ليث الصندوق : كوابيس مواطن أم كوابيس وطن في (وحدها شجرة الرمان)

laith alsandook 4رواية ( وحدها شجرة الرمان – دار الجمل – 2013 ) للروائي العراقي المغترب سنان انطوان يحق لها أن توصف بأنها رواية عراقية بغدادية بامتياز لغة وأحداثاً وأماكن وشخصيات ، لا يفهم إيقاعها الداخلي إلا البغداديون الأقحاح . وتلافياً لإعادة الخوض في السجالات التقليدية عن استخدام اللغة الدارجة في الحوارات الروائية إلا إننا نرى أن  الكاتب على ما يبدو تعمد استخدام اللهجة البغدادية الموغلة في عاميتها بالرغم من صعوبة تلقيها كتابة حتى على البغداديين أنفسهم لتكون الدمغة المحلية الأولى التي وصم بها عمله ،  تبعها بثلاث دمغات أخريات ( الأحداث والأماكن والشخصيات ) وكل تفصيلاتها الواردة في الرواية مألوفة ومشخّصة ومُعاشة من قبل القاريء البغدادي تحديداً ، فكأنه وهو يقرأ تلك الدمغات يقرأ فيها نفسه وتراثه وبيئته وناسه .
تبدأ الرواية بكابوس خلخل ظهوره في بداية الرواية ألمسطرة الزمنية الكرونولوجية للسرد وجعل الرواية تبدأ من الخلف ، وفي ذلك الكابوس ترآى للراوي جواد ( الشخصية المحورية في الرواية ) حبيبته ريم تتعرض ، حتى بعد موتها للخطف على يد عصابة من الرجال الملثمين والمدججين بالسلاح ، ويحار جواد في تفسير حضور ريم في الحلم بعد غيابها الطويل عن الواقع ، وبدل أن يواجه حيرته بالإجابات ، يواجهها بالأسئلة ( هل هي الأمل الكاذب ؟ أم الذنب ؟ أم انها الماضي الذي سيُقطع رأسه هو الأخر بعد موت الحاضر ؟ ) بينما لم تزل ثمة إشارات تنطوي عليها الأسئلة السابقة بعيدة عن منال القاريء لحد الأن ما دام لم يزل في الصفحات الأولى من الرواية ، ولكنها ستتكشف له فيما بعد ، ولعل السؤال الأخير منها هو الذي سيختزل مأساة البطل التي هي ماساة وطن يحتضر على يد أبنائه بعد أن مهّد لهم الغازي الأمريكي طريق الإنتقام والموت .

الروائي سنان أنطوان
الروائي سنان أنطوان

ومثل لوحة الفسيفساء التي تتشكّل من قطع ملونة صغيرة ، جاء بناء الرواية من مقاطع سردية فسيفسائية بعضها صادم ومفاجيء ، ولا علاقة له في الظاهر بسياق الرواية العام ، إلا إنها قطع في لوحة واحدة تجمعها فكرة مأساوية مركبة ، تتداخل فيها مأساة البطل الشخصية ، في صراعه ضد الموت الذي توارث مهنته عن أبيه وأجداده ( تغسيل وتكفين الموتى ) ، مع مأساة وطنه في صراعه مع الموت المجاني الذي استجلبه المحتل الأجنبي إليه من الخارج ، وعلّم أبنائه على اللعب به فيما بينهم ، فأدت تلك اللعبة إلى إطلاق ضغائن الماضي المنسية من القلوب ، وتضخيمها ، وجعلها الحكم في التعامل ما بين الشركاء في الوطن والدين . ولعل مقاطع الكوابيس التي تترى ، بعضها يتماهى مع ما قبله وما بعده ، بينما بعضه الأخر يعلن عن نفسه كونه كابوساً من خلال عبارة ختامية من قبيل ( … ثمّ استيقضت ) لعلها جزء من ذاكرة الراوي الذي عاش ككل أبناء جيله ظروفاً قاهرة ما بين فترة حكم الدكتاتورية والتضييق على الحريات ، مروراً بالحروب الخارجية الطاحنة ثم حرب العراقيين مع بعضهم على خلفيات دينية واثنية وطائفية . وعلى مقربة من تلك الظروف كان الراوي قد عاش الموت وواجه أشباحه المرعبة مع مهنة أبيه في مغسل الموتى بمدينة الكاظمية حيث نشأ ومارس المهنة بصعوبة بالغة لا تشابه إعتياد أخيه ( أموري ) السلس لها ، حيث كان الأخير يعين أبيه عليها وهو طالب في كلية الطب حتى يوم استشهاده في الحرب مع إيران . لقد رافقت الكوابيس جواد من أول يوم لدخوله إلى مغسل الموتى مع ابيه ، فبعد ذلك اليوم ظل وجه ذلك الرجل الميت الذي رآه في المغسل ( يتفرّس بي تلك الليلة ، لكن بلا عينين ، بمحجريه الخاويين فقط ، لم أقل لها – لأمه – أو لأبي شيئاً عن ذلك الكابوس الذي ظل يعاودني ذلك الصيف في فترات متفاوتة ، كان وجه ذلك الرجل يغيب أحياناً لتحلّ محله وجوه موتى أخرين محاجرهم خاوية أيضاً . ص / 43 ) وعدا هذا النمط من الأحلام الضمنية التي تتداخل مع الأحداث وتصبح جزءاً من تداعياتها فالرواية تضمنت ( 13 ) مقطعاً كابوسياً مستقلاً من مجموع ( 55 ) مقطعاً احتوتها الرواية ، وهذه المقاطع الكابوسية هي كما يلي ( يشير الرقم الأول إلى المقطع ، بينما الثاني إلى الصفحة ) : ( 1 – 7 ) ، ( 6 – 39 ) ، ( 15 – 81 ) ، ( 20 – 108 ) ، ( 30 – 167 ) ، ( 32 – 172 ) ، ( 34 – 183 ) ، ( 37 – 190 ) ، ( 39 – 194 ) ، ( 41 – 199 ) ، ( 47 – 224 ) ، ( 48 – 226 ) ، ( 50 – 232 ) وبذلك فالمقاطع الكابوسية المستقلة تشكل ( 30 ) % من مجموع مقاطع الرواية ، وتبدأ وتيرتها بالتصاعد بدءاً من منتصف الرواية ( الرواية من 255 صفحة ) حتى نهايتها ، وتتكرر في تلك الكوابيس صور الموت المختلفة ، أو صور الموتى ، أو الدم ، أو الرجال الملثمون ، أو دكة التغسيل في مغسل الموتى ، ولعل كل واحد من تلك المكونات الكابوسية يشكل عنصراً في الأزمة الروحية التي يعانيها جواد .
ولكن رهبة الموت ، وسطوته الجبارة اللتين يواجهها جواد في المغسل تتراجعان وتهتزان أمام قوّة أكبر ، هي الفن الذي يستميل جواد إليه ، أو بالأحرى قوة الحياة التي تلبست في صراعها مع الموت بالفن ، وفي الصراع ما بين الإثنين يجد جواد أكثر من سند لتدعيم قوة الحياة في الموهبة التي بدأ يمارسها عفوياً دون ان يعي أهميتها وفاعاليتها على المستويين الروحي والوجودي ، لقد بدأ برسم الأقربين إليه ، أبيه وصديقه في المغسل حمودي ثم المغسل ( الدكة والصنبور ) ثم رسم الموتى ، ولكن والده عنفه بذريعة أن للموتى حرمة لا ينبغي أن تنتهك بالرسم ، وكان الأب بذلك التعنيف يسند فيه – دون ان يدري – رغبة الحياة في ان تبقى بعيدة عن ملعب الموتى ، طالباً منه أن يرسم أبيه أو صديقه ، أما الموتى فلهم حرمتهم .
kh senan antwan 2ويُفهم من هذه الرسالة أن الأب لا يوقف ولا يُعيق مشروع إبنه بالتوجه بكليته نحو الفن التشكيلي . وبالرغم من أن جواد تلقى رسالة الأب بشيء من الحرج ( شعرت بمزيج من الخجل والمهانة وخرجت إلى الحديقة الصغيرة ، وجلست بالقرب من شجرة الرمان اداوي جروحي . ص / 44 ) إلا أن ثمة صعقة – وإن كانت واهية – من رسالة الأب كانت قد تسللت إلى الإبن ودفعته إلى المواصلة ( فتحتُ صفحة جديدة ، ورسمت تخطيطاً للشجرة والرمانات التي كانت تحملها . ص / 44 ) وشجرة الرمان هذه التي كانت قد نمت وكبرت في حديقة مغسل الموتى تُسقى من المياه الراشحة من غسل جثثهم هي رمز الإصرار على مواصلة الحياة على مقربة من الموت ، وهي في الوقت ذاته رمز لوحدة الكائنات فهي تختزن في جذورها وعروقها مياه الألاف من الموتى ، وقد اختزنت المياه التي رشحت من جثة أبيه بعد موته ، وبذلك أصبحت عرى القرابة ما بين جواد وشجرة الرمان اقوى وامتن ، ولذلك ليس غريباً أن يمتنع جواد عن أكل ثمارها ، فالبشر لا يأكلون لحوم بعضهم ( في صغري كنت آكل ثمار هذه الشجرة حين يقطفها أبي ويعود بها إلى بيتنا بنهم ، لكني توقفت عن ذلك بعد أن أدركت بأنها تشرب مياه الموتى . ص / 96 ) .
وكان مدرس مادة الفن الاستاذ ( رائد إسماعيل ) قد اكتشف في الفتى جواد نزوعه الفطري للفن التشكيلي ، فرعاه رعاية خاصة مركزاً على النقاط التي يتمحور حولها تفكيره ، وساعياُ لسد الثغرات الغيبية التي تشتت اهتماماته ( الحياة هي موضوع الفن الأزلي ، وإن العالم ، وكل ما فيه ينادي : أرسموني . ص / 45 ) وبذلك فالاستاذ رائد يدعم لدى جواد الفتى فكرة ان ممارسة الفن تقوية للطرف الثاني من ثنائية ( الموت / الحياة ) الذي كان قد خبر من قبل مع والده في مغسل الموتى فعالية وهيمنة طرفها الأول ، وبذلك فالدور الثانوي الذي أداه الأستاذ رائد في الرواية لا يتناسب في الحقيقة مع  تأثيره الأساسي والفعال على مجرى حياة البطل .
وبدا صراع الأفكار مبكراً لدى جواد مع استعصاء فهم فكرة أن رسم الموتى إنتهاك لحرمتهم التي كان نادي بها والده ، لا سيما أن مدرس الرسم ( لم يقل أن الموت والأموات كانا خارج حدود الفن . ص / 45 ) ولكن موقف الأب في دعوته الإبن لرسمه او رسم اصدقائه وتحاشي رسم الموتى ، والذي قد يبدو متسامحا في شقه الأول تجاه الفنً ، هو في الحقيقة موقفه منه حين يكون الفن مجرّد هواية ، أو لعب أطفال . ولكن حين يتحول الفن إلى دراسة ثمّ احتراف ومصدر رزق ، أي حين يصبح هدفاً أساسياً في الحياة و طريقاً للمستقبل ، يكون للأب رأي آخر فيه أكثر وضوحاً وصراحة ، وغير قابل للخضوع إلى منطق التأويل الذي فكك رأيه السابق فيه وأوجد ثمة ثغرة تسلل عبرها جواد لمواصلة موهبته . فقد تعارضت إرادةالأب مع إرادة الإبن حين قرر الأخير اختيار الترشيح للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة بعد تخرجه من الإعدادية ، بالرغم من إن معدله كان يؤهله لدراسة الهندسة أو العلوم أو اختصاصات أخرى أكثر هيبة في عيني الأبن وعيون المجتمع ( لم يغفر لي أبداً خروجي عن المسار ، وتفضيلي الفن على مهنة ورثها هو عن أجداده ، وكان يرى إنها أكثر منفعة للبشر من الفن . ص / 60 ) . وفي حوارات جواد اللاحقة مع زميلته وحبيبته ريم يبدو ان العلاقة ما بين الأب والإبن قد ازدادت تعقيداً على خلفية سلوك الإبن لطريق الفن ، وإن ثمة صراعاً صار مبطناً يحكم تلك العلاقة .
وعوداً إلى صراع الافكار ، نجد أنه أختُصر لدى جواد ما بين أعز اثنين عليه : أبيه ، ومدرس الرسم . ففن الرسم إذن يكون قد انتقل إلى مصاف اعز الممارسات ، وأحب الهوايات ، لينافس في نفس الفتى حبه لأبيه ، وفي مرحلة لاحقة لينافس المهنة التى تلقاها عن أبيه وأجداده ( تغسيل وتكفين الموتى ) لتصبح الحياة ممثلة بفن الرسم شاغله ، ولتزيح أفكار الأستاذ رائد الجديدة ما كان قد لُقن من أبيه عن عالم الموت الغامض . ولكن اقتران الفن بالحياة لن يجعله أسير الأني والراهن ، بل يتعداه إلى مصاف الخلود ، فالفن كما قال الأستاذ رائد لطلبته ( مرتبط بالخلود ، لأن الخلود هاجس أساسي عند الإنسان لأنه زائل ، ولذلك يريد أن يترك أثراً في هذا العالم قبل الموت ) وفي حين ظلت أفكار الأب في منطقة واحدة لا تريم عنها قيد أنملة ، هي منطقة ( الموت ) ومن جمود تلك المنطقة وثباتها اكتسبت افكاره الإستقرار والجمود ، ظلت أفكار الأستاذ رائد تتطور صعوداً من منطقة إلى أخرى : فمن منطقة ( الفن ) صعوداً إلى منطقة ( الحياة ) ثم إلى منطقة ( الخلود ) .
وكما بات عالم الموت مكشوفاً للراوي بأدق تفاصيله ، سواء قبل أن يمارس بالفعل مهنة غسل وتكفين الموتى أيام كان يراقب أباه وهويفضّ له أسرارها ، أو بعد أن أشركه فيها ، وعلمه طقوسها ، فإن عالم الفن المطل على مشهدي الحياة والخلود بدا له مكشوفاً كذلك بعد أن انغمر في دراسته الأكاديمية لفن النحت ، وتعرف على أعمال كبار الرسامين والنحاتين وعلى حيواتهم وأفكارهم ( مايكل أنجيلو ، ديغا ، كاندنسكي ، ميرو ، مودلياني ، شاغال ، بيكاسو ، هنري مور ، جياكوميتي ، رودان ، بيكون … ألخ  ) وكذلك على الاتجاهات الفنية ( التكعيبية ، التجريدية ، فن الباروك ) وما الانغماس في تفاصيل ودقائق عالم الفن إلا انغماس في الحياة يتعرف إلى أسرارها لأول مرة بعد ان عاش فتوته منغمساً في عالم الموت ، ولعل الفارق الذي احسه وهو يقارن ما بين طرفي الثنائيات الضدية للعالمين ( الظلمة / النور ) و ( ألفناء / الخلود ) و ( الضيق / الاتساع ) و ( النهاية / البداية ) و ( الانغلاق / الانفتاح ) و ( ألحزن / الفرح ) … ألخ ، ذلك الفارق الذي تصب نتائجه في صالح عالم الحياة ، هو الذي وجّهه بكليته ، وبكامل وعيه ، وبمنتهى حماسته واندفاعه نحو عالم الفن . ومن داخل هذا العالم بدأت نواة أول قصة حب حقيقية في حياة جواد ( سبقتها قصتان هامشيتان ) لتترسخ وتتقوى مع تلك القصة العناصر الروحية التي تبني الحياة ، وتكمل دعائم عالمها ، ولتقيم جداراً عازلاً ما بينها وبين الماضي الذي خلفه جواد وراءه لأبيه . هكذا تنتقل الرحلة باتجاه الحياة من : الموت ( المغسل ) إلى الفن ( الرسم و النحت ) إلى الحب ( ريم ) ، وفي الموقف الأخير تتشعب ، وتتفرّع التفاصيل ، فعلى مقربة من جواد كانت تتشكل في حالة من التناظر مع حياته ، صورة حياة أخرى ، ولعل هذا التناظر هو الذي جعل احتمال التقارب والتكامل ما بين صورتي الحياتين ممكناً ( صورة حياة جواد ، وصورة حياة ريم ) ولعل اهم ملامح ذلك التناظر تتبدى في أن كليهما عاشا إما على حدود الموت ( مثل جواد ) أو على مقربة منها ( مثل ريم ) التي عاشت بعد موت امها في كنف أب لم يعرها اهتمامه بقدر ما كان يعير اهتمامه لصفقاته التجارية ، وقد قاست العنت مضاعفاً على يد زوجة ابيها ،  ومن ثم على يد زوجها الضابط المهندس في الحرس الجمهوري الذي كان يبرّحها ضرباً بعد كل خلاف ، وجاء موته في الجبهة ليحررها من القسوة والضياع . إضافة إلى إن الإثنين ( جواد وريم ) لا ينالان دعم عائلتيهما في التوجه للفن ، وإن الإثنين سبق أن فقدا الداعم والسند لهما داخل عائلتيهما ، فقد سبق لجواد ان فقد أخيه الطبيب أموري في الحرب مع إيران ، بينما فقدت ريم أمها ، وإنهما يعيشان بعد تلك الخسارتين الغربة بين ظهراني عائلتيهما . وبالرغم من تباين منبتيهما الطبقيين إلا أن الخطوط المتناظرة في حياتيهما كانت تكمل بعضها بعضاً من أجل إعادة إنتاج حياة واحدة مشتركة ، لولا أن ريم اختفت من حياة جواد بعد أن خطبها من أبيها الذي وافق على الخطبة ، لكنها لم تختفِ من النص ، فقد استمرت بالحضور بين وقت واخر عبر كوابيس جواد ، وسنعرف لاحقاً أين اختفت ريم ، لكن الغريب أن جواد لم يبحث عنها بعد اختفائها الفجائي سوى في الانترنيت الذي شاع بعد انهيار سطوة النظام السابق وصار احد وسائط البحث عن المفقودين .
وبالرغم من عدم عناية الراوي بتدوين تواريخ الأحداث إلا أن الرواية تتحول إلى ما يُشبه اليوميات ، لكنها يوميات غير مترابطة زمنياً ، فالراوي يرتب فسيفساء الأحداث حسب ما يتطلبه منطق البنية وليس حسب ما يتطلبه منطق التدوين التاريخي ، ولعل الفعل الغالب على أحداث تلك اليوميات هو ( الغياب ) إذ إنه من البدهي ان تصبح كل رواية عن العراق الجديد رواية غيابات :
–    غياب اموري شقيق جواد الأكبر شهيداً في الحرب العراقية الإيرانية بعد أن كان قد تخرج طبيباً من كلية الطب .
–    غياب ريم فجأة بعد ان وافق ابيها على خطبة جواد لها ، وقد تبيّن فيما بعد إنها هربت منه حباً به بعد أن اكتشفت إنها مصابة بسرطان الثدي ، وانها خضعت في عمان لعملية بتر العضو المصاب ، وقد هاجرت بعد ذلك مع عائلتها إلى لندن .
–    غياب صبري الشيوعي – عم جواد – هروباً من بطش السلطة ليبدأ رحلة طويلة من بيروت اوصلته في نهاية المطاف إلى ألمانيا .
–    غياب حمودي الذي خلفه والد جواد على مغسل الموتى ولم يُعرف شيء عن مصيره حتى نهاية الرواية .
–    غياب والد جواد الفجائي ميتاً وهو على سجادته يصلي الصبح .
–    غياب باسم صديق جواد في ذات الوحدة العسكرية بعد أن تعرضت الوحدة لقصف صاروخي أمريكي .
–    غياب أياد زوج ريم في الحرب العراقية الإيرانية .
–    غياب استاذ مادة التربية الفنية ( رائد اسماعيل ) عن طلابه ، وقد علم جواد إنه التحق جندياً في الجبهة أثناء الحرب مع إيران ، وكان الأستاذ رائد قد اكتشف موهبة جواد الفنية ، ونمّاها قبل أن يكتشفها جواد نفسه ، ومنذ غياب الاستاذ رائد لم يره جواد .
–   غياب حبيبة جواد الثانية غيداء ، ولجوئها مع عائلتها إلى السويد .
–    غياب زميل جواد الفنان عادل محيبس مقتولاً في تفجير شارع المتنبي .
–    إضافة للموتى الذين يحضرون في النص من خلال غيابهم ، والذين يستقبل جثثهم أب جواد أو جواد أو حمودي لغسلها وتكفينها ، بعض أؤلئك الموتى يحمل إسماً وهوية  وبعضهم مجهول الإسم والهوية يُعثر على جثثهم ملقاة في المزابل على أطراف بغداد ، أو في النهر ، أو في ثلاجات الطب العدلي ، بعضها جثث متكاملة ، وبعضها أنصاف جثث أو أرباعها أو مجرّد أعضاء مبتورة من جثث .
ولكن انغلاق افق الحياة ، واستحكام دائرة الموت حول جواد أعاداه ثانية ليمارس مهنة الموت ، بعد أن اكتشف المفارقة العراقية الغريبة في أن مهنة الموت وحدها تكفل له أن يعيش عيشاً كريماً . وبالرغم من هذه العودة الإجبارية للمهنة إلا أن ثمة أمل ما زال يراود جواد بعد كل الإحباطات أن يتحرر ذات يوم من أسر الموت ويعود ثانية إلى مكانه في قاطرة الحياة ، فها هو – بعد عودته للعمل في المغسل – يكلم صورة أبيه المعلقة هناك على الجدار ( ها أنا أعود إلى المكان الذي أردتني أن أرثه عنك ، كما أخذت أنت مكانك من أبيك من قبل ، لكني أحذرك يا أبي بأنني لن أظل هنا طويلاً . ص / 176 ) لقد كان هذا الحوار مدخلاً للمأساة التي تطحن الوطن تحت الاحتلال ، فقد قادته عيناه وهما تحادثان صورة أبيه إلى استكمال حديث الصور ، ولكن هذه المرة مع صورة الإمام علي المعلقة على جدار المغسل ، حيث أرجعه الحديث معها إلى قصيدة لمظفر النواب يحادث فيها الإمام علي قائلاً ( لو عدت الأن لحاربكَ الداعون إليكَ وسمّوكَ شيوعياً . ص / 176 ) وحديث العيون الانتقادي يتكرر مع جواد في موقع آخر ، عندما زار مع والدته ضريح الإمام الكاظم موسى بن جعفر في الذكرى السنوية لاستشهاده ، تساءل مع نفسه وهو يرى الجموع التي تُحيي الذكرى ( لو عاد اليوم ربما سيكون غريباً كما كان غريباً في زمانه ، بل أكثر غربة . ص / 237 ) .
وكما شكلت خطوط المأساة في حياة جواد ، وخطوط المأسات في حياة ريم ، لوحتين متناظرتين بعناصرهما المشتركة جعلت من لقائهما ممكناً . فقد أوشكت خطوط المأساة المشتركة في حياتي جواد وغيداء أن ترسم لوحتين متناظرتين أيضاً ، فغيداء قريبة جواد ، فتاة في التاسعة عشرة ، حُرمت من أكمال دراستها الجامعية في جامعة الموصل ، وقد قتل أبيها في تفجير إنتحاري ، وهُجّرت عائلتها من بيتها في العامرية ، وجاءت تسكن مع جواد وامه في بيتهما لحين استقرار الظروف الأمنية . ومع ظهور غيداء في حياة جواد لم تتوقف كوابيسه عن التواتر ، أضيف إليها كوابيس غيداء ، ولعلهما كانا يستعيدان كوابيس بلدهما الذي كان يجتاز كابوس الاحتلال ، ليدخل في كابوس الإرهاب ، ثم كابوس الحرب الأهلية . ولكن إرادة الحياة تُسخّر حتى الكوابيس من اجل إعادة إنتاج الأمل ، وبذلك أصبحت كوابيس جواد وغيداء فرصة للقاء كل ليلة والهروب إلى عالمهما السريّ المشترك ( أصبح لدينا عالمنا السري الخاص الذي عمره ساعتين أو أكثر كل ليلة بين الثانية والرابعة ، نفرّ به من كوابيسنا إلى جسدينا . ص / 214 ) ومع ذلك فغيداء لم تستطع أن تُخرج جواد من مستنقع الضياع ، فوجودها في حياته لم يكن راسخاً كوجود ريم من قبل ، وهو لن يتزوج منها ما دام قد نوى على الهروب من كل أنواع الموت ( ألموت الذي يستعيده كل يوم في كوابيسه ، وألموت في المغسل ، والموت على امتداد مساحة الوطن ) ، وحتى يحين أوان الهروب ، فإن غيداء في حياته ليست سوى وسيلة لمقاومة وحش الفراغ ، وتخفيف وطأة الرعب ، وهي أيضاً فرصته لممارسة رجولته المؤجلة ، لذلك أرادها أن تبقى في حدود المتعة الحسية الأنية ، وخارج حدود الحب الدائم ( قلت لها إنها يجب ألا تحبني لتحمي قلبها من الانكسار . ص / 216 ) وككل نسمة طيبة لا تدوم في صحراء قائظة سوى لحظات ، مرّت نسمة غيداء بسرعة ، واختفت بعد أن تمكن خالها المقيم في السويد من ترتيب معاملة لجوئها هناك مع عائلتها ( أمها وأخيها الأصغر ) . ومع اقتراب الرواية من نهايتها تتوالى المقاطع الكابوسية ، ويستمر نزيف الدم فالعلاقة بينهما علاقة تزايد واطّراد . وتتفاقم أزمة جواد الوجودية والروحية تعقيداً ، ولعل حديثه أمام ضريح الإمام الكاظم موسى بن جعفر في الزيارة التي أتينا على ذكرها سابقاً يلخص مأساته ، التي هي مأساة جيل ( عذراً ، لم أركَ منذ سنين ، فقد اخترتُ طريقاً آخر ، ترابه من شكّ ولا يُفضي إلى الجوامع . طريق وعر وصعب ، لا تسلكه الجموع ، ورفاق السفر فيه قلة ، وما زلت عليه ، وانتهى بي الأمر إلى أن أكون أنا أيضاً سجيناً مثلك يا مولاي ، ولكني سجين أهلي وقومي ، وسجين الموت الذي خيّم على هذه الأرض . وقد آن لي أن أهرب من هذا السجن . أمي في الجانب الأخر تطلب منكّ أن أظلّ بقربها وبقربكَ ، لكنها قد لا تعرف بأن الموت اليومي سيسمّمني إن بقيتُ هنا . ص / 237 ) وأخيراً قرر الهرب من العراق باتجاه الاردن ، ومن هناك سيبحث عن ملاذ آخر . ولكن محاولة الهرب لم تفلح ، إذ لم تسمح له السلطات الاردنية بدخول حدودها فذلك مسموح للعوائل فقط . وعاد جواد ثانية إلى الوطن ، وإلى مهنة الموت الذي يسترزق منه ، وإلى شجرة الرمان في حديقة مغسل الموتى التي ظل ينظر إلى يناعتها متسائلاً بحيرة ( عجيبة هذه الشجرة ، تشرب ماء الموت منذ عقود ، لكنها تظل تورق كل ربيع ، وتُزهر ، وتُثمر . ص / 254 ) وكأنه من حيث يدري أو لا يدري يستعيد بتلك الأوصاف وطنه الذي نبتت شجرته منذ الاف السنين على بحيرة الدم ، وما زالت لحد الآن على بحيرة الدم تلك  تُورق ، وتُزهر ، وتُثمر . وبانتهاء الرواية دون حسم أزمة البطل ، وأزمة البلاد في صراعهما مع الموت ، فإنه من الطبيعي أن تستمر الكوابيس ، وهذا ما حقّ لنا أن نتأوّله ، بعد أن بتره مقصّ النهاية .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *