حامد سرمك حسن : الذات في العمل الفني

hamed sarmakعلى الرغم من أن الإنتاج الفني هو نتاج شخصية الفنان ويحمل طابعه الذاتي من عواطف ومشاعر وخبرات شعورية، إلا إن الدور الذي تؤديه الذات ومكانتها في الأثر الفني ما زال مثار نقاش بين المختصين، ما بين متطرف لها، أي للذاتية(*1) ، أو عليها، أو من اتخذ موقفاً وسطاً بين هذين الموقفين. يتمسك المتحمسون للذاتية فـي الأثر الفني لتأييد دعواهم بأن الذاتية أو الفردية هي التي تميز الفن من العلم ، باعتبار أن العمل الفني ما هو إلا رجع أو صدى تفاعل الإنسان (الفنان) بتجربة معينة. ومن المؤكد أن ثمة تفاعل مباين وأثرا مختلفا فيما لو وقعت التجربة نفسها لإنسان آخر .
إن صدى التجربة لا يختلف بالنسبة لاختلاف الأفراد فقط، بل إن التجربة ذاتها لو عاشها شخصٌ بعينه في زمن أو ظرف آخر لكانت النتيجة مغايرة، فالأثر الناتج أو الاستجابة إنما تتحدد بوصفها نتاجاً لصفة علائقية تتآزر في تشييدها عناصر عدة وما بينها من علاقات مؤثرة.
لا يكون الأثر الفني إلا مطبوعاً بالطابع الخاص للفنان من مشاعر وانفعالات وعواطف تختلج في نفسه، ليخرج العمل من خلال نافذة المشاعر الشخصية للمبدع متسما بميسمها .إن الفنان،كما يقول “بيلينسكي”، لا يبدع العمل الفني ليفرغ شحنته التي انصهرت في وجدانه إلا بالمرور بقلبه .
ومما يعزز العنصر الذاتي في العمل الفني إن طبيعة الفن ذاتها تفرض هذا الأمر مادام الفن اختياراً وتمحيصاً واستجابة خاصة من قبل شخص معيـن يختلف عن الآخرين. ومثل هذا الأمر يمكن التدليل عليه حتى في مجال فن التصوير الفوتوغرافي، الذي مازال النقاش قائماً حول كونه من الفنون أم لا. فهذا الفن كثيراً ما تتحدد الفروقات بين آثاره من جهة الزاوية التي يتخذها المصور للقطته ومقدار الضوء والظلال وتحديد الأبعاد وعوامل أخرى  تمثل اختياراً لذاتية الفنان، وضرورية لإنجاز الصورة. أي على ((الفنان المصور أن يتخذ موقفاً ذاتياً ينبع من ذاته ومن إحساسه بالدرجة الأولى، وكأنه يعيد تركيب أجزاء صورته جنباً إلى جنب من جديد داخل “إطار” وكادر الصورة الفوتوغرافية)) (1).
والفنان إنما يعبر عما في دخيلته وان كان ما أثاره عوامل خارجية، ولكنها ما إن ولجت في داخل الفنان واستقرت واختمرت حتى اصطبغت بصبغته وأصبحـت جزءاً عضوياً من تجربته الشعورية التي هي ذاتها مادة التعبير، حيث من المفترض في الفن الحقيقي، أن تتأصل هذه المادة الشعورية في وجدان الفنان وتصبح عنصراً من عناصره ليتسنى لها أن تكون مادة لفنه، أي بمعنى أن الفنان هو نفسه مضمون فنه. وهي خاصية تميز الفن من غيره من الآثار العلمية والفلسفية، وهذا بالذات ما دعا “بيلنسكي” أن يطلق على هذه الخاصية بـ ((المضمون الشعري للعمل الفني)) وهو مما لا يتوفر في العلوم والصناعة.

بيلينسكي
بيلينسكي

يفترض من الطابع الذاتي للفنان أن يظهر في كل ما يعبر عنه من آثار حتى وان قل فيها جانب الانفعال والعاطفة. ففي مجال الأدب لا يقتصر الطابع الذاتي للأديب في الشعر الغنائي فقط، بل إن مفهوم الطابع الذاتي شيء أوسع من الغنائية والتغني بالمشاعر الخاصة، انه طريقة في الإحساس ومنهج في تناول الموضوع لا يقتصر على سمات السطح اللفظي فقط . وهذه السمة للطابع الذاتي الأصيل تحتم أن يكون بارزاً في كل ما ينتجه الأديب سواء أكان قصة أم رواية أم مقالة أم خاطرة أم ترجمة شخصية أم تاريخ أمة. إن العمل الفني وليد الفنان المبدع وحجة على شخصيته  وفي احد جوانبه إقرار على الذات ؛ لأن الفن نتاج ذات شاعرة حساسة لها القدرة على التعبير عما انطبع في حسها المرهف من الإشارات الكونية ، والفنان إذ يعبر عن ذاته ويستبطنها فإنما يقدم لنا معلومات عن حقيقة النفس البشرية والحياة وحقائقها.
وعلى الرغم مما سبق فان للبنيويين وجهة نظر مغايرة، حيث يرون انعدام الذاتية في الأثر الفني و((يخطروننا دوماً بأن المؤلف مات وان الخطاب الأدبي لا يحمل في داخله أية إشارة أو وظيفة لما يمكن أن نسميه بالحقيقة)) (2)، بل إن بعض النقاد يعلن أن المعتبر في الأثر الفني هو الطابع الذاتي للعصر والبيئة التي نشأ فيها الأثر وليس الطابع الذاتي للفنان، ويتخذون من هذه الميزة سبباً لتقييم الأعمال الفنية والبت بجماليتها. يقول بليخانوف (3) : إن كل نتاج أدبي هو التعبير عن عصره. فإن مضمونه وشكله يسببها ذوق ذلك العصر وعاداته وميوله. وكلما عظم شأن الكاتب، قويت وتوضحت تلك التبعية التي تخضع طابع نتاجه إلى طابع عصره، وبتعبير آخر، نقصت في نتاجه تلك الرواسب التي يمكن أن نسميها شخصية .
يحاول الجماليون في سعيهم لوضع الشروط الموضوعية لتقدير الجمال إلى فصل ذاتية الأديب عن الأثر الأدبي ذاته. وحسب آرائهم(4) فإنن العمل الأدبي يتحرك حركة ذاتية خاصة به لا حركة تابعة لذاتية صاحبه، وكأن حركته الذاتية مبدأ فوق الفرد، وكأنه سيـد في ذاته. ومادة العمل الفني لا توجد في تاريخ حياة الشاعر، بـل تنبع من العمل ذاته، فللعمل الفني شروطه الجمالية الموضوعية ومنظومة علاقاته التي تحتم على تجارب الفنان، وان كانت تمثل بعض عناصر الفن ، أن تتحول إلى مادة جديدة حين دخولها في سياقات العمل الفني تختلف عما كانت عليه من قبل. عموماً، فان الأدب عند الجماليين ليس تعبيراً عن الشخصية، بل تحرراً منها، وانعداماً لها، وكلما زاد انفصال الفنان عن ذاتيته كلما دل على قدرته أو مهارته الفنية، فالمقياس في نجاح العمل يكمن في عرض التجربة وفق شروط الشكل الجمالي مما يحتم على الكاتب إتباع قدرته التكنيكية لفصل نفسه عن مادته، لتمكين الإحساس الانتقال مـن محيط الذاتية إلى محيط الموضوعية، وتجعل الأدب خلقاً فنياً، لا تعبيراً عـن الذات. هكذا نجد ان العمل الفني ذاته وما فيه من قدرات فنية هي أساس الحكم عند الجماليين ولا يأبهون بالأديب الذي يدور في فلك ذاتيته، وان كـان على درجة رفيعة من الفكر والأحاسيس ومن عمق وجدة، وفي هذا المنحى يؤكد”ت.س. إليوت” العالم الخاص للعمل الأدبي وانه قائم بذاته ومنفصل عن مؤلفه .

بليخانوف
بليخانوف

والجماليون بإنكارهم الطابع الذاتي في العمل الفني لا يدعون عدم جدوى الإحساس الذاتي في إنتاج الأثر، ولكنهم يحتّمون انتقال الإحساس من الذاتية إلى الموضوعية كي يتحقق الخلق الفني الجمالي، ((لأن القصيدة كالصورة، ليس المفروض أن نرى فيها ملامح الرسام واختلاجات نفسه، بل تثير في النفس إحساساً معيناً يريد الفنان إثارته))(5).
ونرى أن كلا الطرفين، سواء منهم الداعين إلى الذاتية أو الذين يرفضونها قد نظروا إلى طبيعة الفن كل من زاوية نظر معينة تختلف في موقعها عن الآخر، لذا لا نجد  ثمة اختلاف حقيقي بينهم، لأنهم في حقيقة الأمر، يتكلمون عن شيئين متغايرين وليس عن شيء واحد. فالمهم في الفن هو التعريف الجمالي للتجربة لغرض الكشف عن الحقيقة. والشروط الجمالية تفترض الذاتية والموضوعية في آن معاً. والعملية الإبداعية تتكون من عناصر تتصل بالأثر الفني والمبدع والمتلقي وهذا لا يمنع من وجود عامل رابع متمثلاً بالواقع الخارجي الذي يستقي منه المبدع تجاربه، وعلى ضوء مكوناته الحسية يسعى الفنان إلى تأليف صورة تعد نتاج التزاوج الحاصل بين فرادة العالم الداخلي للفنان وبين الواقع. فالفنان في أصل خلقه الفني يتخذ موقعاً وسطاً تمر من خلاله الظواهر الخارجية بصورتها المدركة من قبله، وتنضج في داخله بوصفها تجربة شعورية حية تخرج في صيغة عمل فني .
لا يكتمل العمل الفني إلا بافتراض مسبق عند الفنان بوجود الآخر “المتلقي” والذي ينبغي أن يوصل إليه رسالته مع ضمان فهمها من قبله. والأدب بوجود المتلقي، يجب أن يتحقق فيه، إلى جانب التعبير، شيء آخر، هو ضمان  تقبـل الآخر ،المتلقي ، هذا الشيء المعبر عنه. هذا التقبل ناجم عن وجود المتلقي الذي لابد أن يتوجه إليه الأثر الفني ليبلغه تجربة الفنان أو حقيقة العمل المتمثلة بالتجربة الحية المتكاملة ،فليس بأدب حقيقي ما لم يحقق تفاعلا مع المتلقي ويوصل له شيئا وان ترجم ما في نفس المؤلف. لذا يمكننا القول مع “اسل كرومبي”(6) إن الأدب يؤدي الأشياء كما أنه يعبر عنها.
يحاول “كرومبي” وضع حل وسط لمسألة الذاتية والموضوعية في العمل الفني بالتأليف بينهما من خلال المصطلحين الذين يدعو  إليهما  لغرض فهم التجربة الأدبية، وهما صفتا الأدب المتمثلتان في التعبير والأداء. فيعمد إلى تسويغ فكرته هذه، بأنه إذا نظرنا إلى الأدب من جهة كونه وسيلة للتعبير فهذا يرينـا العنصر الذاتي Subjective في الأدب، لأن الأديب يعبر عما يعتمل في دخيلته من عواطف وأفكار ومشاعر، وهذا ينتهي بنا إلى مذهب “الرومانتزم”، الذي يهتم كثيراً بما يحسه الشاعر، ولكن في حالة نظرنا إلى الأدب بوصفه أداء لشيء إلى القارئ، فستبرر الناحية الموضوعية Objective للأدب، مما يفضي في النهاية إلى المذهب الواقعي Realism .
إن الفن، في حقيقته، ميدان رحب للذاتية والموضوعية، فكلا الأمرين التعبير والأداء على حدة لا يؤدي إلى فهم طبيعة العمل الفني بالشكل الصحيح، لهذا يتوجب الأخذ بهما معا لفهم الطبيعة الأدبية. وقد وجد “كرومبي” الحل في لفظ  التوصيل Communication؛  إذ أن الأدب لابد له أن يكون صلة تنبع من طبيعته بفعل عامل القصدية الذي يكمن وراء العملية الإبداعية ، فحيث لا تكون صلة لا يكون أدب . وهكذا يتحقق في هذا الفهم عنصرا الأدب، أي الذاتية والموضوعية، التعبير والأداء. فالأداء وحده بدون التعبير من الممكن أن يكون متحققاً في الكتابات العلمية والفلسفية وغيرها، وكذلك التعبير بدون أن يؤدي شيئاً للقارئ، لا يعتبر أدباً.

هوامش :
(*1) أي أن يتخلى عن الأسلوب البياني والإيحائية ويجنح إلى الوعظية والتقريرية والمباشرة والعرض المنطقي بدلاً من أن يعرض أفكاره بصيغة تجارب حية مستقاة من صور الحياة.
(1) ينظر: الجمالية؛ موسوعة المصطلح النقدي: ص25.
(*1) ذات Essence “فنّياً”: تجلّي الذات هو اكتمال الخصائص الإنسانية العامة والفردية في الفنان أو الأديب، وبروزها بوضوح وتعبير متميز ـمن خلال الآثار التي يبدعها. ولا يتحقق الأمر إلا بالغوص على الأعماق، واكتشاف ما فيها من كنوز عبقرية، وعرضها فنيّاً. ((المعجم الأدبي: ص116)).
(2)   جماليات الفنون- د. جمال عيد – الموسوعة الصغيرة “69” – دار الجاحظ للنشر، بغداد – 1980، د.ط. : ص88
(3) نظرية النقد الأدبي:  ص26.
(4) الجمالية الماركسية- هنري أرفون- ترجمة: جهاد نعمان- منشورات عويدات، بيروت، لبنان- ط1، 1975: ص19.
(5) ينظر:الجمالية والواقعية في نقدنا الأدبي الحديث- عصام محمد الشنطي- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1، 1979: ص 21 ـ 23.
(6) الجمالية والواقعية: ص ص23-24.
( ) ينظر: قواعد النقد الأدبي: ص ص16 ـ 18 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *