من أبرز الإشكاليات التي قد تواجه المستكشف والباحث عن الحضور السردي في النص الشعري، هو ذلك التباين الواضح بين لغة السرد ولغة الشعر، بما تعتمد عليه الأخيرة من أدوات بلاغية، كالتشبيه والاستعارة والكناية وما إلى ذلك من تجليات المجاز، والتي من شأنها أن تؤدي إلى انزياح المعنى الشعري عن المعنى الحقيقي، ما يدفع بالقارئ إلى المقاربة والتأمل والتحليل والتأويل والاستنتاج، للوصول إلى المغزى الشعري، أو إعادة تشكيله وإنتاجه، في حدود المعطى النصّي. بخلاف السرد، بوصفه من الأجناس النثرية بالأساس، ويهدف إلى أداء الحكاية وأحداثها بأعلى درجات التمثيل الواقعية الممكنة، ويضرّ به حضور المكونات اللغوية التي تفضي إلى التضبيب والتوهيم والانحراف الدلالي والمعنوي.
حل هذه الإشكالية يأتي من خلال فهم طبيعة كل منها، فالسرد يدخل في أغلب الأنشطة الإنسانية التي تسعى إلى تصوير أو تجسيد أو تمثيل وقائع حياة الإنسان وشؤونه. والشعر وسيلة بوح وتعبير وجداني تتصل بشكل ما بتلك الوقائع، فيجنح إلى السرد أحياناً. ولكن لا يُطلب من الشعر تقديم الحكاية كما يفعل النثر، مثلما لا يُطلب من السينما ذلك، بل يوظفها في إطار مبناه الشعري، ولن تكون هي الغاية بحد ذاتها، وإنما تجيء في سياقٍ شعريٍ عام، مختزلة وموحية، حذفت الكثير من تفاصيلها، واستغني عنها بذكر لمحات والتماعات دالّة، من خلال أفعال وتراكيب وجمل سردية ذكية، متماهية مع اللغة الشعرية، لتقدّم الحدث والواقعة في سياق يخدم الغرض الشعري.
تتجلى البنية السردية في النص الشعري بأشكال مختلفة، كأن تأتي مستعيدة الشكل الملحمي، والذي هو أقدم الأنواع الشعرية المعروفة، والقائمة على متن حكائي. نجد ذلك في بعض نصوص مجموعة الشاعر «فارس حرام» المعنونة «مرة واحدة» والصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة، عام 2005، كونها المجموعة الفائزة بالمركز الثاني في جائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها الثامنة. إذ يتناهى إلى مسامعنا، من بعض القصائد، صوتٌ ملحميٌ صادحٌ، يتعالى في متونها التي جاءت طويلةً نسبيّاً، تروي أحداثاً وأخبار ووقائع، يتماهى فيها الماضي والحاضر، وتتخللها مسحة درامية واضحة. كما هو في القصيدة الأولى والمعنونة «أقسم أصحابي نصفين وأبتسم». في حين تستدعي بعض القصائد أجواء الشعر العربي القديم، نلمحه في مفردات تستخدمها، أو أسماء تذكرها، أو فضاءات سردية تحيل إليها، نجدها في «عنه وعن أهله» وفي غيرها. بينما تجنح نصوص أخرى إلى تأكيد حداثتها شكلاً ومضموناً، فتسعى إلى المغايرة والتجريب كما في النص المعنون «إلى الأمام».
وقد تنوع محتوى المجموعة بين قصائد موزونة عمودية وتفعيلة، وبين نصوص نثرية بشكل حداثي، لتؤكد الرؤية القائلة بضرورة إيجاد صلة وتحاور وتجاور بين الأشكال الإبداعية، وعدم الركون إلى القطيعة بين فنون القول المختلفة. وامتازت مضامينها بالثراء والتنوع، والخصوبة الدلالية والرمزية. وقد نجحت في الموازنة بين شاعريتها ووجدانيتها، وبين تركيبها الفكري العميق. وتنوعت منطلقاتها بين الذاتية والموضوعية، مستهدفة تجسيد الحياة وهمومها والبيئة والتراث اللغوي والمعرفي، بخلفيتيه الفردية والجمعية.
من أجل ذلك تقوم الكثير من نصوص المجموعة على فاعلية الإخبار، متعكزة عليها لصناعة حدث سردي، تنضح منه تفاصيل الحكاية المموهة. حتى أنها قد تصرّح بذلك، كما في قصيدة «أقسم أصحابي نصفين وأبتسم» حيث نقرأ:
«ولو جاز لي الشرح أن أتداول أخبارهم، لهمست لقومي الذين أعاصرهم:
إنكم قد ولدتم، فطوفوا بأكثر ما تحلمون،
وسيروا على الأرض قطعة أفقٍ شهية».
فينطلق الشاعر من الأخبار، بوصفها رصيداً معرفياً حكائياً، مفعمٌ بالتجارب والخبرات، مستشرفاًً بها المستقبل، وحاثّاً على النظر إليه بعينٍ حالمة ونفوس طامحة إلى الأفضل.
يطلع هاجس الحرب من بين أسطر القصائد، بما تضمره من حكايات الأسى والألم، شاهرة سؤالها المؤرق «هل انتهت الحرب؟» تاركة حيرتها تجوس في ذات الشاعر، وربما المتلقي، مدججةً ذهنه بالأسئلة التي لا تنتهي «هل عاودت خلقي الخطرات التي في الخنادق؟ هل متُّ؟ أين جرحتُ؟ وما هذه الكدمات المشعّةُ في جوهري؟»
تتحول هواجس الشاعر إلى أسئلة تستهدف الكشف عن المعنى الحكائي الضامر، وهي تتواتر بزخم حضورها الدال، فنجدها في قصيدة «الحياة ثانيةً» مثيرة ومحفّزة:
«وعن أي معنىً ستكشفُ
أرضٌ يحارب من أجلها الناس ثم يوارون فيها؟
أ إنّ التراب الأخير يُقدسُ أكثر؟»
من وراء هذه المفردات، بما تثيره من تساؤلات تحاول مقاربة فلسفة الوطن والأرض والانتماء، ومن أجل أي شيءٍ وجدت مثل هذه المسميات؟ تنفلت أسئلة أعمق وأدعى للتأمل، من بينها: هل التراب أقدس من الإنسان؟ وأيهما وجد من أجل الآخر؟ وهل مهمة التراب أن يوارى فيه الإنسان فقط؟ أ لا يستحق الإنسان أن يعيش حياته على الأرض، بكل ما تعنيه كلمة حياة؟ وهل أن وطناً يصف الشاعر مكوثه فيه بقوله: «دخولاً خروجاً ترافقني لحظة القصف والمدفعية» يستحق البقاء فيه، والموت من أجله؟ وهل البقاء فيه أمر مقبول في نظر العقل؟
هذه الأسئلة تُؤثر، بفاعليتها وتواترها وصياغتها الذكية، داخل القصيدة في تعميق البعد الرمزي في المبنى السردي، بما تستثيره وتشير إليه، ولو إلماحاً، من أحداث، غائبةٍ متناً، لكنها حاضرةٌ إيحاءً، حيث يمكن لها أن تَمْثُل وتتجسّد، في ذهن المتلقي، ما إن يتأمل أو يحاول الإجابة على تلك الأسئلة. ففي قصيدة «عنه، وعن أهله» يحضر السؤال مع المطلع، ليشكل بادرة ظهورٍ لوحدات سردية أخرى، ستكوّن بمجملها فضاء الحكاية الشعرية في القصيدة. فنقرأ:
«كان موته
فاحتوته البذورُ
… هكذا موتهُ
فكيف النشورُ؟
كيف يقفرُّ عمقهُ
والعبارات سحابٌ
من فوقهُ،
وطيورُ».
فتنبّه هذه الأسئلة قارئها إلى ذلك المجهول، بوصفها أسئلةَ حكايةٍ مموهةٍ بغواية أصابع السرد الخفي… أهو الوطن أيضاً؟ أم الشاعر؟ أم الإنسان الذي رصّعت الحرب عمره بالخسارات والأحزان والخيبات؟ من هو، فعلاً، من تصفه القصيدة بعد ذلك:
«حاملاً شمسه القليلة
والناس وأحلامهم شتاءٌ كثيرُ
أصله النار،
والحياة فروع منه،
والموتُ بين عينيه نورُ.
… جاء دمعاً
وليس يبكي،
ولكنَّ نساءً تحتَ الجفونِ
تسيرُ».
تتعدد الأصوات في هذه القصيدة، ليختلف التبئير، وتتبدل وجهة النظر من ضمير الغائب إلى المتكلم؛ لاجتراح أبعاد أخرى في متخيل الخطاب الشعري، وتجليات السرد فيه. فيقول:
«أتحرى البلاد وهي اغترابي،
آتياً في الورود وهي الصدورُ
علمتني الحروب كيف يسير الصبح ليلاً
ويُستضاع الخبيرُ».
وبينما نجد بعض النصوص تقوم بالتنقّل بين الضمائر والأصوات، نقرأ نصوصاً أخرى تنطق بضمير واحد. فنجد ضمير المتكلم مهيمناً على «ثمّ لا أحد»، والمخاطب على «مثلاً». كما نلمح بعض تقنيات السرد المميزة، تظهر بين فينةٍ وأخرى، فوق سطح القصائد في هذه المجموعة، كالاستباق، كما في نص «غيروا المنازل»، والاسترجاع كما في «مرّة واحدة»، والوصف للأشياء والأمكنة والشخصيات في نصوص عديدة، وحتى الحوار أحياناً كما في «الحياة ثانية». فضلاً عن التناص مع محكيات نثرية وشعرية سابقة. فنجد التناص مثلاً في هذه المقتطفات من قصائد مختلفة:
ـ «وقل إنهم بين عصرٍ وعصرٍ يعذّبُ أشباههم مثلهم». في الإشارة إلى قصة صلب شبيه المسيح (عليه السلام).
ـ «كل وقتٍ إذا بأخٍ، مطفئٍ ـ كي ينام ـ جوارح إخوانه». وفيها إلماح إلى قصة قتل قابيل لأخيه، لنزوات شخصية.
ـ «لا عجيب أن الجرار عطاشى، بل عجيب أن العطاشى جرارُ». ونقرأ فيها إشارة إلى قصة عطاشى كربلاء، في المرويات التاريخية، حين سقوا أعداءهم الماء عندما احتاجوا إليه.
ـ «خائضاً عصري بين قيسٍ وليلى، وجفوني فرزدقٌ وجريرُ». بما تستصحبه هذه الأسماء من محكيّاتٍ في أخبار العرب ومدوناتهم التراثية والأدبية.
إن هذه المجموعة بتنوع مصادر شعريتها، وتوظيفها الناجح لبعض تقنيات السرد، ومزجها بين التراثي والحداثي في معمار نصوصها، وثراء مقصدياتها الفكرية، يمكن أن تعدّ من أهم المجاميع الشعرية، ولهذا فهي تستحق أكثر من وقفة تأمل ومراجعة، ولن تستوفي حقّها قراءة واحدة فقط.
علي كاظم داود : الحضور السردي في مجموعة «مّرة واحدة» للشاعر «فارس حرام»
تعليقات الفيسبوك