4
انتفض بُراق من نومه ليجد نفسه ما يزال في مكانه تحت شجرة الرمان الغريبة، المزروعة قرب قرية الرأس، وهي المكان الأثير الثاني بعد شجرة اللوز التي يعشقها. وقد أشتعلت نوافد البيوت، بضياء المصابيح النفطية، فقام ليعود إلى داره الأقرب إلى البرية من كل البيوت ناسياً حكايات الجان نهائياً.
وعندما دخل الدار أعلنت بوابته الخضراء عن قدومه بزعيقها المتكرر الصادر من احتكاك الحديد بالحديد، مما ذّكر بُراق ببيت الأغنية الفلكولورية : (دكك الحديد إعلا الحديد، تسمع له رنة) مهما كان وضع وأهل الدار، وحالهم ينبه كلاً منهم، سواء أكان: نائماُ، صاحياً، آكل، دارساً، وهو يلعب الورق .. إلى آخره. ورأى بُراق ضوء صالة الجلوس وهو يدخل مشـتعلا، وقد انعقدت حول الطاولة حلقة لعب الورق، وظلال أيدي زملائه التي تتقاطع ببعضها أمام الإضاءة، وظلالها كأن الأيدي في مناوراتها هوام تمشي في الظلام، وتتعارك في إيقاع وانسجام لا منطقي لا يفهمه غير فنان، ولا يمكن أن يجسده في معنى غير شاعر، ورسام. وسمع زملائه يعلنون عن استقبالهم له بالقول: “واويييلييي”، وهو مذهب يمكن أن يُصاغ لأية أغنية عراقية وبصوت جماعي واحد، إلى أن يقاطعهم محمد رياض بقوله: الدور على مين يا زول؟ ويدور لعب الهاند، لعبة الأربع عشرة ورقة لتمضية الوقت، وقد تراهنوا اليوم على درزن من الموز الصومالي. ودّ بُراق أن يدخل في اللعبة مباشـرة، خصوصاً وإن الحلقة سوف تكتمل بحضوره هو، أخبرهم بأنه ليس متعجل، فهو لا يقاوم إغراء مراقبة اللعبة عن كثب، ولو للتفـرج لكي يتعرف على أسلوب كل منهم في اللعب، مما يساعده فيما بعد على المناورة أثناء مشاركته اللعب معهم. أما الآن فإن أكل الموز على حساب أي منهم غالب كان. أو مغلوباً، فلسوف يتلذذ بالموز القادم من الصومال، لا من الأورغواي. لعله أيضاً يسمع ما يتجاذبه الزملاء من أطراف حديث عن مريم، وعاثر كأنها صارت مثل سيرة مجنون وليلى. أو روميو وجوليت الجديدة. ويبدو أن توقعات بُراق كانت في مكانها، فما أن ولج الصالة حتى سمع مسعد يروي روايته من خلال ما سمعه اليوم، وهو يعلن الهاند على زملائه في فترة جمع الورق، وتوزيعه، فقد أعاد راوية ابن الكافي مع شيء من التطوير، وإضافة البهارات، بشكل اختلف عما سمعه بُراق، مما زاد من استغراب الأخير، وتفكيره فيما يستطيع اللسان أن يطور، يزيد، على حادثة رآها، أو سمعها اثنان معاً. أما مجدي فقد روى كيف رأى الأولاد، والبنات يلعبون لعبة مريم وعاثر، ويحذر من أن يؤدي ذلك إلى حادث قد يؤسف له من جراء تمادي الأولاد في لعبهم، ومدى جدية تورطهم فيه.
****
في قيلولة الأيام الجافة هنا، وبعد الغذاء يُجبر المرء مُـتردداً في الاسـترخاء، ويتحلل من ساعات الضبط، والانتظام، فيروح مقاوماً رغبة عارمة في النعاس، ومن ثم النوم، أو الهروب بسـرعة إلى خـارج السرير، حـيث الفضاء الفسيح خارج الدار وأشجار اللوز، متلونة بعواطف الجو والمناخ، وقد استعدت لتفرز وجدانها العاصف على الشمس الربيعية. غير أن الحر الكامن في هواجس أشجار اللوز، التي وصلت مرحلة تبرعمها بعد أن أسقطت آخر ورقة من أوراقها الصفراء ما بين خريف طبيعي، وآخر بايلوجي. هذه الأجواء أججت في بُراق رغبة أخرى تصارعه دائماً، غـير النوم، والاستمتاع بالطبيعة والرسم، هي رغبة في الكتابة في دفاتر مذكراته الصغيرة التي يعبئها كأنها قواميس جيب، فيسجل في بعضها انطباعاته. وفي دفاتر أخرى يسجل مذكراته اليومية البحتة التي منها ملاحظاته عن الطلاب. وفي دفاتر من نوع ثالث يكتب قصصاً أو أفكاراً تراوده، هي مشاريع لقصص مثلاً.. هاهو يركض راجعاً إلى سريره الذي وصفه في إحدى رسائله إلى أهله، وأصدقائه بأنه مكتب المطالعة، والمضجع للأحلام الليلية، والكتابة، والنوم، والجلوس في المقهى والأكل. فهو عالمه الوحيد الخاص الذي لا يعتدى عليه أحد، من مريديه، أو مديريه، ولا أحد من زملائه، أو المتطفلين الذين يتدخلون في كل صغيرة، وكبيرة، ولا ينفكون عن السؤال والاستقصاء عنه. والدوران وراء التعابير، ومفـردات الكـلام، وكأنه في محكمة عدل. يُسأل، وقبل أن يفكر في الجواب، يجيبه السائل، بسؤال، و يحاكمه حتى على مجرد تأخره في التفكير، فيستنتج هذا ما الجواب المحتمل الذي كان سيطلقه هو. وكأن هذا المقابل يريد الدخول عمداً إلى كيانه وتفكيره أيضاً، ليحرم عليه حقه في متعة الاستقلال، والتعبـير الذاتي الأجمل.
ويصل بُراق إلى دفتر الانطباعات الذي يقفل عليه الصندوق مع بقية أشيائه العزيزة. فيبدأ بالكتابة المتعجلة، وبأسـلوب ركيك لا يرتضيه فيما بعد:
عشقت روحي البيضاء،
حين انتقلت إلى الأرض الأخرى،
حيث يطير الفرح في سماء التقاليد،
ويعيش الفرد، فوق، أو تحت،
أو في الوحدة الشعرية
التي تفرضها عليه حياة الجفاف النادمة،
فالسير، والانتقال، والذهاب بعيداً،
لا بد أن يكون قاسياً، مريراً أبداً،
والفرد الهارب .. ..
هكذا كان يحب أن يسمي نفسه في انطباعاته، كرمز لهروبه من أيامه الماضية، أو من قُرّاء غير منظورين يحاكموه .. أو يحصون عليه حرية البوح. وتذّكر، والذكرى هنا جاهزة، حامية، وحاضرة، لأنها في الماضي القريب، تذكر أيامه في الحرب الأهلية. ومذكراته التي كان يكتبها بغموض خاص خشية أن تقع معاني كلماته، الدالة على رفضه للحرب في أيدي رؤسائه، فيسقط على عجل محشوراً في التراب، تماماً كما حـدث مع الكثيرين ممن لم تكن لهم حتى مذكراتهم المكتوبة. هاهو يتذكر واقعة عسكرتهم في الحوش الخلفي لمستشفى شمال الوطن، قرب محرقة المستشـفى ورائحة دخان الدماء المحروقة، معطبة وكريهة الشم، لا يقوى معها حتى على بلع لعابه، وتذكر معها أيضاً، وبلمحة بصر الدكتور يفرام هندي، وأصغر عقيد أرمني في الجيش فارتانيـان. كيف عرفه باستغراب شديد، وفيما بعد تذكر ماذا سيحل بيفرام نفسه الذي كان قد قرر الهجرة، فجأة إلى بلاد غربية في أقصى الكرة المدورة، لتأكده من لا جدوى البقاء في هذا التناحر الأبدي، تماماً كما فعل سنان الغساني عندما عاد من دورته الصحفية في دولة شمالية، معلناً قراره بالهجرة، فهل يحذو هو الآخر حذوهما، هاهو قد أخذ كل متعلقاته معه، وودع الأهل: الأم بخاصة، ربمـا سيتبع خُطى أخيه المغترب منذ ستة وثلاثين عاماً. وهو الذي عاش لفترة في يافا، وحارب مع طلائع المقاومة عام 1948، وسجن مع أول دفعة، ولكونه غير فلسطيني أخرجته وكالة الغوث، وحصلت له على إقامة دائمة في السويد.
ويستمر بُراق خارج التداعي في كتابته:
الفرد الهارب ينسى حارس الأربعة، والعشرين،
ينسى الركب، ينسى الأرجل الكبيرة،
لكنه، يتذكر عمود دخان الدم اليابس،
يغور في أعماقه،
يهرب مع روحه المتبلدة الشعور.
ويتذكر بُراق من بين هذه السطور كيف كان يطلق على نفسه في كتاباته اسم حارس الأربعة والعشرين أيضاً دلالة على أنه كان قائداً لفصيل غير متجحفل، لأن فصيله إذا ما تجحفل سـوف يتجـاوز عدد أفراده الأربعين، لعل تقلص العدد يُعزى أيضاً إلى حالات الهروب المستمرة، ويلاحظ لمرات أن لغز كلمة الراكب، تعنيه هو بشخصه. أما معنى الأرجل الكبيرة، فهي تدل على حصانه، ومعنى عمود دخان الدم اليابس، هو منظر لا يمكن أن ينساه أبداً. حيث كانت خيمته قد نصبت، أمام محرقـة ملابس القتلى. وفاحت فجأة رائحة الدخان لتهيج ذاكـرة الشـم التي تزكم الأنوف، ولتعمي الذاكرة، وتجعلها سوداء، وفجأة يترائ له حلمه الذي أرقه لليلة الماضية، فمن خلال أهازيج لا يدري هل هي للانتصار في حرب على عدو وهمي، أم أنه أحد أعراس الجيران، يكون بُراق في مهمة توصيل جارته الممرضة المعاقة من جراء حروب الأخوة في شمال البلاد، إلى بيت صديقتها في حي راق، فيعبر معها أمام شجرتين عملاقتين يابستين، وعندما يعود، يتفاجأ بأن صاحبة الدعوة العجوز لا تزال في طريقها إلى دارها، وحفيدها يجرها بزحافة ثلجية، ويتذكر بُراق في حلمه، أن كل الأمور مجازية في الحلم فلماذا يستغرب، عليه أن يتابع سياق حلمه ليرى، ربما لأن الشتاء على الأبواب، وتسرقه نظرة إلى عمال البلدية الذين جاءوا ليقطعوا إحدى الشجرتين، ولكن ما بالهم يرتدون الملابس العسكرية، وسيارتهم مموهة، فتذكر أن بلده رازح تحت الأحكام العسكرية بين فترة انقلاب وآخر، وقد حال لون الشجرة اليابسة هو الآخر للون الكاكي، وما أن يقترب حتى يرى الشجرة المقطوعة كبقايا دبابة عسكرية قديمة في محل السكراب، وقد شطرت إلى نصفين: علوي وسفلي، ولأن بُراق من راكبي الخيول الأصيلة، ومتسلقي الأشجار الباسقة، لم يجد نفسه إلا وهو متسلق القسم العلوي من الشجرة الدبابة، وكأنه فوق صهوة فرسه، أو شجرة الجوز المفضلة لديه، فيرى من وراء السور القريب صهره، وهو يخرج من الدار على حافة الشرفة الأرضية ليعلمه قيادة الفرس، على الأصول المدنية، لا العسكرية فما بال بُراق يستهين بالفرس ويجبرها، لا يجاريها في التعامل، أهكذا تتغير النفوس بمجرد ارتداء البزة العسكرية، وفجأة يعي بُراق بأن بدلته هي الأخرى قد حال لونها للكاكي، ويقوم صهره بتذكيره ببروتوكولات قيادة الخيول، ويعيده إلى أيام علمه هذا الفن مع أخواته، فتخيل بُراق نفسه الآن وهو يقود فرسه متوسط بين حصانين تقوداهما أختاه الكبريان، وصهره وراءهم يتابع تعليماته لهم، أما هنا فقد احتج الضابط على كلام الصهر، وجعل نفسه معلم تدريب عسكري يذّكر بكل قواعد الطاعة حتى بالنسبة للخيول، وجاء ضابط آخر ليلتقط صورة لبُراق، لأنه من الرعيل الاحتياطي الأول، ورغم أنه كان من المشاة، لكن وجوده على ظهر دبابة متحفية مثله سوف تعني الكثير للقادة الأشاوس، فيقف بُراق متحفزاً، وهو ينظر إلى الفرس التي تتململ، وقد أوشكت على الهروب من تحته، فود لو تسرقه من هذا العالم، إلى عالم البرية حيث السلام والحرية، ولكن الضابط يمسك بعنان الفرس، ويود التعرف عليه، أخذ عنوانه لكي يرسل له الصورة، وفجأة يتغير كل شيء، وتغيم الصور في ذهن بُراق فيتوقف عن الكتابة لفـترة مفكراً، وقد أجهدته المعاناة، فكل شيء هنا يذكره بالموت، والغربة. والابتعاد عن كل ما يمت للحضارة والعلم بصلة.
وفجأة يتذكر الرحلة التي قامت بها مدرسة بلدة الصدر مع الطلاب، وغربته الداخلية وهو في تلك الأجواء، وطريقة التعامل مع البيئة المحيطة، رغم أنه من المُصـرين على خوض التجارب. ومنها تجربته في المجيء إلى هذه البقعة من الأرض بـإصرار، وعناد. كل ذلك من أجل أن يكتشف ذاته من خلال العزلة، ولكن أية عزلة هذه التي يمر بها، هذه العزلة العجفاء التي يعيشها هنا، فالنماذج هي، هي. وربما أكثر تشوهاً، وسقوطاً، فمدير المدرسـة المتلون لا ينفك عن التزلف والتملق. كما يحب أن يتملقه الآخرون، وأقربهم إليه معاونوه الذين يزينون له كل تصرفاته، وبأنواع متمايزة من الزيف: حركة، وصوتاً وبمختلف النبرات، لكنها كلها برّاقة مهما اختلفت عن بعضها، هذا يغلفها بالنقاء المزعوم. وذلك يكسيها بوعود مطاطة، وثالث يطليها بألوان الرغبات المكبوتة، هذا هو الحال مع مدير المدرسة، فكيف لو كان حاكماً يحيط به المستشارون، يُجلون شخصيته، ويقعرونها محاولين اقصاء كل لون من الانتقاد، أو ما هو سلبي، فكل ما يحيط بالحاكم منير، مشرق، وبهي، وهو الحامي، ومجلب كل الخير الذي يشمل البلاد، ويعم القاصي قبل الداني. وهكذا ينعزل الحاكم في دائرة ضيقة، تصغر يوماً بعد يوم حتى يجد نفسه وحيداً، في دائرة آسنة من الحاقدين، والمراوغين، ومن ذوي اللدغات السامة، وكلامهم في آُذني الحاكم كله شرور، وتخويف، وترهيب.
ويتردد في داخل بُراق حوار، تتناثر صوره المتكررة، كأنها أفلام ممزقة، مرمية في سلة مهملات غرفة المونتاج، التي طالما تُـترك لُترمى كأنها نفايا لا تنفع، رغم أنها تحمل صوراً، وحركات لو جُمعت لصارت موضوعات متكاملة. هكذا عادت مخيلة بُراق للتداعي. تعمل ما بين الوعي واللاوعي، ما بين اليقظة والحلم، فراح أخيراً في سبات، وغفوة كان قد صارعها كثيراً. فرأى نفسه يركض تحت مطر القرية الغزير، خارجاً من حصة الدرس، هارباً إلى بيته الجديد، يقـف للحظة أمام بابه الأخضر المصبوغ قبل حين، فيضع المفتاح في القفل الصغـير. وتأتي حركاته هذه سريعة، ضبابية كحركة من يفتح قفل في ظلمة حالكة، لا يرى ما تفعله يديه، وإنما يحس بها باللمس. وبسرعة يدخل البيت دون أن يتخطى العتبة، فيجد نفسه دون عناء، أو حساب للوقت وقد احتوته حواجز غرفته الزرقاء فتنفتح نفسه على رغبة جديدة، رغبة حيوية متجددة مع مطر القرية السريع التجدد، وفي زمن متسارع. وعلى الفراش تنام معه حبيبته التي تركها في الأرض الأخرى. تنام كدمية تخيلها من لوحة الجمال النائم، أو لوحة الماخة لغويا. وتأتي يده لتعبر عن رغبة لاتقاء حبات المطر، خوفاً من تساقطه على وجه الحبيبة لكنه سرعان ما يسعى لارتداء معطفه المطري الزيتي اللون، فتلامس رقبته قساوة حافات ياقة معطفه المجلدة من البرد. وبسرعة صارت الأزرار تفتح نفسها كما في الأفلام السـريعة شـارلي شـابلن.
ولم يلبث بُراق أن اختطف مظلته المطرية التي تذكرها فجأة في اللحظة الأخيرة. وهرب معها تحت المطر، ليتجول ما بين أغصان أشجار اللوز العارية، والصابرة بفرح لغزارة المطر، لكنـه يجد نفسه فجأة داخل الفصل أمام كراسي الطلاب الفارغة، وقد امتـلأت أرض الفصل بماء المطر السائح من فتحة لا يراها في السقف، أو من إحدى النوافذ، وليس هناك سوى خمسة طلاب هم، وكما يبدو الآن جنود فصيله العسكري عندما كان حارساً للأربعين فيهم، وهم على التوالي: محمد مهدي السيد صالح، أحد نوّاف العريف، و محمد حنون بن عياد، مراسله الذي يخدمه، ومحمد عثمان السـبي أحمد، عريف الفصيل، ومحمد ثاني بـن سـعيد، جـندي أول في الفصيل، ولم يتذكر كل الأسماء، لكنه كان يعرف أن كل من هذه الأسماء وفدت عليه من أقطار عربية لم يرها بُراق نفسه، بل سمع عنها، اسم جندي من كل بلد، أو منطقة عربية. وانقلب كل شيء رأساً على عقب، مما جعل بُراق الملازم الملقب بأبي الحق يغضب، فيوبخ العريف عثمان رغم أنه وفي داخله، يعرف أن عثمان هذا من أنجب العرفاء ليس في الفوج الخامس فقط، وإنما في اللواء الخامس نفسه، من الفرقة الرابعة أيضاً. هذا ما شـهد به الكثيرون قبله، ربما لإخلاصه الوطني، وتجرده عند قيامه بالواجب العسكري عما يعتيريه من نوازع داخلية، ربما تركها لتفعل فعلها في أحلامه وهواجسه الدفينة، لذلك تراه صامتاً في الغالب، عزاها الكثيرون لكونه لا يجيد اللهجة المحلية لأبناء العاصمة فتؤثر على موقفه العسكري أثناء الاستعداد، مما قد يثير الضحك سواء لدى رؤسائه، أو جنود الصف تحت رتبته.
إن بُراق بخبرته هو الآخر لم يجد مثل العريف عثمان دقة، وحماساً، وإخلاصاً، وشجاعة فقال له أخيراً: سجل لي أسماء الباقين في الفصل يا عريف عثمان، أما الآخرين فالويل لهم مني. قال ذلك، وكأنه نسي أن طلابه في الفصـل من إعدادية بلدة الصدر المتوسطة، وهم طلبة الصف الثالث الذين يعرفهم، ويحفظ أسماءهم عن ظهر قلب، فما بال جنود فصيله حاضرون هنا، وفي هذه البلاد القصية عن أرضه الشمالية. هاهو نائب العريف مهدي آمر الحظيرة الثالثة في فصيله الثامن، يستعد له نيابة عن الغائبين، وكذلك يفعل نائب العـريف محمد نائل المالح. آآآآه كلهم مستعدون، ويؤكدون عزمهم وصحة رأيه بقفزة، وتحية وكلمتي: نعم سيدي.
وترددت هذه العبارة في خاطر بُراق كأنها ناقوس يسترجع معه حادثة اصطياد جنديه المراسل بلغم تحت قدمه عندما خرج عن الرتل الصاعد للربيئة المحصنة، “وذلك لأنه رغب بقطف زهرة برية سيهديها لآمر فصيله الذي يسير أمامه”، مع العريف، وتعلق الجميع في هذه المصيدة بانتظار خبير المفرقعات من مقر الفوج، لينزع الفتيل، وصارت الساعة دهراً، وقدم المراسل يمسكها العريف لكي لا تتحرك، ولما انتزع الفتيل انهار المراسل وهاجمته موجة من البكاء، وأخذ يقّبل الأرض، ثم ركع ركعتين في صلاة، وتسبيح.
خرج بُراق بعد هذا ناسياً حتى المطـر، والمظلة، ومعطفه المطري، لكي يتمرغ عارياً على العشب الذي بلله المطر، والربيع المبتسم في الوادي المضطهد، والذي كان قد سُـيج منذ السنين الأولى للحرب بالأسلاك الشـائكة، لكنها لم تحبس القطرات، والعشب، ولا شـقائق النعمان، ولا الأرانب، إنما حبست الأنفاس وحسبتها بين الأحبة في الطرفين. ولم يشعر بُراق إلا وهو يركض فوق حصى القرية الجنوبية يريد الانفصال، أو الانسلاخ عن ماضي يسعده ويؤلمه كثيراً. وفي نفس الوقت تذكر تفاصيل كثيرة مؤلمة، وحزينة. لكنه ولعمق التأثير في ذاكرته، لا تدعه مخيلته الانفصال عن تلك الذكريات. بل لا يجد نفسه إلا مجبراً على المقارنة، والتداعي في كثـير من الأحيان، لذلك يهرب إلى مرسمه، منساقاً وراء رغبات التفريغ التي تحاصره. هي رغبة في التنفيس بالرسم، للتفريغ ضيق مكبوت في داخله.
وتحمل يد بُراق الفرشاة لتلطخ الأوراق، واللوحات بألوان مختلفة كأنها رغبات دفينة محصورة متعددة التلوينات، أو ربما هي كمثل رغبات العريف عثمان غير المعروفة للكثيرين لكن ما دفع الآن بُراق، هو شيء جديد بذاته قد فاجأه، فقد رأى أعناق الأرانب المقطوعة التي رسمها مع طلابه، لكن الأرانب قد أصبحت أشلاء، عبث بها ثعلب شرير كأنه كان على وشك أكلها، وبمجرد دخول بُراق المفاجئ أفشل مأرب هذا الثعلب الماكر، وحرمه من متعته. وعجب بُراق للأمر، فأين هو الثعلب الآن، إذا كان موجوداً بالأصل؟ وهل يعقل أن يأكل ثعلب جائع الورق على أنه أرانب من لحم وعظم؟ إن ذلك لا يحدث إلا في الأحلام، وابتسـم الحالم لنفسه، كأنه يسخر منها. أجل فإنني أحلم، وتساءل الحالم أخيراً: ما لهذه الجرأة، كيف يدخل مثل هذا الحيوان في مرسمي؟
وأضاف بسخرية: كان يجب أن يستأذنني على الأقل؟
وسخر بُراق من نفسه، ومن بساطة تفكيره الآني، ولم يجده إلا في هياج، وصياح، وعربدة. ويركض تارة خلف الثعلب حاملاً هراوة بن عويضة في يده، راغباً في قتل الثعلب ومرة أخرى يهدده وكأنه شـخص، بالذهاب ليشتكيه لدى المدير، أو لاستدعاء الشرطة، من أجل إجراء التحقيق، والمحاكمة. وبسرعة هوى على رأس الثعلب بالهراوة، وهرب ساعياً إلى غرفة المدير، وهو يفكر في لا معقولية الأمر. فكيف يتسنى لثعلب أن يأكل أرانب من ورق؟ لا بد أن يكون ثعلباً مخبولاً، أو إنه ثعلب جائع، لا يميز بين اللحم، والورق. وعندما دخل غرفة المدير، لم يـر إلا المعاون الذي كان قد تقلد منصب المدير مؤقتاً، لابساً جبته، ونظاراته، فعجب بُراق من الأمر، وفكر كثيراً: لا بد أن في الأمر مكيدة ما؟ أو أن عقلي قد شابه شيء ما؟ ربما أُصبت بفصام الشخصية، ليس إلا.
وعندما وجد نفسه عائداً إلى المرسم، خائباً مصمماً على قتل الثعلب هوى من جديد بضربات في الهواء، ظهر صداها في صياح بشري، وعجب بُراق في حلمه من جديد حين وجد مديره جالساً على منضدته، وقد أمسك برأسه في مكان إصابته، وأمامه أرانب الورق المقطوعة، أو المقصوصة بشكل مقصود، يحاول إصلاح ما أتلف منها، فأخذ بُراق يسـتوضح قائلاً: أين الثعلب الشرير الماكر الذي أبحث عنه؟
لم يفه المدير بكلمة، وإنما علت صُفرة فمه ابتسـامة ذكرت بُراق بابتسامة الثعلب الخبيث في حلمه، وفكّر بُراق، هل يعقل أن يكون الأمر بهذا الوضوح حتى في الأحلام؟ فلو أن المدير أجابه بدباجة مطولة، لما كان للابتسامة معنى، فسّرت أبعاداً كثيرة من الحلم، وحلت له بعض رموزه. ولأول مرة يتذكر أن المدير والأرانب لم يكن إلا جواباً على تلميحات المدير لبُراق دائماً بعدم لزوم وجود كائنات حية في لوحاته، لأنها محرمة، وعجب بُراق من هذا الاستدعاء المركز. وهاهو يقـع من جديد تحت ضغط كابوس متوتر فاستطرد محدثاً نفسه: لا بد أن أعرض نفسي على طبيب نفساني.
لكنه بدأ ينقض رأيه هذا لأنه كان متأكدًا من رؤياه، وفطن وهو في حيرة بين المرض، والخطر، بأن هذا ليس إلا حلماً، فيعاوده الرضى لمجرد وثوقه من أن الذي يراه هو حلم، وبهذا تنشأ حالة تصالح بينه، وبين الآخر في الحال، فيسترخي من التوتر الذي اعتراه ضمن الكابوس. هاهو يرى من جديد المظلة التي كان يحملها في بداية الحلم، وقد رفعها منذ البداية وحتى الآن، فوق رأسه رغم تبدل أكثر من حالة للطقس. وأكثر من حدث، وموقف فخرج من جديد هارباً إلى حيث اشتاق للمطر ليستمتع به، ولطالما طال اشتياقه للمطر. لكنه أفاق فجأة من نومه، وكأن هاجساً خاصاً أراد أن يحرمه من هذه المتعة، التي لا يضاهيها أي شيء. ورأى محمد رياض يقدم له قدح الشاي، فيضعه أمامه على المنضدة القريبة من السرير قائلاً: أحلام سعيدة يا عبد الحق، هذا الشاهي سوف يجعلك تصحو تماماً.
وسأله بُراق عن الوقت، فأجابه محمد رياض بالتحديد كعادته بعد أن حول نظراته إلى ساعة ألدوكسا من نوع الووتر بببروف لأحدث الماركات السويسرية، بأنها الخامسة عصـراً. فعرف بُراق، بأنه لم ينم أكثر من عشرين دقيقة فقط، فالوقت الآن لا يتجاوز العصر. وهناك متسع من الوقت للخروج مع الزملاء في جولة السـير على الأقدام العصرية إلى أطراف البلدة، والتلال المحيطة بها. لكنه عندما بدأ باحتساء قدح الشاي المعطر بالنعناع، أثارته النكهة ففجرت لديه شعور رهيب بالغربة، وعدم الاطمئنان، أو عدم الاستقرار هنا في هذه الأرض الجنوبية. فلطالما كتب عن معاناته هذه وعن هذا البلد الذي يعيش فيه مراوحاً كأنه في القرون الوسطى. وفجأة تذكر بُراق جزءً من حلمه المتعلق بالمدير، وقفزت إلى ذهنه تلك الصور المتكررة بين الأرانب والثعلب والمدير. الثعلب الماكر الذي أكل الأرانب. وحاول جاهداً الربط بين التشبيه الحيواني في مخيلته، لصورة المدير وبين الواقع، ففكر محدثاً نفسه: لعلي وقعت تحت تأثير عبدالله بن المقفع، وعلي أن أعود لقراءة ابن سيرين في تفسيره للأحلام. وفكر بجدية أن يستعيد قراءة كتاب تفسير الأحلام لفرويد، ويقرأ الحالات المناسبة لحالته، لكن مجرد التفكير بسيغمود فرويد نفسه، أراحه كثيراً، وجعله يعود لحيثيات علاقة الأحياء بالرسم، وعلاقته بالتابوهات الضيقة هنا، تماماً كما كان يحصل بأوروبا في العصور المظلمة، أما هنا فإن استبعاد الأحياء في الرسوم، لهو مرجع أكيد لتحريمه مما يجعل الرسم لا يحوي سوى المناظر الطبيعية والأشجار، صحيح أن اللاندسكيب فيه مجالات خصبة، ولكن كيف على بُراق أن يترك ما تعلمه في فن التشريح الذي مهر فيه، برسم تعابير الوجه والأيدي والأقدام، للإنسان، والخيل، وكافة أنواع الحيوانات، فما أحلاه كلب الصيد السلوقي في لوحة وهو يركض وراء فريسة، وحصان يدور في الفيافي، وتمنى أن يرصد حركات، وتعابير كلب عاثر في هذه الأزمة، ورسم لوحة تعبيرية لمرثية قرية الرأس بذاتها، وتذكر بُراق تحذيرات ابن الكافي لرسم الأحياء فإن كائن غريب يمزقها، ويرميها، لكن ابن الكافي نسي أنه روى حكاية عن المدرس السابق، بشكل مغاير، فقد تفاجأ المدرس في كل مرة يدخل المرسم، بأن مجموعة من ورق الرسم البيضاء، أو المرسوم بزيت قد قطعت، وتبعثرت، بل إن بعضها قد أكل، وبخاصة المرسوم بالزيت، سواء كان الرسم لغابة، أو أرانب، أو طيور، لابد أن المدرس كركريان القرش قد وجد حلاً لمشكلة أكل الورق، لأنه لم يشر لأية أزمة من هذا القبيل حتى غاب، ولأن بُراق لا يعنيه من يكون، من هو قبله؛ فقد اعتبر الحكاية إحدى بدع ابن الكافي، وابن قارن، لكن ابن المقفع برز بوجهه من جديد أمام بٌراق وهو يستنجد به من النار التي سوف تحرقه هو الآخر، غير أن بُراق استبعد هذا الخاطر، لأنه لا يريد أن يموت حرقاً.
إن التشبيه بين الثعلب والمدير لم يبعد بُراق كثيراً في الربط، وليس هو وغيره من المتعاملين مع المدير، بخاف عليهم وجه المقارنة تلك، لكن الأمر مع بُراق يأخذ مبدأ التخصص أولاً: لأنه محترف مهنة الرسم وفيها مجالات للتدقيق الكبير في تفاصيل الجسـم، ومنها الوجه.
هذه المهنة التي لا تعطي لغـير محترف الرسم هذا المجال من التفاعل، وعقد المقارنات، والتشبيهات خصوصاً ما تعلمه من أستاذه محمد مختار تارة، وحامد الجادر تارة أخرى في علم التشريح. وكم مقت سنين الدراسة الأولى عندما كان مع زملائه يسحبون من كلية الفنون لزيارة الكلية الجارة، كلية القصابين كما كان يدعوها فوزي حليم رفقي. وقد تآكلت شعيرات شارباه الكثان، كأنه مقاتل جبلي لم يأكل من فترة طويلة اللحم المشوي، وإنما يصوم على ثمرة البلوط، وقد كان أبا حقي ممن يخافون العبث بجثث الموتى، وكانت والدته تتشائم من مهنته، ومهنة الأطباء معاً. حتى احتاجتهم في آخر أيام حياتها فتمنت لو كان أحد أحفادها طبيباً. ولم تدر أن ابنتها الصغرى ستخرج لها دفعة أطباء، يكفون لإدارة مستشفى مع زوجاتهم، وأزواجهم.
كان منظـر العضـلات المتراخية مقيت، وشدها بالأصابع، أو ملاقط خائبة خابية الحركة، مرتجفـة تحت أنامل أم علي ليلى، وفارتوهي أم فيكين الرائعتي الجمال والأنثييـن الوحيدتين في عالمهم. إذا ما استثنى بُراق أبا حقي فتيات دفعات السنوات التالية، وبخاصة فتيات قسم السينما، فما هو الدافع الملح الذي يجعل أم علي الملقبة بالعطار تترك قصرها، وتأتي لدراسة فن الرسم، فعندما كانت أم علي تترجل من الكاديلاك عند بوابة الكلية، يتوقف كل من تواجد من الطلاب للنظر إليها، والتحية لجمالها الطبيعي، وتنزل أم علي مع كلبها منحدرة في الممر، وتنورتها البيضاء الضيقة، وحذائها ذي السبعة انجات يعوقانها في السير، فتمشي على رؤوس أصابعها، كأنها تغرسها بين الحصى لكي تتحاشى السقوط، محاذرة أن ينزلق الكلب فجأة، إذا ما رأى قطة رؤوف مؤجر مطعم الكلية، ليس لأمر سوى للمحافظة على الكلب حتى يحين وقت وقوفه كموديل أمام طلبة صفها، وهو بكامل أناقته الارستقراطية، أما الاستكشات فقد حرصت على وضعها في حقيبة دبلوماسية كما يدعوها الطلاب، هذه الجميلة لا يعوزها شيء سوى إطار، وغرفة متحف توضع فيها ليرى جمال شكلها، ونفسيتها لا تضاهيها من الممثلات الأجنبيات جمال حتى صوفية لورين بنفسها التي شبهوا أخت أم علي سعاد بها، سعاد هذه برعت في الرسم، وبخاصة قابليتها بمزج الألوان في لوحاتها الكبيرة، وقفت أم علي أمام حليم رفقي، وباسم سمرجي لتجر أنفاسها بعد هبوطها من الممر المنحدر ليتناقشان في أمور التحضير لحصص اليوم، لكن جرس العم مرعي قطع المحادثة، وليس من مجال حتى لدخول المطعم لشرب كأس شاي بالهيل من يد رؤوف، وعلى الكل الانتظار حتى العاشرة لتناول طعام الضحى بين الفطور والغذاء، وهو تشريب الباقلاء، أو التكة.
أما مهارة بُراق الثانية: فهي في تحديد الشبه، هوايته في إيجاد صنو شبيه، لشخص تعرّف عليك، أو رآه في الشارع ما، فيبدأ فجأة التفكير بصوت عالٍ قائلاً: بالله عليك يا أبا الحق، أين شاهدت مثل هذا الوجه؟ أين، أين؟ أين أبا حقي؟
وفجأة تعلو الابتسامة على وجهه، لأنه وجد ضالته التي قد تكون في شبه رآه مرة في أدنى مدن الجنوب، والشبيه في العاصمة، أو أقصى مدن الشرق، والشبيه في مدينة جبلية، أو من إحدى مـدن السـاحل الغربي. والشبيه من المدن الصحراوية، أو من المدن المحتلة. والشـبيه من المدن الغنية، وهكذا. وعلى هذا ليس مستغرباً أن يجد للوجوه الآدمية شبائه حيوانية لها، سواء من شكلها، أو من نمطها كطبع. فإن كل من تعامل مع المدير ابن قارن، وتعامل هو معهم، وحتى من أهالي المنطقة، أو أقاربه، وربما أولاده، وزوجاته يُقرون بذلك، تعامل لا يمكن أن يُفهم إلا على المغالطة، والخداع، ونصب الفخاخ للضحايا، فحادثة الرحلة المدرسية لا يمكن أن تنسي بُراق الجزء الخاص بشخصية المدير، وتعامله مع الآخرين، لأنه كان قد مارس معه سلوكاً جعله يفكر في مدى تماديه مع الآخرين. فما تزال واقعة قوائم الصرف للرحلة راسخة في ذاكرته، ومنظر المدير الذي يتوسلهما بكل دناءة ما دام الآن قد احتاجهما، وفي سره قد ضمر لهما حفرة عميقة يريد أن يوقعهما بها، ولما عجزت حيله قرر أن يقطـع كل معونة عنهما. ولم يتوان حتى من تأليب الأهالي عليهما بحجـج متعـددة. لكنه مع هذا لم يتمادى كثيراً، لأنه يخشى إن خرجت رائحة الفضيحة لتصل إلى المنطقة الإدارية. فإن كل خططه في الوصول إلى الحاكم سوف تفشل. ويخسر بذلك الأخضر، واليابس. لكن المدير مع هذا حلف بـالطلاق، ولم يعلم أحد طلاق أية زوجة، لأنه لم يحدد، بأنه قد وضع كل من بُراق، ومحمد رياض على قائمة التفنيشات، أولاً لأنهما حرماه من وليمة، أو لقمة مغتصبة بالحق والباطل. وثانياً فإنه سوف يقتص منهما في تأخير معاملات التصيفية. لكي يهبر منها هبرته المعتادة، ولكن هذه المرة دون حجج مثـل ضريبة الماء، وضريبة تعبيد الطرق، أو التزكية، أو مساعدة الطلاب الفقراء. أو ما شابه. ولا تزال القضية قائمة دون حل، أو تحديد موقف لأن المديـر لا يستطيع صرف معونة النشاطات ما لم يقدم مستنداته المزورة، أو شـبه الحقيقية كما يدعي مزاحاً. لكنها أولاً لا بد أن تُمهر بتوقيع مسؤول النشاط الاجتماعي. وثانياً: لا بد من توقيعها من قبل مسؤولي النشاطين الفني والرياضي، وهما بالطبع بُراق، ورياض المكلفان بقرار إداري من المنطقة التعليمية، علاوة على مهمتيهما كمدرسين.
ضحك بُراق في وجه محمد رياض الذي جـاء ليـأخذ كأس الشاي الفارغة من أمامه. فسأله رياض: ما الذي يضحكك يا أخ بُراق؟
بُراق: لا شيء.
رياض: بالله عليك، إنه شيء يخصني، وأعلمه، وإلا لما أثارك
الضحك عند دخولي؟
بُراق: قلت لك لا شيء مهم . لقد كنت أضحك قبل أن تدخل أنت.
رياض: هراء، تعال يا أخ، كيف يضحك شـخص لروحه بروحه؟
إن هذا غير معقول، عندنا يا أخ، كل مَن يكلم نفسه
مجنون، فكيف إذا كلم نفسه وضحك منها؟ ما هو حكمك
أنت عليه؟
ضحك بُراق من جديد وقال وهو يتعمد استخدام مفردات سودانية، تعلمها من معاشرته لزملائه السودانيين: مجنون يازول والله مجنون، وإلا لما وصلت إلى هنا. والله داير أتجنن.
رياض: ألم تقل إنك جئت معانداً ذاتك ؟ تفضل استلم.
بُراق: آآه، نعم. وهذا جزاء مَن لا يقبل النصح.
رياض: لا تبتعد عن الإجابة يا أخ محمد أبا الحقوق.
بُراق : ماذا ؟ هه ؟ لا زلت مصراً ؟ تفضل اضحك . تصور لقد
حلمت بابن قارن. رجل كهذا يفسد عليك حتى أحلامك.
المفروض أن يحلم الفرد بحورية جميلة، بغادة في هذا
الثغر. يحلم بالانتقال إلى أرض الأهل مثلاً. ولكن أن يحلم
برجل وبمثل ابن قارن، فذلك من أقسى أنواع الكوابيس؟
رياض: لا بد أنك معجب به، أو أنك! ولكن ما لي ولرغباتك.
بُراق: قل، أفصح، ماذا تقصد.
رياض: لا شـيء يا أخ، أنت وقومك تخيفون الرجال. أردت فقـط
أن استفزك، ربما لديك ميول معوجة لتحلم به؟ فـلا يحلم
الشخص بآخر إلا، لأنه معجب به فقط.
بُراق: أو منزعج منه. أنت يا محمد رياض تذهب بأفكارك بعيد
جداً.
رياض: إههه ! كلا، كلا فقد كنت يا أخ أمازحك.
بُراق: ألم تقرأ تفسير الأحلام لفرويد يا رياض، فهو يشخص
حالات يومية لمرضاه في العيادة، وخارجها، المهم أن كل
ما أكده فرويد هو أن الأحلام لا تفسر المستقبل، ولا
تستشرفه بقدر ما هي انعكاس للماضي، والماض القريب جداً، كبعض ما يواجهه الفرد في يومياته من أمور، قد تكون معقدة، أو مأزمومة لا حلول مناسبة لها في الواقع، خاصة لو أن بعضها متعلق بالآخر، من غير رابط يحلها، وتعقيدات تستعصي على الفرد أن يجد لها وسطاً مناسباً لعلاجها، وغالبها متعلق بغيره لا به، سواء أكانوا أشخاص، أو مؤسسات، أو أمور طبيعية عالقة بين الواقع والمجتمع، اقتصادية كانت، أو عاطفية، لهذا يلجأ الفرد في أحلامه إلى حلول متصالحة، يخلقها التفاهم في الذات، فهذا العقل الباطن قد جاء بمقترح للأنا الأعلى، فيقوم الأنا، أو الذات نفسها بالتوفيق بينها وبين مصالح الأنا الأعلى، والتصديق عليها، فتأتي الأمور في الأحلام على صور غير واقعية، وكأنها تقلب وجوه الأعداء، ومواقفهم من أشكالها الإنسانية إلى أشكال شيطانية، أو حيوانية بغيضة، وبالعكس فوجوه الأحباب إلى أشكال مستحبة، ووسطية التعامل، لا عدائية، ولا متصالحة، كل هذه التشبيهات الحلمية تتراكب بتقاطعات آنية، وسريعة، تتبدل حسب الأمكنة المتغيرة، والأهداف. ويبقى الزمن متقلب طولاً، وقصراً بين الماضي والحاضر، وتكون الحلول وسطية ترضي الأطراف الثلاثة لذات الفرد، لهذا يتفاجأ الفرد بالحل الواقعي، ويعزوه إلى قوى كبرى أعانته على حل معضلته التي عانى منها لفترة. ولذلك فإنني أدعو عليك بأن تصاب بهلوسات ابن قارن، وأن يـأتيك كالكـابوس في منامك، ليقلق لك أحلامك.
رياض: أعوذ بال، أعوذ بالله.
بعد أن خرج رياض، تذكر بُراق أنه لم يزر البريد منذ أسبوع، وقد خمن أن أمه سوف ترسل له رسالة، رغم أنها بالكاد تكتب العربية بحروف مرتبكة، لثقافتها التركية، وهو بانتظار أي شيء يصله منها بخطها، ولا يدري كيف وصل إلى بيت البريد، فوجد رسالة أمه التي وعدته بها منذ أشهر، وفيها تناجيه في غربته، قرأ حروفها، وديباجاتها، فود لو أن يترجم هذه اللحظات إلى لوحة، ويضمنها عبارات أمه، وبخطها بنفسه، تقول له أمه في الرسالة بأن زهور الحديقة الربيعية مشتاقة له، وهي تتطلع لرؤيته صباح مساء، ولطالما تذكرأمه وكيفية تنظيفها الحديقة من زهور الداؤودي الخريفية، وهنا تذكر بُراق حلمه لليلة سبقت حيث رأها وهي تركض خلفه، وبيدها جردل الماء لكي يسقي الزهور في الحديقة، لكنها تعثر في المدخل المؤدي إلى غرفة الجلوس فينسكب الماء على الأرض وعلى بُراق أيضاً، فيتبلل بنطاله، وفيه حافظة نقوده التي تبتل، فيقوم بنشر النقود على حبل الغسيل، وينتظرها حتى تجف، لكن ريح قوية تفاجئه، فتأخذ معها النقود، ولا يجدي بُراق الركض، بل وحتى نزع حذائه للحاق بالنقود المتطايرة، فها هو سرب من العقبان يمر ليلتهمها، ويلتهم أمل بُراق في جمع ما تبقى من نقود، وتبادر أمه بتعزيته، وتقول له بأنه ليس بالنقود وحدها يعيش الإنسان، بل بالصحة، والراحة، والإخلاص للآخرين.
5
دخل بُراق، دكان ابن سـيحان التـي فتحها، بعد أن وجد إقبالاً كبيراً من قبل المدرسين، والمعلميـن الغرباء على دكانه لشراء المعلبات المستوردة، وفاكهة تأتي عبر الحـدود. فعمد ابن سيحان إلى قطع جزء من البيت الذي أجره إلى المدرس محمد زومط. فجعل باب حجرته الرئيسية هو بابها الخارجي أيضاً. وقـد جلب ابن سيحان باباً حديدية من مركز بلدة البطن، لكي يضعه في وسط المساحة المتبقية بما يسمى ببيت محمد زومط، الذي وجدها فرصة لكي ينقم من جديد على ابن سيحان وأفعاله. وكما يفعل دائماً، فإذا انهار السقف، فهو بسبب بخل ابن سيحان. لأن هذا لم يجلب مـن يعتني بتصليح الشقوق قبل مجيء موسم الأمطار. وإذا انقطع الماء، ولم تجدِ استغاثة محمد زومط، المتمثلة بضربات بطاسته النحاسية على الجدار من الداخل. والتي تسمع من حوش الحريم في بيت ابن سـيحان فإن ابن سيحان هو الملام، لأنه لم ينبه أخته الصماء على حسن التوقيت، وهكذا. إن أفعال ابن سيحان الاسـتغلالية تتكرر بأشكال، وأنواع، ومرات مختلفة. كلها تنحو به إلى طرق الاستفادة من كل ما يدر عليه من أرباح، بالحلال، أو بالحرام. وكلما استعصى الأمر على توثيق ما يقوله، ويقول: زومط إذا لا تصدقوني، اسألوا يوسف رزقالله، سواء بحضوره، أو بغيابه. حتى نبهه يوسف لذلك، عندما اعاد زومط أن يوسف شاهد على فضيحة ابتكرها زومط لابن سيحان، فأنذره، فقبل هذا الاحتجاج، ولم يعد لإشهاده مرة أخرى، خصوصاً، وإن بُراق دافع عن مواقف يوسف السليمة، وغير الاستفزازية، ولكن ابن زومط استمر في ما يمكن تسميته فوبيا ابن سيحان لديه، فالتوسع الذي أجراه ابن سيحان على بيته برأي محمد زومط، لم يكن عطفاً على المدرسين الجدد، كما صوره ابن سيحان بادعاءاته. ولكن من أجل الربح، والتوسع في بناء المدرسة ليس من أجـل أن يسـتوعب أعداداً أكبر من الطـلاب، والتلاميذ في كـلا المستويين، وإنما هو من أجل زيادة الحصة السنوية للإيجار من المنطقة التعليمية. لتصوير ما بناه هو لمدرسـتين: الابتدائيـة، والمتوسـطة، لكنها في الحقيقة بناية واحدة لا تستوعب إلا فصول إحداهما. أما بيـت المدرسين الذي بناه مؤخراً. وأسكن كل من رياض، بُراق، مجدي، مدني، ومسعد، هو ما ادعى بأنها توسيعات أجريت للمدرستين وقد جعل غرف البيت زواغير، أو مواخير لو أحسن تعبير عن الغرف، بلا ملاط، ولا تبليط. اللهم إلا للحاجة والضرورة، كالحمام المشـترك الذي يستعمل أيضاً كمرحاض. وكان كلما اشتكى أحـد المدرسـين مـن سـوء أحوال البيت، والنواقص التي فيه، رغم حداثتـه، يجـيبهم ابن سيحان بأنه مدين الكثير لمقاولي البناء. وأنه لم يفعل ذلك إلا لوجه الله فماذا يحصل منهم غير الإيجار الزهيد. ويغلظ بالأيمان بأن كل ما فعله، ويفعله في حياته هو للخير؛ والجيد لكل الناس. لكن الاستعجال في تهيئة الدار قبل حـضور المدرسـين فـي بداية العام. وقرب موعد الأمطار الموسمية، وبالتالي حشره للمدرسين الإضـافيين في أحد فصول المدرسة لمدة شهر. هو الذي جعله يتغاضى عن الكثير من المتطلبات مـن مقاولي البناء. فيسكت المحتجون متجنبين تتماته التي قد لا تنتهي إلا بطلبه الاستدانة منهم كقرض. ربما يعوضه في العام القادم، أو شراء مبلغ التصفية للشهور الثلاثة من أحد المدرسين المحتاجين، والمتعجلين على سفرهم. وهذا ما زاوله مع الغير، فقد اشترى تصفية محمد صفر لاضطـرار صفر السفر قبل نهاية الشهر السادس، أي قبل ظهور النتائج، فكان أن دفع له ثلث مبلغ التصفية، واعدًا إياه أن يعطيه مـا تبقـى مـن الاتفـاق وهـو تتمتها إلى نصف مبلغ التصفية لكن محمد صفر لـم يُجَـدَد عقده في العام الذي تلاه وضاعت نقود الرجل، ويقول محمد زومط: بأنه ربما يكون هناك اتفاق من جهة، على تأخير موعد تسـليم مبـالغ التصفيـة، مع المحاسبين الرئيسيين في الوزارة. مقابل جزء، أو نسبة من كل معاملة محولة إلى كفيل محلي. ومن جهة ثانية التوصل لإعطاء معلومات مشوهة عن المدرس المُعار إلى الجهات المعنية في الوزارة. لعدم تجديد عقـده. ويضيف محمد زومط بقوله: ولا ينجو من هذا المأزق إلا من يتصرف بلباقة في عدم التسرع، لطلب التصفية، لكن هناك أشياء كثيرة تلاحقه في نهاية السنة. فمن جهة فإن اضطرار المدرس لإخلاء الدار الذي يؤجره بحجة عدم موافقة أهل البلدة على بقاء عازب بعد انتهاء دوام المـدارس. إلا إذا دفع مبلغ تأجير الدار لأشهر الصيف. وربما للسنة القادمة. فحينذاك يُفتى فـي أمره من قبل ابن قارن. وإلا فـإن المدرس سوف يضطـر للمبيت في استراحة قريبة من مقر المنطقة التعليمية في بلدة البطن يأكله فيها البق واللصوص والمتسولين أما إذا غضب الكل على مدرس غـير محظوظ، فإنهم يوغرون صدر شرطة الإقامة لكي تأتي هذه بطلب المغادرة السريعة. قبل تعرضهم إلى طائلة القانون، وهو إما الحجز طوال الصيف ومصادرة مبالغ التصفية أو الترحيل على حسابه. وفي كل الأمور لا من منفذ، فالتعويض محسوب، وهو أن يـترك المـدرس نصـف التصفية راغباً، أو مجبراً قبل أن يفقد كل شيء، ومنها صحته.
إن تبريرات ابن سيحان التي تأتي مـن كلامـه المتقطـع، والمدعـوم بأغلض الأيمان. وعيناه تزوغان، وتجحظان عندما يقع نظره على ريال أخضر في يد أحد المدرسين، ولا يسـتطيع منـع نفسه من الحسد ليقول: الله، يا أستاذ هذا كثير، كثير جداً، ماذا تفعل بكل هذه النقود لديك؟ أعطني إياها لأشغلها لك.
ولا يستطيع ابن سيحان إلا أن يعبر عن مشاعره هذه بكلامه المعهود بأن الدراهم الخضر أهم شيء لدى الإنسان، لأن الفرد لا يقيّم إلا بمقدار ما لديه من نقود، أو ما يمتلكه، وكأنه فيلسـوف زمانه، فكثيراً ما تجحظ عيناه، عندما يراقب محاسب المدرسة، وهو يسلم رواتب المدرسـين أمامه، فـلا يقـوى عن القول، وفي كل مرة ومع كل مدرس: ما أكثر راتبك يا أستاذ؟ ماذا ستفعل به؟
وقد اعتاد الكل، حالة ابن سيحان هذه، فلم يعودوا ينتبهوا، أو يردوا عليه. رغم أن بُراق كان قـد اسـتفز منه في المرة الأولى. فقال له: وهل سرقت هذه النقود منك؟ إنها كدي لشهر بأكمله، فهي مجهودي، وعملي، وعطائي في الغربة القاسية.
ولم تشبع لا هذه العبارة، أو غيرها فضول ابن سيحان وبلادته المصطنعة. بل إن بُراق ومع مرور الأيام، قد أيقن بما لديه من خبرة آدمية في نفس البشر الاجتماعية. إن غلاف البلادة الذي يؤطر ابن سيحان نفسه به ليس أكثر من قناع يختفي وراءه، فإذا ما جالست أخيه عبدالله لعرفت من بين السطور دهاء ابن سيحان، ومكره الذي لا ينافسه عليه أحد سوى ابن قارن. لذلك تراهما على طرفي نقيض، يتحاشيان بعضهما، بل لا يمكن أن يلتقيان في مجلس واحد إلا للضرورة، وما ندر. لأن أية فرصة للاحتدام بينهما ستؤدي لكشفهما معاً. وهذا هو الحلف الوحيد الذي يربطهما، وفي هذه المرات القليلة التي يلتقيان في الجلسات العامة، يحاول أياً منهما الجلوس بعيداً عن الآخر، لكي لا يضطر أي منهما المشاركة في التعليق، أو في تحاور، أو جدال يدور، يكون أحدهما في الطرف الآخر للثاني. ونادراً ما تراهما جالسان عن قرب. فإذا ما حدث، فإن ذلك يعني أنهما متفقان على الإيقاع بالغير، ومع هذا فإن كليهما يتشبث بالحذر، بل أن ابن قارن غالباً ما يكون هو الغالب، أو المسيطر في هذه الجلسات: أولاً لمسـوح التقوى التي يتنكر بها باطلاً، وثانيًا للمرتبة العلمية التي يتبوؤها كمدير للمدرسة. وثالثاً فهو صهر لإحدى أعرق العوائل في بلدة الصدر وهي آلأباظة، بينما ابن سيحان لا يعدو أكثر من مالك، ومدير أعمال العائلة رغـم أنه ثاني الأخوة، لكنه فراش المدرسة وناطورها، وساقي المياه من أقرب آبار العائلة.
والآن وقد أصبح لابن سيحان دكان فإنه قد اقترب في المنافسة مع ابن عازب بدرجة أكثر من وضعه، ورغم أن بُراق وزملائه لم يرتاحوا لطريقة ابن سيحان. ولا لأخيه عبد الله في كيفية التعامل مع الزبائن، التي تبدو أقل لباقة، ولياقة من طريقة العجوز ابن عازب، لكن قرب هذه الدكان من دارهم، هو الذي جعلهم لا يذهبون إلى دكان ابن عازب. إلا إذا لم يجدوا البضاعة التي طلبوها لدى ابن سيحان. ومهما يكن من أمر، فعلى أي منهم حتى ولو لم يـرغب في الشراء، من دكان ابن سيحان أي شيء. أن يمر عليها، لأنه مرصود، مهما حاول. فهي تقع على الدرب إلى هناك، بل إلى أي مكان يتصل بالبلدة، فمهما حاول أياً منهم الالتفاف، فسوف يُرصد لأن الدكان في أعلى الرابية المشرفة على دارهم. فإذا أراد أحدهم الذهاب إلى البلدة، حيث دكان ابن عازب عليه أن يجتاز دكان ابن سـيحان، وإلا فإنه حتما سوف يلف في البرية حتى يدخل البلدة من الجهة السفلية، وهذا ما لا يطاق خصوصاً إذا ما كان الفرد محملاً بـالأغراض. ومع هذا فقـد صار الذهاب إلى دكان ابن سيحان عادة لتسجية الوقت، خاصة وإن البلدة تفتقر إلى مقهى يجلس فيه الناس، وهكذا يلتم كل من ضجر من الجلوس في غرفته. أو على سريره الأبدي ليذهب بعد القيلولة للتسلي بأحـاديث العابرين مثله، أو التعلل فيما بعد أمام الدكان. وعلى أنوار “اللوكس” في الفسحة أمام دكان ابن سيحان، وغرفة محمد زومط الذي اعتاد رش الأرض بالماء قبل المغرب، وتوزيع بعض صفائح دهن الطعام الفارغة، ووضع طاولة صغيرة قد تفيد للعب النرد، أو الدومينو، أو ورق اللعب الشَدة، للتسلي بلعبة الطرنيب مثلاً. أما لعبة الواحد وخمسين، أو الأربع عشرة ورقة. فهي من اختصاص دار العزاب.
وقد توافد الكثيرون من أهل البلدة، والمدرسين على الدكان الجديد أثناء وجود بُراق، غالبهم يهنئون ابن سـيحان على الخطوة المباركة، ولم تستعص حسن الملا زيدان المدرس من إلقاء قصيدة مقفعة!!! كما يصف محمد زومط قصائد حسن وشعره بدلاً عن المقفاة، تذوقوا بعدها الحلوى التي وضعها ابن سيحان كتحلية للمهنئين، أكل منها جيش من الذباب المتراكم عليها أكثر من المهنئين أنفسهم. ولم يبال الذباب بأيدي الضيوف ولا باحتجاج طائفة الزنابير التي تعتبر الحلوى من اختصاصها، بينما احولت عينا ابن سيحان من مراقبة وعاء الحلوى، وهو ينظر من طرفها، إلى كل يد، بـل وإنه ربما حسب كم مرة أخذ فلان، ومن بقي مِن المهنئين لم يذق طعم الحلوى، التي يبدو أنها من سكاكر زواج جدته، وقد أوقف ابنه حامد حارساً أميناً عليها بحجة كشه للذباب، يراقب معه كل يد، ليرى كم قطعة تحملها الأصابع في المرة الواحدة. فإذا ما أخطأ أحدهم فحملت أصابعه قطعتان، سحبها حامد بكل رقة ومرونة، وهو لا ينظر في عيني صاحبها. أما الأطفال فمن منهم يجرأ، أو تسول له نفسه لدخول لعبة نكراء كهذه، لأن حامد سوف يقفز نحوهم كالكلب المسعور.
ودخل أخيراً زاحم دياب عوض الرجل الضخم، كث الحواجب مغولي الشارب واللحية، وهو يجر ابنه خليفان من ورائه، فرجف ابن سيحان لمنظره، لأنه يعرف أي رجل قوي هذا، فهو الذي لا يـزال يفتح شهيته بطاسة كبيرة من حليب النوق. وبعدها يبدأ إفطاره الذي لا يوازي غذاءه ظهراً. فهو بالتأكيد يحتاج إلى خروف كـامل يبدأه من الإلية، وينتهي بمص عظام الرأس والرقبة، وهذا نادراً ما يحدث لشحة الأغنام هنا، والاستعاضة بها بالماعز، والثيران العجوزة ملت منها محاريث الزرع، ولا شيء ينمو هنا بين أشجار اللوز القليلة غير البرسيم، حتى استأنس الناس لطبخه، وأكله مثل الخباز مع البصل والسمن.
مد ابن عوض يده مصافحاً الجميع بروحه المرحة المداعبة. فشد على يد ابن سيحان فعصرها، ولم يستطع هذا التملص من تلك المصافحة، لأنه يعلم ما هي آثارها على يده، لكنه انصاع مجبراً لأن ابن عوض قد جاء إليه هذا اليوم مباركاً، فتقبـل على مضض احتضان ابن عوض له. وقد سمع كل من لـه أذن مرهفـة طقطقة عظام صدر ابن سيحان. فصعد الدم إلى وجهه الأملط، ورأسـه كأنه رأس “دافور” موقد اختل توازن الهواء، والنفط الأبيض فيه، فاحمر بزرقة غير متوهجة، وسرعان ما خبت روح ابن سـيحان فيه، فضحك الناس من منظره، وعلامات الخوف المرتسمة على وجهه. لكن البعض خاف على روح ابن سيحان ليس من أجله. ولكن من أن يحاسب ابن عوض على روح خسيسة مثل روح ابن سيحان، وعندما وصل ابن عوض ليصـافح بُراق، عرف هذا ما الذي سيحصل له، لو بادره بـالمزاح. لكنه لم يـتردد في تقبل المصافحة، وعرف من حرارة يد ابن عوض، ومستوى الضغط عليها، أي رجل يقابل، وأي فحل يصلح لتلقيح إناث جميلات من أجل تحسين النسل.
لا بد أنه مقبول جداً لدى نسـاء البلدة، وقراها المجاورة برمتها، وكأنه يسمع حكايتهن الداخلية، وهن يتغامزن بالنكات الفاضحة، كما يفعل مجتمع الرجال في سهراتهم، ويسمع إحداهن تشتم الأخرى بأنها قد ذاقت العسل من ابن عوض وإلا لاستحت على نفسها. أو تعلق أخرى على كلام ثالثة لإسكاتها بالقول: والله لأخلي ابن عوض يفتق بلعومك.
وتضحك هذه لأنها تعتبرها فرصة لكي تتداوى من آلام اللوزتين، ولربما ولد منه أكثر من سفاح بين أستر الأسطح الطينية، التي لا تلبث أن تحجب أكثر من ارتفاع جسدين فوق بعضهما بالكاد، وكم تمنت أخرى، وهي ترى في حلمها حية سليمانية بُراقية ذات اللسان ذو الشقين وهي في الحمـام، أن تلسعها لتلد ذكرًا بلسـانين مثـل ابن عوض الذي تدعي المُولّدة نحلة: أن أمها كانت قد ولدت أمه، فعرفت وقتها أن لسانه ذو شقين، وكان يلقب حتى قبل أن يبلغ بذي الشقين، لكن والده دياب هدد كل من يتمادى بعد تأريخه في ذكر اللقب، فإنه سوف يدعي عليهم أن يصابوا بفاجعة، ومنذ ذلك اليوم تناقصت الأقاويل ولقب بابـن عـوض خصوصاً بعد زواجه، وبأبي خليفان عندما ولد هذا بعد سبع بنات. وذكر ابن عوض، بُراق بالشاعر أمرؤ القيس غير الغريب عن هذه الديار، إلا زمناً: وهو يصف حبيبته التي أغوتها فحولته، فلم تتوان عن ترك ثدي لرضيعها، بينما يرضع هو من الثدي الثاني في شـقها الآخر. ولم يدر بُراق لماذا تذكر أفضـل لياقـت سـائق جيران خالته، الأتراك الذي يقف على باب الدار، كالديك الذي يحرس دجاجاته من أي فضولي يبادر حتى ولو بنظرة باتجاه دار أسياده، ولقد كان لتعقيب خالته المتغربة العجوز أكثر من حكمة، لأنها كانت تشير من الخفاء، بأن هذا لم يكن ليقف تلك الوقفة، لولا حرصه الشديد على خلفته، وكأنه يغار لأن الأولاد الصغار أولاده، ورب الأسرة الغائب الحاضر راضٍ مسبقاً من باب الاعتناء بنسله الجديد، أما الزوجة فلا يعتب عليها أحد لأن لياقت هو الزوج الحاضر عند الملمات، وتصر الجدة على تدليل السائق، بأطيب المأكل، وتحثه على شرب ملعقة عسل كل صباح على الريق، وأن يأكل التين المجفف، ولب الجوز قبل أن ينام، وتدعي بأنه العرّاب لا غـير. فكل الصغار قد ختنوا بحضنه أما الصغيرات فعيونهن مكتحـلات كأم أفضـل لياقت.
وابتسم بُراق لهذا التداعي والتشبيه السريعين في الخاطر، خالهما ابن عوض ابتسامة مجاملة له، لكن بُراق كان يعرف أنها ابتسامة من يحتمل ألماً، ويبتسم على مضض، فقد احتمل ألم يده مهما كان الثمن، يده التي تحوطها كف ابن عوض من كل الجهات.
لكن ابن عوض أقبل ليأخذ بُراق بالأحضان كما فعل مع ابن سيحان، فصـده بلباقة، وكياسة المتعلم، ضاحكاً بدلوماسية، لا توازي همجية ابن عوض. لكن هذا تقبلها لأسـباب مـن أهمهـا، أن لا يكون ابنه خليفان عرضة لانتقام أي من المدرسين في نهاية السنة، وكان ابنه قد أخذ راحته مع حامد ابن سيحان، ليأخذ كفايته من الحلوى، والكل منشغل مع والده ابن عوض وهو يتلذذ جهراً، وعناداً بكل قطعة من الحلوى التي يأكل قضمة منها، ويرمي البقية إلى جيش الزنابير والذباب خارج فتحة مدخل الدكان. وعندما ملّ من هذه اللعبة، رمى ما تبقى بيده على الأرض، ودهسها بقدمه عمـداً، لكي تمتزج بتراب أرض الدكان، مكونة كتلة وحل حلوة المذاق تحايل فكر ابن سيحان، في الطرق التي يمكن لهذا الوحل الحلو أن يعود من جديد إلى العلبة، وتمنى حصول معجزة لكي يعيد تكوينها، لاحظ أكثر من مراقب عيونه تتراقص كبندول غير متوازن بين لهو خليفان، مقصوف الرقبة، وبين الكتلة الوحلية، وبين معاناة ابنه المبهوت، من تصرف خليفـان، والعواقب التي سوف يتلقاها من تأنيب أباه. وأراد ابن سيحان تدارك الموقف فسأل ابن عوض عن آخر أخبار عاثر الهامي، فانقشع الغمام عن كل الموجودين، وكأنهم كانوا كلهم قد سهوا عن القصة التي لم تجف كلماتها بعد على كل لسان، وأراد أكثر من واحد أن يبدأ بالحكاية كما رويت له. أو كما يدعي بأنه قد حضرها، أو كما سمعها من بعيد، لكن هيهات فالدعوة موجهة إلى ابن عوض، ومن يجرأ أن يسبقه، أو يقاطعه. ولعل ابن سيحان كان من الدهاء بأن حول الموضوع بلباقة عن الدكان، فيخلوا له الجو لمراقبة أكبر من جهة. ولكي يتخلص من الجواب على أسئلة تضطره أن يذكر الأرقام، بنوع من الصحة عن التكاليف خوفاً من إحراجات الناس بحضور ابن عوض، ودون زلة لسان، أو تلكؤ، إذ ربما سيكون عرضة للمحاسبة الصارمة، من قبل الناس الذين يستغلون وجود ابن عوض الذي لا يداهن، بل ربما خشيه من بعض الناس، لأنهم يتحسبون لما سـوف ينطلق من لسانه، ولربما جرى حواراً داخلياً، بين كل من يفكر اعتراض ابن عوض ونفسه قبل البدء، لكي يقيس حسابات الربح من الخسارة، أو تحاشي سمعة تطوله وهو في غنى عنها. وهكذا تخلص ابن سيحان، وربما لفترة طويلة من تعرضه للرصد.
وعرف بُراق دهاء ابن سـيحان هذا، وهو الذي يتقصى أخبار الناس، ويتعقبهم حتى في بلادهم. فقد حكى له يوماً أخبار أحد المدرسين قبل خمس سنوات، وهـو نبيل الحوراني، الذي كان يدعي بأن له أعوان، وأقارب في البنوك في الوطن حتى خُيل للمدرس خليل الوادي أن زميله أحد أرباب البنوك، فطلب منه إيداع مبلغ التصفية السنوية في بنك أنترا بيروت. وعاد الاثنان من الإجازة السنوية، صار الخبر يتنقل من فم لآخر بأن خليل الـوادي يملك مبالغ كبيرة في البنوك الأجنبية، كان مصدرها مبالغة نبيل الحوراني نفسه، خصوصاً بعد اختلافهما، لأسباب قد تكون اختلاف في تدني نسبة الفائدة يوماً بعد يوم، لذلك لم يوفر نبيل الحوراني جهده بأن سرّب إشاعة تفيد بأن خليل الوادي مهرب بضائع، وصيرفي مشهور في الوطن، وإنه يملك عقارات كثيرة. وما وجوده هنا إلا للتغطية. لكن إفلاس بنك انترا وضّح المخفي من كذب نبيل الوادي، وزور ادعائه. لأن خـليل الوادي قد نقل إلى مستشفى ديو، عندما لم يجد البنك في محله، بل وجد محلات لبيع الخرداوات. فقد كان أحد زملائه من المدرسين في بلدة البطن قد رافقه، وهو الآخر من المودعين، فتحـمل وزر حمل خليل الوادي، بتاكسي إلى المستشفى، وعاوده لمرات حـتى انقضـت الإجازة، وعادا معاً بخفي حنين ليبدأن مشوارهما من جديد.
قال ابن عوض وقد اتخذ وضعاً مسرحياً واضحاً، واستعد ليمثل الحالة، كأنه أحد أبطال مشـخصي الأورطه أوينو، الأتراك أو راوزاخون الفرس. ولعله في كل هذا التقمص لن يتجاوز ما قاله، أو ما سيقوله غيره، ولطالما عرف بكلامه المبتسر، أو بأحاديثه القصيرة. والتي لا تحمل إلا مواضيع مسطحة، لا تبتعد عن حجـم الأكل ومصارعة الجمال، ويسبقها كالعادة بحركات، وانفعالات، وقهقهات يشهق بها، فيغتصب المنصتين ضحكاً على ضحكه، وانبرى يتكلم بلهجة بدوية، واضحة لم تتقبل كل تأثيرات وتقلبات المدنية: إنهم لا زالوا يبحثون منذ الصباح، وأهل قرية الرأس خائفون لأن الشرطة لا بد أن تصل إن آجلاَ أم عاجلاً إليه، إلى ما هو مخفي، وسوف تجد الشرطة الجاني حتماً.
وانتهى من كلامه، الذي وجده أكثر السامعين اعتيادياً، بل وقديماً، ولكن هيهات لأحد أن يجرؤ على الإضافة أو الإعادة، أو التكذيب، غير أن الشيخ صالح المطروش الرجل العجوز لم يكن لا ابن عوض، ولا كل الآخرين في حسبانه، فلن يجرؤ أحد للتعدي عليه لكبر سنه، فاجأ الشيخ صالح المطروش الجميع، وربما أنقذهم، وأنقذ ابن عوض من التورط في أزمة مع أحد فقال مضيفاً: أجل إنهم بانتظار وصول الشرطة، بعد أن ذهب وفد من قرية الرأس إلى مركز المدينة للإخبار عن الحادث كالعادة.
وتشجع شخص ثانٍ وهو مزهر، كان يجلس على كيس من الرز الأمريكي (أنكل بين) المصنوع من نفايا الذرة، وقد غطى بدشداشـته عبـارة هدية من الشعب الأمريكي المكتوبة بكل لغات العالم الثالث، بينما كتبت العلامة التجارية باللغة الإنجليزية فقـال بصـوت يشوبه الحزن، تأثر له الجميع: هل سمعتم الرواية الصحيحة، عن كيفية قتل عاثر الهامي لزوجته؟
واستعجل الكل بإشارات من عيونهم، ووجوههم: بأن لا، وكلهم تواق لسماع الجديد غير أنه لم يقل سوى إعادة لما رواه ابن عوض، وبالمقابل فقد سـرت عادة مستحدثة أن يقول كل منهم ما بخاطره. حتى ولو كان معاداً، والكل يريد أن يسمع حتى النهاية، لعل فيها كلمة مضافة، أو فعل جديد لم يرد في كل المساقات، ومن جهة الفرد الراغب في الكـلام، فإنه يريد أن يحكي، ولا يبقي على المعلومات السابقة في سره. هذه المعلومات التي اكتسبها بالتناقل فأضاف لها رؤيته الخاصة من عندياته، وأضاف المتحدث أخيراً: عندما وصل عاثر الهامي إلى البيت بعد الغروب بقليل، أحس بأن أمراً غير طبيعياً يحدث في بيته، فأمه وأبوه وأخوه الصغير ليسوا هناك. فقد تركهم خلفه في المرعى وقد عاد هو لكي يستحم، ويغير ملابسه. هكذا اعتاد أيام نهاية الأسبوع، إذ غالباً ما يبادله الموقع والده، أو أمه. لكن رغبة أخيه الصغير الملحاحة على والدته، جعل الوالد يأخذهما معاً للمبيت ليلة أخرى. أما وقد اسـتقبلت عاثر زوجته مريم بارتباك، كأنها كانت على موعد مع أحد غـيره، أو أنها ودعت شخص ما قبله. فقد دخل الشك في قلب عاثر، وتحدث في سره: لا بد أنها تتكتم على أمرٍ ما، أو أنها تخفي شيئاً ما عني.
مزهر: ولما اقترب موعد نومهما، تمنعت مريم عليه متحججة كعادتها، فعرف عاثر اليوم أكثر من أي وقت آخر، أنها كانت على وصل مع أحد غيره. فصمم على قتلها بعد تعذيبها، ربط فمها لكي لا تصرخ، وجاء فسمر يديها ورجليها بالمسامير، وهي تدافع عن نفسها، حتى خارت قواها، فباعد بين رجليها، لكي يفعل ما لم يستطع فعله ليلة زفافهما، وعندما انتهى من فعلته، طعنها في صدرها، وحز رقبتها وهرب.
جفل الحاضرون لهذه القصة المختلقة الرعناء، والتي هي بالتأكيد من ابتكار شيطان خبيث، يريد تشويه سمعة مريم قبل عاثر، خالها أحدهم من تدبير ابن قارن. ولكن لماذا يرويها هذا على الملأ، ودون رعاية لحرمة الزوجية المقدسة. فهل صار من حق الكل التشهير، هكذا بمجـرد أن المغدورة ماتت، والجاني زوجها، أين الأهل، أهله، وأهلها. وبدا أكثر الناس تضايقاً هو ابن عوض، فعلى الرغم من أنه فحل ملّقح معروف. لكن شيمته لا تسمح له حتى بسماع أقاويل كاذبة مثل هذه، إنها بالتأكيد من تسريب حاقد لئيم، ورغم طبعه الصريح حرص على الكتمان لئـلا يسـاء فهمه، لعله تصرف بحكمة أكثر من أي وقت آخر، حرصاً على سمعة القتيلة، وسمعة مَن مِن الممكن أن يقترن بها اسمه، وربـا يكون هو المقصود. لكن ما بال أهليهما لا يتصدون لهذه الأقاويل المغرضة.
وفكر ابن عوض في سره: من أين لأهلهما ذلك الوجه الجريء لكي يجابهوا الناس؟ ما دام عاثر لم يسلم نفسه للعدالة، وما دامت أية محاكمة لم تعقد بعد.
وهكذا أضاف الراوي أخيراً: إنها جريمة نكراء، وإن الشرطة التي سـتحقق، سوف تواجه مشاكل كثيرة.
قال آخر: نعم، نعم ولا بد للناس أن يتوقعوا بأن الشرطة سوف تقوم باستجواب كل من يعرف أي شيء، خصوصاً هؤلاء الذين كانوا عند البئر.
وأضاف رابع: وهؤلاء الذين تحدثوا سواء كشهود عيان، أو رواة عن غيرهم.
وخاف الجمع، وحاول كل منهم أن يتملص. بل أنكر غالبهم أنه تحدث إلا ابن عوض، والشاهد الأخير. وقال ابن سيحان أخيراً: لا بد أن للشرطة عيون هنا، وهناك، ربما.. وسكت. فقد كان يريد أن يقول: ربما بعضهم بيننا الآن.
لكنه خاف من أمرين: الأول أن يهجم ابن عوض عليه، ربما لأنه اتهمه، بشكل غير مباشر، ولكن بعلنية، أو لكي يطلب منه أن يدله على أحدهم فيقتله، لكن ابن سيحان الذي تورط بكلامه هذا، صـرح أخيراً بأن: إن لاختلاط الأمور لدى الآخرين، ولديه بالذات تأثيره، وأسبابه الموجبة، فلهم العذر، كل العذر.
فقد كان كل تصوره أن من قصدهم في كلامه هم من غير هؤلاء المخبرين، وهو يعرفه من هم على الغالب، وكم عددهم على وجه التقريب. ولم يسـتطع بعض الواقفين، ولا الجالسين من الاستمرار، عندما انتهى الأمر إلى هذا الحد. فلفلف بعضهم نفسه، وسار خشية أن يقع تحت طائلة القانون، ويسحب إلى استجواب. أو تحقيق. وعلى الواحد فيهم أن يسير بمحـاذاة الحائط، حسب المثل المعتاد ولم يبق إلا القلة ممن لديهم ما يضيفون. فقال أحد الفضوليين، وهو جوهر، مغالطاً الشخص الذي ادعى مـا ادعـاه. وهو ذلك الذي روى الحكاية وروع بها نفـوس المجتمعين، وأضاف بتعقل كأنه لم يسمع الحكاية في الحال: يقول أهل قرية الرأس، إن عاثر كان قد شك في زوجته مريم، فأخذ يراقبها. خصوصاً الأيام التي تلد فيها الماعز صغارها، وكان عاثر يتحايل كيف يترك قطيعه، أو يقترب كثيراً معه إلى حيث تكون مريم، دون أن تشعر به. حتى رآها في أحد الأيام مع أحد الأغراب من المقاولين، لكن الذي لم يستطع تميزه من يكون كما يقولون. فقرر منذ ذلك الوقت قتلها، رغم أنه لم يعرف؛ ولم يريد معرفة مَن يكون، فقد أكد بعضهم، بأنه قد شك في مريم منذ الليلة الأولى لزفافهما.
قال أحد الرجال وهو معبد: يا رب أستر، وأرحم عبادك، هل يعقل هذا يا شيخ استغفر ربك، من أين لك هذا الكلام كله؟
جوهر: والله العظيم سمعته من أهل قرية الرأس أنفسهم.
معبد: كيف يا ناس، دعوا أرواح الأموات ترتاح، ولا تعذبوها فوق عذاباتها.
وأحس ابن سيحان بأن الأمور سوف تتطور إلى غير ما تحمد عقبـاه، فقال بسرعة، مسيطراً على تعلثم لسانه: لقد جاء جماعة من أهل القرية، إلي وطلبوا مني آلة سحب الماء مع المولدة الكهربائية. فذهبت معهم لربطها على البئر.
ثم أضاف وبشكل يبدو أكثر تباهياً: إنه ثالث بئر مهجور يعود لأجدادي، وهو من أملاكنا، من بقايا الحصن الكبير.
وهنا أحس الجميع، بأنه لا يمكن له من إضافة أي جديد على الحكاية، طالما أن ابن سيحان لم يضف، أو ينفي ما ورد في الحكايتين، لكن كثير منهم اقتنع في ذاته على الأقل بزور وبهتان بعض مما روي من الروايات، ورغب البعض بإلحاح، بالمزيد من التفـاصيل، حـتى ولـو كـانت تأليفاً شخصياً بحتاً، وحمد الكثير منهم ربه، لأن ابن سيحان أنهى الجدال على ذلك الحال، ولو حاول ابن عـوض الولـوج في الحوار، والعناد لحدثت هناك مشاكل قد تستدعي لاستعمال البنادق والخناجر والسـيوف. وربما بتر الأعضاء، أو قطع الأيدي ثم الوصول إلى دفـع الدية أو ….
لكن ابن عوض كان في اللحظة الأخيرة منشغلاً مع بُراق الذي سأله عن حاله، وحال العائلة، والإبل. فراح هذا يسحب بُراق خارج الدكان دون أن يعير الآخرين أي انتباه، ولا أهمية. وخرج معه ليشرح له حاله من الفجر، حتى مغيب الشمس، فهو لا ينفتح إلا على قلة من الناس من أمثال بُراق. وهكذا باشر تفاصيل يومه من طاسة لبن النوق، التي يشربها على الريق. وحتى أكل الفجل، والبصل في الليل لتصريف دهن الإلية. لكن بُراق ظل واقفاً أمامه بصمت، ينصـت إليه وقد أسند ظهره إلى جدار دكان ابن سيحان المطلي حديثاً بكلس أبيض، دون أي تعليق منه، منتظراً أن ينتهي صاحبه من تفريغ آخر شحناته الهادرة وكأنها جعجعة فارغة سمعها للمرة الألف. وشرد بُراق بتفكيره وهو يتظاهر بسماع ابن عوض بالحادثة، حتى بدت صورته تبدو كوجه في شاشة اختلت صورتها، فصارت كالصور الصامتة في السـينما، لأن الأفكار المختلفة بدأت تراوده، بشتى مجالاتها. وتأسف بُراق عميق الأسـف لانتحار الجاني. لأنه اعتقد أن عاثر الهامي هذا قد أقفل بانتحاره على سؤال كبير، وسر خطير كان سيخرس كل المتشدقين، والمجتهدين، ويوضح دون مواربة السبب، ولعلل عاثر القضية الأساسية، وأوضحها. وهذا ما جعل بُراق، يتذبذب بين فكرتين أساسـيتين: إحداهما بأن عاثر من الشجاعة بمكان لأنه لم يقفل السؤال على نفسه فقط. وإنما صان لسانه من الزلات، ولم يكن يعرف أن كلامه ودفاعه عن نفسه، لو لم يمت لكان سيبعد كل أنواع الاجتهاد، والتأليف، والاعتداء على الموتى بنبش ذكرياتها. ليت أنها صادقة، وحقيقية، ولكان وضّح المعاني التي يشتهيها الأصدقاء، والأعداء. وتخيله بُراق من الشـباب العاطفيين، وليس كما سمع من أقوال يربو كثيرها للمبالغة والخلط. وربما التجني، والتسرع في الحكم على الغياب، وهذا ما عم الجمع، وهكذا فقد فتح عاثر بانتحاره، التساؤل عن جوانب القضية المتعددة. وربما التجني، والتسرع في الحكم على الغياب، وتخيًل بُراق روحي عاثر، ومريم ترفرفان فوق المنطقة ولسان حالهما يقول: دعونا ننام بسلام، فدماؤنا لم تجف بعد؛ اتركوا روحينا حـتى تستقر فكفاهما ما لاقتا وستلاقيه أمامها.
وترفرف روح مريم، على المكان هائمة، وكأنها تستنجد من جديد ببُراق للكف عن التعرض لسيرتها، وسيرة زوجها، ترفرف مثل فراشة تهرب من اللهب لأول مرة، ربما هربت الروح بعد الاحتراق. وتبدو من خلال أشعة الشمس كأنها غطاء وجه شـفاف لأجمل جميلات الأرض. خمار مشجر بكل ألوان الزهور. ينسحر بُراق لهذا البهاء، وهذا الحوار الذي لم يتصور بأنه يختصه لوحده، إلا عندما انتبه لأن كل من حوله مشغول بمحادثة جانبية، مثلما انشغل هو بحديث ابن عوض، وتداعيه وهو يتظاهر الإنصات إليه، وقد تفرق البعض الآخر، فبادر بالاعتذار وعقب بالقول مجدداً: دعوا الأموات يرتاحون .. وصلوا على أوراحهم.
وفي محاولته الخروج من دائرة الناس لم يستطع بُراق التخلص من صورة الفراشة الملونة، وفكّر بقسوة البشر على إخوانهم، إن ألسنة الناس التي تلوك اسم عاثر الهامي، واسم زوجته مريم على ألسنتها، وتحكي وتبتكر. تزيد وتنقص. تدخل بخيـالات غرفتهما، ووحدتهما، وأوقات الصمت بينهما. تجترح بذلك كل شعور رقيق بينهما، وكل إحساس لا يمكن أن يوصف ما بين زوج وزوجته. لذلك حسـم بُراق تفكيره بقراره عندما اقتنع بأن عاثر هذا من الغباء عندمـا أقدم على الانتحار.
ونفذت رائحة خبز جديد من نافذة محمد زومط القريبة منه في وقفته مع ابن عوض فاشتهى بُراق أن يذوق لقمة ساخنة منها، أو قضمة على الأقل. لكنه أحجم لسببين: الأول أن ابن عوض سيلازمه كظله، ليدخل ضيفاً ثقيلاً على محمد زومط. والثاني أن محمد زومـط سيكون هو الآخر سبباً في ضياع وقته المتبقي. لأنه هو الآخر سوف يتسابق مع ابن عوض في تداعي الحكايات، والروايات حتى يصلان معاً إلى زمن الاحتلال العثماني، ولكن الحسم جاء الآن من قبل محمد زومط الذي فتح باب بيته، وكأنه أحس برغبات بُراق واشـتهائه. أو هكذا تعود في وطنه، من باب الكرم والنخوة. فدعاه للدخول متحاشـياً دعوة ابن عوض، وهكذا انسحب ابن عوض، مولياً وجهه صوب باب دكان ابن سيحان، موحياً بأن أحدهم ناداه. وقد بدأ هو بالسؤال عن ابنه خليفان الذي ظل في الدكان.
دخل بُراق، ومحمد زومط الدار. وعرف بُراق أن أول كلام سـيبدأ به ابن زومط هو السب، واللعن، والشتم، والتنديد. كعادته في التذمر. وتلك الأحوال السيئة هنا، وفي الوطن. في الدار وفي المدرسة. الصحة والمعاش. الأكل، والماء. الطقس، والبيئة. ويختمها بجملته المشهورة عن الظروف التي جعلته يتورط في عمل كهذا في بلد أجرد، حتى أشجار لوزه ترفض أن تورق قائلاً: كسأخت هيك عيشيه.
وفكر بُراق لأول مرة، متسائلاً في نفسه: عن سر تأخر توريق شجر اللوز، صحيح أنه لم ينتبه لذلك في بلاده، لأن مواسم الربيع واضحة المعالم، ومن خلاله تعج البساتين والأحراش بالزهور، لكل صنف، ومن كل لون. إن الذي يعرفه أن الزهـور في كثـير من الأشـجار، وبخاصة المثمرة منها تورق قبل الإزهار، يبدو ولكون أن أشـجار اللوز هي الوحيدة التي تشذ عن الملاحظة، فإن وجـود أشـجار لوز هنا بهذه الكثرة هي التي تحيره. وهي أكـثر من مصادفة، وغاب بُراق في هذا التفكير، استحق الأمر منه أن يغوص بعيداً في الذاكرة، وزومط يهدر في كلامه “النكدي”، والبذيء الذي يتحاشـاه بُراق، وكثيراً ما نبهه لسوء نظرة الطلاب لسلوكه، لكن الطبع غـلاب. ورغم أن بُراق لا يتفق مـع ملاحظـات ابن زومط، المتناقضة مع مواقفه أمام مدير المدرسة بالذات، أو ابن سيحان، ولو لا أنه مضطر لرؤيته كل يوم في المدرسة، أو حتى إذا تحاشاه، فإن غرفته مثل دكان ابن سيحان، يرى من خلالها محمد زومط كل حركة فـي الطـريق إلى البلدة ومنها. لذلك لا يفرط محمد زومط بهذا السكن حتى ولو اضطر دفع إيجار ثلاثة أشهر بكاملها، أو أن يأتي قبل عشرة أيام، أو أكثر ليسبق غيره إليها. إن السحر الذي جذب بُراق في هذه البلدة هو جمال الطبيعة، وبخاصة أشجار اللوز فيها التي تزخر بورودها البيضاء ذات اللب الأحمر، المتدرج من الفاتح إلى القاني، وتتوسط كل زهرة نقطة حمراء صغيرة، كأنها خرزات منثورة فوق تل من القطن. وأراد بُراق أن يبعد محمد زومط عن السباب، والشتيمة التي هي مستهل كل حديث له، ليس في بداية اللقاء، وإنما في مطلع كل قضية، ويتكرر ذلك دائماً مع الآخرين الذين تعودوا على طريقته، وأحسن طريقة إبعاده عن ذلك هو الاستفسار عن مهمة يكون قد أجادها زومط نفسه. فسأله بُراق مادحاً طريقة خبزه، فبدأ هذا أوتوماتيكياً بشرح طريقة الخبز بأسلوب مدرسي قائلاً: لا أزيدك علماً يا أستاذ بُراق. فبعد اختمار العجين، وتقطيعه. تفرش أرغفة العجين على قطعة من قماش خام، ويرش قليلاً من الدقيق عليه، ثم نأتي بفرن الخبز البلدي الذي ابتكره أحد الوافدين، ربما كان مدرس للعلوم الحياتية، وهي متكونة من صفيحة زيت الطعام الفارغة تقص من طرفيها العلوي، والجانبي. وتثبت طبقة الجـزء العلوي التي اقتطعناها في وسطها، بواسطة أسلاك تدخل الثقوب التي تثقب بين الجدار، والسطح الوسطي كأننا نخيط قطعة قماش بأخرى. وبعد الانتهاء نقلب الصفيحة رأساً على عقب ليكون هكذا حالها عند الاستعمال أي خبز الخبز بعد وضعها فوق “الدافور” الموقد النفطي. ويبقى الجانب الطـولي المفتوح في الوسط، وفوق لوضع الأرغفة التي سوف نخبزها. ويوضع الرغيف العجين أولاً في الطبقة العليا، أي على السطح. وعندما تتماسـك تقلب على الجانب الآخر، بعدها ينقل نفس الرغيف إلى الطبقة الوسطى لتقليبه بسرعة، بعصا صنعت لهذا الغرض حتى ينضج. في حين يكون الرغيف الثاني قد استقر مباشرة على الطبقة العلويـة، وبنفس الطريقـة حتى ينقل إلى الوسط. لكي يليه الثالث فالرابع حتى انتهاء الكمية.
كان شرح عملية خبز القرص هذه على لسان محمد زومط، كأنها طريقة عملية لتجربة مختبرية يلقيها أمام الطلاب في مختبر الأحياء. أو كأنه يقدم درساً نموذجياً أمام مجموعة مفتشين. وفي اندماجه حاول أكثر من مرة أن يشرك بُراق في الطريقة كطالب يستعين به، يمسكه الرغيف. أو يناوله العصا. أو يوحي له بحقن “الدافور” كلما خبت ناره، أو يطلب منه مناولته سلة الخبز الحار، في كل مرّة. وهكذا لم ينته الدرس حتى أنهى ابن زومـط كل وجبة العجين التي أمامه، وارتاح الجانبان: بُراق من أسلوب السب، واللعن. وزومط من قضاء وقت الخبز وحده يكلم نفسه، أو يحيك مواقفه – الفاشلة غالباً – لليوم الثاني، مع الآخرين. فتحترق له أكثر من قرصة عندما يسهو عنها في تداعياته، وهنا لا مجال لهذا التداعي. ورغم أنه يعرف، أو يتناسى بأن هذا الدرس قد قدمه لأكثر من مرة، ولبُراق بالذات لكنه ملتذ بواجبه هذا، كأنما هي استمرارية لما يفعله في الفصـل، هكذا جلس مقرفصاً أمام فرن الخبز اليدوي البيتي، الذي يدعي بأنه ابتكره، يقلّب الخبز أمامه، منتشياً بعمله ورائحة الخبز المنتشرة في المكان.
وراحت يد بُراق لا إرادياً، إلى رغيف حار رماه محمد زومط في سلة الخوص لتقرض له قطعة، يبلها بلعابه الذي سال أكثر من مرة طوال سرد محمد زومط الطويل. ناسياً أصول الكرم في تقديم أول رغيف للجار، أو الحاضر. وانتبه ابن زومط إلى حركة بُراق فقدم له الرغيف الأخير مجاملاً. بل ملحاً كعادته، حالفاً بـأغلظ الأيمان حتى وصل إلى الطلاق، وهو العازب، قام بُراق بعدها لينظر من النافذة الوحيدة في البيت إلى الطريق الرئيسي المؤدي إلى هذه البلدة الصغيرة. إذ ربما تصل، أو تمر فيه عربة البريد التي طال انتظاره لها، ذكرته النافذة من علوها الشاهق هذا إلى منظر النافذة في القرية الجبلية التي تشرف على بركة ماء عليل، والصبايا يستقين منها بل ويأخذن لهن غطسة فيها بكامل ملابسهن، سرعان ما تلتصق على الأجساد ليصبحن آلهة فينوسية ناطقة، فيلتصق القماش على النهود منحدراً إلى السيقان، أما من الخلف فكل الظهر مستقيم ما عدا ارتفاع الوركين. وكم تخيل منظرهن الآن بمنظـار الرجولة. بينما كان يراهن وقتها ببراءة الأطفال. هاهو يراهن كل بوقفة فنية مختلفة، ويقـرأ تفـاصيل حركاتهن بعين الفنان المرهفة، وذهنية المحترف العارف من أين، وإلى أين تؤدي عضلة بارزة ما. تلك الدروس التشريحية التي تمنى، وهو يدرسها في دروس وقتية، لطلاب كلية الفنون، في كلية الطب. أنه كان مزود بها من قبل ذلك أي في مرحلة الطفولة، لكان وقتها قد قدر حق التقدير ذلك الجمال الباهر، وتلك الرقة وذلك الصفاء المرمري، للجسد البشري، أما لوتعرض لظرف بيئي عصيب لتغير مظهره بشكل واضح، نتيجة للتوتر العصبي.
وفجأة تذكر بُراق رواية ساطع، عن توهه مع جماعة في صقيع الجليد الشمالي، ومعاناتهم من البرد، والذئاب المتوقع هجومها عليهم في أية لحظة. حتى الماء لا يشعرون بلذته لأن عضـلات الفـم متجمدة في الحلق، ولا نار داخلية، أو خارجية تذيب الجليد في الحلق لكي ترتوي الأمعاء. والأمعاء يابسة جامدة على كسـرة خـبز متعظمة، والسـير في اتجاهات مرتبكة، غير معلومة كالسير في صحراء مغبرة. ولم يدر بُراق كيف تنتقل خواطره، وتداعياته بهذا الاختلاف في الأفكار، والأشخاص، والأمنة كلياً، فهل مرّت هذه الخواطر بهذه السرعة، عندما كان بُراق قد فكر بثـوانٍ ما تعنيه هذه المخاطر؟ وقبل الحصول على الإجابة قطعت تأملاته بسكين حاد صادر على صوت محمد زومط، الذي سب عربة البريد وسائقها، وركابها، ومدير البريد، وحتى عامل البنزين الذي صب الوقود فيها، كان بُراق قد تخلص للحظـة مـن عبئين ثقيلين: هما ابن عوض الذي تخلص منه بالتجائه إلى محمد زومط، ومن ابن زومط، الذي حول حديثه إلى درس بيتي في كيفية شـواء الخبز، كان قد سمعها من أطرافها الخارجية لأنه كان هو نفسه، ولكثرة ما تتكرر عليه الوجوه والأحاديث فيهرب إلى خواطره المتداعية.
غير أن محمد زومط لو وجد الاستعداد الكافي لدى بُراق لأوغل في الحديث والإسهاب، فقد شعر بعدم انتباه بُراق، أم لم يشعر، بل إنه لربما يرتاح كثيراً لشخص يسهم أمامه. ويسرح لأن هذا لن يقاطعه. بل انه يعتقد، ويدعي بقدرته على تنويم الشخص، ليتصرف معه تلقائياً، لذلك لم يجد ما يزعجه من بُراق وهو يروي له عملية الخبز، لأنه انصاع لا إرادياً لكل لفتة، وإشارة وحركة وتوجيه يطلبه منه. فقد كان بُراق يؤديها كالمنوم، ومحمد زومط فرح من حالته، لأنه الآن سوف يبدأ روايته التي يحب أن يعيدها على شخص ساهم، صامت، ومنوم لكي يستذكر من خلالها خيالاته وأوهامه، أو الحقائق التي تخفيها ثنايا الليل، وذلك عندما يصف انزعاجه من حلم يوقظه.
كان زومط قد رأى ثور ضخم يهجم عليه، ثور كبير جداً، ليس كتلك الثيران التي سمع بها أو شاهدها في أفلام السينما التي يصارعها الأبطال، في حفل مصارعة الثيران الشهيرة. بل أكبر بكثير، وكلما اقترب منه الثور كبر حجمه، وزومط يركض حتى يصل إلى حافة هاوية بفزع من اشتداد اقتراب الثور منه، وتضخمه أكثر فأكثر، وحين لم يبق بينه وبين الهلاك في الهاوية إلا ثوانٍ، يدعي من ربه أن يهبه القدرة لكي يتخلص من هذا الموت المحقق وبلمحة بصر يرفع زومط الثور من قرنيه، ويدور به عدة دورات، فيرميه في الوادي، وما أن ينتهي إذ يشاهد ثوراً أخراً بنفس الضخامة قد أقترب فيصرعه، ويرميه هو الآخر في الوادي. وهكذا يتوالى الثيران الواحد تلو الآخر، وهو يقتل ويرمي، يصرعها بالقوة التي وهبها، ولكن الأمر يطول ولا بد من نهاية، لأن ضربات عنيفة تحطم يافوخه قد تعالت، فيخاف من مصيره، ويفز من نومه، ولا يصدق أنه قد نجا، وإنه كان تحت تأثير كابوس. لكن ما هذا الدق المستمر، وينتبه إلى أن الدق صادر من الحائط المؤدي لباحة بيت ابن سيحان مصحوب بأنين، وحسرات وتنهدات عميقة الدلالة، شهية الرغبة، مكبوتة الهواجس، وبين مصّدق ومكّذب لنواياه وحواسه ينتبه إلى أن كل تلك الحشرجات، وما صحبها من خربشات على الجدار، تتضخم في غرفته، مصدرها الركن الذي يستقر فيه الزير وبقربه أنبوب تفريغ الماء. فينهض زومط وكأنه مستمر في كابوسه، منوم وهايم لا يعرف الربط بين هذا الحلم والكابوس الذي سبقه ولما يسير، فيحس أن ذلك ربما من أحلام يقظته، فيصفع جبهته، عندها يكون قد وصل إلى فوهة الأنبوبة، ويعي من جملة الحشرجات، أن هاتفاً غامضاً يناديه، فيقدر معنى المعاناة، وهي في نفس الوقت معاناته المشـتركة. لم يفهم زومط أية عبارة من ذلك المستغيث وراء الجدار، إلا ما تفهمه غرائزه وتحسها، فيمد يده داخل الأنبوب مستجيباً للاسـتغاثة، وتقوم أصابعه في الحال تلهو بسنابل طرية لشعر، وفم المستجيرة. وكأن ما وصلها أكبر هبة، وقوة، وهو يصرع الثيران الواحد تلو الآخر. وقام ليسند ظهره بالزير ريثما تنتهي مطالب الطرف المستجير، ولم يدر بيده الثانية كيف عبثت بالمياه من تحته، ففترت همته. بينما هدأت الأصوات، من الجانب الأخرى. وأحس بقبلة صماء تعبر عن سمات الشـكر. ولما لفح الهواء كفه سحبها على مهل، وقام ليسحب أقدامه الكسلى إلى السرير فينام، قبل أن تصحو الكائنات، وهو راضٍ ونادم، متأسف وممتن. لكنه أخـيراً بصق على الحائط بحقد لاعناً ابن سيحان وسلالته، وغط في النوم من جديد.
أما كوابيس الخرساء فتنطلق من خوف عميق في فتحها للفم على فعل النطق. والتكلم بلغات متعددة. وكأنها تتكلم بلغات أهل بابل الكلدانية، مسكونة بأرواح ملائكية. فتارة تتكلم باللغة الأمهرية، وتارة أخرى بالحميرية، ومرة بالصنعانية، فالعدنية، والظفارية، وفي الليل يعتيرها كابوس عندما ترى عنكبوت ينزل من السقف، ليسقط في فمها، ويحوك بنسيجه الشباك على شفتيها. فتصرخ، وتصرخ مستغيثة، لكنها لا تُسمع مغيث ما. وتصرخ المستجيرة مجدداً، بلا معانٍ تذكر، كأنها تخور كبقرة لا بعل لها، ولا تجد نفسها إلا وقد وصلت إلى حافة جدار ابن زومط لتخبط عليه، فتدور نفس الحكاية، وبنفس أدوات العلاج. أما في النهار فإن زومط يراقبها من نافذته عن بعد، وقد بدا عليها اسـتحياء المستغيثة، عندما يتصادفها في النهار، سائراً من المدرسة إلى الدار، وهي في طريق عودتها من البئر، أو عند خروجها من الدار، تهرب من نظراته، فيقوم بوصف غنـج خطواتها بدقة متناهية، ويرسم في الخيال تكسر طيات فستانها تحت عباءتها النصفية، جعل بُراق يصدق ولو لفـترة حكاياته تلك.
وصرخ زومـط فجأة كالملسوع، وقد احترقت يده من نار قرصة اسـتعجل شـواءها. لكـن بُراق لم ينتبه حتى لاستغاثته هذه، لأنه هو الآخر كان سارحاً، غارقاً في أحلام مناه. والحقيقة أن كل منهما كان بحاجة ألى الآخر بغض النظر عن الموقف. فقد وجدا عزاءهما في اجتماعهما، لذلك لم يعر هذا انتباها للآخر. ولم يسجل أياً منهما موقفاً تجاه الثاني، لماذا؟ لأنهما قد مثلا حالة التكافل بين الأحياء كما يتكافل التمساح مع طائر ينظف له أسنانه، فهذا يتخلص من الفضلات. وذلك يشبع دون عناء. ولكن إلى هذا الحد لا أكثر، وفي هذا الموقف لا غيره، وإلا فكل منهما يرجع إلى حيوانيته. لكنهما كلما احتاجا لبعضهما وبين فترة وأخرى. فسوف يلتجئان لا إرادياً إلى حالة كهذه دونما سابق إعداد وتبرير، فكما يحب محمد زومط لو وجد أذناً صاغية له من جانب بُراق، أو من غيره. فإن الحال مع بُراق مختلفة، لأن محمد زومط ينتقل من حديث، إلى قصة، ومن قصة إلى رواية. ومن رواية مع حادثـة تاريخية بوجود بُراق، دون أي اعتراض أو مقاطعة، ولو تسنى له الوقت اليوم، لراح منتقلاً إلى ترتيب شجرة العائلة في بلده وأهله، ومزارعهم الكبيرة التي لا يريدون بيعها مهما حصل، لأن حصصه فيها هي الأكبر، فهو لا يقبل حتى بيع منتوجها السنوي، وإنما يوزعه على العشيرة، ومن ثم عـلى الفقـراء. وبأوامره هو، بعد أن أصبح هو رأس العشيرة، بوفاة والده وعمه الأكبر. وفي كل مرة يبدأ بُراق الحديث عن أي موضوع مع محمد زومط. وعن أشـياء ملموسـة فـي واقعهما ينقله محمد زومط في تهويمات كثيرة، ليخرج منها إلى قصـص خارجة عن المألوف في أرض حقول أهله. وذكرياته الكثيرة التي لا تنضب، كالينابيع في ربيع ممطر، ولطالما خلط محمد زومط بين قصة، وأخرى. وحادثة وغيرها، ناسياً أن سامعيه قد حفظوا البدايات والنهايات لكل ما رواه لهم. وأعاد هو روايته في ألفيته العصماء. فهو مثـلاً يصـف المزارع بالتفصيل، ويروي عن عمل المزارعين كأنه واحد منهم، ولا تفوته أحاديث الجدات، وحكايات النسب والزواج والحـمل والتوليـد، منتقـلاً إلى تبليط الشوارع في قريتهم، وكيف أن جده الأول قد اشترى أول سـيارة في المنطقة. وأن الأمير عندما مات جده شيعه إلى القـبر، وأطلقوا إحدى وعشرين طلقة، وقام حرس الشرف بالزحف من العاصمة حتى بيتهم في أعلى جبل القرية. أما العزاء فقد دام لأشهر، والذبائح تأتي مـن كـل صوب وحدب. والمعزين أرتال لا تنقطع. أما عن حقول الزيتون والمشمش، فإن الروايات عنها تأتي كلمـا اشـتاق محمد زومط إلى واحدة من تلك الجلسات، فيتمنى جلسة في الفيء أمام حقول “الدحنون” شـقائق النعمـان. فما أكبر مخيلته من مخيلة شاعر، أن تتضخم شقيقة نعمان واحدة لتصبح كشـجرة لوز تظلله، لينام في ظلها، تأتي الحسان وقد تزين بأقراط من شقائق النعمان، يلثمن شفاهه، وهو نائم. أو يتناوم. وإذا تكلم زومط في فتاوى العشائر فإنه يفتي كيف تعلم الفصل بين المتنازعين. وكيف يعاقب هذا، ويجازي ذلك. وكيف يكون واجب تنفيذ الفصل، حتى بعد أن تُصدر الحكومة حكمها. وهكذا يرى محمد زومط كل الواقع الذي يعيشه من المقاييس التي يحملها، وقد تغذى بها. ولا يستطيع الانفصال عنها، لذلك تعلو فمه كلمات القذع والسب والتمرد الخفي منه، وهو الأجرأ، والأشجع. أما المعلـن فليس أكثر من هروب إلى الضحك، والتنكيت بعيد التورية. ويزداد تألق زومط عندما يلتقي حسن الملا زيدان مدرس اللغة العربية الذي يعود بالأصل إلى بلدته. ومحمد زومط يدعي أن ابن زيدان من أطراف عشيرتهم الفقراءالذين كان والده يسـاعدهم، فهم ممن يخدمون لديهم كرعيان أو مزارعين. ومن هـذا المنطلـق ينتقـل محمد زومط إلى الحديث عن الرعي والسقي والحصـاد، ويؤلـف القصـائد المطولة، بل ويصف الأكل وحتى روائحها، فتهيج حوامض معدتيهما، وينقلب محمد حسن الملا زيدان من الابتهاج إلى حالة البؤس والغثيان. ثم ينام ثلاثة أيام في فراشه يتناول خلطة أعشاب وصفها له ابن عازب، أخذها عن كركريان القرش بعد أذن من الطبيب عبود عيده في مركز بلدة البطـن، الذي كان يؤكد على استعمال حبوب الجيلوسين الحديثة الصنع. مع قليل من البسكت الفـاهي الكركر، والحليب. وعندما يسأل أحدهم حسن زيدان عن صحته، أو أحواله يجيبهم بجملته المشهورة: زبالة.
وغالباً ما يرثي بُراق لتبجح ابن زيدان بقابليته الشعرية التي يقول فيها عن نفسه بأنه خير من كتب الشـعر. وإن أحد أساتذته من أساطين اللغة والشعر. قد قال له: بأنه خليفة الأخطل الصغير في الشعر. والحقيقة إن كل ما كتبه ابن زيدان لا يتعدى قصيدة واحدة متعرجة القوافي، مختلة الوزن. ألقاها طالب في تحية العلم. ووقف المدرس محمد حسن الملا زيدان على عادته، معتلياً أقرب صخرة ترفعه عن زملائه، لم يجد لها أحد غير تبريرين: هما إما لقصر قامته، ولعشي في عينيه، أو لترفعه عن الناس، وكلاهما له درجة بنسبة ما لديه. هاهو ابن زيدان يحاول أن يجد له صخرة ما في فراغ ساحة المدرسة قريبة من تجمع المدرسين. ليقف فوقها، أو ليصعد، وينزل عنها في محاولة توازن قلقه. لا ذنب للمدرسين حوله إلا لأنهم أطول منه، وبخاصة: رياض، ومسعد، وبُراق، فتجد ابن زيدان قد عقد يديه أعلى صدره، وهو يحاول جاهداً التوازن حتى عندما تكون الصخرة تحته بحجم بضع سنتمرات، ويحار بين وضع يديه المعقودة على صدره، وبين قلقه من تأثير الشمس على شفافية عينيه التي تدمع غالباً، وتزيد من تضيق حوافيها، فيغالبه العطاس ثم السعال ثم الغثيان، ثم ثلاثة أيام من النوم في الفـراش، وكلمة زبالة، وهكذا، ولطالما مازحه بُراق بضرورة الوقاية قبل العلاج، وهي أن يقلل من استعمال يده كثيراً، فيحمر وجه ابن زيدان، ويحتقن خجلاً، ويبدأ بالقسـم، والحلف بأغلظ الأيمان، وتتعثر الكلمات على شفاهه، ناكراً ذلك الأثم، مبسملاً لمرات عديدة، سارداً الآيات المناسبة للموقف، لكي يظهر نزاهته حتى مـع نفسه. وبراءة خُلقه من هذا الإثم. لأنه خالص من أية عادة قذرة. زيدان ذلك الذي يصفه بُراق بأنه صندوق عظام سـريع التهشـم عندما يكثر هذا مـن السـعال من كثرة شرب السـيكاير، حتى عندما يتقوى بالفيتامينات من جهة، وبمسوح التقوى من جهة أخرى.
وصلت عربة البريد التي رآها بُراق كنقطة في الفتحة المربعة التي تمثل نافذة بيت محمد زومط، فحيا صاحب الدار وخرج مسرعاً، غير مهتم بتساؤل، واستفسار ابن زومط لأنه لو أبدى أية ملاحظة، حول قدوم عربة البريد. لحاول محمد زومط أن يكلفه بجلب رسائله بمعيته، وإلا فإنه سيعتب عليه، وسوف يلح إذا ما قال له بُراق: بأن البريد لم يحمل له أية رسالة، وسيبقى الأسبوع بكامله يسأل بُراق، فيما لو كان متأكداً من عدم قدوم رسائله، أم لا وهل هو متأكد؟ أم أنه لم يتعب نفسه في سـؤال، أو البحث عن اسمه. وسيبقى بُراق أسير أسئلته، حتى تأتي عربة البريد في الأسبوع التالي، وكلاهما يعرف أن لا رسائل تصل لابن زومط، طالما نوه هو عن ذلك لمرات، مستسخفاً هذه العادة، بل إنه وكنوع من السخرية للذين يتعلقون بنظام المراسلة، بأنه سوف يقوم في يوم ما بكتابة رسالة لنفسه، لكي ينقلها له البريد. وكان تعليق بُراق على كل ردود أفعال ابن زومط: بأن كل رسالة تأتي لا بد وراءها خبر هام، وكل رسالة تصل لا بد أن يكون قبلها، أو بعدها رسالة موازية من طالب الرسائل، حتى ولو كان المرسل هو نفسه لذاته.