1.3 صورة الألف
ظلّ الاهتمام الصوفي منصبّاً وبشكل خاصّ على حرف الألف لأنه يمثل بلا منازع الحرفَ الإلهي، ومعرفته تعني معرفة الله وأحديته، وهناك من الصوفيين من يقول بأن الله تعالى حينما خلق اللوح والقلم قال له اكتب قال وما أكتب فنظر إليه بعين الهيبة فقطرت من رأسه قطرة فنظر إليها بعين الكبرياء فصارت همزة ثم نظر إليها بعين العظمة فامتدّت وطالت وصارت ألفاً فقال الله عز وجل لأجعلنّ هذا الحرف أوّل الحروف ومبدأ الاسم الأعظم. أما النفّري فكان يرى بأن الحروف دون الألف مريضة، وفريد الدّين العطار يقول في (أشترنامة) بالصفحة الخامسة والتسعين بأن الأعداد المختلفة نشأت من حرف الألف بقيمته العددية المتمثلة في رقم واحد وعندما انحنى الألف نشأت الدّال وبانحناءة أخرى نشأت الرّاء وعندما انثنى طرفاه نشأت البَاء وعندما أخذ طرفاه شكلا سنبكيا نشأت النون، وهكذا دواليك بالنسبة لكلّ الأشكال المخلوقة على اختلافها من الوحْدة الإلهية. هذا بشكل مُوجز جدّاً ما قاله بعض كبار متصوفة الإسلام عن الألف وكيف وصفوه، فماذا عن أديب كمال الدّين الحروفي المعاصر محطّ بحث ودراسة هذا الكتاب؟ كيف ينظُر إلى الألف وكيف يراه وماذا قال عنه؟ وما علاقة هذا الحرف الشريف بطريق الجمَال والعشق الذي سلكه الشاعر عبر معارج الكلمة والشعر؟
ما من أحد وما من مادة يمكنها أن تزود القارئ والدارس معا بالجواب الشافي سوى ديوان الشاعر الأخير (مواقف الألف). ـ مواقف الألف
لماذا الألف ولماذا المواقف؟ أديب كمال الدّين يجيب القارئ بسرعة الوَمْضة عن هذا السّؤال ويقول منذ مفتتح الديوان ما يلي:
“اقتَبسَتُ مِن النفّري جُملةَ البَدء
ومِن دمي جُملةَ المُنتهى.
وما بين الجُملتين
بعينين دامعتين
وقلبٍ يشبهُ شجرةَ الأمل
كتبتُ كتاباً في مدحِ ملكِ الملوك،
ذاك الذي يقولُ للشيء كُنْ فيكون،
سَمّيتُه: لوعة عابرِ سبيل.
ثمَّ عُدتُ فَسمّيتُه:
نقطة شوقٍ وحرف أنين.
ثمَّ تأمّلتُ سبعين مَرّة
في سنّارةِ السنين،
تأمّلتُ مثل صيّاد
اصطادَ سمكةً في بطنِها ليرة ذهب،
لأُسمّيه: مواقف الألف
في اقتفاءِ أثرِ التائبين والتائهين والعاشقين. ”
هذا المفتتح كما وصفَهُ صاحبُه هو حقّاً بابٌ ومفتاح في الوقت ذاته لكلّ مسار تجربة أديب كمال الدّين وهو مفتتح يتكون من عناصر غنيّة يمكن تجسيدُها عبر المخطوط الآتي:
الصورة رقم 2
من هذا الرسم التخطيطي المبسط يظهر جليّاً المِعْراج الحروفيّ الذي مرّ به الشاعر، فهو خرج من الباب عابرَ سبيل ووصل إليه تائباً عاشقاً، أو بتعبير آخر خرج منه أديبياً حروفياً، وصار فيه صياداً فخبر البحرَ والسنارة والسّمكة والليرة، وحينمَا وصل إلى شاطئ المنتهى أصبح مواقفياً نفّرياً بعد أن مرّ بحجاب نقطة الشوق وحرف الأنين. ما معنى كلّ هذا؟ ما معنى أن يصير الحروفي نفّرياً وأيهما أسبق، أن يكون العارفُ حروفياً أولاً ثم يصير نفرياً مواقفياً أم أنّه عليه أن يكونهمَا معا منذ البداية وحتى النهاية؟
عنوان الديوان أي (مواقف الألف) يجيبُ عن هذا السّؤال جامعاً بين الموقف والحرف وبين النفّري والألف، وهذا يعني أن أديب كمال الدّين هو موقفي ألِفي ونفّري حروفي في الوقت ذاته وليس ثمة برزخ يفصلُ بين الصّفتين أو الطريقين. لكنْ ما معنى هذا؟ وما المَقصود من هذا الدّيوان الإشكالية؟
ـ محمد بن عبد الجبار النفّري وأديب كمال الدّين
من هاجس السّؤال إلى هاجس المعنى وبينهما نار حارقة لا برد فيها ولا سلام؛ من لقاء مع أبي حيّان التوحيدي أسفر عن ديوان أسماه أديب كمال الدّين (جيم) وأشعل فيه فتيل اللماذا، إلى لقاء مع عبد الجبّار النفّري كانت ثمرته (مواقف الألف) وجواب عن ماهية المعنى وسريالية الللامعنى. إنه معراج ثقافيّ كبير دام أكثرَ من ثلاثٍ وعشرين سنة قضاها الشاعر أديب كمال الدّين موزعاً بين الشرق والغرب، بين الأسطورة والواقع واللاواقع، وبين عدميةِ وعبثيةِ الحرب واللاحرب حيث ما من سلم ولا سلام وحيث ما من نهار ولا ليل. إنه المعْراج الثقافي الذي أنتج لنا هاجساً آخر لا يقلّ أهميّة عن هاجس السّؤال والمعنى، هو هاجس اللغة والبديلُ الخطابي سيما وأن المثقفَ العربي وصل إلى واقع من التشظي انفصلتْ فيه علاقتُه بالواقع فكانَ لابدّ من صحوة تزحزح الذات المريضة والمسكونة بالفواجع والآلام، وتزلزلُ لغتها النخرة الغارقة في صدأها وقيحها وتصلُ بها إلى مرحلة التأسيس لخطابٍ جديدٍ وعلاقة أجدّ بالعالم انطلاقاً من لغة تسمو بالإنسان وتنقذه من براثن الضياع والعدمِ السعيد ببؤسه وخوائه العظيم.
لا أحد يعرفُ متى وُلد محمد بن عبد الجبّار لكن معظم الدّارسين اتفقوا على أن مسقط رأسه كان بنفرّ البلد المحاذي لبابل أو المدينة التي وُلد بها الشاعر أديب كمال الدّين. طبعاً لا يقصد من هذه الإشارة القول فقط بتأثير مسقط الرأس على المسيرة الأدبية والعرفانية لكلّ من الشاعرين ولكن لفت الانتباه إلى فارق اللحظة التاريخية بينهُما والتساؤل عن كيفَ يُمكنُ لأرضٍ أن تحبل وتلد عبر حقبتين تاريخيتين مختلفتين، رمزين كان همّ الأولُ منهما زلزلة اللغة وهو وسط عين الغيبة ، وهمّ الثاني إكمال ما بدأه النفّري من حفر ثقافي خطير دفع بصاحبه إلى الاختفاء عن العيون، خاصة وأن محنة الحلاج آنذاك كانت بالنسبة للعديد من الصوفيين بمن فيهم النفّري درساً قاسياً دامت آثاره لقرون عدة، بل مازالت إلى يومنا هذا، إذ لا عجب في تشابه الأسباب وتجددها، فالجمجمة التي تحوي الفكر الفاسد تبدو وكأنها مفْرَخة تُجدد باستمرار بيضها الفاسد وعلى مرّ العصور، بيض لا يتوانى عن تفقيس فراخ الجهل الذي يترصد لكل فعل تجديدي يحاول زحزحة أخطبوط التكلس الذي يجثم بممصّاته القوية على زجاجة روح الإنسانية. فمنذ قرون مضت كان قد ظهر النفّري بالعراق وطرح سؤال المعنى كفعل عميق يرمي إلى الكشف عن مختلف الأشكال المعرفية للإنسان منطلقاً في هذا الطّرح الجديد القديم من منهاج يعتمد على طريق الوصول إلى الله عبر الوقفة والمخاطبة وعبرالولاية والرؤية كي يتمّ للإنسان المُسلم أو المُؤمن بشكل عام استجلاء شكل خطابي جديد يُحقق له الانسجام الفعلي مع ذاته والتواصُل الفعّال مع جوهره، فيتجسّد بذلك إحياء ما يسمّى بالنّص الشعري الفكري المبني على الفعلِ والمفاعلةِ بين مُتكلّمٍ ومُخاطبٍ يتبادلان الموقعَ من أجل بناء معنى جديد على ومن أنقاض معنى قديمٍ سبق هدمُه. فهل هذا ما حققه الشاعر أديب كمال الدّين في نصوصه ومواقفه الألِفية؟
قد يتوهّمُ الدارس ويتخيل أن الجواب سيكون متحيزا للفكرة القائلة بتشابه مساري الشاعرين وأسلوبيهما في طرح سؤال المعنى، لكن الاطّلاع على تجربة أديب كمال الدّين يُوصل إلى نتيجة مخالفة تفنّد تماماً ما يكونُ قد توقعهُ القارئُ عبر إيحاءات العنوان الذي اختاره أديب كمال الدّين لديوان (مواقف الألف) إذ أنّ وقفة هذا الأخير هي مُخالفة تماماً لوقفة النفّري وسؤالُ أديب عن المعنى هو كذلك مخالفٌ لسؤال النفّري، فإذا كان سؤال النفّري مبني على القطيعة مع ماضي بعض متصوفة الإسلام الذين كان هدفهم الأساسي هو تحديد معاني خاصة بأدبيات وسلوكيات العارف بما في ذلك أساليب المجاهدة وتربية النفس، فإن سؤال أديب كمال الدّين مبني على وَصل خطاب زمنه وحاضره بالخطاب الذي بقي معلّقاً حتى زمن النفّري ونسيه أو تناساه الجميع بدعوى تحديث وحداثة الشعر العربي، ولكن مع إضافة جديدة؛ إذا كانت مواقف النفّري قد تغاضت عن أسلوب المخاطبات والحواريات القرآنية فإنّ أديب كمال الدّين لا يتحرّك في ديوان (مواقف الألف) إلا داخل ووسط مخاطبات وأسلوب القرآن الكريم:
“نعم، فمن القرآن الكريم نهلتُ معارفي في مختلف الأصعدة. فالقرآن الكريم بحر عظيم وفيه علم ما كان وسيكون، أي علم الأسئلة الكبرى التي واجهت البشرية منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار الأنبياء والمرسلين، وتفاصيل عذاباتهم ومعاناتهم وصبرهم وغربتهم وأحزانهم وهم يبلّغون في مختلف الأزمنة والأمكنة رسالةَ التوحيد والمحبة والسلام واحترام الآخر وعدم تحقيره أو الاعتداء عليه بأيّ شكل كان وبأيّة صورة كانت. وهو لكلّ كاتب وشاعر وأديب كنز لا يفنى من المعارف اللغوية والروحية والفكرية، والأسرار الإلهية، والقصص المعتبرة، والمواقف الأخلاقية ذات المضامين العميقة، والحوارات الفلسفية واليومية ما بين الخالق ورسله وما بين رسله وأناسهم. ”
عند النفّري تبدأ القطيعة مع الذات ببلوغ درجة الولاية والتي من خلالها يبدأ التواصل الحقيقي مع الله، وتبدو الحقيقة كفعل غير مواكب لعملية النزوع ولكنّها تتحقق بحصُول الأثر حين يُرفع الحِجاب ويؤذن للعارف بالولاية التي هي ليست خاطراً أو صورةً يتمثل فيها الصّوفي قربه من الله ولكنها موقف نهائي نتيجة بلوغ العارف نهاية الطريق. والنفّري يُعبّر عن هذا الوصول بشكل في غاية الخطورة والإرباك، وهذه لمعة تلوح الآن، فهو بقدر عُمق وقوّة خطابه وفعله الثقافي يبدو ساخراً من المتلقّي، وكأنه يقول له وهو واقف أمام حجاب اخضرار العين والعمامة، واخضرار الجبة وابتسامة الفيه بمكر عجيب: “لن أعْطيك الأمان، ولن أناولك الكُوز، ولن تشرب من بحر عرفاني إلا لتزداد عطشاً، وحتى وإن بدوتُ لك قد أوصلتك إلى فعل وخطاب جديد فإنني مازلتُ هنا وكلّ ما قلته فهو غيرُ قارّ وقابل للنسف والهدم على الدوام.”
أما عند أديب كمال الدّين ففعله الثقافي قارّ ولغتُه وخطابُه الجديد ثابت ولا شيء يُزحزحه ويهدُمه لأنّه إعادةُ صياغة جديدة لأسلوب الوَحي بشكلٍ سلس يكون في متناول جميع الناس بمختلف أعمارهم ومستوياتهم الفكرية والثقافية، وثباتُ أسلوبه وفعله الجديد هذا نابعٌ من تباث الأرض التي ينطلقُ منها، أي كلمة القرآن الكريم لذا تجده يقول في موقف الكتابة:
“أوقَفَني في موقفِ الكتابة
وقال: يا عبدي
كلُّ كتابةٍ لا تَتَبسملُ باسمي،
ولا تُشيرُ إلى جَنّتي وجَهنّمي،
ولا تَحضُّ على مَحبّتي،
وعلى شُرْبِ كأسِ مَحبّتي،
إنّما هي كتابة العابثين. ”
ما معنى إذن أن يكون فعل الكتابة الذي يتمُّ خارج إطار اسم الله، كتابة عابثة أو فعلاً ثقافياً عابثاً؟
يقولُ النفّري في موقف المراتب: ” وقال لي منْ عرفني فلا عيشَ له إلا في معْرفتي ومن رآني فلا قوّة له إلا في رؤيتِي. وقال إذا جاءَكَ التأويلُ فقد جاءكَ حجابي الذي لا أنظرُ إليه ومقتي الذي لا أعطفُ عليه. وقال لي من فارقه العلمُ لزمه الجهلُ وقاده إلى المهالكِ ومن لزمه العلمُ فتح له أبوابَ المزيد منه” . ويقول أديب كمال الدّين في موقف الحاجب ما يلي:
“أوقَفَني في موقفِ الحاجب
وقال: ما أسعدكَ اليومَ يا عبدي،
لا حاجب اليومَ لك
عن نوري وظلِّي.
دمعتُكَ ستقودكَ إليّ
وهي تغسلُ غربتَكَ وَيُتمَك
وتطلقُ طيورَ سعْدِك.
دمعتُكَ ستكشفُ لكَ عن لوعتِك
وتطهّرُكَ من عنكبوتِ ذنبِك
وأبابيل خوفِكَ وطلاسم دهرك.
دمعتُكَ ستكتبُ لك
شِعْراً بابه لي،
وممرّه لي،
وعنوانه لي،
ومدائنه لي،
ومواقفه لي،
وخلاصته: أنّكَ قد عَرفت،
ولم تعدْ جاهلاً أو ضائعاً
حتّى صارَ اسمُكَ العارف بي:
أنا عنوان سرّك. ”
كلا الشاعرين وإن بأسلوبٍ مختلفٍ يُشير إلى موقفٍ في غاية الحساسيّة، وهُوَ موقفُ الوصول إلى درجة العرفان والحصول على صفة العارف، ويبدو أديب كمال الدّين في قصيدته وكأنّه يشرحُ ما ورد في نص النفّري، ويؤكّدُ على مفهومٍ مُهمّ مفادُه أنّ الإنسان إذا وصلَ إلى مقامِ المَعرفة فإنّ ذلك يقتضِي التحكمّ في جميع القوى إذ لا يُمكنُه بعدَ هذا المقام أن يعيش بعيداً عن المعْرفة أو يؤسّس لفعلٍ كتابي خارج عنها أو بعيدٍ عن اسم الله أو عن ذات الله وصفاتِه. وقوّة المعْرفة تنبعُ من قوة الرّؤية باعتبار الأولى جزء من كُلّ الثانية ولا مفرّ فيها من المكر الإلهي سواء ذاك الذي يهمّ المكر الذي يحرم فيها العبد من عطايا الله وهذا غير وارد أبداً بالنسبة لمن تحققت له درجة العرفانية، أو المكْر الذي من خلاله يتعرف الحقّ إلى عبده من وراء حجاب وهو النوع الذي أشار إليه أديب كمال الدّين في قصيدته (موقف الحجاب):
“أوقَفَني في موقفِ الحجاب
وقال: يا عبدي
أعملتَ لتنالَ مطرَ رحمتي حجاباً
وأنتَ الذي تمزجُ شمسَ الغروب
بشمسِ الفجرِ في كهيعص نوري
وحم كتابي
وطسم عرشي وجلالتي وحضوري؟
كيف يحدثُ هذا؟
ألا يكفيكَ أن يكونَ قلبك
هو قلب السؤال:
بابه الحمد،
وعلامته أن لا شريك لي،
ونبضته دعاء وجواب؟”
وهو نوع من التعرّف الإلهي لا يعرفه إلا من تمّ اصطفاؤه. لذا فإن السّالك في طريق الجمال نحو ربّ البهاء إذا كانت خطاه قائمة على أصل ثابت وسلّم نفسَه إلى ربّه تعالى فإنه لا يجوزُ له بعد ذلك أن يتأوّل فيما نفع، لأن الله هو الذي يصبح مخلّصه من كل شيء لا التأويل، ويصبُح الله هو عقله وعلمه وقلبُه.
وموقف الحجاب عند أديب كمال الدّين، لا يعني أبداً أنه محجوب أثناء الوقوف في الحجاب بل على العكس من ذلك، فهو في هذه الحالة مشاهد لحقيقةِ الحجاب وإن كانَ يبدو في الأسطُر الأخيرة من نصه طامعاً في المزيد، وكأنّه يرغبُ في تجاوز حقيقة الحجاب وحقيقة السؤال لولا عتاب الله له: “ألا يكفيكَ أن يكونَ قلبك / هو قلب السؤال:/ بابه الحمد،/ وعلامته أن لا شريك لي،/ ونبضته دعاء وجواب؟” وهو عتاب في باطنه إرشاد من خلاله يراد للشاعر أن يهتدي لدرجة الحجاب الذي هو واقف فيه، أحجاب بالخلق أم حجاب بالخالق؟ وقد سبق للنفّري أن أجاب عن هذا السّؤال حينما قال: “من حجبته بخلقي برزت له، ومن حجبته بنفسي لم أبرز له ولم يرني” ولعلّ أديب كمال الدّين من الطائفة الثانية، أي ممن احتجب الخالق عنهم بنفسه لأن الحجاب الحق هو حجاب من حُجب بالخلق، لأن ذلك يعني أنه حينما ترد على هذا المحجوب الأنوار فإنها لن تمحو سوى حجب الخلق باعتبارها ظلم تتجلّى بالنور أما الحَجب بالخالق فهو ليس بحجْب حقيقي لأن النور لا يمحي النور أبداً.
والعودة إلى الصيغة التي جاء بها العتاب الإلهي في نص أديب كمال الدّين، تمكّن الدارس من استجلاء ما يلي من الإشارات: الله هو السائل وليس العارف وهو أمر أرادته اليد الكاتبة للنّص والفكر الملقي بالحرف المكتوب، وذلك انطلاقاً من المبدأ القائل بأن للعارف أن يسأل الله كل شيء إلا شيئاً واحداً: السؤال عن الله ذاته. أي على العارف أن يعتبر كل شيء يجده علامة دالة على الله وإذا تحققت الرؤية فهذا يضمن بقاء الرائي.
والرؤية هي غاية الروح بالنسبة للشاعرين معاً، النفّري وأديب كمال الدّين، وهي تعني خروج الإنسان من عذابه وشقائه وحيرته وإن كان يبدو في نصوص النفّري بعض ما يقلق من القيد الناتج عن صراع الأضداد والمتنافيات التي تضجّ بها صفحات مواقفه ومخاطباته، ولربما هذا مقصود، وكأن النفّري يريد للمتلقّي أن يستشف عالم ماورائيات هذه الأضداد والمتنافيات بهدف الوصول إلى فضاء لا قيد فيه ولا حد. إنها الحرية التي يسعى إليها أيضاً أديب كمال الدّين باعتبار هذه الأخيرة هي ماهية الرؤية فلا شيء يوجد في كتاباته سوى الحضرة المطلقة التي لا تبدأ ولا تنتهي، إذ هو تجاوز كل مظهر من مظاهر الواقع وارتفع إلى البارئ ناشدا السمو الذي هو منظر الأولياء ومسكن وبلسم روحهم.
ـ الموقف والواقف
يقول أديب كمال الدّين في ديوانه (أقول الحرف وأعني أصابعي):
“أحببتُكَ وأنا داخل النّص
وأحببتُكَ وأنا خارج النّص
وأحببتُكَ وأنا أكتبُ في نقطةِ النّص،
فكنْ بي رحيماً
– أنتَ الذي اسمكَ الرحمة-
فالنّص لا يعرفُ مَن يتنفسه
في كلّ لحظة
ويتألقُ به وسط الظلام
في كلّ لحظة
وينبضُ به في كلّ لحظة.
أنتَ،
وأنتَ فقط،
يعرفُ مَن يقرأ النّص
دون أن يسبر غوره
ويعرفُ، كذلك، مَن يتنفسه
حتّى يكاد ينبضهُ نبضةً نبضة
داخل القلب.
فكنْ بي رحيماً
وأنا داخل النّص
وأنا خارج النّص
فالظلامُ الذي يشتدُّ حولي
ليس كأيّ ظلام
والعطشُ الذي شققَ لساني
جعل كلماتي جريحة
مثل غزال أكل قلبه النمر. ”
يشيرُ أديب كمال الدّين هنا إلى إشكالية محنة النّص، وهي ذاتها التي قادته إلى ختم كلّ ماكتبه بالوقفة وبطلب النجاة في محراب الألف.
أن يوجد النّص، فهذا لا يعني شيئاً، لكن أن تكون له مقومات الوجود والحياة فهذا هو لبّ القضية. فالنّص عليه أن يكافح ويصارع كي يكون ويصل للمتلقّي. أما في حالة عجز القارئ عن قطف ثمار النّص، فهذا يعني أن النّص أصبح في محنة وقد تتحوّل المحنة إلى كارثة، إذا ما تجاوزت المحنة شكل النّص وضربت عمق بنية خطابه، عندئذ ينقصم ظهره و تنطمس ملامحه وتصبح نقاطه وأحرفه مجرد قلق وانفعال واضطراب. فهل هذا ما يتحدث عنه أديب كمال الدّين في قصيدته؟ الجواب يوجد في عبارة:”غزال أكل قلبه النمر”. إنّ النّص الذي يقصده أديب كمال الدّين، هو النّص الذي لا يكْتبُ إلا عن الله وبالله ولله. فالشاعر هنا مرشد للمتلقّي، وكأنه يريد أن يقول له: إياك وأن ترتكب خطأ الدّخول القاطع أوالخروج القاطع من النّص، فإن أنت دخلته فلا تقم فيه أبد الدّهر وإن خرجت منه فلا تخرج منه إلى الأبد، وكن فيه وبه مجرّد عابر أو زائر خفيف الظل والحضور، ولا يضيرك أن يأكل قلبك النمر، فهذا هو ثمن صدق الكلمة التي تكتبها، إذ كلما كنت صادقاً، كلما كانت كلماتك بلون الدم، والدم لون الجرح والجرح حياة ينبض قلبها بالألم والفرح، ولا تطمع أبداً في أكثر من هذا، إذ الطمع في المزيد، طمع في الخروج من الجهل والخروج من الجهل علْم يغطيه حجاب، والعلم المحجوب نص محجوب أو حرف محجوب لا يلج الحضرة.
كل هذا يعني أن كل عارف هو “نص” يحتاج في قراءته إلى مايحتاجه أي نص آخر، وكل شاعر هو “نص” يختلف في مضمونه عن أي شاعر آخر، لكن حينما يكون الشاعر عارفاً أو العارف شاعراً، فإنّ نصه يصبح أكثر تعرياً وتحدياً لأنه لا يحتاج فقط لمجرد قراءة أو تحليل ولكنه يحتاج إلى تشخيص ربما يقود إلى تشخيص لاوعي شعب بكامله أو أمة برُمّتها، مادام نصه يرقى إلى العمق والديمومة لفترات أطول من الزمن وهذا نابع من قدرة هذا النوع من النّصوص على تجديد نفسها باستمرار ومخاطبة أكثر من مستوى من وعي المتلقّي.
ووقفة أديب كمال الدّين ختامية حرقت كل ماسبقها من كلام في حضرة النقطة أو في حضرة الحروف باستثناء حرف الألف، الذي لبسه الشاعر جوشناً، فصار منه وفيه بل صار هو نفسه الألف الشريف، قيوم الحروف كلها، فوقف وفوض أمره لله عاثرا فيه على ذاته مستندا عليها ومعتمدا على عصاها غير طالب أي شيء من الحق، إذ لا دعاء في الوقفة لأنه ليس فيها غير الله، والدعاء كما هو معروف يكون من العبد إلى خالقه، لذا فلا يعقل أن يكون داخل الوقفة العبد وربه ولكن الله وحده ولا أحد سواه. لذا يُقال إنّ الواقف لا يحدّه بيت ولا مقام، لأن البيوت والمقامات هي حضرات الأسماء والوقفة هي خاصة بالحق عز وعلا، ومن هنا تصدير أديب كمال الدّين لمجموعته بالآية الخامسة والثلاثين من سورة النّور، وذكره في المفتتح للعبارة التالية:”كتبتُ كتاباً في مدحِ ملكِ الملوك”. ومن هذا المنطلق سوف لن يشار إلى الشاعر فيما سيأتي من التحليل والكتابة إلا باسمه أو بالواقف وسيلغى من معجم القادم من الأسطر مصطلح “العارف”، إذ لا يجوز للواقف أن يسمى عارفا، لأن هذا الأخير فيه بقية من أثر يقتضي التثنية أو الازدواج أما الواقف فهو واحد تقوم به الحقيقة المطلقة وهو يحيط بكل المقامات ويعرف الأشياء وهو في نفسه لا يعرف، ذلك لأن كل معرفة تحترق في الوقفة والعارف يخبر عن المعرفة أما الواقف فيخبر عن الله.
ومواقف أديب كمال الدّين لا يطيقها إلا المؤمنون وهي منهاج يرقى بالروح إلى عرش ملك الملوك حيث لا انشطار ولا انقسام، وهي أيضاً تدشين لمشروع حرية الذات البشرية عبر تذكير القارئ بسلسلة من المواقف التي يتحدث فيها عن قصص العديد من الأنبياء ومحنهم المختلفة بغرض التخلص من ثقل المادة وحفظ شفافية الروح حتى تصبح مرآة صقيلة صالحة لاستقبال الأنوار العلوية، لذا فديوان (مواقف الألف) رؤية لا تناقض فيها ولا تضاد ولا غموض قد يثبطّ عزيمة القارئ فتدفعه إلى الانصراف عنه، وهو أي الديوان، بكل نصوصه الخمسة والخمسين، سعادة وفرح بل جمال مطلق يكرم بها الشّاعر الواقف قارءه عبر مشروع يهدف من ورائه إلى تخليص اللغة من قيودها والاتجاه بها نحو البساطة والاختزال والدّقة.
وأديب كمال الدّين في نصوصه الواقفة يخرق إحدى أهم قواعد الخطاب والمخاطبة، أي المشاركة وذلك من خلال تبرّئه من خطابه باستعماله لعبارتي “أوقفني…وقال” ثم “يا عبدي” وهذا لثقته بالمتلقّي وبقدرته على تأويل يبرر له هذا الخرق الحاصل، باعتبار أن هذه النّصوص لها من الحمولة الإخبارية ما لا يُستطاع معها نفي حقيقتها ومعانيها لأنها مستنبطة من معاني القرآن الكريم. لأجل هذا يمكن القول بأن نصوص الشاعر الواقف قد وفّقت في تقديم الخطاب الشعري كحركة مزدوجة لها ظاهر وباطن، باطن لا يلغي أبداً ظاهره بل يدعّمه ويكشف فيه عن عمق التجلّيات الإلهية بشكل يهدف إلى تجاوز الموجودات نحو علاقة فنية تهدف إلى تذوّق الجمال المطلق للخالق والخلق. فظاهر النّص إذن ثابت وباطنه متحرك باعتباره يشير إلى الحقيقة التي لا تُدرك إلا بالبصيرة والتي تقتضي حركة اختراق من أجل استبطان البنية الرمزية للعالم حتى يتمكن المتلقّي من اختصار المسافة بين البارئ والمخلوق، والخروج من التجزؤ إلى الوحدة والانسجام الموصل إلى السعادة.
هوامش :
أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012 ص 11.
2مقطع من الحوار الذي أجراه عذاب الركابي ونُشر في صحيفة الزمان اللندنية بتاريخ 19 تشرين الثاني- نوفمبر 2011.
3أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2012 ص 64.
4 محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّري، المواقف، تحقيق آرثر يوحنا أربري، مكتبة المتنبي، القاهرة، 1935 ص 93.
5 أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012، ص 79 .
6 أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012، ص 90.
أديب كمال الدّين، “غزال أكل قلبه النمر”، من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت، لبنان 2011، ص 27.