في هذا النص يرينا حجازي مأساة ملك مخلوع . قد ثار الشعب عليه . اصبح صديق الشوارع يجول بها كما يشاء .. لا احد يعيره اهتماما ما .. في لحظة نسيت هذه المدينة اميرها البهي .. مليكها ذو التاج المرصع بالياقوت واللؤلؤ والزمرد .. اصبح يناشد هرة بل يتوسل اليها لكي تمضي معه وترى مجده .. انها اقسى حالات اليأس والفشل . وللنص تأويلان ؛ اولاهما ان حجازي يسخر من الامير ويسخر من مجده الذي يتباهى به وانه آيل الى الزوال في اي لحظة شاءت ارادة المدينة ذلك . والتأويل الثاني هو ان هذا الأمير ما هو الا حجازي نفسه وقد طرد من مدينة الشعراء ومن مدينته . وفي التأولين نفس مأساة النبذ والاقصاء والشعور بالهجر والفقدان . وصار بين ليلة وضحاها شريد الطرقات … ضائع الخطوات .. يسير في طريقه بلا هدى .. ونحن نرجح التأويل الثاني لا لشيء الا لأن حجازي له معاناة مع المدينة ومعاناة قاسية رأينا بعض ملامحها في قراءتنا السابقة لبعض من منجزه الشعري وليس من المبالغة اذا قلنا ان مأساة حجازي كلها تتمحور حول علاقته بمدينته سواء مدينته
المحددة في ذهنه ام العالم الذي يعيش بين جنباته … يقول حجازي في قصيدته هذه :-
أقفرت الآن شوارع المدينة
وانفض ّ عنك الناس ّ أيها الأمير
فاحمل بقاياك الثمينة
واحمل تماثيل الأميرة السجينة
واذهب .. فقد جاء ترامنا الأخير !
(الديوان ، ص 291)
**********************
صوت جمعي مجهول تسلل الى مسامع أميرنا المخلوع . وقد يكون الصوت صادرا من اغوار اللاشعور كدالة على التوبيخ واللوم الموجه نحو الذات :-
– كفاك تمادي في غيك يا هذا .. الناس ملوا من خطابك هذا .. قم وارحل واحمل معك بضاعتك !! .
***************
المهم في هذا الصوت هو هذا الخطاب الذي يفيد برحيل الامير من إمارته . الدعوة موجه اليه بحمل ما يملك . ما يملك لم يعد رائجا للجمهور الذي جاءه الترام الاخير لمدينة الامير هذه . يا لها من ساعة حزينة تلك التي تقرر الجماعة اقصاء شخص ما من حضورها .. الاقصاء بحد ذاته مأساة ما بعدها من مأساة . والجمع هنا كان رحيما وشفوقا بالامير فسمح له ان يأخذ ويحمل ممتلكاته ؛ خصوصا تماثيل أميرته الجميلة . ان هذه التماثيل تعد بمثابة ذكريات لهذه الامير في قصر الامارة . ولهذا هي جزء من سعادات هذا الامير .. لم يعاقب الشعب أميره لظلمه أو جوره أو طغيانه .. لكنه تركه طليقا في الشارع ليشعر بمرارة الاقصاء والالام النبذ والطرد والخلع والتجريد من عرشه الملكي .. في المقطع الثاني نرى هذا الامير يلقي اللوم على غيره وكأنه بريء مما حدث . هاهو يعيش لحظات الاجترار تلك :-
وجهي لم يعد شبيها بأبي
صرت عجوزا ، وهو بعد في شبابه المقيم
تقول لي رسومه ، حين سقطت فوقها ،
فارتطمت وجوهها ، واتخذت من زوايا مضحكة
تقول لي ، وهي تجيل أعينا ً باسمة ً ،
في وجهي الباكي
أنت الذي أضعت تاج المملكة
يا أيها الشيخ العقيم !
(الديوان ، ص 292)
*********************
في هذا المقطع استذكار لعبارة والدة الخليفة الصغير ابو عبدالله عندما غادر مدينة غرناطة وقصرها بعدما طرده الاسبان وهو يبكي ” ابك مثل النساء ملكا مضاعا .. لم تحافظ عليه مثل الرجال ” في سقوط غرناطة وقصرها الاحمر .. والامير الصغير يتماهى مع الخليفة المخلوع . وربما تكون الصورة رسالة الشاعر الى ابيه بانه قد اضاع لؤلؤة الشعر وباعها في سوق الفحامين . يالها من بيعة وخسارة .. الامير يتجول حرا في ازقة مدينته .. لن يعترض عليه احد .. لا مخبر سري .. لا حارس ليلي .. لا شرطي يبحث عن هويات التائهين . في هذه الوحدة القاتلة سيلجأ الانسان الى شيئين اما الى الذات ليناجيها ويرثيها وإما إلى حيوان لايتكلم ليصب له شكواه وهمومه . الولع بالحيوانات ناتج من هذه العزلة النفسية الشديدة وهي تبدأ بواكيرها منذ المراحل العمرية الاولى حتى تتخذ صورة مرضية شاذة قد تصل بما يسمى العشق العشق الحيواني Zoophilia حتى شكلها المرضي وهو جماع الحيوانات . ترى كيف صور شاعرنا هذا النكوص النفسي عندما وجد نفسه وحيدا في شوارع المدينة . ها هو يقول :-
لا تسخري من منظري أيتها الهرة
لو تصحبينني …
ترين مجدي ، وترين صورتي
وتشربين قهوتي المرة
(الديوان ، ص 292- 293)
**********************
في هذا المقطع الصغير نجد انسحابا من العالم الانساني برمته وفي الوقت نفسه نجد تواصلا مع العالم الحيواني .. عله ان يجد من يسمع اننينه وشكواه . فكانت الهرة .. يقول الباحث اللبناني عن رمزية الهرة او القط ما يلي :-” تتأرجح رمزية القط بين النزعات الخيرة والشريرة ، ويجري تقريب رمز القط من رمز الحية . وكانت مصر القديمة تكرّم الآلهة باستيت ، في صورة قطة إلهية ، تحسن إلى الانسان وتحميه . هناك أعمال فنية تصوّر القط وفي مخلبه سكّين يقطع بها رأس الحية أبو فيس ، تنين الدياجي . يشبّه القط بالاسد ، وهو يمنح البركة للانسان ، اللهم إلا إذا كان أسود ، فعندها يكون طالع شؤم ، فالقط الأسود يملك مزايا سحرية ، ولا سبيل للتخلص من سحره إلا بقتله ورمي لحمه للكواسر . للقط سبعة أرواح ، والجن يظهر في صورة قط ، حسب الاعتقادات السائدة في المجتمعات العربية – الاسلامية . في كل حال ، يرمز القط الأسود إلى الظلمة والموت ” (1) . لقد سخر الناس من الامير المخلوع .. اعني حجازي . ورأينا انه لجأ إلى عالم الحيوانات . وهاهو هذا العالم يسخر منه ايضا . السخرية صارت علامة فارقة له . منظره – على حد تعبير الشاعر الشاعر حرفيا – اصبح مدعاة للسخرية . فلا عجب إذن من أن نرى تلك الهرة الشريدة تسخره منه ايضا . ياللمفارقة الكبرى .تصورا هرة تسخر من أمير هو قلائده ودرعه وسيفه .. اصبحت قلائده مثل قلائد راقصة او بهلوان يثير سخرية الناس ويضحكهم وهو في الداخل يبكي بكاءا مرا . يستوقف الامير تلك الهرة وتصيبه الدهشة عندما يكتشف انها لا تبالي به كسابق عهدها .. فبدلا من ان يأمرها ..صار يرجوها ويتوسل اليها لتصاحبه وترافقه .. لن احمل مفردة المصاحبة اي دلالة جنسية ما .. حتى لا اقع في دائرة سوء التأويل .. بل اعتبرها حالة من حالات الاستعراضية التي يقوم بها الامير لأعادة امجاده التي فقدها على حين غرة .. لا ادري باي لغة تكلم حجازي مع هرته هذه ؟؟!! . المهم هو انه حاول التواصل معها .. واغراها لصحبته ان صحت العبارة .. لقد وعدها بأن يريها مجده وترى صوره ومن ثم تشرب معه قهوته المرة . ما دلالة ذلك ؟ نميل الى الظن الى انه اراد كائنا من كان يواسيه لمأساته . ولا ادري ايضا لماذا وقع اختياره على هرة دون غيرها من الحيوانت التي ترافق الانسان معيشته في بيته ؟. هل هذا يعني ان حجازي كان مولعا بالقطط ؟ نحن نعرف ان الاثرياء عندما يكونون في عزلة من جراء الثراء يتخذون من الكلب والقطة والطيور اصدقاء لهم من دون الناس .. هل حجازي هنا يصور حياة هؤلاء فحسب ؟ ام انه فعلا يهوى مصاحبة القطط ؟ المهم في كل هذا هو انه اراد من هرته ان تشرب قهوته المرة لتعبير عن مشاطرتها لأحزانه وكوارثه .. في المقطع التالي يحاول حجازي القبول بالامر الواقع واعتبر نفسه واحدا من العامة فدخل رحاب الشعب . لنرى كيف يصف لنا هذا الدخول . يقول حجازي :-
حين نزلت أشهد الميناء ، أغرتني النساء
وعدت .. لم ألق َ السفينة
وهكذا … اصبحت من أبناء هذه المدينة
(الديوان ، ص 293)
************************
اصبح الامير غفلا .. شخصا بلا تيجان ولا صولجان ولا حاشية تمشي وراءه .. اصبح شخصا بلا هوية سوى هويته الانسانية لا غير . هنا حجازي يلجأ الى ما يمكن تسميته بالنرجسية الاستعراضية . لم يغو ِ النساء بل النساء هن غرته . وبالفعل توجه نحوهن لتلبية تلك النرجسية فلم يجد تلك السفينة المحملة بالنساء .. لقد غادرت السفينة هي ونسائها . وبقي أميرنا وحيدا في الميناء .. وهكذا اصبح واحدا من ابناء هذه المدينة . كيف كانت ليلته الاولى وهو قد فقد إمارته واصبح مخلوعا . هذا ما نجده في المقطع التالي من القصيدة ، حيث يقول :-
كان القمر
ليلتها في الماء يقطف الزهر
وكانت المدينة
تبدو على البعد كئيبة حزينة
وحين رنّق السكون ، وارتمى على الشجر
غنيّت يا حبيبتي
تململ الحزن بصدري مثلما ،
تستيقظ الذكرى على دفق المطر
ثم مشى مثّاقل الخطو كما ،
’تولد أول الدموع في مآقينا الضنينة
ثم رأيته أمامي واقفا يبكي على مرمى حجر
مستندا ً برأسه للخلف ، ماسحا ً جبينه
مكلالا بالشوك ؛ باسطا يمينه
وقال لي …
هذا طريقي ، فلنواصل السفر
ولا تقيم في مدينة
حينئذ أصابني الخوف ، قلم أقو على رد النظر
بينا مضى عني ، وغاب في السكينة !
(الديوان ، 293 – 294)
*********************************
تلك إذن هي أجواء المدينة التي دخل ازقتها أميرنا المخلوع او شاعرنا المهمش إن صح التأويل .. في المدينة ، كما في معظم نصوص حجازي الاخرى ، تعيش حالة من الكآبة المزمنة .. الطويلة الامد .. الباعثة على الملل .. العائمة على الضجر .. الناس فيها نائمون … غائطين في سبات منذ أزمنة عتيقة .. مغمويرن في اليأس .. لا يحركهم ساكن .. هاهو امير هذه المدينة اصبح واحد من هؤلاء .. يتجول فيها من دون ان يثير انتباه احد ما .. يستجدي اي التفاتة .. اي ابتسامة .. حتى ولو كانت صفراء او تقف وراء نية سخرية ما . المهم هو ان يشعر هذا الامير بانه لا يزال اميرا وان إمارته قائمة لم يطاولها الزمان بعد . الا انه لم يجد احد من هؤلاء .. ومن فرط الضجر راح يتلمس ذلك العزاء النفسي مع عالم الحيوان ؛ فعثر على ما عثر .. هرة هائمة مثله توقظ نيام المدينة بموائها التوسلي طالبة من احدهم بقايا عظام تركها سكان المدينة .. ووجدنا أميرنا المخلوع هذا كأنه وجد ضالته فيها .. اعني في هذه الهرة .. ومن قرط سعادته دعاها الى الدخول في عوالمه الضائعة … المفقودة .. دعاها لاحتساء قهوته المرة وكان الدافع من وراء هذه الدعوة ، كما قلنا ، هي مشاطرته احزانه والتعاطف معه .. في هذه الاجواء المفعمة بالخواء النفسي التقى الامير المخلوع بشخص هائم مثله يبحث عن ملكوته الضائع .. ورأى الامير واقفا يبكي كما بكى الخليفة الاندلسي المخلوع ورأسه بدلا من ان يكون مكللا باكاليل الغار والزيتون كان مكللا بالشوك مثل المسيح عندما أهين من اليهود لأنه قال ” انه ملوك اليهود ” .. هنا لقاء الشاعر المهمش بالامير المخلوع .. اليسا متشابهين بالهوية والعلامة الفارقة لكل منهما .. التهميش والخلع .. كلا المفردتين تدلان على الاقصاء والابعاد .. هل يمكن القول ان حجازي رسم شخصية الامير المخلوع لكي يتماهى معه في صفته هذه ؟ وبالتالي ليس الامير هنا غير حجازي نفسه واقد ابعد من حظيرة الشعراء .. اتفقا الاثنان على ان مسارهما طويل .. طويل جدا .. واصى احدهم للاخر ان يغادر المدينة .. هذه المدينة لم تعد جديرة بالعيش .. انها ليست غير ركام متناثر هنا وهناك .. الامير طريقه طويل حتى يستطيع ان يعيد مملكته بعزها وجبروتها .. وشاعرنا هو الاخر طريقه طويل حتى حتى يطرق مسامع المدينة بكلماته وشعره وليس بأبواقه وطبوله الجوفاء .. إذن هو لقاء مع الذات .. حوار الانسان وظله .. حوار مع الخيال الذي يراه سكان المدينة المكفوفين .. في المقطع التالي سنجد دفاعا للامير المخلوع عن نفسه .. ترى ما هو ذلك الدقاع . يقول حجازي :-
استمعوا لي فأنا لست ببائع ، ولكني أمير
مملكتي من ألف عام ، عرشها في أسرتي
أنهارها خمرة
وأرضها خضرة
لو تصحبونني لها ، أقطعكم سهولها
ونبتني على تلالها المدائن الحرة !
(الديوان ، ص 295)
*********************
ها هنا يتحول حجازي ، دون وعيه على الاغلب ، من امير مخلوع الى مبشر ومخلص وهادي !!. انه هتاف إلى المدينة .. لقد خلع لكي يتوج من جديد . بل نسي انه امير مخلوع وتناهى الى سمعه انه مخلص مهمل او مهمش او غير معروف . ولذلك كان ندائه هذا الى جمهور هذه المدينة البائسة . انه صاحب يوتوبيا او صاحب المدينة الفاضلة موضوع الاحلام والرغبات والامنيات للفقراء والمساكين والشاردين والصعاليك . انهار من خمر وعسل ولبن اليست هي وعود يهوه الى العبرانينن في ارض الميعاد ؟؟ . ماذا يريد الجياع والعطاشى اكثر من هذا ؟ . انه يريد قيادتهم الى حيث المدائن الحرة .. في المقطع التالي تعود الى ذاكرة حجازي صورته كشاعر ولكنه في الوقت ذاته يتهم كلماته بالعقم واللاجدوى . ها هو يقول :-
ماذا اصاب الكلمات ؟ لم تعد نهزنا
ولم تعد تسرقنا من يومنا
تثير فينا العطف .. قد
وقد تثير السخرية
لكنها .. تموت تحت الاغطية
(الديوان ، ص 295)
**********************
سوف ينسى او بتعبير ادق يتناسى حجازي الامارة والياقوت والزمرد وسائر الاحجار الكريمة التي يزخر بها العرش الملكي .. وسوف ينسى كونه اميرا خلعه الشعب وسوف لايرى في الوجود غير اللغة او لغة الشعر لكي يصب جام غضبه عليها . الشعر اصبح شيئا سقط من عليائه النوراني . لم يعد سرا من اسرار شياطين الشعر وجوهر من جواهرها . اصبخ امرا يثير السخرية . لقد ماتت الكلمات في قعر دائرها ولم تعد تحرك المشاعر والانفعالات ولا تشحذ الهمة ولا تحرك ساكن . لقد ماتت تحت الاغطية .. اغطية الكذب والرتابة والنمطية ان لم تك الضحالة او السطحية في معانيها ودلالاتها . لقد اصبحت جوفاء .. فارغة .. لا تترك وراءها اثرا في وعي الناس وانفعالهم . لقد اصبح باردة .. هشة .. بلا معنى .. من هنا ازادرائه من عري الكلمات وتفاهتها .. حتى كلماته نفسها .. في المقطع الثاني نشوة الاجترار ستعاود تأثيرها على شاعرنا . ولكن هذه المرة مختلطة بأوهام الامارة المخلوعة والشاعرية الفاقدة الحضور . وسوف ينبش الشاعر تاريخه ليتكأ على امجاد وبطولات ومآثر لم تعد ذات حضور في ايامه ولذلك ومع هذا التباهي يعلن سخطه وحزنه عليها لتكون مباحة ومشاعة في المزاد العلني لمن يشتري . يقول حجازي :-
هذا ردائي الحرير
ما زال لامع السواد ، عاطر السترة
أهداه لي في سالف الزمان جدي الكبير
وقال لي .. هذا شعار المجد والقدرة
سر تحته في ليلة الهجرة
واستوحه الايماء والنبرة
والق َ به المحبوب في الليل الأخير
لكنني ياأيها الجمع الخفير
أصبحت .. لا ملك ، و لا أسرة
ولم تعد بي حاجة الى الرداء
فهل هنا من يشتريه
يأخذه .. في آخر السهرة !
(المرجع نفسه ، ص 296)
*******************
هنا لحظة الافلاس الكامل واليأس التام .. الرداء هنا رمز للامجاد التي ورثها الشاعر من اسلافه !! . سواءا من القيم التي تراكمت عبر تاريخه الاسري ام شاعريته التي ورثها من ذلك التاريخ . الامرين مدعاة للافتخار والزهو . على اصعيد النفسي الصرف يمثل الرداء تثبيتا على مراحل من السلوك كانت ذات مصدر للاشباع عند الشاعر وكانت بمثابة عكازه التي استند عليها لمواجهة ضعوط الحياة ومصاعبها . ولكن يالاسف فان هذا الرداء لم يك كما كان الشاعر يتمنى . فلم يك مصدر حماية او امن بالنسبة له . من هنا إفلاسه ويأسه من قيمة ذلك الرداء ومن كل رمزياته . ولكن خجازي وصل الى تلك النهاية المؤلمة عند مرافقته وتمسكه بذالك الرداء . فالرداء بهذا المعنى كان يمثابة شؤوم له . لقد اضاع الملك والامجاد واضاع كل شيئ حتى وصل به الحال انه لا يملك اسرة اسوة بغيره من الناس البسطاء .. منهنا هذا الاعلان الذي اعلنه للجمع المحتشد امامه . وكأني به في مشهد مزاد علني يباع فيه ما قد عفا عليه الزمن . ها هو الرداء اصبح موضوعا للرثاء والحزن . واصبح الامير او الشاعر هو ذلك السمسار الذي يروج لبضاعته او لردائه العتيق .. ترى كيف انتهى الامر بالشاعر الامير في ليلته تلك ؟ هاذا ما يخبرنا به الشاعر في المقطع التالي حيث يقول :-
أقفرت الآن شوارع المدينة
وانفض ّ عنك الناس ايها الأمير
فأحمل بقاياك الثمينة
واحمل تماثيل الأميرة السجينة
واذهب .. فقد جاء ترامنا الأخير
(الديوان ، ص 297)
************************
بعد هذا الاستعراض المأساوي لممتلكات الذات ومفاخرها مقرونا بافلاس ومصحوبا بشكوى من انه اصبح وحيدا صفر اليدين .. لامال .. لازوجة .. لا أولاد غير معطفه اليتيم هذا الذي عرضه في شبه مزاد علني ، إن لم يك كذلك ، يتوجه الامير المخلوع .. اعني حجازي ببصره مرة أخرى الى سماء مدينته بعدما غادر جمهور الحاضرين مودعا بلعنات وبانه اصبح عديم الفائدة فأعطي خيارات منها الرحيل هو ومن معه وما يمتلكه من اشياء !! . لقد اصبح الان مطرودا إذن وليس فقط مخلوعا . توجه الامير ببصره نحو مدينته ولقد لفه الاسى والحزن واذيال الفشل وما يتبعها من مشاعر خفض قيمة الذات . ترى كيف رأى اميرنا المخلوع سماء مدينته وهو يغادرها او يجبر على ذلك إذا شئنا الدقة . يقول الشاعر في المقطع التالي :-
أقفرت الآن شوارع المدينة
وانفضّ عنك الناس أيها الأمير
فاحمل بقاياك الثمينة
واحمل تماثيل الاميرة السجينة
واذهب .. فقد جاء ترامنا الأخير
(الديوان ، ص 297)
*************************
إذن هذا هو قرار الحضور .. جمهور الشاعر .. شعب الامير .. سكان المدينة .. مدينة حجازي .. لقد وصفها الشاعر بالقسوة .. وهو تعبير صريح لمعاداتها له ولرفضها لخطابه . انه معها على طرفي نقيض .. لقد اصبح لها الند وهي الند الاخر .. لحظات لا يمكن تجاهلها ، على الصعيد النفسي .. ترى كيف سيصف لنا شاعرنا مظاهر تلك القسوة .. اعني قسوة مدينته عليه . هذا ما يخبرنا المقطع التالي من القصيدة . يقول حجازي :-
شمسك يا مدينتي قاسية على ّ وحدي
تتبعني أنى ذهبت
تأكل ثوبي ، وتعري سوأتي
أهرب منها أين يا مدينتي
وهي تنام تحت جلدي !
لا الليل يحميني ، ولا ستائر الحجرة
من هذه الشمس اللعينة
ومن يد ٍ تقبض صدري .. يا ترى هو الأسى
فكيف لا ينزل دمعي ؟ يا ترى هي الضغينة ؟
فكيف لا أقتل نفسي ؟
أنها العورة
(الديوان ، ص 297- 298 )
*************************
اليست هذه العبارات دالة للشكوى من الزمان ويمكن ان تندرج تحت ما يسمى بعصاب القدر ؟ . حجازي يعيش ، هنا ، الوقوع في قبضة القدر . لا يدري حجازي الى اين يهرب ولا الى اين يتجه للخلاص من هذه المحنة . لقد ضاق ذرعا بالزمان الى درجة ان دمعه انحبس في مقلتيه . هذه حالة نجدها لدى مرضى الاكتئاب عندما تنحبس عندهم مفاتيح الدمع نتيجة للحزن والاسى المفرطين . حجازي ايضا يعيش تحت وطأة مشاعر المؤامرة الكونية عليه . قوى الكون كلها متأمرة عليه . انها تكرهه .. تحقد عليه .. تبغضه .. لا ليشء الا لكونه شاعر مبدع . هذا هو جذور الضغينة لدى الآخر . شعوره .. اعني هذا الاخر .. بأن حجازي متفوق عليه .. وافضل منه . هذه المؤامرة هي التي ادت الة ظهور ميول انتحارية جليه وواضحة لا تقبل الشك لديه . الاعتراف صريح إذن . وجوده بهذا المعنى اصبح بمثابة العورة التي تثير فينا مشاعر الخجل والخطيئة والذنب وما ينتج عنها من آثار على مجمل تركيب الشخصية . لا نريد الدخول في تفاصيل مفردة العورة لأنها واضحة لا تحتاج الى لوي عنق النص . النص مكتض بالشعور بالدونية وخفض قيمة الذات وينبغى ان لا نفهمها بحرفيتها المتعارف عليه .. في المقطع التالي سيلتفت الشاعر .. الامير المخلوع الى حبيبته التي لا يعرف مصيرها وماذا حل بها الدهر . انه .. اعني المقطع بث لشكوى .. اجترار لإحلام كانت تعيش في مخيلة الشاعر وتحركه نحو الامام . ترى ماذا حدث له بعد هذه الصور الجميلة .. البراقة عن مستقبله .. مستقبلهما مع المدينة . يقول حجازي :-
ماذا أقول يا أميرتي السجينة
عن عمري الذي يضيع من يدي
بدون أن أعرف موعد الرجوع
لا بد أنك انتحرت ِ ،
أو هرمت في السردايب الحصينة
وشاخ وجهك الوديع
(الديوان ، ص 298)
*******************
ذلك إذن هو مستقبلها . انه مستقبل يلفه الغموض وغارق في المجهول .. بينهما مسافة لا يمكن عبورها . والشاعر تكتنفه الحيرة والتساؤل حول مصير تلك الاحلام الجميلة التي كانت بمثابة قسم وعهد بينه وبين حبيبته . انه القدر ايضا هو الذي يلاحق شاعرنا انى ذهب . لقد أضاع عمره وها هو ’يضيع حبيته مع ذلك العمر . ماذا بقي له ولمن يحمل السيف إذن ؟؟ هذا ما يجيبنا المقطع التالي :-
من أجل ماذا أحمل السيف اذن ؟
يا أيها الحداد خذه ، وأعطني نصف الثمن !
(الديوان ، ص 299)
*********************
هنا ذروة اليأس ومنتهى القنوط لديه . رائحة التشاؤم تفوح من الشاعر ومن احاسيسه ومن توجهاته نحو الحياة . لقد عرض معطفه في المزاد العلني ولم يحصل حتى ولا شيئ يذكر من قيمته وثمنه . ترك المعطف ليلتف ويتكوم حول نفسه وانطلق يجوب شوارع المدينة حاملا سيفه .. الامل الاخير لديه . واكتشف الشاعر ان حبيبته قد اضاعتها الايام فلا يدري اين هي الآن . لم يبق معه الا هذا السيف الذي يكسوه صدأ قديم . ما نفعه إذن وقد خسر كل شيء . لن يستلم هذا السيف غير الحداد الذي صنعه . قد يصهره ويغير جنسه . ما عاد السيف ذو نفع للشاعر وللحداد معا . هنا هيمنة اليأس على الشاعر وعلى العقل الجمعي من حوله . سيصف حجازي موقف الحداد وتوجهاته ومشاعره نحوه .. اعني نحو الشاعر وهو يبيع سيفه الذي كان يحمل معه ومن خلاله كل اماله . لنرى تلك المشاعر والاتجاهات التي ابداها ذلك الحداد الذي يرمز الى الشغيلة .. عامة الشعب .. العقل برمته . يقول المقطع :-
كان على الفطرة
يبكي بغمده على الحق المضاع
حتى إذا جردته تجهم التماعه ،
واربدت النظره
وشد .. منزوع القناع
وانقض .. موتور الذراع
محتدم الشفرة
حتى إذا شاهدني ،
أفر ذلك المساء خائفا من شبحي
أصيب َ بالحسرة
أنكرني .. فلم يعد يسمعني ، ولم يعد يصبحني
وليلة ، فليلة .. رث الشعار الملكي فوق نصله وضاع
وها هو الآن يذوب قطرة .. قطرة
يصبح سكينا للص ، أو دليلا في مداخل المدن
(الديوان ، ص 299 – 300)
********************
الحداد ، هنا كما قلنا ، رمز الشغيلة … رمز الجماهير المسحوقة .. رمز الشعب الرازح تحت وطأة الامير الطاغي .. المستبد .. الذي بيده النار والحديد .. هذا الحداد كان ينتظر خلاصا .. وكان ، على ما يبدو ، قد وضع ثقته .. أمله .. رجائه في شاعرنا هذا الذي صنع له السيف الحديدي . ها هو صاحب هذا السيف يبدد تلك الامال .. يسرق من عينيه علامات الترقب والرجاء . وها هو يعلن افلاسه ويسلم له الراية .. انتهت مهمته .. لقد اخفق في ادائها .. فشل في اكمال المسيرة .. غرق في اليأس والضياع . الحداد سوف يستلم الراية ويكون سكينا للص او دليلا اعني حارسا لمداخل المدن .. بينما شاعرنا .. اميرنا كانت صورته عن ذاته ومسيرته صورة سلبية ودونية وبكل ما تحمله هاتين المفردتين من معنى .. لنتعرف إذن على معالم تلك الصورة عن الذات لدى شاعرنا المطرود خارج اسوار المدينة .. يقول حجازي :-
عار ٍ أنا .. ليس كما ولدت …لا
بل مثل جثة ٍ تنوشها الصقور
عار يلذ لي العبور
بين علامات المرور
أخرج للشرطي لساني ، وأفر’ راكضا
فيكتم الضحكة في الوجه الوقور
تشيح عني أوجه النسوة خوفا ، وأنا
أنظر’ من طرف خفي للظهور والصدور
عارٍ أنا
ظهري إلى الحائط ، أطلقوا الرصاص قبلما
ألفت’ أنظار الجماهير إلى ُّ
فيبتنون لي ضريحا ،
ويوفون النذور
(الديوان ، ص 301 – 302)
************************
في تقديرنا ، ومن وجهة نظر علم النفس المرض فأن الوصف للحالة النفسية للشاعر والوارد هنا ، إنما يمثل نوبة ذهانية هوسية عابرة . وهي تعد نتيجة للاخفاق الذي لحق بالشاعر نتيجة لفشله فس تأدية رسالته التي القاها على عاتقه امام ضميره وامام جماهيره . وعري الشاعر هو نتيجة لهذا الفشل . وسواء اخذنا مفردة العري بمعناها المتعارف عليه ام اخذنا دلالاته النفسية فالمحصلة واحدة في الحالتين . اعني اقتران العري بالعار والفشل والاخفاق .. والشاعر كان صريحا في تجربته هذه فهو يقول ان عريه ليس عريا كما لو كان قد ولد توا . بل يشبه نفسه بتلك الجثة التي يحول حولها الصقور ليأخذ كل واحد منها حصته . الجثة الملقاة في العراء رمز من رموز إنكار صاحبها وعدم مقبوليته اجتماعيا . هنا يعيش الشاعر الموت النفسي .. اعني ضياع الهوية .. ومن هنا هذا السلوك العشوائي الذي يبديه شاعرنا بين علامات المرور دون احترام رمزيتها الاجتماعية . انها سلوك هوسي وقد يكون نوعا من الهجاج الهستيري الهائم .. مرة اخرى يلجأ الشاعر الى السخرية من الشرطي باخراجه لسانه عليه للدلالة على تلك السخرية . ويمر الشاعر بخبرة مريرة اخرى وهي صد النسوة له . لقد فقد سحر ذكوريته وجمال وبسالة رجوليته . لم يرَ في الشارع غير النسوة . وهذا امر لا يتسم بالعقلانية ان يكون الشارع متخما بالنسوة من دون الرجال . كان لا شعور الشاعر متجها الى النساء لكي يستعرض عليهن بطولته .. ولكن اين تلك البطولة من ذلك الاخفاق الذي لحق به . والشاعر ، هنا ، غائص حتى الهامة بمشاعر الخزي والخجل والاذلال من موقفه هذا . كان هنام امرا يترقبه وهو عقاب الشعب له فكانت اطلاقات الرصاص التي انهالت عليه قبل ان يتمكن من يبرر فشله واخفاقه .. هنا الشاعر يعيش مشاعر البطل الضحية .. المنقذ الذي لم يمنحه القدر فرصه لتحقيق مايريد . هنا بروز مشاعر الذنب الجمعي لأنه قد قتل بطلا ورمزا من دون مبرر . فكانت كفارة ذلك الشعب هي ضريح الشاعر الذي سوف يكتب له الخلود من خلال النذور المقدمة له . لقد تحول الامير المخلوع الي بطل كتب له الخلود فما اسعدك يا رجل !! .
الهوامش :-
1- د . خليل ، أحمد خليل ، 1995 ، معجم الرموز ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 137 .
2- كايوا ، روجيه ، 2010 ، الانسان والمقدس ، ترجمة : سميرة ريشا ، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 189 و 191 .