المشتغلين بالترجمة عن التركية والفارسية فضلاً عن إحيائهم وتحقيقهم تلك الآثار والمدونات وإشرافهم على طباعتها لتخلو من الهنات والسقطات النحوية والإملائية حتى وقت قريب من يومنا أمثال موسى كاظم نورس وصفاء خلوصي وخلف شوقي الداوودي ومحمد صديق الجليلي وسعيد الديوجي ، وهذه المراجع القليلة تيسرت للمؤلف واطلع على محتوياتها إما بواسطة إلمامه المبتسر بلغتها أو الاستعانة بمفسر و شارح لما احتوته من حقائق وأخبار.

خلف شوقي بغدادي
خلف شوقي بغدادي

هذا في المتيسر من المصنفات المودعة في دور الكتب ومكتبات المتاحف المشيدة في حواضر البلدان الشرقية ، فاما مؤلفات الرحالة الوافدين لهذه المنطقة بقصد استطلاع تاريخها ومن مختلف العناصر واللغات والأقطار التي انطلقوا منها نحو شتى المدن في العراق وإيران وبلاد الشام والدول الخليجية ، فزاروا بغداد والبصرة والموصل ومدن كردستان وحلب ودمشق والقدس وماردين وطهران وغيرها ، وعكفوا بعدها على وصف ما شاهدوه فيها واطلعوا عليه من أحوالها وما درجوا عليه من العادات والتقاليد وشعائر العبادة أو اكتنهوا ما يتفشى بين الاهالي ويسود الهيئة الاجتماعية من صور التنابذ والانقسام ، وعن تجلببِ الكثرة الكاثرة منها برداء موحِ للمجتلي بانها تمضي يومها مؤتلفة مع شركائها في المواطنة وفي غاية الانسجام تستوي علائقها وروابطها بهم. فتلك التآليف تنوف على التسعين كتبها بلدانيون ومبشرون وسواح استهل أولهم طوافه عام 1553 م وختمه المتأخر منهم عام 1913 م ، ولا يهم القارئ أن يحيط باسمائهم جميعاً ، فهي مدونة في ملحق الكتاب الأول وبجنبها تواريخ ومسمى كل رحلة ، واستظهارها جملة مما يشق على وجدان القارئ وذاكرته خاصةً إذا كان في عمر متقدم ، إلا إذا اقتضته حاجته الماسة لها ، كأن يستدل بما سجَّله من مشاهدات أو تواتى لخاطره من انطباعات راقته وأعجبته وساقته للتعويل عليها في استكمال ما شرع فيه من مشروعاته البحثية ، لكن تتبقى في ذاكرته بعض الأسماء المعروفة والمألوفة لفرط استغراقه في المطالعة من قبل أمثال نيبور الدانماركي والمسيو كليمان هوار الفرنسي.

وعندي أن أوفى من جميع المراجع بالغرض ، وأحفلها بالأمانة والصدقية بما فيها سجلات شركة الهند الشرقية وطرائف الكتب وأبعدها صيتاً أمثال “عنوان المجد في أحوال بغداد والبصرة ونجد” لمؤلفه ابراهيم فصيح الحيدري والتقييدات التي تحكي احوال كردستان أو تؤرخ للغزوات الوهابية ، هي التحقيقات المحلية التي أفادها من اشتغاله ثمانية اعوام مفتشاً إدارياً في الدولة العراقية ، فجاب أنحاء مختلفة وتنقل بين سكان القبائل في العراق واستانس بما خبره منهم من سرائر نقية وأخلاق فاضلة ، فكوَّن معهم صداقات وأواصر حميمة ، فأمدوه بما تختزنه ذاكرتهم أو يطوي عليه وجدانهم من معلومات ثرَّة تخص تاريخ قبيلتهم وأحوالها الاجتماعية وأوضاعها المعيشية التي تقلبت بين اليسر والرخاء وبين التعرض للضنك والحاجة والعجز عن امتلاك شيء من حطام الحياة ، وذلك من الأشياء البديهية أو الأمور الطبيعية المعتادة وغير المحوجة للبرهنة على الأسباب وحقيقة الدواعي ، وحسبه أن يثني على المصادفات التي أتاحت له الدنو منهم والاندماج بهم ومواصلة حديثه معهم ليملي من بعد أن تلك التحقيقات المباشرة إن غدت مرجعاً تاريخياً ، فما في ذلك من بأس ، ولا يمكن أن يفترى عليه أو يُطعن فيه ويُرام باحتياجه الى التثبت أو تشوبه مسحة الاضطراب ، فيقطع اللدد والنزاع حوله قائلاً إنه فريد في بابه ولا يمكن إحلال شيء محله.

موسى كاظم نورس
موسى كاظم نورس

والحديث عن ناقله الى العربية قد لا يمله القارئ ويبتعث فيه السأم ، لاسيما أن طبعته التي بيدنا هي الخامسة وقد صدرت ببيروت في العام 2004 م وهو طي الصفائح والرجام ، فقد غادرنا منذ سنوات بعيدة إذ يجيء في شبكة المعلومات الدولية أو يفضي لنا الأنترنيت أن وفاته صادفت سنة 1973 م وقد تكون ذاكرتي خانتني هذه المرة ، ففي تضاعيف مقال نشرته حول ترجمته لمذكرات المس بيل في العراق جاوزت هذا التاريخ اكثر ولي الحق في هذا التجاوز فما زلت متذكراً ما كان يدور في تجمعاتنا في أصباح الجمعة في سنوات القرن الماضي من أحاديث عمن يشغل وظيفة التعليم المهني في ديوان وزارة المعارف وما تسديه للبلد من خدمات ، فأمَّن غير واحد أنّ شاغلها هو الأستاذ جعفر الخياط ، ومعنى ذلك أنه كان في عداد الأحياء وقتذاك ، فإما أن تكون المعلومة في الأنترنيت مضلة وإما أنْ أكون أنا المخطئ إذ لم أحسن الاستماع أو جانبت تدقيق الخبر الذي تلّقفته أفمام أكثر من متحدث من حُضّار مجلسنا الذي صار اليوم متفرقاً ومبدداً.

والمهم أن نمحص ما جاء في فاتحة مقدمته الرابعة الصادرة ببغداد عام 1968 م ، من إن طبعته الأولى صابحت أفهام القرّاء واستأثرت بشغفهم دون بقية نظيراتها من المطبوعات في غضون عام 1941 م ، فإذا عرفنا انه من المتولدين عام 1910 م ، وأن عمله الترجمي هذا استنفد من أعوام عمره حتى ذلك الوقت الذي صدر فيه الكتاب خمسة أعوام منها على أقل افتراض ، لنا أن نعلن دهشتنا بما صار إليه من سعة إلمام بالعربية وذوق كلماتها وألفاظها ، ودراية بالأساليب المطبوعة التي يوفق إليها الكتّاب البارعون والمنشئِون المتفنون الحُذّاق ، هذا الى معرفته وخبرته بالإنجليزية وحذقه ما تعنيه مفرداتها من مرامٍ ومعانٍ ، وقد أتقنها من يوم قصد بيروت وانتظم في الجامعة الأمريكية هناك دارساً ، ومن ثم أوفد ببعثة علمية على نفقة الحكومة العراقية للدراسة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية ، ويؤوب منها حاصلاً على شهادة البكلوريوس بالعلوم ثم درجة ماجستير في العلوم الزراعية ، والمعول في معرفة اللغات على المخالطة والانخراط في زحام المجتمع وتكون الجدوى ومردود الانتفاع من الكتب هيناً ونزراً وقد لا يُعتد به بحال ، إلا أنه قد يعِد بمعاونة ملازمها على تطوير تمكنه منها وتجويده فيها.

kh jaafar alkhaiatوما أشبه حاله وأدناه من حال صنوه محمد بدران في مصر والذي قرأت له قبل سنين كتاباً مترجماً عن النهضة الأوربية هو “قصة الحضارة ، عصر الإيمان” للفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويليام جيمس ديورانت ، فهو مثله يبغي من عكوفه على الترجمة أن يحيي أو يشيع النفائس من الذخائر والأدبيات المأثورة لدى الأوروبيين وكانت العامل في رقيهم وسيرهم في ركب التقدم ، غير أنه يشاكله في خصلته الفذة القمينة بكل تجلةٍ وتقدير ، ألا وهي التنزه عن المباهاة بمنجزاته وأعماله وإيثار أن يظل مخفياً وسط مجتمع تتنافس فيه زمر من الناس على حيازة الوجاهة والمال ، ويستسهل الواحد منهم أن يبيح لذمته انتهاج ما ليس مقبولاً وسائغاً من المداهنة والختل في سبيل نيل مآربه والفوز بمطلبه.

وبحسبنا أن نسرد هذه الواقعة أو الحكاية عن شعور المترجم المصري الأستاذ محمد بدران بالاستحياء ، وتصوره حقيقة نفسه بغير الصورة المبهرة التي ينظر بموجبها عامة مثقفي زمنه ، وتقديرهم للقابليات والمواهب ، وحسن تمييزهم بين الأشخاص المرشحين للنهوض بالأعباء والمهمات ، فقد عنَّ له ذات يومٍ أن يتقدم بأكتوبة مبتسرة لطه حسين يوم كان منتدباً في ديوان وزارة المعارف ، مفادها أنه يود المساهمة معه بالترجمة ونقل عيون الآداب الأوروبية الى اللغة العربية ، واستدل بأثنين من العلماء والكُتّاب المعروفين هما أحمد أمين وعبد الحميد عبادي ، ينزل العميد عند رأيهما ويأخذ به على سبيل تزكيته والشهادة بجدارته ، فجاوبه العميد في الغاية من الدماثة والخلق العالي والأدب الرفيع ، أنه عاتب عليه لأنه يخاله غير محتاج للتزكية من أحد وأنه كفء لهذا العمل ، ويشرفه أن يشتغل معه – أي طه حسين – ويفيد منه في خدمة اللغة العربية.

وكذلك جعفر الخياط صاحب التراجم المهمة عن تاريخ العراق الحديث ، رام منها استحثاث شباب الجيل على مداومة القراءة ليعرفوا صورة وطنهم في أنظار الأوروبيين ، ويفقهوا من لزم منهم جانب الانصاف والموضوعية أو الحياد على الأقل ، ومن عمد الى الدس وتشويه الوقائع ، وأوغل في الافتراء وكيل الطعون لتاريخ المسلمين والعرب ، ومن السهل تبين كليهما أوالتمييز بينهما ، وخدم العراق في في عمله الوظيفي إبان العهد الملكي وبضع سنين من العهد الجمهوري بوصفه تربوياً وإدارياً لشؤون معارف الحلة وكربلاء والبصرة وكركوك زمن ثلاثينيات القرن الماضي لكن لِمُدد قصار ، ومتعاوناً مع منظمة اليونسكو لوضع برامج تعليمية ومهنية ، فأعد وترجم مؤلفات كثيرة منها ما أختير للتدريس في المدارس المتوسطة والثانوية ودور المعلمين ، وجُلها يشرح ويُفصِّل في شؤون الزراعة وعلم الحيوان ، ومع كل هذه الجهود الملحوظة المثمرة في تربية النشء ، أرى أنه عاش في الظل ، فمثلاً لم يُدْعَ لحضور كثير من المهرجانات الثقافية التي تنعقد لإحياء ذكرى أحد أساطين العلم وجهابذة الفكر في تاريخنا ، ولا إلى المؤتمرات الأدبية التي تموج عادةً بالحديث عن الإلتزام و دور الأديب العربي في معركة المصير ، ثم يّنجر بعض حُضّارها من أهل الزهو والغرور الى السفسافية والابتذال متحلقين حول من يحسبونهم رموز أدبنا وثقافتنا ، وأحرى أن يعدوهم من رعيل “ضم الغباء وعانق الفحشا” ، وما ادري كيف دُعي لها الدكتور على الوردي ذات يوم ، وحُلِئ عنها جعفر الخياط أو محمد توفيق حسين أو جليل أبو الحب.؟
والثلاثة عملوا في الترجمة والتحقيق و دعوا الى الاستفادة من مناهج الغربيين في نخل تراثنا دونما تهيب من ان يكونوا مدخولي النيات ، فأولاء النفر هم بلا مراء أحرص على الحذر منهم ومجانبتهم ، وإنما تانس نفوسهم بمن تمتلئ دخائلهم وسرائرهم بالتسامح الانساني ويسعون للتقريب بين البشر.

ودُعيَ لها مرةً المرحوم الدكتور ناجي الدوري (أو العبيدي ، كما قيل) وهو مؤلف “سفر عروبة العلماء” ، اضطره الهيام بعَرض من أعراض الدنيا إلى أن يجلس قبالة تلامذته التدريسيين في عمر متقدم كي يرشحوه لنيل الدكتوراه في التاريخ (كما يروي ذلك الراعي مصطفى نعمان البدري) ، وشهدته في جلسته في أحد المؤتمرات الادبية شبه مستغربٍ من أن كتاباته التاريخية لا تؤهله للشخوص بين هؤلاء المؤتمرين ، وأنه لا يعي التجديد في الفنون الأدبية. أليس التأليف في العلوم التاريخية لوناً من الأدب ، إذا استرشدنا بالمنهج التكاملي الذي يوصي قارئ الأدب أن يلم بكل شيء وأن يكون موسوعياً بأطراف الثقافة جمعاء؟.

وأخيراً فليستذكر أبناء العراق هذه الحقيقة التي وقفوا عليها في المدارس من قبل ، إن وطنهم ذو الموقع الحسن بين سائر الأوطان ، والمناخ الجميل الموائم للمعيشة على أي حال ، والتربة الخصبة والغنية بالثروات والكنوز الطبيعية من بترول وغيره ، وهذه العوامل جمعاء تؤهله ليبلغ شأواً بعيداً في التطور الزراعي والصناعي والثقافي ، و ذي هي عماد الازدهار والرقي الحضاري. غير أن سوء حظه أن يفتقد ساكنوه بعض الراحة وصفو البال ، ويلفون ذواتهم دوماً وطوال هذه القرون الأربعة عرضةً لأن تسترقهم وتستعبدهم واحدة من هاتين الجارتين المتصارعتين على أديمه ، ولا يَد لهم في اختيار موقعه منهما ، ولا يفقهون الحجة القوية أو الواهية المتهافتة التي تستمسك بها كل منهما ، والتي تتعلق بحقيقة المذهب الديني الذي يدين به الأهالي ويصرِّفون شؤونهم وامور حياتهم وفقه ، ويتخذ المسؤولون في كل من تركيا وإيران مسوغاً وذريعة للتدخل في الشأن العراقي على أساس أن الطيف الذي يتوافق ونزوعهم المذهبي ، نزل به بعض العسف واستبيح ذماره وانتهكت حرمته فترتب على هذه الحروب المستمرة حول شيء أو لا شيء ، أن رادفها استبداد الولاة وتفشي الأدواء وفناء الأرواح ، ونتيجتة تناقص السكان على شاكلةٍ فظيعة ، كل هذه الاحوال المؤسية أجلبت ما أجلبت على هذا الوطن وجمهوره التخلف في كل شيء ، وقعدت به عن اللحاق ببقية الأمم في الأخذ بقسطها من مآتي التطور الانساني المتجددة والمتنوعة على مر السنين ، فإذا هو يجد نفسه ضعيفاً متهالكاً حتى بداية القرن العشرين الذي خُتمت بإطلالته القرون الأربعة التي يؤرخها ويستعرض فصولها بتمكن واقتدار ، ويُمحص واقعها ، ويستقطر العبر والدروس منها ، مهيباً بجيل العراقيين في كل طور ومرحلة من القرن العشرين ، أن يتفقوا في كلمتهم ويوحدوا رأيهم في تجاوز أخطاء من مضوا ، قلت ان من بذل هذا الجهد المحمود في تصنيف سفر أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث هو السيد ستيفن همسلي لونكريك مرافق الحملة البريطانية التي وفدت لتغزو العراق ولتضمن ما يتيسر من المصالح الاستعمارية التي تعن لبال من يخطط لها ويعين هدفها من دهاقنة السياسة وعتاة المستعمرين غير مكترث بمصاير من أوفدهم الى أقاصٍ بعيدة ، فليس شرطاً أن يحالفهم الفوز والظفر بالذي راموه وتوخوه ، وانتظم الرجل بمجرد أن توقف القتال من جانب الذواد الرافضين لاستعباد وطنهم ، وانتهت الوجائب و المهمات العسكرية من جانب الواغلين الزاحفين في أنحاء هذا الوطن وقد تفننوا في حمل الجمهور ليقبلهم ويتعايش معهم ، أنهم جاؤا لتخليصهم من النير التركي ولتخفق ألوية الحرية في ربوع الوطن الغالي ، قلت انتظم الرجل مفتشاً إدارياً في الدولة العراقية بضع سنين. و أومأ مترجمه الفاضل جعفر الخياط إيماءً من خلال تقديمه لهذا السفر الموسوعي ، أن الفرد العراقي الذي يعيش اليوم هو وارث صفات وخصائص أولئك النفر المهطعين في معاناتهم الخوف والفزع ، وتحليهم بالختل والمداهنة ، ولجوئهم للمداراة والتعامل بوجهين مع مشيئة مَن فوقهم ، بالاذعان لها على قاعدة ليس لأحد نَفاق في مجتمعِ ما لم يتعامل معه بنِفاق. وهذه هي الازدواجية التي أذاعها علي الوردي في محاضراته وكتبه ، وعزاها لأسباب غير احتياز أهل العراق حصصاً ضافية من المظالم الفادحة ، وأوغل متفلسفاً في معنى البداوة والحضارة ، وأشفق على الناس منها بأسلوبه الناري المتوهج الاستاذ باقر ياسين في كتابه “تاريخ العنف الدموي في العراق” ، علماً أن علي الوردي وباقر ياسين ربما عَوَّلا على كتاب “أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث” في تصوير الأهوال والفجائع التي تتابعت بعد كل التحام بين الجارتين العزيزتين ، من أوبئة وفيضانات وهلاك الأرواح والأنفس بالألوف المؤلفة ، وأخيراً ما معنى معتاد الأهالي في المدن الفقيرة ، والجالسين في مقهى قريب أو مجاور لسراي الحكومة ، وقبل ثمانية عقود ، فقد كانوا ينهضون من مقاعدهم ويقفون محيين القائمقام إذا مر من جانبهم قاصداً دائرته ومقر عمله دون أن يحييهم ويسلم عليهم ، أليس هذا دلالة على الشعور بالضآلة وهوان الشأن نتيجة الرواسب الذهنية المتبقية من زمن الجور والاستعباد!؟ لكن العجيب في الأمر أن بعض من تحكموا بالعراق في غير حقبة ، وسدروا في أوهامهم فتصوروا أن الأيام تنصرهم وأن سلطتهم تدوم ، مستهينين بكل ما صدر عن أهل الحكمة والنظر البعيد من أقوال في ذم الجور والتمادي في استباحة حقوق الناس ، إذا بهم يدال منهم وينفض من حولهم المتزلفون و مَن حسَّنوا لهم الاستمرار على هذه الخطة ، ليبتلي الملأ بظهور أنفار من مدعي مناجزة ذلك الحاكم الجائر ويطلبون من الجميع ما ليس لهم.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *