يحتمل عنوان الروايه الثامنه للكاتب العراقي سلام عبود «اعلان سياحي عن امّ الدنيا!» (منشورات الجمل) الكلام من زاويتين اثنتين علي الاقل؛ اولي، وهي انه يُزري بالروايه كنوع، ويجعل منها «اعلاناً سياحيًّا»، ما يختزل وظيفه الروايه ويمسخها الي مجرّد اعلان دعائي. وثانيه، انه عنوان مضلّل، لكونه ينطوي علي مقدار من السخريه. فالوقائع التي تتناولها الروايه تندرج في اطار الاعلان المضاد، ولا تصلح لجذب السيّاح الي المكان المقصود، بل ربما لاعراضهم عنه.
وبالانتقال من العنوان الي المتن، يحكي سلام عبود حكايه اسره عراقيه مقيمه في السويد (مؤلّفه من السيد صاد وزوجته وابنه توفيق) تزور مصر وتخرج بانطباعات معيّنه. فالسيد صاد، ربّ الاسره، الهارب من جحيم العراق حرباً ونظاماً، يصطحب اسرته في زياره سياحيه الي مصر، بعد اكثر من ثلاثه عقود علي غيابه عنها. وخلال هذه الزياره تكون مشاهدات وحوارات وملاحظات تخرج بها الاسره، تعكس الكثير من السلبيات والقليل من الايجابيات.في بدايه الروايه، يتساءل الراوي: «اما زالت مصر امّ الدنيا؟» (ص5). ويكون علي الاسره- لا سيّما السيد صاد- ان يبحث عن جواب علي هذا السؤال، علي امتداد الروايه الواقعه في احدي وخمسين وحده سرديه متعاقبه، يتراوح طول الواحده منها بين فقرتين اثنتين وبضع صفحات، ويروح يعثر علي جزئيات الاجابه شيئاً فشيئاً، فكلّ وحده سرديه تقدّم جزئيه من الاجابه، حتي اذا ما انتهت الروايه يكون قد حصل علي الاجابه التامه.
في نهايه الروايه، يقول الراوي: «ان تغادر مصر، عائداً الي منفاك البعيد يشبه، الي حد مرعب، ان يلطمك احد علي وجهك، وانت تنظر اليه بعينيك الصغيرتين المستنكرتين البريئتين، عيني الرضيع، المهموم بالتقام حلمه نهد امّه.» (ص111). وهنا، تكون المغادره صفعه مزدوجه ناجمه عن المغادره نفسها من جهه، وعن الانطباعات من جهه ثانيه. قد تكون نوعاً من الفطام القسري لرضيع صغير بفعل خارجي، ما يعطّل فكره الامومه، ويجيب عن السؤال المطروح في بدايه الروايه، فـ «مصر لم تعد امّ الدنيا».
بين البدايه والنهايه، بين الوصول والمغادره، ثمّه وقائع كثيره. انها عباره عن انطباعات ومشاهد وحوارات واستنتاجات تخرج بها الاسره السائحه. وهي سلبيه غالباً، وايجابيه نادراً. ولعلّ ما يضخّم سلبيه الوقائع هو انّ الاسره اتيه من السويد، من اقامه ثلاثه عقود ونيّف، في بلاد يحكمها القانون، ويسود فيها النظام، ما يجعل ايّ تفصيل مخالف شيئاً نابياً، ومستهجَناً، وغير مستحب.
في الوقائع السلبيه، تطالعنا: مخالفات قانون السير، الرشوه، النصب والاحتيال، الشركات الوهميه، السمسره، العلاقات غير الشرعيه، استغلال السائح، استخدام حسّ الجماعه بدلاً من القانون، غياب مفهوم الدوله، غياب الوضوح، الحداثه السطحيه، استئناس الاخطار، الفساد الاداري، الغلوّ الديني، الخداع، وسواها…
في الوقائع الايجابيه، تبرز واحده تتعلّق بالمراه المصريه الجميله، الذكيه، المبادره، القادره علي تحويل الماسي الي صور مجرّده وحروف متراكمه. يقول الراوي: «لا يوجد شيء في مصر اعظم واجمل والطف من النساء. نسوه مصر امهات الدنيا كلّها». (ص53).
واللافت انّ المنخرطين في ممارسه الوقائع السلبيه هم من الشريحه الاجتماعية الشعبيه، او بمعني اخر هم ضحايا الظروف والنظام الاجتماعي نفسه، فمنهم: سائق الشاحنه المتهوّر، عبده بوّاب العماره، جرجس البقّال، سائق سياره الاجره، فتيات شركه السياحه الوهميه، «افكار»، الفتاه المحجّبه التي تُوقع بالزبائن وتعترف بانها تفعل ذلك تحت وطاه ضائقه اجتماعيه، موظّف الفندق، الشرطي رؤوف حارس المجمّع السياحي، جرجس طبيب العيون، الاستاذ حجازي الموظّف الحكومي، صاحب متجر الملابس، شرطي المطار، وسواهم…
تجد هذه الشخصيات انفسها منخرطه في «نظام اجتماعي» مترابط الحلقات، مدفوعه في ممارساتها بدافع العيش وكسب الرزق في غابٍ له شريعته و «قانونه» الخاص. هي «حلقات ترتبط بحلقات. سلسله متتابعه، مترابطه من الحلقات غير المرئيه تصل بعضها بعضاً لتخلق سبل السير في الشوارع، وسبل كسب الزبائن، وحتي سبل كسب العشّاق والاحبّه. انّها رحله البحث اليوميه والابديه عن ممرّات الوجود السرّيه، الدفينه. قانون فريد للحفر في النفق الصخري الذي اسمه الدنيا». (ص85). وحضور هذه الشخصيات في النصّ هامشي، يقتصر علي بضع وحدات سرديه او اقل لكلٍّ منها، كحضورها في الحياه.
وهكذا، نكون ازاء مجموعه وقائع متعاقبه، تراكميه، يجمع بينها حضورها في الحيّز المكاني الواحد (القاهره)، والحيّز الشخصي الواحد (السيد صاد). وهي تتفاوت حضوراً في النص بين مرّه واحده ومرّات عده. ولعلّ الواقعه الاكثر حضوراً بينها هي واقعه الشركه الوهميه لبيع الاسهم العقاريه التي تطلّ براسها بين وحده واخري من خلال شخصيه «افكار»، الفتاه المحجّبه، ما يجعل من هذه الواقعه نوعاً من سلك ينظّم سائر الوقائع، ويمارس جدليّه الظهور والاختفاء. وبهذاالمعنى، لا يمكن القول انّ في النص «حكايه» بالمعني التقليدي للكلمه، اي لها مقدّماتها ونموّها ونهايتها.
في روايه «اعلان سياحي عن امّ الدنيا»، نحن ازاء بنيه سرديه بسيطه وسهله، تقوم علي تجاور او تعاقب احدي وخمسين وحده سرديه، متفاوته الطول، لا يربط بينها سوي شهاده الشخصية الرئيسه عليها، وحصولها في فضاء روائي واحد. علي انه كثيراً ما تكون الواقعه- المُشاهَده او المسموعه- منطلقاً لتجريد افكار واستخلاص نتائج، والخوض في تحليلات ومقارنات، وطرح تساؤلات تتعلّق بانماط العيش والتفكير وطبائع الناس وحسّ الجماعه، ما يفتح الروائي علي الانتروبولوجي والسياسي… فتتنوّع الوقائع في ماهيتها، حتي ضمن الواقعه الواحده احياناً، بين المُشاهَد والمسموع والحوار والتحليل والاستنتاج والمقارنه…، وتصبّ كلّها في ما يمكن ان يُسمّي بانطباعات سياحيه. فالروايه هي عباره عن مجموعه انطباعات سياحيه مفتوحه علي العمليات، الحسّيه والفكريه، الانفه الذكر. وهي مصوغه بلغه رشيقه، تقع في منزله وسطي بين الادبيه والسرديه. ويشغل الحوار الرشيق بدوره مساحات واسعه فيها ما يُسهّل عمليه القراءه، ويضفي علي النصّ الحيويه والواقعيه.
وهكذا، انّ غياب الحكايه اذا ما اعتبرناه نقصاً في الروايه، (وهو ليس نقصاً من وجهة نظري)، يعوّضه حضور الخطاب الروائي السلس، السهل الممتنع.
تبقى ملاحظة أخيرة «خارج- نصّية» تتعلق بمدى ملاءمة الرواية للحظة المصرية الراهنة، حيث تعيش مصر مخاضاً عسيراً لا بد أن يترتّب عليه مستقبل أفضل حافل بالوقائع الإيجابية. وربما تكون اللحظة الراهنة قد سبقت النص. ومع هذا، يبقى نصًّا جميلاً يستحق القراءة
سلمان زين الدين : سلام عبود الهارب من العراق إلى «جنّة» مصر المفقودة
تعليقات الفيسبوك