د. فاروق أوهان : القرين

farooq ohan 7فجأة أرتعب تالار وهو يتقدم نورهان في أروقة فندق الشام؛ أرتعش ولم يصدّق فقال في سرّه: هل يصطادوننا هنا أيضاً؛ هل يمكن أن يصلوا لتقليد نسخ الأحباب الذين أجبروا على الموت الاختياري. أو الذين انتحروا بفعل ما .. وقد سبقوا البشرية نسخ الجينات.
وعادت الأسئلة لتتكرر من جديد بعد ثوان: هل يتتبعوننا، وقد أظهروا نسخ ممن أجبروا على الموت؛ للذين انتحروا. ولكن هذا عصر مبكّر على الاكتشافات العينية للاستنساخ العام؛ فكيف في مجال الاستنساخ الجيني.
كل هذه الأفكار اعترت تالار ومضاتها، فتفجّرت فيه؛ وانخطفت كالعادة الأعمدة أمامه تمامًا مثلما في أحلامه ؛ ومرّت مسرعة كفلم بطيء التصوير، وذاب صوت شلال النافورة الوسطية لفندق الشام، وتلاشت رائحة القهوة الشامية، وشذاها العطر، وغاصت تفاصيل المتعة في استقبال الأحباب بعد غياب طويل عن الأحباب بأفياء عزلة الجنوب الدافئ الأمواج، هناك على ضفاف الخليج حيث الدعة، والأمان. أليس غريباً أن يستنسخ الأحباب حتى، وهم في منفاهم الإجباري هنا في الشام. أو يرسلون نسخ مقلّدة من الوطن المنفي بذاته، فهل ظهر الآن عنف جديد وهو استجلاب نسخة مقلدة من رفات من مات قبل عقد من السنين؛ آه بل حوالي عقد ونيّف. لعلهم ابتكروا مصيدة جديدة لتزويق شخصيات لمن نُحب؛ لكي نكرههم بعد أن صاروا رموزًا في السديم خصوصاً بعد اكتشاف مميزات زرعوها فيها دون وعي للنسخة المقلّدة. لكن الذاكرة تعيد الصواب إلى محلّه، ويقترن الشرط بالشرط، حينما مر تالار بحادثة مشابهة؛ كان عندما التقى بطل قصة هديل على الحدود لدى بائع المجوهرات، وكان رعب تالار على أشّده، لكن الصائغ أدرك ما يصيب من يعرف الشبيه، وتوأمه فعجّل بالحلّ، ولو لا الظروف الحرجة لكان من أمثال تالار مصيدة؛ فقد تصوّر أن شبيه المرحوم ما يزال يزاول هواية التنّكر منذ أيام الدراسة.
أما الآن فغير، فالمرحوم في عداد الأموات، وكلاهما في بلد جنوبي محايد. إضافة لنباهة الصائغ في معالجة الأمور؛ التي كانت جزء من مكونات من يتعامل مع المعادن الثمينة؛ عندما عجّل في تعريفهما ببعض بعد أن رأى الصفرة الكالحة تعلو وجه تالار؛ وقد زال أي أثر للدماء فيه . فقال: أخو المرحوم … السيد …..
أما هنا في فندق الشام، حيث يحضر تالار مؤتمراً للشعر، فرغم أن نفس الشعور خامره في أن يكون ما يراه ليس أكثر عن توأم للمرحوم؛؛ فأحس بتباطئ قدمية قليلاً؛ ويداه تمسك أحد الأعمدة المنخطفة على جانبيه؛ ومستعيناً بيد نورهان مرافقته من جهة أخرى؛ خوفًا من لزوجة الأرض وزلقانها، التي غالباً ما تكون أكثر ملسان في مواقف كهذه، وفي الأحلام بالذات؛ فوراء ذلك كسر ظهر، وانزلاق غضاريف،  ولكنه لم يغفل التفرّس في وجه الشبيه ولا لحظة، معتمداً على الحادثة التي تذّكرتها للتو؛؛ لعل أحد موثوق ينقذنه بالتعريف كما فعل الصائغ، وفعلاً تقدم  حليم من بين المجموعة ليعرفهما بالشبيه فيقول:
خليل أخو المرحوم خليل؛ الرسام المعروف؛ وريث العائلة في الرسم  هو الآخر.
لكن قدما تالار لم تقده مباشرة للمجموعة، والوقوف معها؛ ذلك لأن الانفعال الذي خاطره شلّ ركبتيه، فجلس في الباحة الكبيرة ريثما يسترد أنفاسه، فسألته المرافقة نورها بما الخطب، فأشار إليها بالحادث؛ وقال: ألا تذكرين خليل الزاري؟
ولكنها لم تستجب، فتذكّر تالار أنها لم تكن قد ولدت عندما كان خليل رساماً معروفاً، وفيما بعد ربما كانت في العاشرة من العمر أيام حادثة بيروت؛ كان ذلك بالضبط عام 1971 في بيروت؛ أجل صيف ذلك العام؛ وهذا جليل يأتي ليعيد الذكرى من جديد. وتراءى لتالار وجه خليل من بين فسقيات، وشلالات المياه في النافورة الوسطية، يعاتبه على النسيان، ونكران الجميل؛ سنوات كان طالب في معهد الفنون مع سنا عبد الله صديق الطفولة؛ يزورهما قبل انتهاء الحصص الصباحية؛ ويسمع نكاتهما ومشاحناتهما مع العبدي، وجهاد، وطالب، وسليمان.
وتمرّ السنين بلحظات خاطفة؛ مثلما حصل وتخرّج الجميع، وتفرقوا في المحافظات؛ أما خليل فقد كان له طموح غريب؛ رغم أنه لم يكن الوحيد من النوابغ في الفن التشكيلي؛ لكنه رغم صمته كان يبدع في تخطيطاته، بقلم  الأسود والأبيض؛ وعبر السنين كانت هناك تجمعات من الناقمين على ما حصل في انقلاب شباط سيء الصيت، وما نتج من بعده عندما لبس أصحاب هذا الانقلاب مسوح الثعالب فجاؤا من جديد في قطار الغزو ونهبوا فكر البلد، وقاموا بتصفية من نوع جديد وما يزالون يصفون كل إنسانية في الإنسان. فهرب خليل من بين من هربوا. وقد فضّلت مختلف الشرائح الفكرية الانضمام لقوافل المساهمين في دعم العمل الفدائي، ومنهم خليل الزاري.
أما ما حدث في بيروت؛ فإنه عندما حطّت الطائرة في بيروت لم تفارق تالار الآمال في إصدار مطبوعه الوليد، وها هو في صالة الخروج من المطار لا يقاوم الوصول لملاقاة أصدقائه. وفي عربة التاكسي كان تلار يتأملّهم؛ ويتفرّس بوجوههم، وهي تطالعه في سماء بيروت الصافية  وأولهم الممثل هايل الهارب من قسوة الثعالب إلى بيروت، فأقام له ركيزة لمستقبل حافل.
كان تالار قد فكر وهو في المطار بأن أسهل مكان يذهب إليه؛ لكي يعرف أي يقطن الجميع، هو منظمة التحرير؛ وهو المكان الذي جمع ثلة من النخبة العراقية المثقفة، وعليه أن يسأل عنهم هناك، ربما يكون هنا من يعرف عنوان وليد العاني الذي يعمل مع القيادة العامة. وتعجب تالار وهو في التاكسي من هاجس لم يفارقه، وهو أنه عندما يتذكّر أيًا من الأصدقاء يطالعه وجه خليل متدخلاّ، وكأن روحه الهائمة هي التي تقتحم علي هذا الفضاء.
حاول تالار جاهداً تذكّر تفاصيل عن هايل ابن فرقته المسرحية، ووليد الصديق الصامت الساخر أبداً؛ لكن وجه خليل أبى أن يفارقه؛ بل زاحم كل الوجوه؛ وجه وليد، ونوري، ووجدي. آآآه نعم وجدي زميل الطفولة؛ ولكن ما علاقة كل هذا بوليد بالذات؛ نعم نعم فوليد وخليل، كانوا في بيروت ملتحقين بحركة المقاومة الفلسطينية كانتلجسيا عراقية  بينما بقي وجدي لفترة وجيزة بعدهم واختار منفاً أوروبياً ابتدأه في إيطاليا، ثم انتقل إلى إسبانيا.
وهكذا  قادته قدماه بعد أن ترجل من التاكسي في حي المزرعة؛؛ للبحث عن وليد في منظمة التحرير حيث يعمل هايل، وخليل، ولم ينس تالار حمله مسرحيته المعنونة “الثانية الصفر” فقد وعده هايل بطباعتها في بيروت، لكن تالار لم يكن يتصوّر أنهم يعملون في المقرّ أبداً، كانت مسودات المسرحية لم تفارقه؛ وقد حملها بين يديه خشية أن تفقد إذا ما وضعها في حقيبة الملابس، حتى وهو يهرول في مطار باريس وهو يجّر ملابسه الجديدة إلى فوق في كل مرّة هبط فيها البنطلون، من شدّة الهزال الذي أصابه في جوع لندن .
فجأة وجد تالار نفسه أمام رقيب موظف في إدارة المنظمة ليبادره بالسوأل:
هل أنت من أقرباء خليل الزراي؟
فتردد تالار للحظات؛ وقد وعي مسألة قد تكون إحد الورطات التي تجري في مكانات مثل هذه ؛ ربما لأنه مرّ في العديد من التجارب بين الأوطان.
أردار تالار ظهره للرقيب، ومضى مسرعاً إلى الباب؛ بينما التفت الرقيب إلى مساعده، وهو يتمتم: بعد قليل سيعود الجميع من المقبرة، وقد ودعوا رفيقهم خليل إلى مثواه الأخير.
رنت تلك الجملة في سمع تالار، فعاد ليستفسر عما جرى، فعرف بأنها كانت عملية انتحار لا غير. وظل السرّ يلتف موت خليل حتى الآن، وهّم تالار بأن يسأل جليل عما استجد، ففهم من نظرات حليم أن يُحجم عن السؤال، فتراءت في خاطره أيام أيلول الأسود في عمّان؛ عندما كان ضمن وفد فني؛ ويحمل هوية لا تحمل سوى أسماء حركية؛ وقد تناوشت الفصائل رمي السلاح بينها؛ ومن السهل أن يتهم أحد الأبطال بالخيانة؛ فينتحر ليتخلص من الكوابيس التي تلفه، ولا يترك سوى ورقة صغيرة مكتوب فيها: أنني فضلت الرحيل بلا أجوبة.

* دمشق؛ خريف عام 1986، وسوف تنشر ضمن مجموعة قصص زهرة لوز بيضاء قانية.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *