المؤلف : شربل قطان *
الناشر : مؤسسة نوفل
الطبعة الاولى 2010
حقائب الذاكرة مع أنها أول عمل للكاتب شربل قطان إلاّ أنها ترشحت لنيل جائزة البوكر للرواية العربية عام 2011، وكان ذلك،مفاجأة للأوساط الأدبية العربية آنذاك .
المنحى الذي تعامل به قطان مع التاريخ في هذا العمل تناغم مع وجهة نظر رولان بارت :” الرواية هي الجنس الادبي الذي يعبّر بشيء من الامتياز عن مجموعة مؤسسات اجتماعية “. أيضا بنفس الوقت هي ليست رواية تاريخية،فالكاتب هنا مدرك تماماً ماينبغي عليه أن يفعله عندما يتكىء العمل على التاريخ باعتباره خلفية يضىء من خلاله الزمن الحاضر، ويُحرِّك عناصر الفنية بين تفاصيله،وهو في ماذهب إليه في البنية الفنية للرواية لايخرج عن إطارالمشغل السردي للرواية الحديثة التي إستثمرت العديد من تقنيات الكتابة واشكال السرد التي تسرّبت اليها من مصادر متنوعة أثمرت بالتالي عن تحريرانماط الكتابة السردية من قوالبها وآليتها التي تقوقعت بها عبر مسيرتها. . وفي حقائب الذاكرة بدا ذلك واضحا في بناء الاحداث الذي تم بطريقة متراكبة تجاوزت تقليدية البناء السردي اضافة الى تجاوز القيود التي تفرضها الديباجة بما تحتمله من استطرادات .
“هنالك شيء اكيد : كل منّا يبحث عن شيء ما. والاكتمال في الحياة يأتي من معرفة هذا الشيء،ثم من تحديد الغاية من ايجاده” تتحدث

الروايةعن شاب لبناني إسمه إيهاب يبحث عن والده أحمد علام الذي انقطعت اخباره في ظروف الحرب الاهلية اللبنانية :”في حالتي عرفت بسهولة،ومذ وعيت على الدنيا موضوع بحثي ،إني أبحث عن شخص.أمّا سبب بحثي عنه فالجواب ليس بالسهولة ذاتها ولا بالوضوح ذاته .. أنا أبحث عنه حتى أراه..كي أقول له..لأسأله..لأستشكشف معه أماكن..أريد الثروة به، أريد السعادة معه،أريد المعنى منه،خمسة عشرعاما وأنا أبحث،خمسة عشرعاما قضيتها في اروقة المطار ومكاتبه،مشاعري دوما في ظل مسيرتي،فأغمض عيني عن الحياة وعمّن أحاط بي،كل هذه السنين وأنا أسأل عنه أتحرى عن سفراته،أرسل بأسمه إلى أرشيفات مطارات العالم،علني أكتشف ماحل به ، مازلت مصرا ،بالرغم من انقطاع أخباره منذ سنين عديدة،. ”
لم يكن ايهاب يعرف شيئا عن أمه ايضا والتي كانت قد تركته مرغمة بعد أن قرر والده الانفصال عنها مُرغما هو الاخر نتيجة الضغط الذي وقع عليه من قبل والدته واقاربه والسبب يعود لان زوجته من طائفة دينية غير طائفته وكان قد تزوجها دون رغبة اهله بعد أن وقع في حبها ، فتكفلت جدته بتربيته وكان كلما يسأل عنها تقول له :” إنها عند الله “. لم يكن إيهاب يملك حتى صورة لها ولاوجود لها في سجل قيد العائلة ولافي الملفات القانونية ولايعرف حتى اسمها وكأنها لم توجد اصلا ً.. سافر والده عدة مرات إلى المانيا والدول العربية،ويوم مقتل جدته كان والده في احدى رحلاته الطويلة الى المانيا،كان بحثه عنه قد قطع فيه شوطا طويلا من التحريات الخاصة عبر الاتصال بمدينة ميونخ الالمانيةالتي كانت آخر مدينة أقام فيهاعام 1975 لأنه كان يعمل في المكتب الرئيسي لشركة هرجز الالمانية في بيروت لصناعة مكائن الخياطة.أصيب إيهاب بالذهول عندما أكتشف ان والده قد سافر الى فرنسا عام 1978 لذا إشتد إصراره على معرفة ماحصل، فوظف مكاتب تحريين من أجل اقتباس معلومات عنه من مختلف البلدان وشركات السفر.
لم يكتب قطان رواية تاريخية،بل آثر أن يسرد مصائر افراد لعبت الحرب دورا حاسما في تقريرها فكان عمله مُنطلقا فنيا لرؤية الماضي ولم تكن تلك الرؤية في مسارها تقليدية ً، فهي لم تخضع للتسلسل الزمني الطبيعي في سرد الاحداث، بل ابتعدت عن هذا المنحى كثيرا لتستجيب لبنية فنية شاء الكاتب أن يعبث بهذا الترتيب التقليدي وأن لايكون تحت وطأته، فكانت تقنية الكتابة لجوءا ً الى آلية البحث والاستقصاء لأستدعاء الشخصيات والاحداث، وبهذه الآلية تمكن قطان من التوغل في مسارب المجتمع اللبناني الذي عصفت به الحرب الاهلية ومزقت نسيجه الاجتماعي الى كانتونات طائفية مغلفة بأيدولوجيات شتى حتى أن الكاتب نفسه إختار أن يعيش في جنوب افريقيا بعيدا عن وطنه لكنه ظل يسكن ذاكرته .
فالحرب الاهلية اللبنانية التي ابتدأت في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي تشكل خلفية احداث العمل (حقائب الذاكرة) ،إذ يقول إيهاب عن الحرب التي يطلق عليه تسمية الوحش وهو يعلق على مصائر بقية الشخصيات التي عرفها في حياته :” ” فاأنت ياوحش مَن أخذ جدتي، مَن حرمني مِن أبي ، ومَن جعل شادي يتيما يبكي في الليل،أذللتَ الكاتب، أدخلتَ الحرب الى بيت نبال، ظلمت البواب، وأضعت أبن أم رامي ” ..
عندما بدأت الحرب الاهلية اللبنانية في منتصف سبعينات القرن الماضي كان إيهاب في السادسة من عمره فكانت محطته الاولى مع الظلمة. . كان ابن جيرانهم المسيحيين قد أمضى الليل إلى جانبه،حيث تركه أهله مع بعض الثياب وهربوا من منطقة الشيّاح الى شرقيّ بيروت..بدأت أصوات الشرشقات التي لم تنقطع طوال الليل تصبح اكثر وضوحاً وهدير المجنزرات غطى على كل الاصوات،اهتز البيت بعنف فسقط إبريق الشاي على الارض وتحطم زجاج الباب الامامي، خرج ايهاب وجدته وابن الجيران من البيت الذي تعرض للقصف ، وتمكنوا من الوصول الى السيارة لكنه غادرها عائدا الى البيت بعد ان تذكر انه قد نسي علبة معدنية يضع فيها اشياءه.لكنه وبعد أن التقط العلبة وعاد الى السيارة وجدها بمن فيها قد تفحمت وتحولت الى حطام. . ومن داخل سيارة الصليب الاحمر التي نقلته الى مستشفى اوتيل ديو ودّع آخر مشهد له لحي ّ ألشياح وللمنطقة التي اصبحت تعرف فيما بعد بيروت الغربية،وبعد ايام قليلة جاء رجل الدين المسيحي الاب نعمان بطلب من ادارة المستشفى ليأخذه الى دار للأيتام المسيحيين في منطقة كفر شيما والاب نعمان رجل دين مسيحي لم يعرف معنى الطائفية،وهو مُرشد من دون استبداد ، وقد حافظ على اسلامية إيهاب في زمن عنوانه التطرف .. في دار الايتام يتعرف ألطفل إيهاب على شادي الخجول والمنكسر،لأنه، يتبول على نفسه كل ليلة، مما يجعله عرضة للسخرية والاهانة النفسية والجسدية من قبل زميلهم في الميتم روني عبود الذي يكبرهم بعدد قليل من السنين .
تمضي الاعوام ويكبر مع ايهاب إصراره في العثورعلى والده وهذا مايدفعه الى أن يحصل على وظيفة ضابط أمن في مطار بيروت حتى يتمكن بموجب ذلك من الحصول على تصريح يخوله تناول معلومات الرحلات واسماء المسافرين ويدرجها في حاسوبه الخاص: “التحقتُ بأمن مطاربيروت حتى أحصل على تصريح يخولني تناول معلومات الرحلات واسماء المسافرين وأكتسب هيئة رسمية أتحرك عبرها .. لم أعمل من أجل ترقيات أو امتيازات وابتعدت قدر المستطاع عن كل ماحولي من احداث ” . حرص إيهاب على البقاء في مركزه الوظيفي حتى لايبتعد عن ماحوله من احداث . . لم يكن معتمدا ً في معيشته على راتبه من هذه الوظيفة، لذا ، وجد من الضرورة أن يؤمِّن له دخل ثان، فتعمق في دراسة البورصة وعملها حتى برع فيها وجنى منها عبر السنين مبالغ أمّنت له استمرارية البحث عن والده الذي كان قد اختفت اخباره عنه مع بدء الحرب الاهلية .
لم يكن ولاءه سوى لنفسه، فتسبب هذا في كره المدير له واستدعائه اكثر من مرة وتوبيخه لأنه كان يتجاوز تعليمات المديربعدم تفتيش المسافرين بعد أن تمكن من القبض على عدد من مهربي المخدرات وهذا ماكان يثير غضب المدير عليه وبنفس الوقت يثير استغراب ايهاب ــ وسيظهر فيما بعد العلاقة الوثيقة التي تربطهم بمدير أمن المطارــ لذا كان لابد للمدير من اتخاذ قرار بنقله من شعبة المسافرين الى شعبة الكمارك على الرغم من أن إيهاب كان قد حصل على وظيفته هذه نتيجة قسمة التوزيع الطائفية التي تحكم لبنان.
وقبل أن يغادرمكتب وظيفته التي نقل منها تمكن من إدراج برنامج خاص في حاسوبه يتيح له أن يتلقى عبره يوميا سائر المعلومات عن حركة المسافرين. .وفي مستودع مكتب وظيفته الجديدة التي نقل اليها بقسم الكمارك لفت نظره خمس حقائب ضائعة أودعت فيه إلى ان يأتي اصحابها أو يتم الاتصال بهم أو أي شخص من أقربائهم .وسبب ضياعها يعود لحالات مختلفة وأوقات غير طبيعية،وبقيت هذه الحقائب منسية في مستودع الحجز سنين طويلة ولم يُعرف أصحابها كما لم يأت أي ّأحد يسأل عنها ،اقدم الحقائب يعود تاريخ حجزها الى عام 1975، فيما بعد ستصبح هذه الحقائب سببارئيسيا في تغيير مجرى حياته إلى الابد عندما بدأ رحلة البحث عن أصحابها واحدا ًبعد الاخر ونجح في الوصول اليهم،المفاجأة الكبرى كانت في الحقيبة الاخيرة،عندما فتحها ، فقد وجد من ضمن الاشياء التي كانت بداخلها ورقة صغيرة محشورة في لعبة أطفال على شكل حصان مكتوب عليها عدد من الاحرف والكلمات هي نفسها التي كانت مكتوبة في الفاكس الذي كان قد وصله منذ ايام من مكتب التحريات في المانيا والمحتوي على رقم سجل الاقامة الدائمة التي كان قد حصل عليها والده أحمد علام عمر عام 1975 وليكتشف أن الحصان هو نفسه الذي كان قد وعده به والده عندما كان طفلا صغيراً. من هنا تدخل رحلة البحث عن والده مرحلة الختام ،عندما يعثرعن طريق الصدفة أثناء بحثه في إحدى القرى على والدته وهي تعيش مع زوجها الثاني وإبنتها وحفيدها، ولتبدأ بكشف الاسرارالتي كانت تؤرق إبنها إيهاب لأكثر من ثلاثين عاما حول أسباب اختفائها واختفاء والده.
*شربل قطان (من مواليد بلدة مغدوشة ، لبنان الجنوبي ، 1970 ، انتقل الى جمهورية جنوب افريقيا عام 1990 ، حيث تابع دراسته العليا في جامعتها وحاز إجازة في المعلوماتية ، يقيم ويعمل حاليا في مدينة جوهنسبرغ ، متأهل وله ولدان ، حقائب الذاكرة هي روايته الاولى .