في رواية ( الميتة الثالثة والأخيرة لبعد شويخ البدوي ) للروائي أسعد الهلالي ثمة بقعة بيضاء هي جزء من نص محذوف يبدأ بها الراوي المجهول والمفارق حكاياته ، فهو لم يقدم سوى تلميحات سريعة عن موت راضي الصيهود ، الزوج الأول ل ( هدية المحسون ) الشابة التي ظلت وفية لذكراه ، والتي اضطر اهلها بعد مقتله لتزويجها من ( كاظم المعيبر ) ألذي ظل حتى في فترة شبابه الأول يعاني العنّة والعجز الجنسي ، ولم يخض اية تجربة جنسية في حياته باستثناء واحدة مع إمرأة عابرة ، وبعد زواجه في الخمسين من عمره ، من ( هدية المحسون ) تضاعف عجزه وصار يتهرب من الاستحقاقات الطبيعية لزوجه الشابة الحسناء وصار يتذرع بالتهرب منها بادعاء ان ثمة صوت يناديه من ضفة الفرات ليعبّر صاحبه إلى الضفة الخرى ، ولما بهت وقع هذه الذريعة بحث عن غيرها فلم يجد أحسن من أن يدعي بان أحدى حوريات النهر قد تزوجته وأخضعته لسحرها فهو لا يملك عنها فكاكاً ، وقد صدق الناس الكذبة ، وصدقتها زوجه الشابة ( هدية ) بل وصدقها هو نفسه . لكن ما إن توغل الرواية في عمقها حتى نتبين بأن البقعة البيضاء هي ليست جزءاً من نص محذوف ، بل هي جزء من نصّ مؤجل يكشف عبره الراوي طبيعة الميتة البطولية ل ( راضي الصيهود ) الفلاح المعدم الذي تحدى طغيان الشيخ و السركال ثجيل البصيصي ، ودفع حياته ثمناً لهذا التحدي على يد السركال الذي توقع أن مقتله سيجعل الطريق إلى ( هدية ) الحسناء أمامه سالكاً . كما ستكون لنقطة البداية هذه عودات اخرى كلما أوغل الراوي في سرده ، إذ إن ذاكرة هدية التي زادها الحرمان توقداً ستعيد رسم ملامح تلك البقعة ، وتضفي عليها المزيد من التفاصيل ( حين اقتربت
خطوات كاظم المعيبر المسبوقة بسعاله ولعناته المكرورة على التبغ الساخن والبارد ، وكل أنواع التبغ ، ومن صنعه ، كانت هدية تكرر سؤال ذاكرتها : ما الذي يشبه راضي في هذا الغريب ؟ ص / 44 ) ومن البدهي ان نخمن إن سؤالاً من هذا النوع تطلقه إمراة محرومة للمفاضلة بين رجل كانت تحبه وآخر لم يعطها الحب الذي كانت تتوقعه ( كاظم المعيبر ) هو سؤال إنكاري . ولكنها عندما تقارن ما بين راضي الصيهود والمعلم أحمد الذي صارت تطمئنّ لرؤيته تجد أن الفرق بينهما يكاد يتلاشى ، وانهما يوشكان أن يتحدا في رجل واحد .
أما ( كاظم المعيبر ) فبعد زواجه من هدية المحسون وتضاعف وطأة إحساسه بالعنّة ، صار ينتظر عودة عبد شويخ من ميتته الثالثة ، ولم يكن يعلم إن ميتته الثالثة كانت الأخيرة ، فظل يطارد خياله ورائحة النعناع التي كانت تنبعث سابقاً كلما عاد ما أحدى ميتاته فقد امتلك عبد شويخ سرّ الفحولة وظل حتى بعد تجاوزه المائة من العمر فحلاً . ومع ظهور شخصية عبد شويخ من خلال خيالاته التي تراءت لكاظم المعيبر ، ومن خلال رائحة النعناع ، وأحياناً من خلال صوت الناي ، تكون أضلاع المثلث السردي قد اكتملت :
– كاظم المعيبر ( الضلع الأول )
– هدية المحسون ( الضلع الثاني )
– عبد شويخ البدوي ( الضلع الثالث )
تنفتح اضلاع المثلث السردي على بعضها من خلال الضلع الأول الذي يمثله كاظم المعيبر ( كاظم / هدية ) ، ( كاظم / عبد شويخ ) ، وكذلك من خلال الضلع الثاني الذي تمثله ( هدية ) على الضلع الأول ( هدية / كاظم ) بينما ينعدم الانفتاح ما بين الضلعين الثاني والثالث( هدية / عبد شويخ ) ولعل دلالة عدم الانفتاح هذا تكمن في أن آخر ميتة لعبد شويخ كانت قبل خمسة وعشرين عاماً ، وبذلك فإن الجيل الجديد من أبناء أم دهلة لم يتعرفوا عليه مباشرة ، ولم يلمسوا بأنفسهم خواصه السحرية الاستثنائية ، وان كل ما يعرفونه عنه كان قد قيل لهم ممن سبقوهم . ولعل هذا السبب هو الذي جعل الذين تجاوزوا عمر الشباب هم الأكثر من الأخرين تحسساً لرائحة النعناع وانتظاراً لظهور عبد شويخ . وبالرغم من إن الشبان من الفلاحين وزوجاتهم كانوا قد شموا رائحة النعناع صبيحة ثورتهم على الشيخ دامس البرغوث ، إلا إن الحاج بهنس الرجاوي شيخ المنتفضين كان قد تشممها قبل الجميع وبحساسية أكبر ، فقد كان يقرا فيها نصره المنتظر .
أما اتجاهات الإنفتاح فهي متبادلة ما بين الضلعين الاول والثاني ( كاظم هدية ) و باتجاه واحد ما بين الضلعين الأول والثالث ( كاظم عبد شويخ ) لأن اتصال عبد شويخ مقطوع منذ ميتته الأخيرة بالأحياة ، بينما ظلت علاقة الأحياء به متواصلة من خلال رائحة النعناع التي يشيعها ظهوره في قرية ام دهلة .
في السطور السابقة تناولنا طبيعة الانفتاح ما بين اضلاع المثلث ( الانفتاح من الداخل ) وفيما يلي نشير إلى جوانب من انفتاح اضلاع المثلث على شخصيات الرواية الأخرى ( الانفتاح على الخارج ) :
كاظم المعيبر :
– إنفتاحه على المعلم أحمد الحامد من خلال الحوارات التي كانت تجري بينهما في قاربه
– إنفتاحه على الطفل صباح الفاهم الذي كان يحدثه عن دروسه ومدرسته ومعلمه احمد ، وعن المستقبل ، وعن وعد والده له بأن يرافقه لزيارة ضريح امير المؤمنين علي بن أبي طالب في النجف خلال تنقل الطفل صباح بقاربه عبر ضفتي النهر . وقد كان سقوط صباح من قارب كاظم وغرقه ألسبب الرئيسي في انقطاع حلقة كاظم من سلسلة السرد بعد هروبه من القرية إلى حيث لا يعلم احد أين انتهى مصيره .
– إنفتاح كاظم على حورية النهر التي لم تجد لها موقعاً في السرد ، غير إنها وجدت موقعها في ذاكرة زوجه هدية وفي ذاكرة أبناء قرية أم دهلة .
هدية المحسون :
– إنفتاحها على تاضي زوج الحلاق التي تحاول التقرب منها ، وتقودها إلى ( ساحر الموجدات ) ليبحث عن حل لفك علاقة زواجها كاظم المزعومة بحورية النهر .
– إنفتاحها على الطفل صباح الذي كانت تتمنى ان يرزقها الله بطفل مثله ، وقد توجت حبها له بالحقيبة المدرسية التي حاكتها له .
– إنفتاحها على المعلم أحمد الذي بقى الانفتاح ما بينهما في حدود الوهم فهي تشبّهه بزوجها الأول راضي الذي قتله السركال ثجيل .
– إنفتاحها على السركال ثجيل البصيصي قاتل زوجها الأول راضي الصيهود ، وهذا الانفتاح يمثل بؤرة السرد وذروته ، ومنه تتوج الرواية أحداثها بنهاية دراماتيكية يتحقق معها هدف الثوار بالقضاء على رؤوس الطغيان في قرية ام دهلة دون أن يضطروا لإطلاق طلقة واحدة ، حيث تستغل هدية فرصة تسلل السركال إلى كوخها ليلاً للاعتداء عليها ، فتستدرجه إلى مخدعها وتستل سكيناً كانت وضعتها قبل ليلة تحت وسادتها لتقطع عضو ذكورته وتتركه ينزف حتى الموت غرقاً في مستنقع الروث والأسن ، ساحباً معه إلى ميتته المخزية الشيخ دامس البرغوث .
عبد شويخ البدوي :
ينفتح هذا الضلع على كل شخصيات الرواية وحكاياتها تقريباً ، فهو ينفتح على الشخصيات الإيجابية ليكون بالنسبة لها نافذة للأمل ، وينفتح على الشخصيات السلبية ليكون مصدر قلق ونذيراً بالنهاية . وبالعموم فإن أهم مظاهر إنفتاح هذا الضلع تتمثل في :
– علاقته بالوحاش ، وسنأتي عليها لاحقاً
– حكاية تنكيله بالسركال أثناء تعرضه لإحدى فتيات القرية التي أشيع بان الشيخ دامس البرغوث ينوي ضمها إلى صف زوجاته ، وكان السركال يومئذ خادماً في بيت الشيخ وقد وعدته إحدى نسائه بان ينفذ ذلك الإعتداء مقابل ثمن .
– حكاية تنكيله بالشيخ دامس البرغوث وتعليقه بالمقلوب على جذع شجرة .
– قتله للضابط البريطاني الكابتن توماس الذي كان يزود الشيخ دامس البرغوث بالبنادق والاموال .
– إنفتاحه على الثوار الذين قادهم الحاج بهنس الرجاوي قبل إعلان ثورتهم على الشيخ دامس من خلال رائحة النعناع التي اشاعها حضوره الروحي ما بينهم .
بعد انفتاح أضلاع المثلث على بعضها ، وانفتاحها على خارج المثلث ، فإنه من الطبيعي ان ينفتح الخارج على بعضه وتتصل شخصيات الرواية ببعضها ، كما إنه من الطبيعي أن ينفتح سرد الحاضر على سرد الماضي ، ولعل أبرز المحطات التي تم فيها الانفتاح الأخير هي :
– إنفتاح الحاضر ممثلاً بالسركال ثجيل على ماضي الشيخ دامس البرغوث وعلاقات الأخير بالبعثات التبشيرية البريطانية التي كانت تزور البصرة ، وإنجابه طفلاً من علاقة غير شرعية مع ( كاثرين ) الانكليزية ، تكفل بتربيته بعد مغادرتها العرق ليصبح ذلك الطفل فيما بعد خادمه ثجيل ، الذي رقاه ليصبح سركالاً .
– ألانفتاح على الحكاية التي سردها صلاح سالم الذي تعرف عليه إبراهيم زوج فتنة في بغداد عن قتل الشيوخ لعشرة فلاحين في الناصرية بسبب تمردهم على الشيوخ لعدم تمكنهم من ان يسددوا لهم ديون الشاي التي بذمتهم للشيخ وسركاله .
– قتل الشيخ دامي للصّ النبيل ( الوحاش ) غرقاً في دهلة الفرات .
– قتل الشيخ دامس للسيد نور وهروبه من المطالبين بثأره إلى قرية أم دهلة ، حيث مُنح الأمان ، وقوّى شوكته ، واستعاد قوته ، وانقلب ليسلب الأمان ممن منحوه أياه .
– حكاية المعلم أحمد الحامد مع عمه المسؤول الحكومي الكبير في بغداد فخري الحامد الذي رفض تزويجه بإبنته ( نجوى ) التي يحبها ، والذي تآمر لنقله إلى قرى الجنوب لإبعاده عن إبنته ، وعن انخراطه في العمل السياسي .
– إنفتاح الحاضر ممثلاً بالثوار – الذين بدأوا بجمع السلاح للثورة على الشيخ دامس – على قصة خنجر عبد شويخ ذي النصل الفضي الذي سيكون ضمن أسلحة الثوار . وكان عبد شويخ قد تخلص بهذا الخنجر من أسر الجنود الروس في ( دكة الغربية ) حين واجههم مع جيش ( العصملي ) أيام السخرة .
سحرية الموت :
في الرواية أربع عشرة ميتة هي :
1 – موت راضي الصيهود قتلاً بيد السركال ثجيل البصيصي
2 – موت عبد شويخ للمرة الثالثة
3 – موت اللص النبيل الوحاش قتلاً ثم غرقاً بيد السركال
4 – موت السيد نور غدراً بيد الشيخ دامس البرغوث .
5 – موت والد الشيخ دامس البرغوث تذويباً بالحامض على يد إبنه دامس .
6 – موت الضابط البريطاني الكابتن توماس على يد عبد شويخ
7 – موت عبد الجبار نهشاً بأنياب كلب جائع أطلقه عليه فهد العلوان
8 – موت الطفل صباح غرقاً
9 – موت فاهم آل فرج طباخ الشيخ دامس البرغوث
10 – موت ثلاثة من رجال الشيخ دامس البرغوث على يد الوحاش كان قد أرسلهم البرغوث لإحراق بيادر الحاج بهنس الرجاوي المهيأة للحصاد
11 – مقتل عشرة من الفلاحين في الناصرية من قبل السراكيل إخماداً للثورة التي شنوها لعدم تمكنهم من تسديد ديون الشاي التي بذمتهم للشيخ وسراكيله ( القصة التي سمعها إبراهيم الفاهم في بغداد من قبل صلاح سالم الذي تعرف عليه فيها ) .
12 – موت الفتاة الحسناء ( حِسَن إبنة تركي ) غرقاً على يد السركال ثجيل .
13 – موت السركال ثجيل ميتة فاضحة ومخزية .
14 – موت الشيخ دامس البرغوث .
وإن كانت بعض تلك الميتات قد مرت مروراً عابراً – بالرغم من قساوتها – في واقع يهيمن عليه الطغيان الذي يشيع فيه الموت المجاني ، وبعضها كانت ردات فعل متوقعة لذلك الطغيان ، إلا إن ما يثير الاهتمام هو الطبيعة الغامضة والسحرية لبعض الميتات او ما رافقها او أعقبها من احداث منحت الميتة طابعاً سحرياً أزاحها عن واقعية الموت بحد ذاته . وفي هذا السياق تبرز الميتات :
1 – موت والد الشيخ دامس على يد إبنه دامس أيام شبابه من أجل الاستحواذ على سلطته وثروته ، لقد قتل دامي والده قتله هي غاية في الخسة والدناءة وذلك بتذويب جسده في سائل غريب كان قد اشترى برميلاً منه من رجل إنكليزي ليفتت فيه جسد والده ويحوله إلى ( فقاعات تتفجّر ببقية خافتة ، ثمّ تصمت . ص / 150 ) وسرعان ما تشرّبت الأرض السائل المتخلف عن ذوبان جسد الشيخ تاركة فوقها غطاءً من شيء كثيف كالغرين ، نثر عليه دامس التراب ، وغرس فوقه تالة . ويبدو المشهد لحد الأن قابلاً لأن يوضع في إطار واقعي ، قابل للاستيعاب والتصور بالرغم من وحشيته ودناءته ، فتلكما السمتان من سمات دامس البرغوث التي لم يغفل عنها الراوي في أكثر من حدث . لكن ما أعقب تلك الميتة البشعة أزاح المشهد من حدوده الواقعية ، وأضفى عليه طابعاً من الغموض الساحر ( فالتالة النابتة نمت بسرعة غريبة حتى أصبحت بعد أشهر فحسب أطول نخلة في القرية . ص / 151 ) لكنها لم تثمر ، وأغرب ما في المشهد أن المطالبين بثار السيد نور الذي سبق لدامس ان قتله غدراً حين عجزوا عن الظفر به ، لجأوا إلى الانتقام منه بقلع النخلة ، وقد سُمع عند قطعها صوت أنين موجع ، ونزّ منها سائل كثيف أسود كالدم المتخثر . لقد قتل الأب إذن مرتين ، الأولى في حياته على يد إبنه ، والثانية بعد موته على يد اعداء الإبن .
2 – وما انتهت إليه ميتة والد الشيخ دامس من غرابة تشبه ما انتهت إليه ميتة سويلم آل فرج طباخ الشيخ دامس بالرغم من إختلاف طبيعة الميتتين . فسويلم على ما يبدو كان قد مات ميتة طبيعية ، ولم يهتمّ احد بموته باستثناء إبنه ( إبراهيم ) الذي سقى قبر والده بدموعه ، فأينعت بعد أيام زهرة جوري لم تكن قرية أم دهلة قد رأت مثيلاً لها من قبل . وتكاثرت الزهرة مع إطلالة الربيع حتى غدا ( اليشان ) بعد عام على الوفاة غابة من زهور الجوري ، ولكن الشيخ دامس اقتلعها في ساعة ضجر ، وكأنه لم يكتفِ بقتل الإحياء ، بل كان يطاردهم إلى موتهم ليقتلهم ثانية سواء بصورتهم الإنسية ، أو بعد تحولهم إلى ورود .
3 – وإذا كانت الميتتين السابقتين قد اكتسبتا سحريتهما مما انتهتا إليه ، فثمة ميتة إكتسبت سحريتها ليس من الميتة بحد ذاتها ، بل من الإستسلام الآسر لمن تلقوا نبأها إستسلاماً يجعل من الموت تتمة طبيعية لمسيرة الحياة لا يثير دهشة ، ولا استغراباً ، ولا يوجب حتى البحث عن جثة الميت ، بالرغم مما يثيره من حزن الفراق . وفي هذا السياق تندرج ميتة والد كاظم المعيبر . فبعد أن تسنى لكاظم في أيام شبابه ان يأخذ بنصيحة عبد شويخ ، ويجرب للمرة الأولى ( والأخيرة ) ان يستمتع بليلة ساخنة مع ( غزالة الكاولية ) التي أفلحت لمرة واحدة فقط ان تفك مغاليق فحولته ، سارع يخبر والده الذي كان قد يئس من أي أمل يُرتجى لعلاج إبنه من عنّته ، لكنه وجد فراش والده خالياً ، ويبدو إن الدلالة هنا تنفتح على نص مخفي ، وعلى القاريء أن يستحضره بذات الآلية التي اعتمدها كاظم لتفسير دلالة خلو فراش والده . فصرخة الالتياع التي أطلقها كاظم بعد رؤيته لوسادة ابيه منكفئة قرب الكانون الخابي في كوخه الخالي من اي أثر منه ، تلك الصرخة التي استدعت للتو صديقه ( شنون الأدبس ) تعني أن ثمة مكروهاً قد أخفى أثر الرجل ، وإن الحوار المبتور والمفتت الذي دار بين كاظم وصديقه الأدبس يُنبيء بذلك أيضاً ، دون أن يعلمنا الراوي بطبيعة ذلك المكروه ، والمؤشرات الواقعية التي قادت إلى هذه القناعة ، فشنون الأدبس يبدا الحوار بتوقع لا يستند إلى قرينة ( هذا ما توقعته ) ثمّ ينتهي إلى نتيجة لا يسندها منطق السرد الذي يفترض اعتماد مبدا ( السبب والنتيجة ) مكملاً جملته المبتورة ( لقد تلاشى ) دون ان يفصّل كيفية التلاشي ، أو مآل الجثة ، وتكون إجابة كاظم على جملة شنون الأدبس المبهمة بجملة لا تقل عنها إبهاماً ، لم تتبين منها سوى كلمتها الأولى فقط وهي حرف الإبتداء ( لكن ) بينما حذفت بقيتها لتجعل مهمة استحضار الدلالة المخفية من مهمات القاريء . ويستمرّ الحوار على ذات المنوال ما بين كاظم المعيبر وشنون الأدبس ( جمل تقريرية / حرف ابتداء / صف من النقاط المتراصة / ثمّ بتر لحرف الابتداء غير العامل ( لكن ) .
– هذا ما توقعته .. لقد تلاشى
– لكني …
– لا فائدة .. تفتّتَ من فرط الحسرة ..
– لكني ..
– إنك الأن المعيبر الأخير لأم دهلة
– لكـ …
( ص / 28 )
لكن وطأة البحث عن الدلالات المبتورة في الجمل المقطعة تخف مع تقطع بنية حرف الابتداء الأخير من الحوار ، إذ يضطر الراوي المحتجب والمفارق أن يقدم له تفسيراً ( ذابت آخر كلماته – أي كاظم – وهو يحلّ عقدة الحبل … ص / 29 ) . لكن البتر لا يُدرك الحوارات فحسب ، بل الأحداث أيضاً مخلفاً وراءه بقعاً من المساحات البيض يتلاشى فيها الدال تاركاً للقاريء إفتراض المدلول أو تأويله أو تجاوزه إلى بياض آخر ، فكاظم المعيبر الذي فقد أبيه في لحظة غير محسوبة من الزمن ، ترك أمر اختفائه مدفوناً تحت أشلاء رغبات جسده الميتة ، ولم يفكر أن يبحث عن جثته ، ولم يحدد طبيعة الميتة التي انتهى إليها ، علماً إن الراوي في إشارة سريعة وعابرة لمّح بعد مرور أكثر من ( 100 ) صفحة على حادث ( تلاشي الأب ) بأن اختفائه كان غرقاً ، عندما أشار بأن ( قاربه القديم – بعني كاظم – شهد تلاشي والده . ص / 133) . وبدل أن يتواصل ما كان النص السابق على الحوار قد ألمح إلى إمكانية حدوثه ، بل وحتى الحوار ذاته قد ألمح إليه من خلال أصرار الصديقين على مناقشة قضية اختفاء الأب ، إلا إن البحث في هذه القضية ينبتر عند هذا الحد كما انبتر من قبل الحوار الذي أثارته قضية الاختفاء ذاتها ، فدلالة البحث في الأمر أدركت الأمر ذاته لينتهي الحوار وتبعاته إلى النتيجة ذاتها وهي (البتر) ، وكأن شيئاً لم يحدث ، ليواصل بعد ذلك كاظم المعيبر الرحيل بقارب أبيه على الفرات ( موصلاً بين ضفتيه ، مستسلماً لمحاولات إستطالت ولم تفلح بالعثور ثانية على مكامن الدفء في جسده ، تلك التي لملمتها غزالة فجر ذلك اليوم . ص / 29 ) فالأب منذ لحظة اختفائه اصبح الماضي الذي لا جدوى من الالتفات إليه ، بينما بقي جسد كاظم هو الحاضر المضطرب بالبرودة واليباس ، وهو لم يزل في أول عهده بالشباب ، وتزداد البرودة استفحالاً ، واليباس قسوة مع رحيل (غزالة الكاولية ) دون أن تترك وراءها أثراً .
4 – على إن أكثر الميتات غرابة وسحرية هي الميتات الثلاث لعبد شويخ البدوي ، ولا شك أن سحريتها تتأتى من تكرارها ، دون أن نعلم بالمسافة الزمنية التي شغلتها كل واحدة من حيواته ، ولا بالفواصل الزمنية ما بين كل ميتة وكلّ ظهور ، وكل ما نعرفه إنه قد تجاوز المائة من العمر ، ومرة أخرى لا نعلم إن كانت تلك المائة هي عمر حياة واحدة من حيواته الثلاث ، أم انها مجموع سنوات الحيوات الثلاث كلها . إضافة إلى التساؤلات الزمنة المحيرة عن عمر الرجل والتي لم يقدم لها الراوي تفاصيل وإجابات وافية ، فعبد شويخ البدوي الذي تحمل الرواية إسمه والذي يشغل بال اكثر شخوص الرواية انتظاراً وقلقاً لم نعرف عنه أكثر من :
– مات منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً على بدء أحداث الرواية ميتته الثالثة والأخيرة .
– كان يسبق ظهوره بعد كل ميتة من ميتاته السابقات عبق من رائحة النعناع ، وأحياناً عزف ناي .
– إحتفاظ الرجل بفحولته حتى بعد المائة من عمره ، وامتلاكه لسرها ، لذلك ظل كاظم المعيبر العاجز جنسياً يبحث عنه ، أو كما عبر كاظم ( لست الوحيد الذي ينتظر عبد شويخ ، إلا أني الوحيد الذي يحتاج الفحولة . ص / 14 ) وقد ألمحنا لذلك سابقاً .
– كان هو واللص النبيل الوحاش يحرسون الجميع ويمنحونهم الأمان ، وبعد موت عبد شويخ ميتته الثالثة تجرّأ الشيخ دامس على إرسال السركال ثجيل لقتل الوحاش .
– قتل الضابط البريطاني الذي كان يمد الشيخ دامس بالمال والسلاح .
– حين كان السركال ثجيل في السادسة عشرة من عمره تعرض للضرب المبرح على يد عبد شويخ الذي كان قد تجاوز المائة من العمر ، وذلك ليمنع ثجيل من التعرض لإحدى فتيات القرية . وقد ألمحنا لذلك سابقاً .
– لم تصح الديكة صبيحة موت عبد شويخ الأخيرة ، وبذلك اصبح سكوت الديكة صباحاً فألاً سيئاً ونذير شؤم .
– علق الشيخ دامس من قدميه على جذع شجرة . وقد ألمحنا لذلك سابقاً .
– كسر حفيده نايه بعد ميتته الأخيرة حنقاً لأنه حتى بعد موته لم يستطع دفع الموت عن شياهه التي نفقت دون سبب
– قاتل مع ( العصملي ) في ( دكة الغربية ) واسر من قبل الجنود الروس ، وفك أسره وهرب . وقد ألمحنا لذلك سابقاً .
نموذج من إحدى ميتات عبد شويخ :
تمنح سحرية الموت عبد شويخ القدرة على برمجة ميتته بضبط موعدها والتحكم فيها حسب ما يشاء ، ومشيئته ليست عبثاً ، بل هي إنجاز لمهمات تاريخية ترتبط بمصائر الفلاحين بالرغم من إنها نتاج البطل الفرد الذي تستحضره الذاكرة الشعبية وتمنحه قدرات خارقة فوق بشرية للدفاع عن مصالحها وحقوقها ضد الطغاة والمستبدين ، والذي يتواجد دون استدعاء علني في كل مكان تجد الجماهير حاجتها إليه فيه . فبعد أن تمكن عبد شويخ من قتل الضابط البريطاني الكابتن توماس ( عاد إلى كوخه ليموت ضاحكاً ضحكته الأسطورية . ص / 93 ) ، هذه الضحكة يمكن تفسيرها إما على إنها ضحكة الانتصار على القوى ، أو إنها ضحكة الفرح بإنجاز الواجب على اتم وجه ، أو إنها ضحكة السخرية من الموت الذي ينتظره ما إن يُتمّ آخر واجباته في الحياة وهو قتل أحد رموز الاحتلال البريطاني في العراق . وبكل الأحوال فالنص يوحي بأن الرجل كان على علم بموعد ميتته ، لكن سحرية هذه الميتة لم تنته مع عودة عبد شويخ إلى كوخه وإطلاقه لضحكته الأسطورية التي اعلن عبرها استعداده لتلبية دعوة الموت ، بل امتدت حتى إلى ما بعد دفنه ، حيث يقول كاظم المعيبر الذي حضر دفنه ، وهو يتحدث إلى خيال عبد شويخ المرتسم أمامه ، إنه بعد أن أهالوا التراب على جثمانه ( كنت أرى اصبعك يشير لي من خلف الكفن بما ينبهني لقرب عودتك . ص / 148 ) فهل كان عبد شويخ قد استسلم للموت ، أم انه كان يلعب معه ؟
سحرية الانبعاث :
ليست ميتات عبد شويخ وحدها قد اكتسبت طابع السحرية ، بل إن انبعاثه بعد ميتاته تلك يكتسب أيضاً طابعاً سحرياً ، حيث يُشيع في أجواء قرية أم دهلة وضفاف الفرات عبقاً طاغياً من رائحة النعناع التي يتحسّسها – من بين الجميع – صنفين من الناس :
– الصنف الأول : يمثله من يحبونه ويحتاجون إلى عونه ، ويعولون املاً على ظهوره ، لذلك هم ينتظرونه بصبر نافذ ، ويتحسسون رائحة النعناع بشوق عارم .
– الصنف الثاني : من يكرهونه ويخافون من ظهوره من المستبدين الذين كلما عبقت رائحة النعناع كذبوا أنوفهم لأنهم يدركون عبر تلك الرائحة بأن عمر استبدادهم آيل إلى زوال .
فرائحة النعناع التي تخامر كل من يحدوه الأمل بعودة عبد شويخ من ميتته الثالثة لم تخامر ذاكرة كاظم المعيبر فحسب ، فقد عادت لتخامر ذاكرة الحاج بهنس الرجاوي بعد أن قرر هو وولديه ( حمد ومجيد ) وضيفهما ساجر الفهد والمعلم احمد الحامد جمع السلاح والرجال للوقوف بوجه طغيان الشيخ دامس البرغوث ( شعر إن فيضاً من رائحة النعناع قد مرّ الأن أمام كوخه حيث يقف تماماً ، فيض من ملامح عبد شويخ المرتوية برجولة تنثّ نعناعاً ، حيث يطلّ طيفه في ذاكرة متخمة أو أعين مشدودة بالرجاء . ص / 248 ) . وعندما أصبحت ثورة الفلاحين على الشيخ دامس حقيقة أذنت ساعة اندلاعها ، صار الفلاحون يشمّون رائحة النعناع ( منسابة على أنوف النساء الغافيات ، فابتسمت شفاههنّ في رقة جذبت إليهنّ رجالهنّ الذين ضمخوا مكاويرهم وفالاتهم وخناجرهم بعبق النعناع . ص / 264 ) تُرى هل هي رائحة الأمل ، أم هي رائحة الوهم وقد امتزجا معاً في نفوس أرهقها اليأس والانتظار ؟ وقبل أن تندلع الثورة بوقت وجيز ، كان قائد الثوار الحاج بهنس الرجاوي قد اكتشف بأن ( رائحة النعناع لم تكن بهذه القوة يوماً مذ مات عبد شويخ . ص / 289 ) لكن الثورة كانت قد اندلعت وانتصرت دون أن تُطلق رصاصة واحدة ، فقد تمكنت هدية المحسون ان تثأر لمقتل زوجها الأول راضي الصيهود من قاتله السركال ثجيل البصيصي ألذي كان قد اقتحم كوخها ليغتصبها ، لكنها سارعت بامتشاق سكين كانت قد خبأتها قبل يوم واحد تحت وسادتها لتقطع عضو ذكورته ، وتتركه ينزف طول الليل ، وتحت وابل من المطر ، ليموت ميتة مخزية غارقاً في مستنقع النتن والروث ، ساحباً معه إلى ميتته المخزية رمز الطغيان الشيخ دامس البرغوث ، بينما ( عبقت رائحة النعناع . ص / 304 ) لتعلن انتصار ثورة النعناع انتصاراً نسوياً حاسماً على يد واحدة من ضحايا التمييز والتخلف ، تلك الثورة التي استمدت عزمها وقوتها من رائحة النعناع التي أشاعها عبد شويخ دون ان يكون له اي وجود حقيقي طيلة الرواية .
ليث الصندوق : واقعية الميتات السحرية في (الميتة الثالثة والأخيرة لعبد شويخ البدوي)
تعليقات الفيسبوك