حامد سرمك حسن : تفسير الإدراك الجمالي

hamed sarmak تفسير الإدراك الجمالي
إن الاستجابة التي تصدر عن الشخصية الإنسانية تتشكل تبعا لكل ما تزخر به تلك الشخصية من رغبات وميول وخبرات وما يكتنزه الشعور واللاشعور؛ لذا فان تصور الإنسان للأشياء يكون بحسب القيمة التي يقرنها بها وما يصحبها من معاني وأهمية ،لان الفرد ،كما ثبت علميا ، يستجيب للبيئة كما يدركها لا كما هي عليه في الواقع.
نحاول ، الآن، البحث في ما وراء السطح وتأويل الاستجابات الظاهرية من عملية الإدراك، ساعين لتفسير الإدراك ومعرفة ماهيته وفلسفته بالولوج إلى العمق والتبصر بما يحدث خلف العمليات المحسوسة التي تتمثل في الاستجابات وردود الأفعال الصادرة عن الإنسان حين يدرك شيئاً ما، سواء أكان إدراكاً حسياً محضاً متمثلاً في الشعور أم عقلياً له مساس بالحكم والعاطفة والوجدان.
كان علماء النفس قد بحثوا بشكل جدي في الظواهر العقلية من إدراك وتذكر وتعلم وتخيل …الخ، وترى وجهة النظر الحديثة ((أن الإدراك هو محصلة عمليات النظام العصبي المتعلقة بتنظيم ومعالجة المعلومات التي يتسلمها عبر الحواس، ويوصف الإنسان بأنه نظام باحث عن المعلومات، ومنظم لها)).( ) ويبدو أن الإنسان الفاقد لحاسة من حواسه لابد أن يفقد من المعلومات ما يقابل تلك الحاسة. وبالتالي فان الفاقد لجميع حواسه لا يُتوقع منه أن يعلم شيئاً، وفي هذا تأكيد على أهمية الحواس في النضج والتطور المعرفي عند الإنسان.
السؤال هو: كيف تتحول المنبهات التي تستلمها الحواس من قبيل الألوان والأصوات والأشعة منkant دقائق شاردة سابحة في العالم الخارجي إلى إدراك له دلالة ومعنى؟. في مجال علم النفس توجد نظريتان لتفسير هذا التحول الإدراكي ، الأولى تختص بعلم النفس الترابطي (النظرية التي تعتمد قوانين التداعي في تفسير الحياة العقلية بوصفها نتيجة الترابطات التي حدثت بين الإحساسات والمعاني التي هي بمثابة آثار للإحساسات). والثانية ما جاءت به مدرسة الجشطلت أو الصيغ (النظرية التي تأسست على إن إدراك الشكل الكلي يسبق إدراك الأجزاء، والجزء لا يدرك إلا  من ضمن الكل).
ترى المدرسة الترابطية أن العالم هو عالم فوضى وعماء والعقل هو الذي يقوم بتنظيمه، فالأشياء التي ندركها تتألف من إحساسات منفصلة يقوم النشاط العقلي بالربط بينها، كما يتألف الحائط من قوالب مترابطة من الطوب، أما مدرسة الجشطلت فتعزو التنظيم إلى خاصية منغرزة في طبيعة الأشياء نفسها –أي عوامل خارجية موضوعية- فالعالم يتألف من أشياء ومواد ووقائع منظمة على وفق قوانين خاصة تعرف بقوانين (التنظيم الحسـي) ))(*3)، وبفضل هذه العوامل تنتظم المنبهات الحسية في وحدات، في صيغ مستقلة، تبرز في مجال إدراكنا، ثم تأتي الخبرة اليومية والتعلم فتفرغ على هذه الصيغ معاني ودلالات، وعلى هذا تتلخص عملية الإدراك في خطوتين أو مرحلتين، هما التنظيم الحسي وعملية التأويل.
وفي مجال الإدراك والحكم الجمالي هناك عدة عوامل تتدخل في تبلور نوعية الإدراك أو الحكم، من حيث الصفات الخاصة بالشيء المدرك أو ما يعتمل في نفس المدرك من قوى مؤثرة في صيغة الإدراك، لذا يتوجب التفريق بين الناحية الشخصية وبين الناحية الموضوعية أو الخارجية، فالأولى تتمثل في ماهية شعور الفرد عندما يتعرف على الجمال، أما الثانية فتشير إلى السمات التي تحقق جمالية العمل الفني حين توافرها فيه.
فنحن حين نكون بصدد شيء مبهم غامض أو غريب مسرف في الغرابة؛ ينفسح أمامنا المجال لنؤوله تأويلات شتى، وهي تأويلات تتوقف على حالاتنا النفسية والمزاجية، الدائمة والمؤقتة، الشعورية واللاشعورية ،واستنادا إلى هذه الخاصية قامت(الاختبارات الاسقاطية)الذي أسسها علماء النفس للكشف عمّا لدى الفرد من ميول أو رغبات أو مخاوف أو توقعات شعورية ولا شعورية.
لقد سعى الفلاسفة والعلماء إلى تفسير كيفية إدراك المتلقي للجمال الذي يسبغه العمل الفني على الأشياء. يرى أفلوطين أن التعادل ما بين المدرِك والمدرَك هو سبيل الإدراك. فإذا تم التوافق بين الجمال في العمل الفني وروح متلقي هذا العمل، أمكن إدراك هذا الجمال. فالإدراك يحصل في كل حال ولكن لا يشترط أن يكون إدراكاً جمالياً إلا في حالة التوافق بين الشيئين، ونستطيع القول إن الإنسان قد يدرك الحق باطلاً والجمال قبحاً في حالة تغير حالته الروحية وابتعادها عن الوسط الذي يتجسد فيه ذلك الجمال أو الحق. ومن الممكن أيضاً أن يدرك الإنسان الباطل حقاً والقبح جمالاً إذا كان مزاجه الروحي متوافقاً ومتطابقاً مع ذلك القبح والباطل، إذن، المسألة تتعلق بالانسجام بين الاثنين المدرِك والمدرَك.
فالإدراك الجمالى يتحدد في كثير من مساراته بحالاتنا الوجدانية فالشيء ذاته قد يثير فينا شعورين متضادين في حالتين مختلفتين،فقد يشعرنا منظر طبيعي بالسعادة في وقت معين ،وفي وقت آخر يثير فينا شعورا بالحزن ،وهذا مما يشي بالارتباط الحاصل بين إدراك الجمال وشعورنا الخاص. بمعني أن الجمال مرتبط بالشعور بشكل لا يقبل الشك. ولكن مما لاشك فيه إن الشيء ثابت سواء كان حقاً أم باطلاً والإنسان هو المتغير. فالمنظر الواحـد طبيعياً كان أو فنياً قد يثير إعجابنا وتقديرينا لجماله في لحظة، وقد يثير شعوراً مضاداً لهذا في لحظة أخرى، مثله في ذلك كمثل منظر طبيعي يثير شعورنا بالسعادة والبهجة، في حين يثير في لحظة أخرى شعوراً بالأشجان والحزن وإذن فالجمال ليس منفصلاً عن شعورنا به وإدراكنا له بل والعوامل الذاتية الوجدانية المرتبطة بهذا الإدراك وهذه الفكرة توصلنا إلى أن ننظر إلى الجمال على أنها ظاهرة ديناميكية دائمة التغير والتطور من لحظة لأخرى ومن شخص لآخر، وليس الجمال ظاهرة ستاتيكية ثابتة ننظر إليها أو نشير نحوها ونقول “هذا هو الجمال” في كل لحظة مهما كانت الظروف والأحوال
هذا التغير المستمر في الأحكام الجمالية هو ما اصطلح عليه بعض علماء الجمال باسم ديناميكية الجمال؛ وترمي هذه النظرية إلى اعتبار الجمال ظاهرة دائمة التغير والتطور في شعور كل فرد، بحيث انه لا يمكن ان يشعر فرد معين بنفس الشعور الجمالي في لحظتين متتاليتين إزاء نفس المنظر( ).هذا التوافق والتعادل هو عين ما يدعو إليه “ديكارت” حين يعزو الإدراك الجمالي إلى نوع من التوافق الذي يقوم على ألفة مسبقة يستشعرها الشخص المدرك (بكسر الراء) إزاء مثيرات أو حوافز معينة تستدعي ما يتناغم معها من استجابات. فللصوت البشري تأثير فينا أكثر من بقية الأصوات.
ويمكننا التبصر بعلاقة جدلية وثيقة الترابط في بعض سمات الفنان والفن والمتذوق. فالإنتاج الفني يصدر عن توازن وانسجام في نفسية الفنان، والجمال يعرف بأنه توازن وانسجام في الخطوط والأصوات والألوان، وأثره في النفس توازن وانسجام، والإنتاج الفني نشاط عقلي قائم على العاطفة والخيال والفكر، والتذوق أيضاً نشاط عقلي ووجداني معاً واللذة الاستاطيقية واحدة في طبيعتها عند الفنان ومتذوقه، والغلو العاطفي يخمد التذوق كما يخمد الإلهام الفني.
نلاحظ أن كثيراً من الفلاسفة حين يتحدثون عن الإدراك الجمالي فإنهم لا يعنون في أحاديثهم إلا جمال الصيغة بحدود النظرة الاستقلالية للشيء بمعزل عن علاقاته والسياق الذي يوجد فيه. أي من دون المعنى الحقيقي للجمال بوصفه قيمة لا تتحدد إلا بالنظر للشيء في سياقه الكلي باعتبار إن الجمال حالة سلوكية تتمثل في نزوع الحق إلى الخير.
نرى أن “كانت” من الذين يتحدثون عن الجمال وإدراكه وهم لا يقصدون إلا شرط الصيغة وليس الجمال الحقيقي؛ حيث يذهب إلى أن مشاعر الجمال الحرة هي فقط، الادراكات التي يصحبها في العقل إحساس باللذة دون أي شعور بعلاقة أو اتصال. ولا يخفى أن رفض العلاقة والاتصال لا يتم إلا في ظروف النظرة الاستقلالية التي تتحدد بشرط الصيغة أو النوع الخاص بالشيء.
david humeيتحدد الجمال، ضمن النظرة الطبيعية والأولية، فيما يسر ويبهج، لكن “ديفيد هيوم” آثر أن يقلب هذا السلم المنطقي حين عين السمة التي تحدد الإحساس الجمالي بقوله: ((إن اللذة والألم هما قوام وجود الجمال والقبح، وليسا محض لواحق تابعة لهما)).( ) ولو رجعنا إلى فكرة التعادل والانسجام كشرط للإدراك الجمالي كما يصرح بها أفلوطين وديكارت وما تبعها من استنتاجات لازمة، لوجدنا إن كلام “هيوم” هذا لو اتخذ مقياساً للإدراك لتسبب في حدوث فوضى واضطراب في الأحكام والقيم. فمعنى قولنا إن اللذة والألم هما قوام وجود الجمال والقبح، لا يدل إلا على النسبية. فما يراه الإنسان ملذا أو ما يشعر به من ألم ليس بالضرورة أن يكون دليلاً على جمالية أو قبح الشيء المسبب لهما، بل إن ذلك لا يدل إلا على الانسجام والتوافق بين روحية المدرك وذلك الشيء الـذي يراه في حالته هذه ملذاً أو مؤلماً، ولو تغيرت حالة الإنسان لتغير إدراكه وأصبح المؤلم لذيذاً واللذيذ مؤلماً، بينما العقل يحكم بثبات الشيء بصفاته الموضوعية، فما يدركه الشخص السليم من حلاوة الشيء لا يجوز أن نحكم عليه بالمرارة حسب ما يستشعره الشخص المريض.
والجمال، بصورة عامة، لا يمكن تحديده بشرط الصيغة فقط، من دون الأخذ بنظر الاعتبار شرط القيمة، والذي لا يتشكل معناه إلا ضمن السياق الذي يوجد فيه الشيء، وبغير هذا فان الإدراك لا بد ان يتعارض مع طبيعة الإنسان فضلاً عن تعارضه مع طبيعة الجمال. فالجمال الذي يقول عنه “والتربيتر” بأنه ((خبرة مباشرة، تحس فوق النبض –لا تجريد يخلو من الحياة)).( ) إنما يوحي لنا بان الجمال نتاج اندراج الشيء في حركة وسياق وسلوك وليـس مقتصراً على الشرط الاستاتيكي المتمثل بالصيغة الثابتة والتي لا يخلو إدراكها من تجريد وتحليل، وهذا النبض إنما يتصل بصورة اكبر مع شرط القيمة ما دام تجسيداً للمفهوم وللحق من خلال قيام الشيء بتمام وظيفته المطابقة لنفس الأمر(*1) ، أي واقع الشيء كما هو في حقيقته، والتي لا بد أن تنزع إلى الخير. ثم إن الإدراك البشري الطبيعي والمتمثل بتأويـل الإشارات الحسية المستلمة يتوقف، كما تبين، على الإطار الكلي الذي يوجد فيه الشيء لانه لا يمكن إدراك الجزء بشكل صحيح إلا ضمن الكل الذي يحتويه، أي ضمن السياق الذي يندرج فيه. فمما ((يسهم في تأويل المدركات ما يحيط بالشيء المدرك من ملابسات وما يقوم بينه وبين غيره من علاقات، ذلك أن نفس الجزء يختلف معناه باختلاف الكل الذي يحتويه، فنفس الكلمة يختلف معناها باختلاف الجملة التي تحتويها)).( ) وهذا الاختلاف الإدراكي بحسب تغير السياق يجعلنا لا نجزم بوجود جمال مطلق، وهو مخالف لاتخاذ شرط الصيغة شرطاً للجمال ما دامت الصيغة ثابتة وان تغير السياق، فأذن مناط الحكم هنا هو شرط القيمة لأنه متغير بتغير السياق الذي يوجد فيه ذلك الشرط.
ويسهم الإدراك أو لإحساس الجمالي – بحسب التوافق بين المدرِك والمدرَك- في العملية الإبداعية ويعد من الأساسيات للنشاط الفني. ويذكر “هربرت ريد” ثلاث مراحل يتجسد بها تأثير الإحساس الجمالي بالإنتاج الفني، الأولى وتتمثل في مجرد تصور المميزات المادية، الألوان والأصوات والحركات، وعديد من ردود الأفعال المادية غير المحددة والمعقدة الأخرى، والثانية يعزوها إلى تنظيم هذه التصورات في أشكال وصور ممتعة، أما الثالثة، وهي المرحلة الأهم، فتتم حين تنظم التصورات لكي تطابق حالة من الشعور أو الإحساس كانت موجود من قبل، حيث نقول، حينئذ، إن الشعور أو الإحساس قد نال تعبيراً عنه.( ) وقد سبق القول بان الإحساس الجمالي يكاد يكون متقارباً من حيث الخطوط العريضة بين المبدع (الفنان) والمتذوق.
يسعى “جويو” ( ) إلى وضع قاعدة تبين المراحل العامة التي من الممكن أن يمر بها كل إحساس، فيلخصها في ثلاث لحظات.  في اللحظة الأولى ندرك في أنفسنا ما يمكن أن اسميه بالصدمة، وهذه الصدمة تكون ضعيفة أو قوية، فندرك قوتها ونوعها ولكن لا شيء غير ذلك، في هذه اللحظة الأولى لا نكاد نعرف هل هذا الإحساس مؤلم أو لذيذ؛ حين تنفذ آلة حادة في الجلد فأنها لا تحدث في أول الأمر إلا إحساساً قوياً بالبرودة، فالشعور يدرك شدة الضربة قبل أن يمتلىء بالألم. وحين نرى برقاً يشف الظلام فإننا نتابعه بالعين لحظة قبل أن نشعر بألم الغشاوة … وأما في اللحظة الثانية فان الإحساس يتضح، فنشعر بالألم أو باللذة إذا كان مؤلماً أو لذيذاً، تبعاً لضرره أو نفعه، وقد أطلق علماء النفس الألمان على هذه الصفة اسم الشدة،.. وأما في اللحظة الثالثة وهي الأخيرة، فإذا لم ينطفىء الإحساس مباشرة ليحل محله عمل ما أو إحساس آخر، حصل مـا يمكن تسميته مع المدرسة الإنجليزية بالانتشار أو الإشعاع العصبي، وذلك بان يتسع الإحساس كما تتسع الموجـة فيثير الجملة العصبية كلها، ويوقظ بالتداعي أو الإيحاء طائفة من العواطف والأفكار التكميلية، أي بتعبير أوجز يجتاح الشعور بأسره. وفي هذه اللحظة، بعد إن كان الإحساس يبدو لذيذاً أو مؤلماً إذا به يبدو جميلاً أو غير جميل. فليس الانفعال الجمالي إذن إلا ترجعاً للإحساس في كياننا كله، ولا سيما العقل والإرادة.
إن اشتراك العقل والإرادة في تحديد ماهية الإحساس الجمالي إنما يوحي بلا استاتيكية الجمال، وكذلك يوحي باستناد الجمال، في تحديده، إلى شرط القيمة ما دام الشيء لا يحقق القيمة الجمالية الإيجابية إلا أن كان مطابقاً لمفهومه من جهة العقل المدرك لحقيقة الشيء وماهيته، ثم انه يحب أن يكون نزوعاً للخير من جهة الإرادة من خلال تأديته لتمام وظيفته المطابقة لنفس الأمر. لذلك قد يكون الجمال والإدراك الجمالي اقرب إلى السلام  الذي يتحقق في ذات المدرك بسبب ما يحصل من تناغم وتوافق بين مختلف مكونات النفس البشرية من إحساسات وأفكار وعواطف، أي بين الحساسية والعقل والإرادة. فالاحساسات اللذيذة هي أساس الانفعال الجمالي، حيث تهز الجملة العصبية بأسرها فتصبح في الشعور ينبوع أفكار وعواطف.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *