هناك مصطلح ألماني يستخدم في النقد الأدبي الأنكليزي وهو مصطلح (بلدونجزرومان) وأحياناً يترجم إلى مصطلح (روايات النضوج) وهو مصطلح يشير الى تلك الروايات التي تتناول موضوع انتقال بطلها من مرحلة المراهقة الى النضوج وما يصاحب ذلك من أسئلة عميقة. رغم أن رواية حي بن يقظان لإبن طفيل تعتبر أول رواية من هذا النوع إلا انه لا يوجد مصطلح باللغة العربية يقابل ترجمة المصطلح المتداول في الغرب. وتصنف ضمن هذه الرويات رواية (كانديد) لفولتير و(الآمال العظيمة) لدكنز و(أن تقتل طائراً محاكياً) لهاربر لي و(الحارس في حقل الشوفان) لسالنجر و(مغامرات هكلبري فن) لسوير ورواية (أبناء وعشاق) للورنس وروايات أخرى. يستخدم باللغة الفرنسية مصطلح (الروايات التعليمية) وفي اللغة الفارسية مصطلح (الروايات التربوية) إلا إني أفضل تجنب هذين المصطلحين لما لهما من تلميحات تلقينية ووعظية وأفضل استخدام مصطلح (روايات النضوج).
وهذه الروايات تكون أحياناً من الصراحة الكبيرة بحيث يعاديها البعض مثلما عادى البعض رواية (الحارس في حقل الشوفان) في البداية على سبيل المثال لأن فيها استخدام كبير للغة العامية والكثير من الألفاظ السوقية والنابية إلا أن النقاد أحسوا بأهميتها وبالرسالة التي تحملها حيث تصور حيرة بطلها المراهق وخوفه من عالم الكبار واحساسه بالتقزز من الزيف الذي يكثر في عالم الكبار وفي المقطع التالي نجده يكلم الشخص الوحيد المقرب إليه وهي اخته (فيبي) الأصغر منه عمراً ويخبرها برغبته التي ربما تفسر بأنها رغبته في أن ينقذها من عالم الكبار الزائف:

“… الأطفال يلعبون لعبة ما في حقل الشوفان هذا الكبير. الآلاف من الأطفال الصغار ولا أحد غيرهم هناك، لا أحد من الكبار، أعني، عداي أنا. وأنا واقف على حافة هضبة جنونية. ومهمتي الامساك بكل من يحاول الصعود الى الهضبة، أعني أن الاطفال ينطلقون راكضين ولا يحاولون أن يتبينوا اتجاههم، فمهمتي أن أتقدم وأمسك بهم. يكون هذا هو عملي طيلة اليوم. وبهذا أصبح الحارس في حقل الشوفان. أعلم أن هذا شيء جنوني، ولكن هذا الشيء الوحيد الذي أحب أن أكونه. وأنا أعلم أن ذلك جنون.” ص249-250
ولو انتقلنا لرأي علم النفس في ذلك فإنا نجد العالم إريك اريكسون الذي يعتبر أحد رواد علم النفس التطوّري حيث يتكلم عن الصراعات التي يعانيها الفرد في تطوره من الطفولة الى الكهولة ويهمنا هنا ما دمنا نتكلم عن روايات النضوج كلامه عن تلك الفترة بين الثانية عشر والخامسة والثلاثين حيث يعتبر اريكسون الفترة ما بين الثانية عشر والثامنة عشر فترة البحث عن الهوية وعن الدور الذي يجب أن يلعبه الفرد في محيطه فيسمي هذه الفترة بفترة الصراع بين الهوية وبين تشتت الأدوار ويعتبر الفترة ما بين الثامنة عشر والخامسة والثلاثين فترة الصراع بين الرغبة بالتقرب من الناس أو الابتعاد عنهم فيسميها فترة الصراع بين الألفة وبين الوحدة.

بطل رواية الكاتب الجزائري الراحل طاهر جاووت المعنونة (الباحثون عن العظام) هو بطل في مرحلة التحول من المراهقة الى النضوج حيث تبدأ الباحثون عن العظام بيوم الاستقلال في 1962 وبعد تلك الفرحة المُبَهرجة الصاخبة يُطلَب من السارد ذي الأربعة عشر عاماً أن يذهب للبحث عن عظام جثمان أخيه في الجبال كما ذهب الكل يبحثون عن عظام شبابهم الذين قاتلوا ضد المستعمر بعيداً في الجبال لكي يرجعوهم ويدفنوهم بالقرية بطريقة تليق بهم.
غير مقتنعاً بجدوى وصدق نوايا الآباء يبدأ السارد اللامسمى الرحلة مع رابح الأكبر منه سناً مستعينان بحمار سلّفه إياهما أحد سكان القرية التي لم يبرحها السارد أبداً من قبل. وفي الرحلة يكتشف السارد قرىً اُخرى تشبه قريته ثم يكتشف بعض المدن التي تبهره بملابس ناسها وبعدد ونوعيات سياراتها وبلذة المشروبات الغازية. كثيراً ما يتذكر أخاه في الطريق ويتذكر أحاديثاً وتجارباً جمعتهما. ومن ضمن ما يتذكره هو حين بنى الفرنسيون مدرسة قرب قريتهم ودخلها أخوه فسلموه كتاب فيه صور وكان ذلك أول كتاب يراه ساردنا في حياته:
“العديد من الأشياء الموجودة في الكتاب كانت مجهولة بالنسبة إلينا. كان يصعب علينا أن نتنبأ بكونها تصلح للأكل أو الجلوس أو التنقل. أما أنا، فقد كنت أحب الخيل فوق كل شيء. كنت أجلس أمام الكتاب وأروح أتأملها لساعات طويلة فإذا بها تمزق بغتة إطار الصفحات وتنطلق مثيرة النقع بحوافرها موقظة هواء الظهيرة النائم، عابرة القرية الصامتة ثم تصير خفيفة هشة قبل أن تغيب في لجينية الغيوم… ص82 ”
الرحلة طويلة مليئة بالتأملات والذكريات والاكتشافات ثم يلتقون بشخص يدلهم على مكان في الجبل دفن فيه مجاهدين. يشك السارد في أول جثمان فالفك يحتوي على سن ذهبي وأخوه لم يكن يملك ذلك. العظام الثانية كانت لحيوان، شك السارد في أنه كلب. رجعوا بعظام الجثمان الثالثة التي وجدوها وتأمل السارد العظام المنفصلة عن بعضها البعض وشاهد في بين فكيّ أخيه بسمة هي أشبه ببسمة السخرية. في رحلة الرجوع يتأمل السارد في نفاق الكبار وفي جبنهم. يتهمهم بأنهم ميتون. يتساءل إن كان الحمار الذي صاحبهم هو الحي الوحيد الذي تعرّف عليه. الحي الوحيد في القرية.
ان بطل جاووت اللامسمى قد فلت من حارس حقل الشوفان وركض الى حافة الهضبة الجنونية وعَبَرَها وهو مثل الخيل التي مزقت إطار صفحات الكتاب وانطلقت لتغيب في الغيوم. ربما وجد هويته بعد ذاك كله. هوية الشخص الصريح الذي يكره الزيف والمراءاة. هوية ذلك الموضوعي الذي يكره أن يرى التاريخ بمنظار ذاتي عاطفي احتفالي بل يريد ان ينظر اليه بشجاعة وبهدوء حتى ولو على حساب فقدان جثمان أخيه والى الأبد. واذا حسبنا انه دخل مرحلة اريكسون الثانية (الألفة-الوحدة) فهل يا ترى سيصير أليفاً ويختلط بالناس ناشراً هويته بينهم أم سينعزل متوحداً؟ لم تستمر الرواية لنعرف الاجابة على ذلك التساؤل للأسف فالرواية تنتهي بالرجوع الى القرية لكن ما تحفزه فينا من تداعيات فكرية وتأملات يظل مستمراً.
الاستاذ الدكتور سامي عادل البدري ناقد بارع ينتاول اهم الجوانب وينتقى منها مايقترب من تخصصه كاستاذ تدريسي في الطب النفسي ،اضافةالى ذلك انه يمتلك رؤيا ادبيه ومتابع جاد للتوجه الثقافي في العراق والمنطقة ، كما وان له بحوث في ودراسات مهمه في مجال اختصاصه باللغة الانكليزية والفرنسيه الى جانب ما تفاجأت به الآن كناقد ماهر اجاب على ما استنتج من اسئلة واجاب عليها بخبرة ومعرفة ليحاكي المتلقي ويقرب له الصورة ويطلق عليها الضوء لتبدو اكثر وضوحا”.. ارى انه وفق في هذا النص ….
شكراً جزيلاً لعمّي العزيز عبدالحسن علي الغرابي الذي يخجلني دائماً بكلماته الطيبة التي لا تصدر إلا من إنسان طيب وكريم النفس مثله. أنت يا عمي العزيز أحد أساتذتي الذين تعلمت منهم فمن خلال مجالستك ومتابعة ما تكتب أحببت أحببت أن أكتب بدوري فكنت دوماً تشجعني وتطري علي، فشكراً لطيبة قلبك ولكرمك اللامحدود. دمت لي. تحياتي وأشواقي.