يمكن للقارىء المتابع لمنجز الكاتبة ميسلون هادي أن يعرف منذ السطر الأول أن هذه القصة أو تلك هي لميسلون هادي حتى وإن لم يقرأ الاسم، ذلك لأن أسلوب ميسلون هادي متفرد ولا يشبه غيرها من الكاتبات، أسلوب عملت عليه طيلة سنوات وصار بصمتها المميزة سواء في القصة أو في الرواية، ولأنها ابنة بيئتها وعراقيتها فقد كان للحس الشعبي حضوره في أعمالها تزخر مفرداته بها وتتوهج بعد أن كانت دفينة في كتب التراث أو متداولة شفاهياً، عالمها قريب من رائحة الطعام الشهية لموائد العراقيين ومفعم بالنكهات الإبداعية وتكاد لا تخلو قصة أو رواية من هذا الحس الشعبي وتلك الأحزان المعتقة التي رافقت العراقي في داخل الوطن أو في خارجه.
وأنا أقرأ قصة (من جنات جرمانة الى جنات البط) توقفت عند نقطتين مهمتين في هذه القصة، وقبل الولوج الى النص لابد أن أشير الى أن جرمانة هي مدينة سورية نشطة في تجارتها ومشهورة بأسواقها ومنشآتها الصناعية، تدفق إليها العراقيون الهاربون من الموت المجاني، إما للسكن فيها ريثما تتغير ظروف البلد أو للهجرة الى دول اللجوء بعد أن لم يعد من متنفس للعيش في البلد.
من هذه المدينة خرجت (انتصار) بطلة قصة ميسلون هادي، تجر حقائبها حتى وصلت الى كندا بجواز سفر مزور، وعرضت على المحققين هناك ( كثيراً من حروق التنور على أنها آثار تعذيب وحشية، ووحمة خضراء في أعلى مؤخرتها على أنها موضع إبرة تخدير زرقت بها في غرفة التحقيق، أما أظفرها الذي وطأته زكية العوراء بقبقابها وأزاحته من مكانه فقالت إنه قد انقلع بعد التعذيب في قبو مظلم من أقبية المخابرات الجهنمية) ثم أقسمت لهم (تعمى عيوني إذا كنت أكذب) وبعد أن تتمتع انتصار باللجوء هي وزوجها المقعد وتمضي الأعوام بها يبدأ نظرها بالضعف ثم تصاب بالعمى فعلاً كأن القسم قد ارتد عليها.. لكن العمى سيأتي في نهاية القصة.
وسنمر بكثير من التفاصيل عن أحوال اللاجئين ومعاناتهم في دول اللجوء، فهي ليست كما يظن البعض بأنهم يعيشون في الجنة، فهذا المترجم (منتصر) الذي لم يعرف كيف يترجم عبارة (تعمى عيوني إذا أكذب) يحمل شهادة البورد من جامعة بغداد في طب العيون، لكن هذه الشهادة لم تسعفه بالعمل في اختصاصه إلا كمترجم مع المهاجرين الجدد.
ولابد لقارىء هذه القصة أن يقف عند نقطتين مهمتين، الأولى تتعلق بالعراقي الذي يترك البلاد ويهاجر، والثانية بالأسباب التي تجعل هذا الإنسان يغادر الوطن، وهي أسباب قاهرة وموجعة في الوقت ذاته، فإدانة الهجرة واضحة من قبل الكاتبة لأبطالها، إدانة جاءت مطعمة بالسخرية من الأوضاع التي يعيشها المهاجرون، لكن من جهة أخرى ونحن نتمعن في الأسباب التي دفعت بهؤلاء للهجرة سنستخلص أن ما أحاط بهذه الشخصيات من ظروف قاسية وسط محيط لا يريد الخروج من خرابه قد دفعت بهؤلاء الى هذه الهجرة، فالمترجم منتصر الذي لم يستطع إيجاد عمل له في كندا غير الترجمة نراه عازفاً عن العودة للديار (لأن زميله الذي أنهى المنحة وعاد قد قتل بكاتم صوت، وزميله الآخر اختطف واختفى بلا أثر، والثالث لا يزال في السجن المركزي ينام مع الصراصير بتهمة التآمر على النظام الجديد).. أما منصور زوج انتصار فقد (صُلمت أذنه بسبب فراره من الجيش وقُطعت رجله بسبب انفجار لغم واحترق سنامه بسبب تفجير استهدف وزارة النفط) وهو الان مقعد على كرسي متحرك تخدمه زوجته انتصار.
ومأساة هؤلاء جاءت من خلال أسلوب ساخر تجيده ميسلون هادي يتطابق والمقولة التي نرددها (شر البلية ما يُضحك) فانتصار التي وجدت في الكذب وسيلة للوصول الى كندا تحيط بها أكاذيبها المضحكة ( حروق التنور والوحمة الخضراء وقلع اظفرها) وأبناء المهاجرين الذين أتقنوا لغة البلد البديل وبدأوا بنسيان الكثير من لغة آبائهم سنقف عند عبارة ساخرة توجز حالتهم عندما يسأل منصور أحد الشباب: هل كنتم في خطر؟ فيرد عليه الشاب: لا.. كنا في البحرين.
تنتهي القصة عند عمى انتصار، تُنقل الى المستشفى ويبقى زوجها منصور في البيت، ولأن انتصار نسيت أن تغلق النافذة التي يجلس قربها زوجها بكرسيه المتحرك فإن العاصفة الثلجية التي هبت فجأة واجتاحته جعلته يتحرك لإغلاق النافذة المطلة على مقبرة كلاب لكنه يسقط الى الخارج ويموت.
وبقدر إدانة الهجرة عن البلاد كانت إدانة غير مباشرة للحروب التي كانت سبباً في تلك الهجرة، برغم أن انتصار كان يمكنها ان لا تلجأ الى الأكاذيب وتزوير الجواز لأن معاناة زوجها كافية كأسباب مقنعة أمام المحققين، وأن ادعاءات انتصار يمكن كشفها بطريقة سهلة وهي عرض الحالة على لجنة طبية، وهذا ما يحدث في الواقع عندما يتقدم اللاجىء بطلب اللجوء ويدعي التعذيب.. لكن الواقع شيء والفن القصصي الساخر شيء آخر.
بقي أن نقول إن الناقد العراقي شكيب كاظم قد أشار في دراسة له عن القصة بأنها تقبّح من هجرة العراقيين للخارج، دون قراءة الوجه الآخر للقصة، فالحروب التي كانت سبباً لتلك الهجرة أكثر قبحاً لأنها غيرت وجه البلد وقادته أبناءه الى التيه.. وهذا ما أكدت عليه أيضاً ميسلون هادي.
هديّة حسين : الجحيم بين جنتين
قراءة في قصة (من جنات جرمانة الى جنات البط) لميسلون هادي
تعليقات الفيسبوك