اذا كانت الصورة معبرا الى عوالم النفس وآفاق الوجود ، فانها في ذات الوقت تعد وسيلة كاشفة عن تموجات وانسيابيات الدواخل مكنونا واتجاها ، لذلك فهي تمثل قيمة جمالية وأخلاقية تبوح بها أخيلة الشعراء ناهيك عن كونها ركيزة الشعر والمعيار المؤشر لمتانة وجودة النص من عدمه .
وبمقدار ما تحمل روافدها من ابداع صور غير مدركة بالحواس ( الخيال والمخيال ) ومستويات الالتقاطات الحياتية ( الواقع الحسي ) وتدفقات التاثيرات النفسية والانفعالات العاطفية والمؤثرات العقلية ، تتاشر مستويات تناول وتداول هذه المصادر في المشغل النقدي . ولعلنا لانجانب الحقيقة في تقنين الأداء الوظيفي لها عبر مسارين متوازيين ، مسار نفسي كاشف لعوالم الداخل ونسيجه عند الشاعر ومسار تأثيري متفاعل مع سياق الاتصال بما يمغنط انتباه المتلقي . ولهذا قال الشاعر اليوناني سيونيدس الكسيوسي : الشعر صورة ناطقة ، أو رسم ناطق وان الرسم او التصوير شعر صامت . وقبله قد قال الجاحظ ان ( الشعر صناعة ، وضرب من النسيج ، وجنس من التصوير ) . ووفق هذا التوصيف سيتم التناول السيميائي الصوري في البنية الشعرية لشعراء كرد في مقالنا هذا انطلاقا من تأثيرات الحاضنة المادية والمعنوية وارساليات الرؤى كمحاولة للوصول الى تأملات الصورة الشعرية والتماس مع روافدها .
إذا كان الدافع اللاشعوري موجه الايحاء بعالميه الغريب والمتناقض ، وإذا كان تجسيد الحب كسياق تصويري عاكس للقادم والقابل الزمني فان الحرية وانسيابية اعماق النفس تبقى المانح الصادق للأحاسيس والخيال ، ولهذا كانت الفواقعية عالما مدهشا وغريبا لجأ اليه الشعراء عبر مسالك حرة وأخيلة مدهشة وعلى هذا جاءت القوة التعبيرية بمديات أوجاعها وملامح أحلامها مجتمعة في سياق من توقد الحس وتوهج الأبعاد ومخرجات الواقع وقضاياه .
ففريد زامدار في اشهاره الشعري المتدفق من تصادمية وصرخة النفس إزاء الواقع الموضوعي الحاضن للكائنات البشرية طوعا أو كراهية من خلال منظومة جمالية وأخلاقية خارج التصنيف والنطق المستلب إنما يهدف الى الاشارة لمجمل الآفاق المفتوحة والمبتغاة عبر مشاهد تواصلية بين المناداة والاقرار وفق تنوع صوري هادف لا يحصى :
(( رأسك شعاع جوال
الجحيم تحت قدميك ،
أسمك
فتاة غجرية أسيرة وفاتنة .
في المسالك والطرق
رأسك حزن رحال
في كل طريق
ثمة غجري
هناك .. هناك تعلو الحدود فوق
ركبتيك ! )) ( 1 )
فصورة الرأس كشعاع جوال والجحيم تحت قدميك والاسم فتاة غجرية وكذلك الرأس حزن رحال والغجري في الطريق هي كنايات للفكر ( الرأس شعاع جوال ) والمكابرة ( الجحيم تحت قدميك ) والمحنة الانسانية ( اسمك فتاة غجرية ) والرؤى ( رأسك حزن رحال ) والسقوط ( في كل طريق ثمة غجري ) ايماءات من الشاعر الى غرائبية المشاهد وتناقضاتها لتقدم صوره بالتالي تراكيب مادية ومعنوية وبعناصر تتداخل فيها الروافد وبما يعكس صدقية الشاعر وتجربته. يشاركه في هذا الاتجاه ومن منظور آخر الشاعر فرهاد بيربال ، حيث يستحضر المشاهد الحياتية عبر طابع ديناميكي وحاد يأخذ مسارا رصينا يتقاطع في جانبه التعبيري مع المباشرة من جانب ويساهم في تجسيد رؤاه السريالية بسلاسة وحيوية واشراقة جمالية معمدة بالفكر من جانب آخر :
(( هنا مكان
لاستنشاق
الهواء الجديد
ولكني لا أملك
أية نافذة
لأزيح ستارها
عن سجادة قلبي )) 0 2 )
فالمكان لأستنشاق الهواء الجديد وعدم امتلاك أية نافذة لأزاحة ستارها عن سجادة القلب هي استثمار حي لوقائع حياتية معاشة من قبل الشاعر عبر نسيج بنائي متناغم بين الرؤية ومحطات الوقوف ، حيث ان المكان لأستنشاق الهواء هو كناية للحرية وعم امتلاك أية نافذة هي كناية للمحددات وهكذا تكون جدلية فرهاد مساحة حية يتوهج فيها الحلم واليقظة .

ويولد الشاعر برهان أحمد عبر استغراقات وتأملات عقلية وعاطفية فضاءات تهطل مرونة وحرية وانسيابية مستطردة ومفتوحة من خلال ثنائيات ضدية وتركيبية ووفق مسارات تعبيرية واسلوبية تتفاعل فيها المشاهد بمستوياتها وهذا ما يؤسس بالتالي نسقا وتدفقا متفاعلا لجميع العناصر الرافدة .
والنسيج الشعري لدى الشاعر يحفل بتلك الثنائيات :
(( الحب في ترحال دائم الى المجهول
الجمل تلو الاخرى استشهدت
من أجل ذلك :
غضب المفاصل
صعدت الى مسارح الحياة
الربيع يعض يده
الحوار بكل معوقاته
وصل الى هنا ))
فثنائية الحب والترحال تركيبية – تواصلية ثيمتها مساحة رومانسية عبقة تهيم في الروح والجمل تلو الأخرى استشهدت تركيبية – تواصلية وثيمتها نزف حريق الروح وتصاعدها وغضب المفاصل صعد الى مسارح الحياة تركيبية – تواصلية وثيمتها تبوأ القوة لمكانها في المسرح الحياتي والربيع يعض يده صورة سريالية ثيمتها جرح البهجة وحزن ألوانه والحوار بكل معوقاته تركيبية تواصلية ثيمتها التناقضات والمتعاكسات .
وفي قصيدة المطر للشاعر دانا عسكر تتحول صوره المفردة عبر التشبيهات المتناظرة ، في نهاية الأمر ، الى صورة كلية حاضنة جامعة وفق سياق تعبيري فواقعي جميل :
(( واقف أنا في الجدار أمارس القبلات مع زخات المطر
أنحني ببطء والف حنيني حول نزيفها
ترحل وتترك لي كأسا من الحنين
أنتعش ! هكذا تقول لي زخاتها
عالق أنا في أسلاك ذاكرتها … ))
فسياق القصيدة بمشاهده المتعددة والمتداخلة ، يودي الى صيرورة تتوحد في مآلها الأخير كل العناصر الرافدة والتي من شأنها تعميق الشحنات والضربات ، وفي هذا التوازي يمنحنا الشاعر مساحة انفتاحية تجعل هطول المخيال ثريا ومعبرا عن طاقة كامنة حية في ذاته . ولاشك فان سيميائية صوره تقدح وتوضح طقوسا وثيمات تلتقي فيها ما ينساب من الذاكرة وما يغوص في النفس وفق معادل ابداعي شفاف ومتناغم ، ودالة التفاعل هذه هي أجمل تجسيد لأحاسيس الشاعر ومصداقيتها اضافة الى متانة مهارته في نسج التعاطيات .

والشاعر حسن سليفاني في بنيته الشعرية يجعلنا نستحضر مستويات المشاهد وبما يعزز لدينا طقوسا مرهفة حية تستثمر في ايقاعاتها اللقطات الحياتية وهمومها ، وهذا المسار الحسي المعمد بالانفعالات العاطفية يمنح المخيال رحابة في اشهار وابداع صور شعرية جميلة ، فمن خلال عمليات الاستنطاق تكون المظاهر المرئية والبنى الحسية دالة لأواصر الأمتداد وبالتالي فان ثيماتها تعكس مناخ أسطره الشعرية وتفاعلاتها . فقصيدة ( الجبل ) الذي هو أحد رموز الخطاب الشعري الكردي ، والفضاء الذي يشترك فيه شعراء كردستان ، تاتي في سياقها مفردة ( البيشمركة ) :
(( هذا الجبل
الذي لم ينم أبدا
من دون بيشمركة
يصرخ … ))
و
الصبي
الذي يوصل الماء الآن
الى البيشمركة
يتمنى ألا يقذفه لغم
الى السماء
كما حدث لمن كان قبله ))
وهذه المفردة هنا تأتي في سياق تعبيري يمليه الاحساس بالقيمة المضيئة لفعل الاختيار ، وتلتصق على نحو واع في مخيال الشاعر وبذلك تتوهج الهوية الوطنية عبر خصوصية العلاقة بين البيئة الطبيعية ومحتواها الأنساني والحضاري وتجسدها في التجلي الشعري ، فمفردة ( الجبل ) الذي لم ينم أبدا صورة سريالية تواصلية تشير ثيمتها الى ترابطية العلاقة وتناغمها في منطق اشهار الحقيقة والمبدا ، وامنية الصبي وتمنيه هي صورة لحيوية العلاقة وقوة الامتداد لآجل زهو القضية ويقضتها وهي صورة ترابطية – تواصلية .
الهوامش
———
( 1 ) فريد زامدار / قصيدة الموقف والانكسار
( 2 ) فرهاد بيربال / قصيدة نشيد العراق
( 3 ) برهان احمد / قصيدة الضياع في طريق اللغة
( 4 ) دانا عسكر /قصيدة المطر
( 5 ) حسن سليفاني / قصيدة الجبل