تتفاوتِ الصور في مجموعة: (ما يختصره الكحل يتوسّع فيه الزبيب)، منها ما يقف عند حدود الشكل الخارجي أو المشاهدة، ومنها ما يتعدى هذه الحدود إلى يمكن ان نسميه بالمعايشة، وهذا يحدث حين تلتقي الصورة بالحركة الداخلية، في تنافر أو ائتلاف، في اقتراب أو ابتعاد، فالشعر عند مقداد مسعود لا يسعى إلى تغيير الحياة، فحسب، وإنما يزيد في نموها وغناها ودفعها إلى الأمام، ومن هنا كان الشعر عنده أعمق انهماكات الإنسان وأكثرها أصالة. وواضح أن مسعود يرسم هذه الصورة التي تجتمع فيها عناصر اللون والحركة والصوت، لإظهار العمل الشعري من كونه عملاً متكاملاً، فيه الظواهر الفنية متشابكة أشد التشابك، واحدة منها تقود إلى الأخرى، وواحدة تبعث الثانية وتستدعيها، وما من شك في أن الشاعر هو القادر على بث شعرية الصورة، من وجهة نظر فنية تحليلية، تصب في الجانب التأثيري الذي يدركه الحس الذي يقوّي فاعلية الصورة المدركة، التي تعتمد على أمكانية التوافق بين المدركات الخارجية وارتباطها بالقيمة النفسية، وفي هذا دليل على العلاقة بين المحسوس والمجرد، من الوجهة النفسية، إذ يشير إلى ذلك: (حازم القرطاجني ت 684هـ )، بالقول: إن كل شيء له وجود خارج الذهن، فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه، فإذا عبّر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبّر به عن هيئة تلك الصورة الذهنية في إفهام السامعين. إنّ الشعر قائم على الصورة منذ أن وجد، ولكن استعمالها يتباين بين شاعر وآخر، حتى غدت هذه الصورة تختلف بين بيئة وأخرى، وبين مجتمع وآخر، وبين المراحل الزمنية، التي يمر بها الشاعر على مدى سني عمره، فقوة الشعر تتمثل في الإيحاء بالأفكار عن طريق الصور، لا في التصريح بالأفكار المجردة،
ولا في المبالغة في وصفها، كما انه لا يجوز اطلاقاً ردّ جمال الصورة وروعتها إلى حاسة دون أخرى، لأنها نتاج الحواس جميعاً، فالطابع الأعم للصورة، هو كونها مرئية تعبّر عن نفسية الشاعر، وتستوعب احاسيسه وتعين على كشف معنى أعمق من المعنى الظاهري للقصيدة عن طريق ميزة الإيحاء والرمز فيها، والشاعر مقداد مسعود لا يكتب لنفسه، بل هو ينقل فكرته وعاطفته في صورة، تتباين حدودها وتختلف تفسيراتها، إذ يمكن أن تكون كلمة أو جملة أو نصاً مؤتلفاً. ويبني الشاعر صورته بأساليب عدة، أهمها تبادل المدركات، والتشبيه، والاستعارة، والرمز بأشكاله المختلفة، والوصف المباشر، إذ تظهر هذه الأساليب في العمل الشعري، من خلال جملة من الأعراف الأسلوبية والشكليّة، كما نلحظ ذلك في الصورة الموسّعة في نص: (ما تيسر من…..)، التي تقوم على خط مستقيم ولكنه متعدد التشابك، وهذه هي أحدى علامات شعرية النص المتفرقة أو المبثوثة هنا وهناك، إذ نجد أن الكلام يتعلق بعضه ببعض، لإظهار عناصر بلاغية لها شفرتها الخاصة في عملية التلقي، في مثل: (خمس مزايا، يصنع لي ساعة، يبادرني بالضحك، يمنحني حرية الغرباء، يحصّنني من عيون الغروب)، وجميعها مشخّصة تأخذ أبعادها من التصعيد الفني المتسم بالمتعة أو الإثارة: للمطر خمس مزايا…
أولاً.. يذكرني بالحذاء….
ثانياً.. يصنع لي ساعةً من طبول أفريقيا….
رابعاً.. يبادرني بالضحك..
خامساً…
سابعا… يمنحني حرية الغرباء
ثالثاً… يحصّنني من عيون الغروب
عاشرأ.. يشطّف
لثغتي
من
أفاعي الفاكهة
أما في الوصف المباشر، فقد نجد ان بنية النص التركيبية في شعر مقداد مسعود، بنية مراوغة- إذا صح التعبير- تهمل كل ما هو شائع ومتداول ومواز للآخرين، إذ يمثّل الوصف عنده البعد الحقيقي لطبيعة الأشياء، فهو يجسد فيها الحركة لأجزائها والإضاءة لألوانها، ومن ثم التعبير عن مدياتها، فهو لم يأت فاقداً للخيال والروح الشعرية كما يقال، بل يقف أمام الأشياء لينقل منها مشهداً من الحواس إلى النفس، بصورة تتحد لتصبح مفهوماً جديداَ، كما في نصه: (إيقاع فوتوغراف)، الذي يشتغل على سمات أسلوبية ينفرد بها الشاعر، لتحقيق أهداف واضحة تبثّ ما يريده: هي شعرها كارسون..
من شحمتي أذنيها تتدلى، ليرتان ذهبيتان
تنتعل (أسكاربيل) فاحم
ومن بنفسجة الموهير: كوستمها الفاخر..
(استعجل في خياطته
فرحاً بك وباسمك الذي هيئه قبل
مجيئك الرخيم)
هذا ما روته صاحبة الكوستم..
وهكذا نجد أن شعرية الصورة عند مقداد مسعود، ملمحاَ أسلوبياَ يمكن الإفادة منه في التعبير عمّا يجول في نفسه، لأنه أكثر ميلاَ إلى اكتشاف الإمكانيات الخصبة في الظواهر الغامضة التي تحيط به، وتمخّض عن ذلك أن يتجه الشاعر في بناء نصه على وفق رؤية جديدة، تخرج القصيدة إلى مساحات جديدة لم تطأها من قبل، لأنه يملك ذاكرة شفاهية كبيرة لأحداث ثقافية يومية، ساعدته على أن التوازن بين هذه الشفاهية والسياق النصي، للعثور على موضوعات لا حصر لها، طالما أن الوظيفة الشعرية تخلق التكافؤ بين وحدة النص وفاعليته وما يطرحه من أفكار ورؤى، وجميعها تسهم في استنطاق المفردة الشعرية، كما في نص: (تمثال السياب) وصوره الفاعلة في (يخلع على الشط ملابسه) و(يهز قصائده كلها) و(تتدفق من الشبابيك):
يغادر منصتهُ في جوشن الليل
يخلع على الشط ملابسهُ
يتدفق الشط في جسمهِ
يتذكر بارا
ولا ينسى مظاهرةً عارمةً
لا يقصد النخل
يهز قصائده كلها..
بحثاً عن خشب سائل..
تتدفق منه الشبابيك
وشمس وفيقة…
وتشغل الصورة التشبيهية في هذه المجموعة، أقصى حدّة عاطفية، وإلى مزيج متجانس من اللوحات من غير أن تترهل، وكأنّها مشحونة ببعض الخصائص الفنية المزودة بأساليب مختلفة، مما يدل على اهتمام الشاعر بهذا الضرب من التصوير كما في نص: (غصن.. من)، الذي نشعر بمفرداته الشعرية وخاصيته المرنة، وذلك عبر الاستخدام الأمثل للجملة التشبيهية، التي فيها الصورة الممتدة، كصورة واحدة أو مجموعة من الصور الصغيرة، إذ إن ثمة وشيجة صغيرة تربط صيغ التمظهرات التصويرية، التي يعتقد أنها تظهر بشكل أكثر تركيزاَ في التشبيه، ففي كل خطوة يخطوها الشاعر، لابدّ أن يكون هناك إعادة خلق لهذا التشبيه، من دون أن يرفع الغطاء عن قبة المبنى اللغوي، فهو ينهض ليؤدي المعنى الإبداعي من خلال الوعي الداخلي:
لا.. أحتاج
سوى…
خصلة غبشة
لا تضع يدها على خدها
كأنها أمام المصور..
أحتاج غبشة عذراء
لأهش….. سراجي..
حتى تفر عصافيره من شجرة ذلك الأثول
مثل خروف نذر..
*جريدة المشرق/ 18/8/ 2013