في السرد، أيّ سرد: قصصي/ روائي/ مسرحي، لا يقتصر مفهوم ((البطل)) على قيامه بأعمال خارقية: ضد المنطقيِّ والطبيعي وأمثالهما. ذلك لأن هذا المفهوم له، أو لـ((البطولة)) عموما، غير مقنِع سوى في بضعة تجنيسات سردية. لعل أكثرها حظا ـ هذه التجنيسات السردية ـ في إقناع كهذا، طبقا للمفهوم ذاك، ثمة ((الملحمة)).
حتى الحكاية الشعبية العجيبة، سواء كانت عراقية أو عربية أو عالمية، ليس فيها مفهوم ملحمي لـ((البطل)). هكذا أثبت فلاديمير بروب، منذ العشرينيات، حين درس بنيويتها (Morphologie du conte, Paris, 1965 /=/ مورفولوجية الخرافة، الرباط، 1986). لقد استنتج من بنيات مئة حكاية شعبية عجيبة روسية، حصرا، ما أسماه بـ”المثال الوظائفي”: البنية الشكلية الواحدة المولدة عددا لا محدودا للحكايات ذات التراكيب المختلفة. من مثاله هذا، تحديدا، اصطلح “الوظيفة”: عمل الفاعل معرّفا من حيث معناه في سير أية حكاية. أي أن ((الحدث)) خلالها “وظيفة”، حتما، ما دام رهين سلسلة من الأحداث السابقة المبرِّرة له ومن الأحداث اللاحقة المسبَّبة به. من ثم، بهذا الاصطلاح، كان ((البطل)) عنده هو الشخصية التي لها مساس رئيسي أساسي بوظيفة ما ضمن وظائفه الأكثر من ثلاثين. سيما وظيفة ((الإساءة))، هنا، عبر حصولها ثم تقويمها، معا، حيث: بطل فاعل “منطلق بمحض إرادته للبحث عن طفل مخطوف” وبطل ضحية “هو هذا الطفل المخطوف ذاته”.
كلا البطلين هذين، أي ((البطل الفاعل)) و((البطل الضحية))، سوف يجْملهما جيرار جينيت ـ بعد عقود خمسة تقريبا ـ بشخصية واحدة. ذلك الإجمال لهما، منه، كان، بدءا، ضمن كتابه (Discours du recit, Paris, 1972 /=/ خطاب الحكاية، الدار البيضاء، 1996). إذ قال فيه، مما قاله، عنهما، سوية، بأنهما: الشخصية الموضوعة من السارد تحت المجهر.
الآن.. في رواية محمد علوان جبر (ذاكرة أرانجا، دار فضاءات للنشر والتوزيع ـ عمان، ط1/ 2013)، وهي روايته البِكر، ماثل أمامنا هذا الذي “تحت المجهر”. إنه نموذج فذ، متميز واستثنائي، لـ((البطل الوهمي)) أو ((اللا بطل)). ذاك هو “حسن كنيهر”، تخصيصا، حيث لبس اسمَ غيره، لم يلبس اسما آخر فقط، وهو “هوبي عبدالرزاق”. هذه الهوية الأخيرة، المزدوجة، هي “بطلية وهمية” أو “لا بطلية”، سيّان، ثيميا وبنيويا وتقنيا.
وفق المستوى الثيمي، أولا، تظهر منذ الفصل”(1)” على لسان الإبن الأكبر “إبراهيم” بواكير بياناتها. أبْكرها، تصريحيا في الأقل، ما ينقله عنه شقيقه الأصغر “سلام” عند النهايات. فالأول (يعدد مآثر من سقط عنوة
)، حيث (يستمر الخطاب)، والثاني ينقل (ثم يشير بشكل واضح نحو الغرفة التي يجلس فيها أبونا… ويصفه بالمتطفل على الحزب..). بعد ذلك، بسطور عديدة، تفصيل للبيان (إن أباك تطفل كثيرا على السياسة.. لم يكن سياسيا في يوم ما رغم اللغط الذي أثير حوله، لم يفهم المغزى من انتسابه القسري إلى الحزب..).
ووفق المستوى البنيوي، ثانيا، تبدو بيانات هويةٍ كهذه، مزدوجةٍ، هامشيةً، بتجلٍّ، قياسا إلى نسبة الظهور وتناسب الفصول. فمن فصول ثمانية، تتخللها مقاطع، لا يظهر “هوبي” ساردا كليا سوى في ثلاثة. أقواها الأول، = الفصل “(3)”، لأنه يبدأ أنوِيّا (أنا له بالمرصاد دائما مهما فعل، ومهما اتخذ من سبل لاستغفالي، دائما أفند ما يبينه أو يزعم أنه يبينه،). بعده الثالث، = الفصل “(5)”، حيث وصف عمومي (في أعماق مدينة الثورة،) قبيل سرد خصوصي (بعد انتظارات طويلة تم تخصيص راتب تقاعدي، واستلمت المتراكم،) استهلاليا. ثم أضعفها الثاني، = الفصل “(4)”، لكونه يبدأ بقول “زايرة سكنة” له (ـ لقد كبرت يا هوبي….) مذكرة إياه بازدواج هويته (ـ حسن أو هوبي….. لا يهم،).
أما وفق المستوى التقني، ثالثا، فتبدو هامشية البيانات ـ لهذه الهوية المزدوجة ـ ذات تجلٍّ أكبر. إذ أن التقنية الأهم، هنا، هي (بوليفونية) السارد، أي تعددية أصواته، منشطرا ـ تداخليا ـ إلى ساردين: كلي لعموم الأحداث “مهيمِن” وجزئي بخصوص أحداثه “مضمَّن”. حصة “هوبي” من السرد الجزئي “المضمَّن”، الذي يفترض أن جانبا منه خاص بأحداثه هو، قليلة كميا وكيفيا. بحيث أن معظمه، مما يتعلق به، كان لـ”ابراهيم”، قبالة “سلام”، ما صيّره، إضافة لسرده الكلي “المهيمِن”، ساردا جزئيا “مضمَّنا” حتى للأحداث الخاصة بأبيه. كما الحال، مثلا، ضمن مقطع للفصل “(2)” منذ استهلاله (ـ عزيزي سلام…. لم يفك أحد طلاسم هوبي إلا خالنا نعيم الذي كان له الفضل في زواجه من أمنا نجمة،).
مما تقدم، كله، يمكن القول إن الرواية، هذه، من خلال “هوبي عبد الرزاق/ حسن كنيهر”، ذي “البطولة الوهمية” أو “اللا بطولة”، إنما هي رواية متماسكة الثيمة والبنية والتقنية.
بشير حاجم : البطل الوهمي في ذاكرة أرانجا
تعليقات الفيسبوك