* شاعر وناقد أدبي فلسطيني
قالت العرب في تعريف العشق “إنه من سمح الجواهر، وكرم المفاخر، وتداعي الضمائر، واتفاق الأهواء، وامتزاج الأرواح، وازدواج الأشباح”، وعن أبقراط قوله “إن الهوى امتزاج النفس بالنفس، كما لو امتزج الماء بمثله، عسر تخلصيه، والنفس ألطف من الماء”، وأرقّ مسلكاً”.
يقول أسعد الجبوري في مجموعته الشعرية “الملاك الشهواني: فيض المواقف ومخاطبات العاشقين”: “والحب بالبريد يمشي إلى صفاته في العيون”، كأنه في ذلك يستعيد وصف العشق بأجمل ما يشير إليه، وهو هذا الامتزاج بين قريب الحسي وبعيد الجسدي، في ما يقع في جدل العلاقة بين المعنى والمبنى، بين العذرية والإباحية، وهو الذي يمشي بالحب إلى صفاته في العيون، لا إلى تجلياته في ذاكرة الجسد.
مما سبق، نصل إلى القول بصحة أنّ الشاعر العراقي المعاصر يتخذ منحى التجريب الجريء في تعدد وجوه تجربته الشعرية الأكثر حداثية بين مثيلاتها العربيات، ويأتي دائماً بما هو جديد كونه الأكثر تأثراً بمتغيرات العصر في السياسة والاجتماع والفكر والفن، وكونه الأكثر ارتباطاً بعوالم الميثلوجيات والميتافيزيقيا التي تبدأ بجلجامش ومن قبله، ولا تنتهي بمخاض عسير يعيشه العراق ولا يزال منذ عشرين عاماً أو أكثر.
ويضيف الشاعر أسعد الجبوري إلى هذه التجريبية الحداثية العالية ميزة الاقتحام الكوني بالمفردة العربية في أقصى اتساعها وإنجازها الحضاري عبر مشاركتها في المنجز الشعري العالمي، كأننا نشير إليه كشاعر “أنتي غلوبالايزيشن” أو ضد العولمة، بمعناه الإلغائي للآخر وثقافته وهويته، فأسعد الجبوري شاعرٌ استطاع أن يحفر في مشهد الثقافة الأوروبية، وبخاصة في جزء أوروبا الشمالي، حضوراً متألقاً للتجربة الشعرية العربية
المهاجرة، في صورة تكاد تتفوق لو سلطنا الضوء عليها بحيادية وعدل، على ما أنجزته تجربة الرابطة القلمية في المهجر الأمريكي.
إن فيض المواقف ومخاطبات العاشقين عند أسعد الجبوري تتخذ شكلاً مغايراً لما سلف، فلا تقع في الأيروتيكية المباشرة، ولكنها تشير إلى عوالم عالية الحميمية، عميقة العاطفة، بعيدة الإشارة، كأنها العبارة الصوفية في تألقها وجماليتها.
ففي المستوى الدلالي للنص نكشف عن إحالات وحركيات مغايرة، تتجه بعكس المقصود المباشر منها، فما كان الجنس في الميثلوجيات القديمة إلا صورة اتحاد الإنسان بالإنسان، أو قبله اتحاد الإله بالإلهة، ونجد الرغبات الجنسية في ما مضى تتشكل في إطار الطقوس الدينية المقدسة، ومن ذلك ما قالت به “التانترا” وهي علم عريق في تاريخ الهند القديمة، يقول بمقاربة الجنسيات بالحسيات والدلالات، لا بالمعنى المباشر لما تقوله المفردة، فما إلقاء الشعرِ كما غيرها من عمليات المعيشة والحياة نفسها، إلا عملية جنسية بامتياز، كما يقول جيفري بارندر في كتابه “الجنس في أديان العالم” (صفحة 31): “فمثلاً أثناء إلقاء الشعر، إذا ما فصل الكاهن البيتين الأولين من المقطع ودمج البيتين الأخيرين معاً، كان يجري تفسير ذلك في أن المرأة تباعد ما بين فخذيها إبان المضاجعة، والرجل يضمّها، أما إلقاء النص بشكل غير مسموع فكان يُقارن بقذف المني، وحين يدير الكاهن ظهره ويجثو على ركبتيه، كان يجري تفسير ذلك مجازياً على أنه التسافد بين الحيوانات”، في نقله عن كتاب “أيتاريا براهانا”.
والشاعر الجبوري يستند إلى كم هائل من المعارف التي تؤهله ليقول بما قالته الميثولوجيات القديمة، ويضيف عليها ما اعتنقه من إيمان بما لا يتحقق من فعل في الشعر والحياة، كأنه يكتب المستحيل، فهو يستخدم الأفعال “كبرت الرغبات – – > تطهرت الأجساد – – > الجنة”، ليعلن حركية المتصوف في علاقة عشقه الربانية، رغم ما يبرز بوضوح من حضور الأنثى في النص، وهو هنا يحيل الأفعال إلى مرجعية فكرية مخاتلة ومتمردة على علاقاتها البنائية اللغوية، فالفعل “تكبر” يشير إلى تضخم مرضي حين
يصل بالرغبات إلى تطهر الأجساد وانتفاء الإثم، فإذاً، إن الرغبات تصغر ولا تكبر إلا حين تخدم جدلية وحيدة للنص، تتكرر في معظم نصوص المجموعة الشعرية، إنها الرغبات التي تكبر، وكلما كبرت تصل إلى مطهرها، إلى غايتها، يقول أسعد الجبوري في نص “موقف الطابع العاري” من مجموعة “الملاك الشهواني”:
“كلما كبرت الرغبات
تطهرت الأجساد من الآثام”.
هي فلسفةٌ إذاً، ونظريةٌ دينيةٌ تعيد تشكيل ما حفظناه قبلاً عن آدمنا وحوائه، عن اشيائنا الإنسانية الأقرب إلى البساطة المطلقة في الحياة ويومياتها، كأن يكون عرضٌ وقبولٌ بين الرجل وأنثاه، أو يكون الإنسان في جنة المعنى الأولى، الجنة التي تجمع حبيبين في حركية شعرية فلسفية بامتياز
تبدأ هذه الحركية بالاتساع عبر مفردة “امتداد”، ثم بفعل واضح الدلالة في ارتباط الفعل الذكري الأول بإله، أو بحبيب، وكلاهما في قصيدة الجبوري ضبابيان وغريبان، بل هو في ذكاء الرائي في ضرورات شعرية مختلفة عن كل ما سبق، يحيل الحكاية القائلة بغواية الأنثى، فعلاً يشي بغواية ذكر، كأنه يقلب الفكرة رأساً على عقب، ويحيل المسلّمات إلى فرضيات يقول بها الشعر، فالفعل الماضوي “قال” يرتبط بالدعوة “ودعاها”، والدعوة ترتبط بالمدعو (هاء الأنثى الغائبة)، والمدعوة أنثى، تمتلك حق الرفض أو القبول، يقول:
“على امتداد الجنة
قال لها كلماته
ودعاها لموقف الطابع العاري”.
إذاً، هي الجنة الممتدة في مساحات البياض الشاعر، في مساحات الورق وهذيان الجبوري في حضرة ملاكه الكامل الشهوانية، وهناك تكون رسائلٌ بين حبيبين، وهي “رسائل ترنّ”، في عصرِ المسجات والبريد الإلكتروني وغرابة المفردة الشعرية حتى لتنكر ذاتها، أو تنتحر، لتعود إلى الحياة في شكل أقرب إلى المنجز التكنولوجي أو “شهوة الليزر” كما يسميها الجبوري نفسه، وهو في ذلك يوزع الأدوار على آلهة الأولمب لتختار الورق أداة للخلق الجديد، لا البروق وحدها، وهي إذ تفعل ذلك فإنها تتخلى عن طبيعتها القديمة للإنسان القديم، في مسعى شعري يمجد الجديد بوصفه خلاصاً، يقول:
هناك الرسائل ترنّ
والحب بالبريد يمشي إلى صفاته في العيون
هناك الآلهة تبني الأناشيد بما لديها
من برقٍ وورق”.
وفي ذلك الخلاص أو الانتقال إلى المطهر، لا بدّ من دورٍ للأنثى أولاً، فهي المنقول إليها فعل القول، والمحمولة إليها المعاني كلها لمفردةٍ واحدةٍ تعيد نفسها، وللغة عجزت عن الوقوف في حضرتها إلا عاريةً، وفي مقام العري، بل في “موقف الطابع العاري، كأنه يختم به الشعر، في شكله القديم طبعاً، وهو يشير إلى خوفٍ كبير يحتل المساحات، لا السرير وحده، وهو المجاز هنا، كما امتداد الجنة، واتساع الحياة نفسها، وضيقها عن مجاراة ما بعد حداثتها، إلا باختناق كما اختناق الشاعر بمفردات “الفولاذ/ المعدن/ الذبول”، وبذبول أقرب إلى الفناء، إلا أنه المطهر مجدداً، يقول أسعد الجبوري:
“قال لها وأضاف:
كلّما توسّع الخوف احتلالاً للسرير
صار الذبول من فصيلة الفولاذ
فكان التشابه بالأسماء”.
هو شاعرُ الجرأة في تحدي المعنى حتى كأنه ليقتله، “ديكتاتور” الشعر يصدر أحكامه بالإعدام على مفردات باتت قاصرة عن الإشارة، ضعيفةٍ عن احتمال المعنى، فالقصيدة مصهر حقيقي، ومطهر أخير، إذ يحشد فيها الجبوري مفردات “المعدن” مقابل “التراث”، مشاراً إليه بمفردة “الروض العاطر”، ليصل بنا أولاً إلى عبثية شعرية تقول بالذهول الهذياني كشكل من أشكال الإرسال والتلقي معاً، بل تقول بإعلاء اللغة نفسها على كل ما عداها من إسقاطات خارج – نصية، ثم إلى عدمية وجودية تقول باللا معقول، وهو يبدأ حرباً كونيةً في الشعر تحيل النص إلى فراغ عدمي، ولكنه يظل قائلاً بما يحمله الدال فيه، إذ يضع الشاعر أنثاه في القصيدة مقابل المعدن، تستنطقه وتسأله وتحسه وتشعر بما يشي به المعدن من قسوة أو قوة، وبينهما هذا الإدراك الخطير لمأزق الدال في التجربة الشعرية العربية المعاصرة، أو ما يمكن أن نسميه في نص الجبوري “النص من خارج”، أو المفردة عاريةً، حين يبدأ شكلٌ آخر لها، أقرب إلى المعاصرة وما بعد الحداثة التي تقول بتحولاتٍ سريعةٍ جداً في الحياة، والشعر والفكر، كأن يقول الشاعر في نصه نفسه:
“ألا أيها المعدن، نطقتْ مذهولةً
فأجابها متى ما استحضرت المفرقعاتُ
دويّها، تكون الحربُ في الروض العاطر