1ــ ينهض شعر محمود درويش ليطرح فاعلية الشعر في هذا العصر؛ في عصر عربي تتهاوى فيه قلاع صيحة التحديث التي انطلقت منذ مشروع محمد علي في مصر؛ وفي عصر إنساني تتراجع فيه أحلام الحرية والسلام والتقدم. إنها مسؤولية كل شعر عظيم في لحظة التحولات النوعية التي تعيشها الأمم والشعوب عبر تاريخها الطويل، سواء أكانت هذه التحولات مفضية إلى نضج البنيات الاجتماعية والسياسية والثقافية أم إلى تفسخها وتعرضها للدمار على يد أهلها أو من مصدر خارجي.
من يراجع الشعر العربي بمفرده، دون مراجعة لأوضاع الشعر في الأمم العريقة الصين والهند أو الأمم الحديثة إيطاليا، فرنسا، إنجلترا، ألمانيا ، يدرك الارتباط المتفاعل بين أسئلة الشعر وأسئلة سياقه الأوسع، الخارج النصي، بما يشمله من تنوع ومستويات في آن. وربما كان الوضع الشعري العربي الراهن، وما يسيجه من أوضاع الثقافة والمجتمع في البلاد العربية، أصبح الآن بحاجة إلى إعادة قراءة في ضوء أسئلة الحداثة، وقد تهيأت لها أسباب التراجع بعد فترة وجيزة تكاد تنقضي على ما صدر من أحكام متفائلة أعلنت، في فرحها بالظفر المؤقت، عن انتصار الحداثة الشعرية في المجتمع العربي. ما أصبحنا نقرأه ونراه ونسمع عنه بخصوص هذه الحداثة يدعو إلى الضحك الذي قاده المتنبي بلعبة الكلمات إلى لحظة البكاء وحالتها.
2ــ إعادة القراءة مشروع طويل لا ريب، ولكنها تتأسس بالنص وفي النص، بمعنى أنها تختار النص الشعري نفسه لتخط فيه حقلها الإجرائي. بهذا يكون النص مصدر القراءة وغايتها، من خلله تنشأ الأسئلة، وتسافر من المكان الشعري إلى الأمكنة المتباعدة، المجتمع والثقافة والسياسة، بما هي الأمكنة الأساس في حقل الاختبار العربي.
طبعاً، يمكن لأي نص شعري، مهما كانت درجة شاعريته أن يأخذ مكان السؤال، ولكن فاعلية التحليل تصر على النموذج المتوفر على خصائص نوعية، لأنه النموذج الذي يمد التحليل بأوسع إمكانيات الرصد والاختيار وعبور الحدود بين النصي والخارج النصي. بهذا المعيار الأسبق نركز على محمود درويش، كما نركز على أدونيس وسعدي يوسف من بين شعراء الجيل الذي عاش تعدد الأزمنة وتمازجها في آن.
3ــ إن عمر محمود درويش، المحدود بالسنوات، قصير بالنسبة لرحلته الشعرية، في عنفوانها وإبدالاتها واستمراريتها ومغامراتها. بل إن هذه الرحلة الشعرية نادرة بالنظر إلى الطاقة الخلاقة التي ينقاد النص بها وفيها. طاقة تتجسدن في استيعاب عطاءات الشعر العربي الحديث في فترة وجيزة، وفي الهجوم منذ لحظة الكتابات الأولى على المكبوت والمنسي والملغى، في علائق الناس، وعذابات الاغتراب وأسرار النص الشعري. هذه علائم ميزت شعر محمود درويش ومنحته قوة مواجهة المآزق بأسئلة شعرية ومعرفية لا تخشى الوعي السائد في الحقلين الشعري والسياسي، ما دام محمود شاعر قضية سياسية إنسانية هي القصية الفلسطينية التي تسيّجها أخلاقيات مترسخة في اللاوعي الجماعي المهيمن على الشعر كما على غيره.
هو محمود درويش شاعر الأسئلة في زمن التحولات العاصفة. بهذا كان ويكون، متفرداً بين الآخرين، يهجم لأنه يريد الحياة ويتعشقها. يهجم لأنه اختار أن يكون شاعراً في وقت يندر في الشعراء. يهجم لأنه مجنون بالحرية والإنسان. هذه وحدها كافية لتمسك بيديه وتلقي بهما في نار الأسئلة، وحيداً وغريباً لا ينتظر من يهادنه أو يفتح طرقاته التي تلتقي به، في توجههه هو نحوها وتوجهها هي نحوه. يتلاقيان في عنف الحصار وفجائع الرحلة. لغة تأسره ولا يخشاها، ورؤية تحترق بوهج ضوء يأتي من بعيد، مخترقا جبال التاريخ ومحيطاته. يمضي الشاعر ليبحث عن فتنته الأخرى، عن مدن تجيء لكي تمضي، وعن شعاع مؤرخ بالغياب.
4ــ ها نحن نبتعد، شيئاً فشيئاً، عن القراءة السائدة لشعر محمود درويش، نعين حدودها فيما نحن نشير إلى بدايات مغفلة أو لشعلة تتخفى في رحم الكتابة. لا خيار لنا في هذا المسار، لأن القراءة السائدة تتغيا الانتصار لتقليديتها وهي تمجد شعر محمود درويش أو تحاكمه. أي فرق بين تمجيد تقليدي و محاكمة تقليدية؟ لا فرق. إنهما معا يصدران عن وعي متآلف، مهما تباين أو تظاهر بالتباين. والوحدة المنسوجة بين الخطابين مندمجة في رؤية منحطة للشعر والشاعر معاً، تحصر الشعر في الإنشاد والخطابة، وهما معا قاصران عن معرفة كيفية الانتساب إلى هذا العصر الذي نعيشه، في دماره الفردي والجماعي، حتى ولو كانت المؤسسة مطمئنة لهاويتها التي قد تراها وقد لا تراها.
بهذا نقتحم أعادة القراءة وقد ارتدّت القراءة السائدة إلى مواقع كانت تتهيأ لها من قديم. تعود طوابير من يتزينون بلقب الشعراء لتقف على أبواب من هجوهم من قبل، لتلثم القلائد الأصيلة و الحديثة وتخشع في حضرة المتذوق الأول. لا تسألهم عن قصائدهم الحديثة أو عن علاقة الشعر بالحقيقة. ذلك ما أصبحوا عليه نادمين. فلنتركهم يذهبون إلى جحيمهم، ولنا الحجر، صلباً ويابساً، نحتمي به وإليه ننتمي.
5ــ يعتقد الضعفاء أنهم يتعاملون مع اللغة كوعاء، يفرغون فيها ما شاءت لهم أوهامهم أن يتخيلوا ويخالوا. وهم في ذلك خاسرون، لا رحمة عليهم ولا شفقة. اللغة تخون، لأنها هي التي تكتب. اللغة تقتل، لأنها هي التي تستبد بفعل الكتابة. ومراوغة المآزق التي تبلغها لعبة عجوز. هنا يتحدد الفرق بين الاختيارات. أن تتبع اللغة حتى تواجه الهاوية أو ترتد إلى تبرير السائد والمبتذل.
وما اختاره محمود درويش، منذ لحظة كتاباته الأولى حتى الآن، هو المواجهة والإقامة على حدود الهاوية، يعيش الخطر ويتأمله دونما خشية من مآل لا يرغب فيه الجبناء. لقد أثبت محمود درويش، عبر فعله الشعري، استمرارية الإقامة على حدود الخطر، لأنه يختار الحرية كمغامرة لا حدود لها.
وليست المواجهة والإقامة على حدود الخطر غير التسمية، تسمية المواجهة كمواجهة، وتسمية الخطر كخطر، وتسمية الغياب كغياب. فعل التسمية لا يأتي عفواً. إنه اختيار. هذا هو الفعل الشعري في صميم التعريف. محمود درويش لا يتهيب أمام التسمية. يقول للهاوية أنا رفيقك في السفر إلى حيث أدري ولا أدري. ينتهي من مواجهة ليبدأ في مواجهة أخرى، على عكس من يبدأ في مواجهة لينتهي منها. فعل المواجهة يتناسل، كما هو الخطر والهاوية.
6ــ من خلل هذا المنظور للفعل الشعري الحديث يمكن تعيين لحظات الكتابة الشعرية لدى محمود درويش. فاستمرارية الرؤية إلى الشعر ووظيفته وضرورته في آن تتفاعل مع لحظات الإبدال الشعري التي اخترقت تجربته. ويظل السؤال، صريحاً أو مضمراً، يتشكل عبر البنية المركبية في تواشجها مع البنية الإيقاعية التي لها وحدها سلطة بنينة النص ودلاليته.
لدينا لحظتان مركزيتان في شعر محمود درويش. نمثل للأولى بقصيدة أحمد الزعتر وللثانية بقصيدة سأقطع هذا الطريق . وإذا كانت الأولى قد تحولت إلى رمز شعري مؤرخ بمذبحة مخيم تل الزعتر ، فإن الثانية من القصائد القصيرة الأخيرة. نقف على هذه الأبيات من القصيدة الأولى
آه يا وحدي وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيماً ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين
وساعداً يشتدّ في النسيان
ذاكرةً تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين
كان اكتشاف الذات في العربات
أو في المشهد البحري
في ليل الزنازين الشقيقة
في العلاقات السريعة
والسؤال عن الحقيقة
في كل شيء، كان أحمد يلتقي بنقيضه
عشرين عاماً كان يسأل
عشرين عاماً كان يرحل
عشرين عاماً لم تلده أمه إلا دقائق في إناء الموز
وانسحبت
ونقرأ القصيدة الثانية القصيرة، مكتفين بأبياتها الأولى
سأقطع هذا الطريق الطويل الطويل الطويل
فما عدت أخسر غير الغبار وما مات مني، وصف النخيل
يدل على ما يغيب. سأعبر صف النخيل. أيحتاج جرح إلى شاعره
ليرسم رمانة للغياب؟ سأبني لكم فوق سقف الصهيل
ثلاثين نافذة للكناية، فلتخرجوا من رحيل لكي تدخلوا في رحيل .
هناك استمرارية في السؤال بين اللحظتين الأولى والثانية، إلا أنها استمرارية تصرح بالإبدال النوعي
بين طبيعة السؤالين. في اللحظة الأولى يتركز السؤال على الحقيقة وفي الثانية على جدوى الشعر في هذا العصر وضرورته. بمعنى أن السؤال الأول كان يستهدف اكتشاف الذات والبحث عن الهوية الفلسطينية فيما الثاني يواجه بشجاعة وضعية الشعر برمتها بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت. ليس شأننا، هنا، تفكيك تركيب الوحدات المبنينة للنص. فلذلك مجاله. والأساس هو الربط بين الطرح النظري لمفهوم الحداثة الشعرية لدى محمود درويش وبين وعي تشغيل النص وإثبات نموذج شعري للتدليل على العلاقة بين التنظير والممارسة النصية. بذلك نقف على هذا البعد النادر في الممارسة الشعرية العربية الحديثة التي يجردها المتكلمون عن قصور الحداثة ومن ثم يختزلونها إلى هيئة برانية توهم بالانتماء إلى الحداثة الشعرية.
إن السؤال لدى محمود درويش، من خلل اللحظتين المثبتتين، متجاوب مع المكبوت والمنسي والملغي، في الوقت نفسه الذي هو مترسخ في التسمية، تسمية الحقيقة أو تسمية الغياب.
ويكف الفعل الشعري بذلك عن أن يكون إنشاداً وخطابة يسعيان إلى إعادة إنتاج بنية ثقافية سائدة، لها حنينها السياسي بقدر ما لها آليات تحجير سندها الاجتماعي. هنا يفترق الشعر وتعلن الحداثة الشعرية عن حدودها من غير مواربة أو تخاذل.
7ــ هذه الملاحظة الأولية قابلة للتوسع بغاية التأمل الفكري في شعر محمود درويش، الذي يختزله البعض إلى نطاق بئيس، ولا يستطيع أن يرى فيه وعبره إلى زمنية تاريخية كبرى مندمجة في زمنية ثقافية شعرية هي الآن مهددة بالطمس من طرف التقليد، وهو يرى إلى مجده يتعزز بعودة المغرر بهم إلى بنية القبول والطاعة، أي إلى بنية الإنشاد والخطابة.
يفلت محمود درويش من الذين يحبونه ميتاً ، كما أفلت من قبل أبوه الرمزي، أبو الطيب المتنبي، من القبر الذي هيأه له قتلته. يفلت ليرحل. في الرحيل وحده يسكن على الحدود الهاوية. يوحدنا بغيرنا. بالدم الجماعي لهذا العصر العريض يسمي حقيقة العصر.
تلك حداثته وتلك إنسانيته.
* جريدة الزمان الدولية العدد 4486 التاريخ 19»8»2013