يرمز الوجه ، كما يقول الباحث اللبناني صاحب معجم الرموز الى انه ” الكشف الجزئي والعابر عن حقيقة الشخص . فهو رمز السر ، مثل ” الباب المخفي ” الذي ضاع مفتاحه . الوجه معادل النفس ، وبديل الفرد بكامله . ” حفظ ماء الوجه ” يعني ستر سر الانسان ؛ وكشف وجه المرأة لخاطبها ، لا يتم من دون مهر . المهر هو التعويض عن انكشاف وجه المرأة لزوجها المقبل ” (1) . ومن هذا المفهوم او هذا التعريف سوف ننطلق في قراءتنا لقصيدة الوجه الضائع .. الوجه الذي تاه بين الوجوه . الوجوه كلها ممسوخة .. كان هو الوجه الوحيد الصارخ ضد وجوه هذه المدينة ، لكن وجوه المدينة تمكنت ، ويا للاسف ، في تذويب وجهه وتشظيه وتفتيته . وبذلك صار صار ضائعا وجها بلا وجهه .. يقول حجازي :-
هذا الذي أحكي لكم قصته القصيرة
مات ، وضاع وجهه الى الأبد
لأنه كان وحيدا .. لا أخ ولا ولد وقد بكيته كثيرا حين مات
وعندما أمضّني الحزن ، تصبرت وقلت
هذا لأنني وحيد في مدينة كبيرة
لكنني .. حين يمر العمر بي
وحينما يكثر موتاي سأنساه’
فإن ذكرته صمتٌ ثم قلت
يرحمه الله !
(الديوان ، ص 368 – 369)
*******************************
في هذا المقطع مفارقة لا يمكن التغافل عنها . فحين يقرأ المقطع للوهلة الاولى يعتقد ان المقصود هو الاب الذي رثاه شاعرنا في رسالة مجهولة اليه . ولكن عبارته :-
لأنه كان وحيدأ .. لا أخ ، ولا ولد
******************
هي التي تقودنا الى الظن ان الشاعر يرى في ذلك الشخص اليتيم المجهول نفسه … حيث تماهى به . أو عكس صورته عليه .. نحن نرى ان الشاعر يعني بهذا الموت ، هنا ، موت الانا .. موت الذات .. الموت النفسي على وجه التحديد .. لأنه يتكلم وجه ضاع الى الابد . ويتكلم كذلك عن وحدته في هذا المدينة . الوحدة النفسية إذن ذلك الموت الذي يعنيه الشاعر ، في تقديرنا ، لذلك الوجه الضائع . في المقطع الثاني سوف تمر ليلة ما .. قد تكون ليلة الميلاد او ليلة الموت . كلتا الليلتان تثيرا الانفعال الذي يناسب كل منهما . وطالما انه يذكر موته في إذن ليلة الفراق أو الوداع فهي إذن ليلة الموت . لنرى كيف اجتر شاعرنا هموم هذه الليلة واحزانها وكيف يصفها لنا . يقول حجازي :-
وهذه الليلة . . بعدما انقضت
تسعة أعوام على رحلته الأخيرة
وبعدما ما كبرت حتى لم يعد يجمل بي أن اتنحب
عدت’ إلى بكائه .. وهل لذكراه
غيري ؟ ومن بعدي سيلقاه ’
إذا أتى من عالم الموتى يزور الذكريات ؟
أجيب نفسي .. لا أحد !
فلتسمحوا لي ، وأنا وحدي الذي ،
أذكر وجهه الذي يضيع خلف السنوات
بأن أحوم حوله ،
لعلني أدرك شيئا ً من خطوطه الكثيرة
(الديوان ، ص 369 – 370)
**************************
من يقرأ هذه الكلمات سوف يعتقد ان الشاعر هو الولد الوحيد لهذا الأب الذي كان يمر على سماء الشاعر مثل السحاب الساهرة .. الراعية .. الحافظة .. الهادية .. لقد انتحبه كثيرا .. ولكن ها هو العمر لا يسمح له بهذا السلوك النكوص اعني سلوك الانتحاب . الشاعر يرى ذاته مثل ذات الاب . هو والاب حبة مفلقة الى فلقتين كما يقال في التعبير الشائع . انه ظل أيبه في الارض . مات هو وتركه وحيدا . هذا التأويل وارد جدا . لكن الشاعر يعاني من وحدة نفسية قاتلة في المدينة . وهو يقصد بحجازي الشاعر صاحب القضية .. صاحب الرسالة .. لقد مات هذا الجزء منه وبقي هذا الجسد الهائم من دون وجه . التعريف السابق يعادل بين الوجه والنفس . جسد بلا وجه .. يعني وجها بلا نفس .. بلا روح .. بلا حياة .. انه سوف يحوم حوله .. وقد يكون المقصود هنا ، الحوم حول الذات لكي يعثر بقايا من بقايا تلك الذات المتشظية .. المفتتة . سوف يجتر الشاعر في المقطع الاخير تقاطيع ومعالم ذلك الوجه الذي وإن لم يك وجه ، على سبيل الافتراض ، فانه يحلم بأن يكون وجهه على غراره أو شاكلته او منواله او مثاله او على شبهه .. يقول حجازي وهو يسافر في عوالم وجزر ذلك الوجه فيقول :-
كان صموتا ، قانعا .. تنبيك عيناه
عن عالم لم يتذوق طعمه المجهول إلاّه
وباسما في أسفٍ ، كأنما كان يرى فاجعة ،
ليس يحب أن يراه غير’ه ، كيلا يخاف
لكنه كان إذا أسعده شيئ ضحـِك
فعاد للوجه العجوز مجده الماضي ، ودنياه
وذات يوم ٍ ذهبت ضحكته ، فلم تعد
ذلك الوجه الذي أكاد أنساه’ !
(الديوان ، ص 370)
******************
على المستوى اللاشعوري ، نجد ان الشاعر يمارس آليتين دفاعيتين معا . هما الاسقاط والتماهي . هذا الاستخدام مقرون برمزية الوجه الذي يتخفى وراءه . فإذا كان هذا الوجه وجه ابيه فهو إذن يمارس آلية التماهي . الاب هنا هو الحضور المطلق والشاعر هو الغياب المطلق او الغياب القائم على ذلك الحضور . وإذا كان الوجه المعني ، هنا ، هو وجه الشاعر فهو يمارس الاسقاط على وجه ابيه . اي بمعنى ان الشاعر كان يرغب ان يكون اباه مثله او يكون هو مثال اباه . ولكن المهم هنا هو في تلك السمات التي يلصقها الشاعر على تقاطيع ذلك الوجه الذي ما يقي منه الا دخان من ادخنة الذاكرة . فهذا الوجه مملوء بالنبوة .. بل بالنبوات . خصوصا إزاء مدينته الغارقة في الظلمة . لقد كان مكتضا بالصمت لا لشيئ الا لأنه لم يك بمقدروه فعل شيئ ما . من هنا هذا الحزن المستديم الذي لم يفارقه ابدا . لا ادري هل كانت تلك العينين مملؤة بالنبوة بمعناها المتعارف عليه .. ام بالنبوة في مفهومها الانساني الصرف . بمعنى أدق الشاعر وابيه .. كلاهما في قناع الآخر .. يرى ان ثمة فاجعة تتنظر المدينة . والفاجعة تتمثل بغزو الظلمة الى المدينة الغرقة في الظلمة اصلا . لم يعرف هذا الوجه العجوز طعما للسعادة .. واذا وجد ما يرضيه كانت الابتسامة قد تراءت على شفتيه .. وقد تكون هذه الابتسامة ايضا علامة على عدم الرضا اصلا . الشاعر نسي ذلك الوجه لأنه وجهه قد فقده من خلال تجواله في مدينته التي لا ترى شيئا فيها غير الظلمة !!! . ولكن ابتسامة الاب كانت نتيجة رؤيته ان الابن قد سار على طريق تحقيق ما كان يصبو اليه . ولا ندري هل وصل الابن الى ذلك الطريق ام تاه في ازقة ميدنتة تلك ؟؟.
الهوامش :-
1- د. خليل ، أحمد خليل ، 1995 ، معجم الرموز ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 184 .