داود سلمان الشويلي : انتحال القصيدة “الاصمعي الشاعر” قراءة وتحقيق لقصيدة (صوت صفير البلبل)

dawod salman 4الانتحال:
يورد الدكتور طه حسين خمسة اسباب للانتحال ،هي : السياسة ، الدين  ، القصص ، الشعوبية ، الرواة . وهذه الاسباب هي التي دعت الناس لانتحال الشعر ان كان هذا الانتحال شخصي –انتحال قصيدة وتسميتها باسم المنتحل – او ان تنتحل قصيدة او اكثر لتسميها باسم شخص ما .
وقصدتنا هذه  – صوت صفير البلبل – انتحلت لكي تكمل قصة ما ، وفيها من الاغراب في اللغة والالفاظ الكثير ، فكان لزاما على القاص ان يسميها باسم عالم لغة فكان الاصمعي ،العربي الارومة .
فالشعر مكمل للقصص التي تحكى في مجالس القصاصين ، اذ تحلى به ، وهذا ما حملته قصص الف ليلة وليلة من شعر روي لكي تحلى به هذه القصص ، ويدعم الافكار التي في الحكاية ، ويكتمل به المعنى ايضا.
يقول د.طه حسين في كتابة في الشعر الجاهلي: ((وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزنه الشعر من حين إلى حين . ويكفي أن تنظر في “ألف ليلة وليلة” وفي قصة عنترة وما يشبهها ، فسترى أن هذه القصص لا تستطيع أن تستغني عن الشعر ، وأن كل موقف قيم أو ذي خطر من مواقف هذه القصص لا يستقيم لكاتبه وسامعه إلا إذا أضيف إليه قدر من الشعر قليل أو كثير يكون عماداً له ودعامة . وإذن فقد كان القصّاص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حدّ لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه . وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون وفوق ما كانوا يشتهون)).
وقد كان للقصاصين اؤلئك مجموعة من الشعراء والاخبارين والحدثين الذين يقدمون لهم اعون كل في اختصاصه ، وعن هذا يقول الدكتور طه حسين :
وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القصّاص لم يكونوا يستقلون بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر في هذا القصص ، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها ، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها ، ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض ؛ فقد يحدثنا ابن سلاّم أن ابن إسحاق كان يعتذر عما كان يروى من غثاء الشعر فيقول : لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله . فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله . فمن هؤلاء القوم ؟ .)) .
ويقول في موضع اخر عن الانتحال: ((، وأن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل أو إلى قائل مجهول إنما هو شعر مصنوع موضوع انتحل انتحالا بسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها ومنها القصص)) .
وايضا جاء هذا الانتحال بسبب الشعوبية ومعاداتها من قبل الناس، فقد كان القصاص هذا – وهو يتكلم باسم الناس ويخاطبهم ايضا – ممن كره الشعوبية التي ظهرت ايام العباسين ، وكيف ان بعض الشعراء ذوي الاصول الاعجمية ومن الموالي مثل :ابى نواس وابى العتاهية والفضل بن سهل وبشار بن برد، كانوا يرمون العرب بشتى الاتهامات ، فدفعه هذا السبب الى انتحال هذه القصيدة التي لم يعرف قائلها ، وتسميتها باسم عالم عربي كبير هو الاصمعي.
وكان الأصمعى معروفا بميوله للأمويين بسبب عروبتهم :(( ولذلك عمل الفضل على ضمه الى البلاط ليحقق توازنا مع المجموعة الأخرى ومنها الكسائى وأبو عبيدة واسحق الموصلى الخ . وطبعا بعد الرشيد كانت المجموعة العربية متعصبة للأمين , فلما انتصر عليه المأمون ابتعدوا عن البلاط نهائيا)) كما يقول الدكتورأحمد سعد الدين أبو رحاب.
وقد اعترف الراوية خلف الاحمر انه وضع للاصمعي اكثر من قصيدة لعل احدها قصيدة ( صوت صفير البلبل ):
يقول الدكتور :((وأعترف هو للأصمعي بأنه وضع غير قصيدة . ويزعمون أنه وضع لاميّة العرب على الشَّنْفَرَى ، ولاميّة أخرى على تأبَّطَ شراًّ رويت في الحماسة )).
***
الشعر والمال:
الى يومنا هذا، وبعض الشعراء يتبعون المال اينما ذهب ، فيمدحون صاحب المال ، وعندما يرونه كريما تزداد همة الشعراء في مدحه وابراز خصاله الكريمة !!! ونسبه الكريم !!!،ومنصبه الرفيع !!!…الخ، وعندما يرونه بخيلا تضمحل هذه الهمة ،فيصرخون مع المتنبي منا في قصيدته :
أكلما اغتـال عبد السـوء سيـده          أو خـانه فلـه في مصـر تـمهيد
صار الخصـيُّ إمام الآبقيـن بـها          فالـحر مستعبـد والعبـد معبـود
نامت نواطيـر مصـر عن ثعالبهـا         فقد بشمـن وما تفنـى العناقيـد
العبـد ليس لـحر صالـح بـأخ              لو أنه فـي ثيـاب الـحر مولـود
لا تشتـر العبـد إلا والعصا معـه               أن العبيـد لأنـجاس مناكيــد
ما كنت أحسبنـي أحيا الى زمـن        يسـيء بي فيه كلب وهو مـحمود
ولا توهـمت أن الناس قد فقـدوا          وأن مثل أبـي البيضـاء موجـود
وأن ذا الأسود الـمثقوب مشفـره        تطيعـه ذي العضـاريط الرعاديـد
جوعان يأكل من زادي ويمسكنـي        لكي يقـال عظيم القدر مقصـود
إن امـرء أًمَةً حبلـى تدبـــره              لمستضـام سخيـن العين مفـؤود
ويلمهـا خطـة ويلـم قابلهــا                  لمثلهـا خلـق الـمهريـة القـود
وعندهـا لذ طعم الـموت شاربـه              إن الـمنية عنـد الـذل قنديــد
من علـم الأسود المخصيَّ مكرمـة        أقـومه البيـض أم آبائـه الصيـد
أم أذنـه فـي يد النخـاس داميـة           أم قـدره وهو بالفلسيـن مـردود
أولـى اللئـام كويفيـر بـمعذرة              في كل لـؤم وبعض العذر تفنيـد
وذاك أن الفحـول البيض عاجـزة       عن الجميل فكيف الخصية السـود
فتتحول القصيدة على يد  بعض الشعراء من سليطي لسانهم الشعري من مدح الى ذم ، فتكون القصيدة هجاءا بعد ان كانت مديحا.
تروي لنا المصادر التاريخية الكثير عن الشعر الذي وقف على باب صاحب المال ، كالخلفاء والوزراء ومن في درجتهم ، فضلا عن بعض الاثرياء ، فاما ان يأذن للشعر ان يقال، او ان يطرد شر طردة .
وكان من عادة الشعراء ان يلقوا قصائدهم على ،الخلفاء ،والامراء ،والوزراء ،فيحصلون على عطايا نظير ذلك ، وحسب بعض الروايات تكون الهبة – الجائزة – شيء خرافي لا يصدق.
و بسبب طلب المال واعطيات الخليفة للشعراء تولدت هذه الحكاية على لسان قاص ، والتي تروى على ان بطليها الخليفة العباسي المنصور ، والاصمعي رجل الشعر وعالم اللغة.
***
الحكاية :
سمع الأصمعي بأن الشعراء قد ضُيق عليهم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ، وذلك لانه كان يحفظ كل قصيدة يتلونها في حضرته ، فيعيد قراءتها امام الشاعر، ثم يقول للشاعر ان  الخادم عندي يحفظها ،فيأتي الخادم- الغلام الذي كان يحفظ الشعر بعد تكراره القصيدة مرتين- فيقرأ القصيدة مرة أخرى ،ثم يقول الخليفة مرة اخرى: إن عندي جارية هي تحفظها أيضاً – والجارية تحفظها بعد المرة الثالثة-  وهكذا يصاب الشعراء بالخيبة ،ولا يحصلوا على المكافئة .
قيل ان الأصمعي سمع بذلك وتوعد  الخليفة، وكتب قصيدته ( صفير البلبل) متنوعة الكلمات والالفاظ ، غريبة المعاني الى حد ما.
عندما دخل على الخليفة متنكرا ،قال له : لدي قصيدة أود أن ألقيها عليك.
فقال له الخليفة: هات ما عندك، فقال القصيدة.
عندما سمعها الخليفة تاه باله، واسقط في يديه، ولم يحفظ منها سوى البيت الاول ، عندها قال له الخليفة:أت ما كتبت عليه لنزنه ونعطيك وزنه ذهباً.
قال الاصمعي : لقد ورثت عمود رخام من أبي وقد كتبتها عليه، لا يحمله إلا عشرة من الجند.
فأحضروه ، فوزن الذهب كله عند الخليفة ، عندما عرف الخليفة مقدار الذهب، رفض اعطاءه له ، فقال له الاصمعي : اذن ،يجب أن تعطي الشعراء على ما قالوه من شعر.
هذه القصة كما اوردتها كتب التاريخ ، وقد تصرفنا بنقلها .
***
شخصيات الحكاية:

الخليفة المنصور:

المَنْصُور العَبَّاسي (95 – 158هـ، 714 – 775م) ، عبد الله بن محمد بن علي بن العباس ، أبو جعفر ، المنصور ، ثاني خلفاء بني العباس.
تولى الخلافة من سنة 136 هـ حتى 158هـ.
وكان المنصور أسمر ، نحيفاً ، طويل القامة ، خفيف العارضين ، معرق الوجه ، رحب اللحية ، يخضب بالسواد ، عريض الجبهة ، كأن عينيه لسانان ناطقان ، تخالطه أبهة الملوك بزي النساك ، أمه بربرية تدعى سلامة ، وكان نقش خاتمه .
***
الاصمعي:

هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك الأصمعي ، وفي رواية عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، وكنيته أبو سعيد ويشتهربـ الأصمعي ، ونسبته إلى جده أصمع، من قبيلة باهلة القيسية.
وقد ورد في “وفيات الأعيان” لابن خلكان:“ أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزاربن معد بن عدنان، المعروف بالأصمعي الباهلي وإنما قيل له الباهلي ، وليس في نسبه اسم باهلة لأن باهلة اسم امرأة مالك بن أعصر، وقيل إن باهلة ابن أعصر.
وجاء في “سير أعلام النبلاء” للذهبي:
(( هو الامام العلامة الحافظ حجة الأدب لسان العرب أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر بن عبد شمس ابن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الأصمعي البصري اللغوي الأخباري أحد الأعلام يقال اسم أبيه عاصم ولقبه قريب.

مولده :

ولد في البصرة عام ( 123 هـ ) وقيل عام ( 125هـ ).
طلب العلم في ( الكتاب ) ، وقد هيأت الظروف للأصمعي فرصة اللقاء بالعلماء الكبار ،وغيرهم، فتتلمذ على أيديهم وتابع مجالسهم في مدينة البصرة منذ أن كان صبياً حتى أن صار علماً من أعلامها ، وتابع أجوائها العلمية .
تطورت الحركة العلمية في عصره بسبب تمازج الثقافات وتشجيع الخلفاء فعقدت مجالس المناظرة في قصور الخلفاء وكانت حافزاً للعلماء على البحث والنظر وأسهم الأصمعي فيها إلى جانب من أسهم من علماء عصره .
والأصمعي واحد ممن عرف ألواناً من ثقافات البصرة الدخيلة فقد كانت رغبته شديدة في تحصيل العلم ، يدلنا على ذلك عمق ثقافته وغزارة علمه وسعة إطلاعه ، وانعكاس ذلك كله على كثرة مؤلفاته .
وقد أفاد الأصمعي من رحلاته إلى بغداد حيث أقام فيها مدة وخرج منها أكثر علماً مما دخل ، كما أنه في مكة قرأ شعر الشنقري على الشافعي .
إن علم الأصمعي لم يكن علم سماع من الأعراب ورواية فحسب بل كان علم رواية ودرس دراية .
وقد حدث عن نفسه أنه حفظ اثني عشرة أرجوزة قبل أن يبلغ الحلم .
تمتع الأصمعي بشهرة واسعة قائلاً فقد كانت الخلفاء تجالسه وتحب منادمته ، وقد هيأت مجالس الرشيد له أن يذيع صوته في كل الأوساط والمحافل الأدبية فسعى يجمع الأخبار والأشعار ، ويدقق في اختياره ،لها وفي إنشاده ، بحيث دفعت هذه الشهرة الرواة أن يضعوا أخباراً وأقوالاً تنسب إليه .
ومما يبرهن على شهرته الواسعة ، وتفوقه على أقرانه ما نراه من غالب المصنفين الذين جاءوا من بعده يستقون ثروته اللغوية والأدبية . كما أن كتب اللغة والأدب قد جمعت الكثير من الأخبار والأشعار التي يرويها ، وكان يعلل شهرته بقوله : وصلت بالعلم ، وكسبت بالملح .
***
قالوا في الاصمعي :

كانت للأصمعي مكتبة اختلفت المصادر في ذكر عدد كتبها ، فالأصفهاني ينقل على لسان الأصمعي قائلاً: لما خرجنا إلى الرقة ، قال لي : هل حملت معك شيئاً من كتبك ؟ قلت : نعم ! حملت ما خف حمله ، فقال : كم ؟ فقلت : ثمانية عشر صندوقاً ، فقال : هذا لما خففت ، فلو ثقلت كم كنت تحمل ؟ فقلت أضعافها ، فجعل يعجب ! .
كان سفيان الثوري يشير إلى وصف ابن مناذر للأصمعي بأنه أحفظ الناس ، وقال الأزهري فيه : وكان أكثر علمه على لسانه .
أما الرياشي فيقول : سمعت الأصمعي يقول قال خلف : يغلبني الأصمعي بحضور الحجة ، وشهد بذلك تلميذه اسحاق الموصلي حيث أشار قائلاً : أعجب من قرب لسانه من قلبه وإجادة حفظه متى أراده .
قال : حماد بن إسحاق : سمعت أبي يقول : ما رأيت أحداً قط أعلم بالشعر من الأصمعي ، ولا أحفظ لجيده ، ولا أحضر جواباً منه ، ولو قلت إنه لم يك مثله أحد ، ما خفت كذبا .
وقد نقل أبو العيناء حديث كيسان فقال : قال خلف الأحمر ويلك الزم الأصمعي ودع أبا عبيدة ، فإنه أفرس الرجلين بالشعر .
وقال الأخفش : لم أدرك أحداً أعلم بالشعر من خلف الأحمر والأصمعي ، وقال الرياشي فسألته أيهما أعلم ؟ قال : الأصمعي ، قلت لما ؟ قال : لأنه كان أعلم بالنحو .
وقال إسحاق الموصلي : لم أرى كالأصمعي يدعي شيئاً من العلم ، فيكون أحداً أعلم منه .
كما قال ابن الأعرابي : شهدت الأصمعي وقد أنشأ نحواً من مائتي بيت ، ما فيها بيت عرفناه .
ويقول ابن الأنباري : الأصمعي يد غراء في اللغة لا يعرف فيها مثله ، وفي كثرة الرواية .
وقال أبو الطيب اللغوي : كان لأتقن القوم للغة وأعلمهم بالشعر .
و ذكر السيوطي : وكان من أعلم الناس في فنه .
ويذكر ابن المرزباني : وكان الأصمعي من أروى الناس للرجز .
أما الأزهري فقال : وكان الأصمعي أذكى من أبي عبيدة وأحفظ للغريب منه ، وكان أبو عبيدة أكثر رواية منه .
وسلكه الزبيدي في الطبقة الثالثة من طبقات اللغويين البصريين .
كما عده الأزهري في الطبقة الثانية من اللغويين اللذين أخذ عنهم ، وترتيب كل من الزبيدي والأزهري قائم على التسلسل التاريخي لا المنزلة العلمية .
***
مؤلفاته :

للاصمعي مؤلفات كثيرة اهمها:
– الإبل- الأبواب- أبيات المعاني- الأجناس- الأخبية والبيوت- الإختيار- الأراجيز- أسماء الخمر- الاشتقاق- الأصمعيات- الأصوات- أصول الكلام- الأضداد- الألفاظ- الأمثال- الأنواء- الأوقاف- تأريخ الملوك- جزيرة العرب- الخراج- خلق الفرس- الخيل- الدارات- الدلو- الرحل- السرج واللجام والشوى والنعال والترس- السلاح- الشاء- الصفات- غريب الحديث- غريب القرآن – فحولة الشعراء- القصائد الست- القلب والإبدال- الكلام الوحشي- لحن العامة- اللغات- ما اتفق لفظه واختلف معناه- ما اختلف لفظه واتفق معناه- ما تكلم به العرب فكثر في أفواه الناس- المذكر والمؤنث- المصادر- معاني الشعر- المقصور والممدود- مياة العرب- الميسر والقداح- النبات والشجر- النحلة- النسب- النوادر- نوادر الأعراب- الهمز- الوجوه- الوحوش.
***
وفاته :

توفي في خلافة المأمون في البصرة في شهر صفر .
وتختلف المصادر في تعيين سنة وفاته ، فتذكر بعضها أنه توفي سنة 208هـ ،
والبعض يقول 211هـ ، وقيل 214هـ ، وقيل 215 ،وقيل هـ 216هـ ،
وآخرون 217هـ .
قال خليفة وأبو العيناء مات الأصمعي سنة خمس عشرة ومئتين.
وقال محمد بن المثنى والبخاري سنة ست عشرة .
وقال الخطيب أبو بكر:بلغني أن الأصمعي عاش ثمانياً وثمانين سنة.
قيل للأصمعي: لماذا لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا يواتيني، والذي يواتيني لا أريده، أنا كالمِسَنّ أشحذ ولا أقطع.
وكان الرشيد يسميه (شيطان الشعر).
***
القصيدة:

صـوت صــفير الـبلبـل         هيج قـــلبي الثمــلي
المـــــــاء والزهر معا        مــــع زهرِ لحظِ المٌقَلي
و أنت يا ســـــــــيدَ لي         وســــــيدي ومولي لي
فكــــــــم فكــــم تيمني         غُـــزَيلٌ عقــــــــــيقَلي
قطَّفتَه من وجــــــــــنَةٍ         من لثم ورد الخــــجلي
فـــــــقال لا لا لا لا لا           وقــــــــد غدا مهرولي
والخُـــــوذ مالت طربا           من فعل هـــذا الرجلي
فــــــــولولت وولولت           ولـــــي ولي يا ويل لي
فقلت لا تولولـــــــــي           وبيني اللؤلؤ لــــــــــي
قالت له حين كـــــــذا           انهض وجــــــد بالنقلي
وفتية سقــــــــــــونني           قـــــــــهوة كالعسل لي
شممـــــــــــتها بأنافي           أزكـــــــى من القرنفلي
في وســط بستان حلي          بالزهر والســـــرور لي
والعـــود دندن دنا لي           والطبل طبطب طب لـي
طب طبطب طب طبطب         طب طبطب طبطب طب لي
والسقف سق سق سق لي           والرقص قد طاب لي
شـوى شـوى وشــــاهش           على ورق ســـفرجلي
وغرد القمري يصـــــيح            ملل فـــــــــــي مللي
ولــــــــــــو تراني راكبا            علــــى حمار اهزلي
يمشي علــــــــــــى ثلاثة            كمـــــشية العرنجلي
والناس ترجــــــــم جملي            في الســوق بالقلقللي
والكـــــــــل كعكع كعِكَع             خلفي ومـــن حويللي
لكـــــــــــن مشيت هاربا             من خشـــية العقنقلي
إلى لقاء مــــــــــــــــلك               مــــــــــعظم مبجلي
يأمر لي بخـــــــــــــلعة               حمـــراء كالدم دملي
اجــــــــــــر فيها ماشيا                مبغــــــــــددا للذيلي
انا الأديب الألمــعي من                حي ارض الموصلي
نظمت قطــــعا زخرفت                يعجز عنها الأدبو لي
قول في مطلعــــــــــها                 صوت صفير البلبلي
القصيدة من بحر الرجز ( مستفعلن )
***
معنى القصيدة:
((* صوت صفير البلبل        هيج قلبى الثمل
الماء و الزهر معا      مع زهر لحظ المقل
وصف الاصمعى حاله قلبه بالثمل كنايه عن عذابه فى حبّه :
*وانت يا سيد لى        وسيدى و موللى
انتقال من موضوع الى اخر ،وهنا يمجد الخليفه بذكره اربعه الفاظ لها نفس المعنى ،سيدا لى و سيدى ومولاً لى ” اطناب”:
فكم فكم تيَّمَنِي            غزيل عقيقلي
أي كم تيمني (جعلني مغرم) غزال (تشبيه للمراة) عقيقلي حمراء الخدود مثل لون العقيق الأحمر:
قطفته من وجنة           من لثم ورد الخجل
تشبيه آخر اللون الأحمر في الخدود كالورد ويقول انه قطفه (أي ان المرأة أعجبت به أيضا)، وان هذا اللـّون الأحمر جاء من الخجل، طبعا لأنه أعجبها!!!
وتفسير البيتين، انه وقع في غرام امرأة حلوة و رشيقة كالغزال، عندما رأته احمرّت خدودها من الخجل فعلم انها أعجبت به مثلما أعجب هو بها.
فقالت لا لا ولا لا      وقد غدى مهرول
يعني ان المرأة لا تريد ان تقع في الحبّ فقالت لا لا و لالا (اطناب وتأكيد الرفض) وهربت راكضة من المكان:
* و الخود مالت طربا       من فعل هذا الرجل
فولولت وولولت             ولى ولى يا ويل لى
وهنا عاد الى الموضوع الاول وهو الحبّ و الغزل :
انه دخل على حبيبته فى الحديقه ، فعندما رأته احمر خديها من الحياء و الفرح، فأخذت تولول ،و تدعو بالويل ،ان احد رأها فى هذا الموقف :
* فقلت لا تولولى        وبينى اللؤلؤ لى
وهنا يطمأنها الحبيب ويسكن من روعها المصطنع و المزعوم ويطلب منها ان تطمأن وان تضحك و تبين بياض اسنانها عند الضحك “غزل صريح”:
* قالت حين كذا     انهض وجد بالمقل
فقالت له حين ذاك اذهب و تقدم لخطبتى و انهي الأمر مع اهلى :
و تريد ان تستقدم همته بان تقلقه عليها وان الخطاب كثيرون
و تقول له :
*و فتيه سقوننى     قهوه كالعسلل
وكان هناك فتيه قد قدموا لها قهوه تصف طعمها بالعسل كنايه عن جمال المذاق :
*شممتها بأنفى     اذكى من القرنفل
كنايه عن جمال الرائحه وتم التشبيه بالقرنفل لجمال الرائحه:
*فى وسط بستان حلى     بالسعد والسرور لى
وكان هذا المقهى فى وسط بستان جميل ادخل البهجه الى قلبى :
*و العود دن دن دن لى              والطبل طب طب طب لى
وهنا تصف صوت دندنه  العود الموسيقيه ، و صوت طبطبه الطبله .
*طبطبطب طبطبطب   طبطبطب طبطب طب لى
وهنا “اطناب ” فى وصف صوت الطبله .
وهذا اعلى مراتب الشعر فقد وصف الطبله ،وانت عندما تقرء تحس انك تسمعها
وكذلك العود.
والتخصيص فى( لى ( لـتـُـثـيـر الغيره بداخل حبيبها :
*و السقف قد سق           سق سق سقلى
*شوا شوا و شاهش    على ورق سفرجل
وهنا توصف صوت التعريشه (السقف ) للمقهى التى كانته فيه ،
وكان السقف مصنوع من نوع من الاشجار عندما تتلاعب به الرياح يصدر صوت ورق السفرجل عندما تضرب عليه (شوا شوا وشاهش  (وهى كنايه عن ترابط الموسيقى للعود والطبله مع صوت الرياح وتشبيه بليغ
فى وصف الرياح كأنها تتراقص على انغام الموسيقى
ثم ينتقل الى موضوع اخر .
*وأخذ القِمر يصيح     ملل ٍفى ملل
وهيا كنايه عن كره اهل المدينه له .
ثم يبدأ بوصف حادثته .
*ولو ترانى راكبا      على حمار اهزل
*يمشى على ثلاثه     كمشيه العرنجل
وصف للحمار انه لا يصلح لشيء .
وتشبيه بليغ شبه فيـه الحمار بالاعرج.
* الناس ترجم جملى      فى السوق بالقلقلل
وهنا يعود ليصف حماره بالجمل لانه رد عنه بعض الاذى من الناس التى فى السوق وكانت ترجمه بالقلقلل.
وهنا قلقلل : معناها قلاقيل الطوب .
*و الكل كع كع كعكع     خلفى ومن حويللى
كنايه عن كثرا الناس . كع كع كعكع: جريا.
*لولا ذهبت هاربا الى     لقاء ملك معظم مبجل
مدح للخليفه .
*يسكن فى قلعه       حمراء كالدمدملى
تشبيه حـُـمرة القلعه بالدم .
* اجــــــــــــر فيها ماشيا             مبغــــــــــددا للذيلي
وهنا يصف حاله نقيض عند الملك حتى يجعل الملك يحترمه ويقدره
وان الناس كانوا قد اسائوا اليه.
*انا الاديب الالمعى    من حي ارض الموصلى
نظمت قطعا زخرفت      يعجز عنها الادبل
اعتزاز بنفسه و تمويه الى اسمه الأصلى بلفظه(الالمعى)وهى قريبه من (الاصمعى) او ليشبه نفسه بالنجم فى لمعانه .
ويقول :نظمت قطعا زخرفت يعجز عنها اديب الادباء،
وهي صيغه تحدى عاليه الجوده شديده الادب
يستطيع ان يتبين من عين الخليفه حقيقه الامر عند قولها .
*اقول فى مطلعها   صوت صفير البلبل
كنايه عن يسرها و سلاستها .
و نتعلم من هذه القصيده مدى قدره العرب على تطويع الالفاظ
و الاتيان بالتعبيرات و التشبيهات و الكنايات و الاوصاف.
كما نتعلم مدى حرص خلفاء الدوله على اموال دولتهم وخوفهم على المصلحه العامه
وذكائهم فى اتخاذ القرارات.
***
مصادر الحكاية :
إن القصة المذكورة لم ترد في مصدر موثوق ، إلا في كتابين ، هما :
– إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس ، لمحمد دياب الإتليدي ، ( ت بعد 1100هـ ) وهو رجل مجهول لم يزد من ترجموا له على ذكر وفاته ، وأنه من القصّاص ، وليس له سوى هذا الكتاب .
–  مجاني الأدب من حدائق العرب ، للويس شيخو ( ت 1346هـ ) ، وهو رجل متّهم ظنين ، ويكفي أنه بنى أكثر كتبه على أساس فاسد – والتعبير لعمر فرّوخ ( ت 1408هـ ) – وكانت عنده نزعة عنصرية مذهبية ، جعلته ينقّب وينقّر ويجهد نفسه ، ليثبت أن شاعراً من الجاهليّين ، كان نصرانياً ( راجع : تاريخ الأدب العربي 1/23).
ويبدو أن الرجلين قد تلقفا القصة عن النواجي ( ت859هـ )، وقد أشار شيخو إلى كتابه ( حلبة الكميت ) على أنه مصدر القصة ، و النواجي أديب جمّاع لا يبالي أصحّ الخبر أم لم يصحّ ، وإنما مراده الطرفة فهو يسير على منهج أغلب الإخباريين من الأدباء ولذا زخرت مدوّنات الأدب بكل ما هبّ ودبّ ، بل إن بعضها لم يخلُ من طوامّ وكفريّات .
إن صلة الأصمعي ، كانت بهارون الرشيد لا بأبي جعفر المنصور الذي توفي قبل أن ينبغ الأصمعي ويُتّخذ نديمًا وجليسًا ، ثم إن المنصور كان يلقّب بالدوانيقي ،لشدة حرصه على أموال الدولة ، وهذا مخالف لما جاء في القصة ، ثم إن كان المنصور على هذا القدر العجيب من العبقريّة في الحفظ ، فكيف أهمل المؤرخون والمترجمون الإشارة إليها ؟
أضف إلى ذلك أن هذا النظم الركيك أبعد ما يكون عن الأصمعي وجلالة قدره ، وقد نسب له شيء كثير ، لكثرة رواياته وقد يحتاج بعض ما نُسب إليه إلى تأنٍّ في الكشف والتمحيص قبل أن يُقضى بردّه غير أن هذه القصة بخاصة تحمل بنفسها تُهَم وضعها ، وكذلك النظم وليس هذا بخاف عن اللبيب بل عمّن يملك أدنى مقوّمات التفكيرالحرّ .
ولم أعرض لها إلاّ لأني رأيت جمهرة من شداة الأدب يحتفون بالنظم الوارد فيها ويتماهرون في حفظه ، وهو مفسدة للذوق ، مسلبة للفصاحة ، مأذاة للأسماع .
وبعد : فإنه يصدق على هذه القصّة قول عمر فرّوخ رحمه الله : ( إن مثل هذا الهذر السقيم لا يجوز أن يُروى ، ومن العقوق للأدب وللعلم وللفضيلة أن تؤلف الكتب لتذكر أمثال هذا النظم) .
***
نقد القصيدة :
– ركة في الفظً والمعنى.
– مكسورة وزنا.
– الأصمعي من أئمة اللغة العربية ولم يعُرف بقول الشعر ولم يروَ عنه
بل كان هو من كبار رواة الأشعار وعلماء اللغة الذين حفظوها من الضياع
فكيف ينسب له هذا الشعر الغث المكسور.
الأخطاء التاريخية:
– روى أهل التاريخ أنّ الأصمعي اتصل بالخليفة هارون الرشيد وكان من ندمائه ، ولم يرد أبدًا أنه كان من جلساء المنصور، ولو وقع ذلك حقا لذكره المؤرخون، فقد ولد الأصمعي سنة 121هـ، وتولى المنصور الخلافة من سنة 136 هـ حتى 158هـ.
فيكون الأصمعي أدرك عهده في أول شبابه ومن قرأ سيرته سيعلم أنه في هذا الوقت كان يحصّل العلم ويجمع الأخبار ويلتقي الأعراب ولم يتصل بعدُ بأحد من الأمراء والخلفاء.
– كذلك مما عُرف به أبوجعفر المنصور بأنه حريص جدًا على مال المسلمين يحسبها بالفلس كما نقول حتى لُقّب بالدوانيقي، وهو الذي يستقصي في الحسابات، فكيف يصحُّ أن يقوم رجلٌ هذا لقبه بإفراغ بيت المال لرجلٍ لا يعرفه!!
– الأسلوب الخرافي والوقائع الخرافية للقصة تدل على نظام النسج الذي نسجت به و الذي قرأ منكم قصص ألف ليلة وليلة أو كتب الأخبار العجيبة و الحكايات الغريبة ، سيجد توافقا كبيرا بين أسلوب القص هنا و هنا مما يضفي بظلال من الشك على أن القصة مقتلعة من كتاب من هذه الكتب و خاصة أن هذه القصص ألفت في هذه الفترة المظلمة من تاريخ الأمة.
الأخطاء النحوية واللغوية:
كل من يقرأ القصيدة – وهو لغوي – سوف يضحك من كثرة أخطائها وجمعها لمفردات لم ترد أصلا في اللغة ، وهذه الأخطاء لا يقع فيها مبتديء في علم اللغة، فكيف نصدّق أن يقع فيها رجل كالأصمعي من أكبر علماء اللغة؟!
وهذه بعض الأمثلة من مطلعها، يقول:
صوتُ صفير البلبلِ   هيّج قلبي الثملِ
والصواب : هيج قلبي الثملا وهو تابع لقلبي المنصوب بهيّج، ثم قال:
فكم وكم تيمني          غزيّلٌ عقيقلِ
والصواب: غزيلٌ عقيقلُ بالضم تابع للفاعل المرفوع فكيف يجوز كسره،وكذلك لا توجد في العربية مفردة عقيقل، وقد حاول أحدهم شرحها بأنها مكونة من كلمتين أي عقيق لي أي مثل العقيق،فأقول له هذا من أعجب الشروح المضحكة!
وهناك مثلها في هذه القصيدة كثير ، وهي مفردات ليست من العربية في شيء مثل الدمدملي والطبطبلي والعرنجل وغيرها ليست موجودة في معاجم العربية وكم أتعجب من اجتهاد بعضهم في شرحها، وهي ساقطة لغة وقواعد إعرابية وليست على قياس لغتنا الفصحى ، إضافة إلى أنها مكسورة الوزن في بعضها أو من أوزان مختلفة.
– أبو جعفر المنصور لم تقع عينه على الأصمعى ولم يسمع باسمه .. فالأصمعى لم يظهر إلا عن طريق ” الفضل بن ربيع” حاجب هرون الرشيد الذى سعى لتقديمه الى الرشيد فأحبه وقربه منه . والسبب فى تصرف الفضل ان ذلك الوقت كان يموج بالشعوبيين أعداء العرب من الفرس أو المنتمين اليهم امثال البرامكة وابى نواس وابى العتاهية والفضل بن سهل وبشار بن برد الخ بينما الفضل بن ربيع الذى عينه الخليفة حاجبا له رغم عدم موافقة الوزراء والكتاب من البرامكة لأنه متعصب لعروبته وكانت المجموعة العربية مكونة منه ومن زبيدة زوج الخليفة وأم الأمين لأن اخوالها هاشميون وكان الأصمعى معروفا بميوله للأمويين بسبب عروبتهم , ولذلك عمل الفضل على ضمه الى البلاط ليحقق توازنا مع المجموعة الأخرى ومنها الكسائى وأبو عبيدة واسحق الموصلى الخ . وطبعا بعد الرشيد كانت المجموعة العربية متعصبة للأمين , فلما انتصر عليه المأمون ابتعدوا عن البلاط نهائيا . .. من هنا تعرف لماذا حاول الشعوبيون والفارسيون فى حقب لاحقة تشويه صورة الأصمعي واظهاره فى صورة المهرج الذى يسلى الخلفاء .. المهم ان أباجعفر المنصور لم يسمع عن اسم الأصمعي الذى كان وقتها شابا مغمورا يتجول فى البوادى لتدوين اللغة والشعر وكما تعلم فهو من مدرسة البصرة ( مدرسة السماع ) ضد مدرسة الكوفة ( مدرسة القياس ).
– قافية هذه القصيدة مجرورة . فبالله عليك ايها الحبيب كيف ان الأصمعى يجر كلمة الثمل ( هيّج قلبى الثمل ) على اي اساس يا ترى ؟ انها صفة لمفعول به أو هى فاعل اذا اعتبرناها مصدرا , فكيف يجرها شيخ مدرسة البصرة وأمام الخليفة؟؟؟ كذلك( يعجز عنها الأدب لى ) ما معنى الأدب لى ؟؟ وهب يحثت مثلا فى لسان العرب عن بعض الكلمات الغريبة الواردة فى هذه القصيدة/الأكذوبة ووجدتها ؟ ولسان العرب من تأليف ابن منظور تلميذ الأصمعى ؟
– طبعا هذا الكلام الفارغ من بحر الرجز ( مستفعلن ) فما رأيك ( قال لا لا لا لا ) مكسور كسرا بينا وكذلك ( فقالت لا تولولى ) .. فهل تصدق ان يقف اي انسان امام الخليفة ليقول له كلاما بدون معنى مع اخطاء فى النحو والوزن , وهل تصدق ان الخليفة لم يكن سيأمر بقطع رأسه على الفور ؟
–  الخليفة ابو جعفر المنصور لا يمكن ان يكون نصابا ويفعل مثل هذه الأفاعيل . كان يكفيه ان يعطى عطايا قليلة وهو فعلا كان معروفا بالحرص .. طبعا الشاعر لن يخدع عن قصيدته فاذا اضطر الى التزام الصمت امام الخليفة ولكنه سيخرج وهو واثق ان الخليفة يكذب لأنه طبعا يعرف قصيدته ومتأكد من انها من تأليفه .. ( تخيل ! خليفة رسول الله ص يكذب ؟ )مع تكرار هذا الموقف الم يكن تصرف الخليفة سينتشر , ويتوقف الشعراء عن مدحه أو حتى عن الذهاب اليه ؟ وهل كانت كل كتب الأدب كابن قتيبة والكامل والشعر والشعراء الخ الخ لن تذكر هذه القصة الأعجوبة ؟
– وبعيدا عن خزعبلات الجارية التى تحفظ من مرة والعبد الذى يحفظ من مرتين ,
خامسًا : إنّ هذه القصة السقيمة والنظم الركيك كذب في كذب ، وهي من صنيع قاصّ جاهل بالتاريخ والأدب ، كما تلاحظون في ترجمته ، لم يجد ما يملأ به فراغه سوى هذا الافتعال الواهن .
– انظروا إلى الوضع الواضح فيها :
(قال الراوي : وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه ، فعرف حيلة الخليفة ، فعمد إلى نظم أبيات صعبة ، ثم دخل على الخليفة وقد غيّر هيئته في صفة أعرابي غريب ملثّم لم يبِنْ منه سوى عينيه (!!) فأنشده ……) ، فكلها هذر سقيم ، وعبث تافه معنى ومبنى .
– ومن الثابت تاريخيا أن صلة الأصمعي كانت بهارون الرشيد لا بأبي جعفر المنصور ، الذي توفي قبل أن ينبغ الأصمعي ، ويُتّخذه نديماً وجليساً ، ثم إن المنصور كان يلقّب بالدوانيقي ، لشدة حرصه على أموال الدولة ، وهذا مخالف لما جاء في القصة ، ثم إن كان المنصور على هذا القدر العجيب من العبقريّة في الحفظ ، فكيف أهمل المؤرخون والمترجمون الإشارة إليها !!؟؟
أضف إلى ذلك أن هذا النظم الركيك أبعد ما يكون عن الأصمعي وجلالة قدره ، وقد نسب له شيء كثير ، لكثرة رواياته ، وقد يحتاج بعض ما نُسب إليه إلى تأنٍّ في الكشف والتمحيص قبل أن يُقضى بردّه ، غير أن هذه القصة بخاصة تحمل بنفسها تُهَم وضعها ، وكذلك النظم ، وليس هذا بخاف عن اللبيب ، بل عمّن يملك أدنى مقوّمات التفكير الحرّ .
وبعد : فإنه يصدق على هذه القصّة قول أستاذنا العلامة عمر فرّوخ – رحمه الله- :
إن مثل هذا الهذر السقيم لا يجوز أن يُروى ، ومن العقوق للأدب وللعلم وللفضيلة أن تؤلف الكتب لتذكر أمثال هذا النظم .
– وكل مهتم بالشعر ، ودارس لأدق دقائقه ، فإنه يكتشف أن القصيدة هذه كتبها الكاتب الملفق بطريقة مختلقة جدا ، بيّن فيها الاختلاق والكذب عروضيا ، فهو طبعا ملفق ، ولكن ملفق يفهم طبيعة التاريخ ، وطبيعة الرجل الذي يريد أن يلفق له هذه التفاهات ، قام بكتابة ما كتبه على بحر شعري عربي قديم يسمى الرجز ، والمشهور عن الأصمعي – رحمه الله- أنه كان من المهتمين بجمع الأراجيز العربية القديمة ؛ لأنه كان لغويا عظيما ، والأراجيز التي كتبها العرب كانت هي مجمع اللغة ، ومستقى كل لغوي ، ولكنه كان جاهلا بهذا البحر ، وسقط في أشياء ، لا يقع فيها أبسط دارس لعلم العروض العربي ، أبيات لا يستقيم فيها الوزن العروضي ، وهي على الشكل التالي ، كنموذج للدرس العروضي ، وتبيين سقم الأبيات ، وسوء فهمها :
والبيت الأول في هذه الثلاثة لا يستقيم عروضيا ، ولا علاج له .
والاثنان الأخريان موزونان على مجزوء الكامل ، وهو بحر مقارب للرجز .
وعلى كل حال هذه الأبيات يبين من ركاكتها و لغتها العامية العصر الذي كتبت فيه .
– القصيدة المذكورة هنا ركيكة جدا ، تدل لغتها على أنها كتبت في العصر العثماني ، وهو عصر الإتليدي ، الآنف الذكر ، وعصر تأليف كتب التجميع للنقول ، والمعتاد على قراءة كتب هذا العصر ، سيجد اللغة تكاد تكون واحدة .
– ورود الكثير من الكلمات ، التي لا تكاد تمت إلى العربية بأي صلة ، و لو بحثتم في أي قاموس أو معجم ، جامع للغة العربية ، مثل : لسان العرب لابن منظور الإفريقي ، أو الكتاب الموسوعي الجامع المانع تاج العروس ، للشيخ مرتضى الزبيدي ، لما وجدتم أثرا لمثل هذه الكلمات ، بالرغم من أن كلا الكتابين ، هما أجمع كتب اللغة ، ولا تكاد لفظة عربية لم ترد فيهما .
***
حكاية من خارج السياق (الاصمعي والشاعر):
قال الاصمعي : دعاني بعض العرب الكرام الي قِرى (طعام )فخرجت معه الي البرية : فاتوا بباطية وعليها السمن غارق فجلسنا للاكل واذا باعرابي ينسف الارض نسفا حتي جلس من غير نداء فجعل ياكل والسمن يسيل علي كراعه فقلت لأضحكن الحاضرين عليه :
كأنك أثلة في ارض هش      أتاها وابل من بعد رش
فلتفت الي بعين مبحلقة وقال : الكلام انثي والجواب ذكر . وأنت :
كأنك بعرة في است كبش        مدلاة وذاك الكبش يمشي
فقلت له : هل تعرف شيئا من الشعر أو ترويه ! فقال : كيف لا اقول الشعر وأنا أمه وأبوه ! فقلت له : ان عندي قافية تحتاج الي غطاء فقال هات ما عندك . فغطست في بحور الأشعار فما وجدت قافيه أصعب من الواو الساكنة المفتوحُ ما قبلها، فقلت :
قوم بنجد قد عهدناهم       سقاهم الله من النو
قلت : نو ! ماذا فقال :
نو تلألأ في دجى ليلة          حالكة مظلمة لو
فقلت له .لو ماذا ! فقال :
لو ســار فيها فارس لانثني      علي بســـاط الارض منطو
فقلت له . منطو ماذا !فقال :
منطو الكشح هضيم الحشا       كالباز ينقض من الجو
فقلت له . جو ماذا ! فقال :
جو السما والريح تعلو به       اشتم ريح الارض فاعلو
فقلت له ! فاعلو ماذا ! فقال :
فاعلو لما عيل من صبره       فصار نجوى القـوم ينعو
فقلت ينعو. ماذا ! فقال :
ينعو رجال للقنا شرعت       كفيت ما لاقوا وما يلقو !
قال فعلمت انه لاشيء بعد القنا : ولكن أردت أن اثقل عليه فقلت : ويلقوا ماذا ! فقال :
ان كنت ما تفهم ما قلته      فأنت عنـــدي رجل بو
فقلت له البو .ماذا ! فقال :
البو ســلخ قد حشي جلده     يا ألف قرنان تقوم أو…؟
فقلت له او ماذا ! فقال :
او اضرب الرأس بصوانة        تقول من ضربتها قو
فخفت ان اقول… قو ماذا ! فيضربني بالصوانه!!!.
فقلت له : أنت ضيفي الليلة ، فقال : لا يأبى الكرامة إلاّ لئيم ، فقلتُ لزوجتي : اصنعي لنا دجاجة ، ففعلتْ ، فأتيته بها وجئته أنا وزوجتي وابناي وابنتاي ، وقلتُ له : اقسم لنا يا بدوي .
فقال : الرأس للرئيس ، وأعطاني الرأس ، والولدان جناحان ، ولهما الجناحان ، والبنتان لها الرجلان ، والعجوز لها العجز ، وأنا زائر لي الزور ، وأكل الدجاجة ونحن ننظر إليه .
ولما جاء اليوم التالي قلت لزوجتي : اصنعي لنا خمس جاجات ، ففعلتْ ، واتيته بالدجاج وقلتُ له : اقسم يا بدوي ، فقال:
تريد شفعاً أو وتراً ؟
فقلتُ : إن الله وتر يحب الوتر . (يتمشيخ(
فقال : أنت وزوجتك ودجاجة ، وابناك ودجاجة ، وابنتاك ودجاجة ، وأنا ودجاجتان .
فقلتُ : لا أرضى بهذه القسمة .
فقال : لعلك تريدها شفعاً ؟
فقلتُ : نعم . (يتذاكي(
فقال : أنت وولداك ودجاجة ، وزوجتك وابنتاها ودجاجة ، وأنا وثلاث دجاجات ، ووالله لا أحول عن هذه القسمة.
قال الأصمعي :فغلبني الأعرابي مرتين : مرة في الشعر ومرة في قسمة الدجاج ، ثم انصرف.
هذه الحكاية تعد من المبارات الشعرية الصعبة ، وتبين مدى البحث الدائم لامام اللغة – الاصمعي – عن اللغة من افواه الاعراب ان صدقت الحكاية ام لا .
***
الخلاصة:
بعد ان تعرفنا على حياة الخليفة ابو جعفر المنصور والاصمعي ، وتعرفنا على قصيدة (صوت صفير البلبل) وما قدم لها من نقد ، نقول :
– ان الاصمعي لم يلتق الخليفة المنصور ، لهذا فالحكاية عند ذاك لا تستقيم ابدا بهذا الثنائي ، وذلك لان الخليفة المنصور قد ولي الخلافة  من سنة 136 هـ حتى 158هـ،  وولد الأصمعي سنة 121هـ ، فيما برز الاصمعي كعالم لغوي وعارف بالشعر مؤخرا.
– ان الاصمعي له رفقة مع الخليفة هارون الرشيد ، الذي تعرف عليه بوساطة حاجبه ( الفضل بن ربيع ) وليس مع ابي جعفر المنصور.
– ان حكاية القصيدة والتقاء الاصمعي بالخليفة لم تذكر الا في المصادر المتاخرة ، وهذا يجعلها حكاية قد تم تأليفها مؤخرا من قبل بعض القصاصين، او من قبل بعض الشعراء الفكهين.
– تبدو عليها صفات الضعف ، والركاكة، ان كان ذلك في الوزن، او الالفاظ ،و المعاني ، وفي النحو ايضا.
– تروى بعض صور الحكاية ان الاصمعي دخل على الخليفة وهو ملثم ، وهذا امر مخالف للاصول والاعراف عند الدخول على الخلفاء.
– تصور الحكاية الخليفة المنصور مبدد للمال ، علما انه كان يسمى بـ ( الدوانيقي ) وهو حريص على مال بيت المال.
– تصور الحكاية الخليفة وهو يحتال على الشعراء ، وهذا غير صحيح ، لان الخلفاء يجب ان يكونوا صادقين مع رعيتهم خاصة الشعراء ،لانهم صوت الدعاية العالي لهم.
كل هذه النقود وجهت للقصيدة وحكايتها ، لهذا نقول انها لم تكن للاصمعي ، بل من مؤلفات شاعر كتبها ليملأ ليالي سمرهم مسرة وسرور.
***
المصادر والمراجع :
– في الشعر الجاهلي – د. طه حسين – مستل من الانترنيت .
– مواقع على الانترنيت.
– الموسوعة العالمية للشعر العربي .
– سير أعلام النبلاء  .
– تهذيب التهذيب.
-العبرفي خبر من غير.
-وفيات الأعيان .
– إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس ، لمحمد دياب الإتليدي.
– تاريخ الأدب العربي – 1/23.
–  المجلة العربية – عدد ( 256 ) جمادى الآخرة هـ1419 ص 94.
– جريدة البيــان براءة الأصمعي من «صفير البلبل» -1-2.
– نسب قصيدة صوت صفير البلبل للأصمعي –   الدكتورأحمد سعد الدين أبو رحاب – موقع الحياة العمانية

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

تعليق واحد

  1. عبدالله

    شكرا أستاذي الكريم على نقدك وبحثك عن نسبة هذه القصيدة التي أشغلت الكبار والصغار ، وبيان حقيقتها .
    شكرا من الأعماق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *