هشام القيسي شاعر ذو أسلوب يبحر في أغلب قصائده من خلال أطر جمالية لا تنفك تضفي على أعماله ذلك التميز الذي تفرد به وصار عنوانا له حيث برهن لنا فاعليته في الإمساك بالخيوط الشعرية التي يؤسس وفقها نصوصا متماسكة عبر لغة ذات رنين وتوهج وسلاسة ورقي .
وهو واحد ممن اثروا المكتبة الثقافية بالعديد من الابداعات ، وكانت لكتاباته الشعرية والنثرية الأثر الملموس في نفوس النقاد والقراء إنطلاقا من ان معطياته هي آفاق تزهو فيها إرهاصات أجيال تعاقبت وتوالدت إبداعاتها في ظل ظروف ومراحل ومستويات متعددة متشعبة .
ومؤخرا صدرت مجموعته الشعرية الجديدة ( ثمة ما يجري دائما ) عن دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق . ويقينا إذا ما تصفحنا المجموعة وتناولنا قصائدها الشعرية بكل تجلياتها فعلينا الصمود بوجه تلك النصوص المتلاطمة التي تقتضي البحث في الأعماق المليئة باللوحات متعددة الهواجس ومنظومات التجارب من خلال التوغل في الأنساق الإشارية التي يرتب بها القيسي هواجسه وإنثيالاته والتي جاء بعضها عبر فكرة تدور حول ظاهرة الانسياق إزاء تهاويل الخيال التي تسرق حياة البعض وترمي بهم في متاهات الوهم :
( ينتشر الألق منك
والأفق مملوء بالشموع
هذي القصائد تغنيك
وهذا وقت آخر
يبوح
لعلي حين أتنفس الشعر
تكون السحابة داخل نبضها
وتكون داخل التجوال
والسؤال ) ( 1 ) قصيدة شمعة ص 44
و
تعرف انها
وسط الحلم
وبعد أن يشار إلى الصباح
تسوق فراشاتها دونما ضجيج ) ( 2 ) قصيدة في صحبة البريد ص 48
وتأتي نصوصه الأخرى مشحونة بهموم وآلام وأوجاع هي من سريان مشاهد يعصف بها التمزق :
( هي المواسم
تحمل جرحا بقلب ساكن
وبمواقد تألف النيران
من يجمع همه
ولا يبكي ؟
ومن يطفيء ضجيج النهار
وصدأ النهاية ؟ ) (3 ) قصيدة أقاصي الحكمة ص 17
ويتوقف عند الزلزال والشر القادم من خلال قصيدة ( كائن غير أليف ) وما رافقه من زعيق :
( كما يزعق البرق
كما تمشي مخالبه
تتسلل الأيام أحيانا
من تحت جدران محروقة
وتتفتح في الطرف الآخر
لهجات متقاعدة ) ( 4 ) كــــــــــــــــذا ص 26
وما حمله من أهوال وعواصف هوأدرى بصيروراتها ومراحلها بكل فواحشها وخطاياها :
( حمالة البارود تفقأ بكارة الطرقات / وفي خرائب القارات تبقى وحيدة / حالمة / سعيدة / مخالبها تنعق / وخزاناتها حطام في كل اللحظات / لا أحد يدري على حدود قريبة تفتح أو تغمض عينيها / لا أحد يدري كيف تمشي / فالذئاب تحوم في أيام تتخفى / وفي أيام تشهر الفواحش … ) ( 5 ) كــــــذا ص 30
ونجد في قصائد المجموعة بعض النصوص التي ترقى الى مستوى عال من الرمزية إزاء القصديات المنعكسة عن المضامين الحياتية ، ذلك ان الشاعر يعتمد التنويع إزاء الأنماط الأسلوبية واللغوية وبما يمكننا من الابحار إلى مرافيء بعيدة عن الدلالات المنظورة والمتداولة :
( غيوم تسرد الكتابة
غيوم تتدثر في حشد لا يحدق
ولا يفرك نعاسه
في طريقه
إنه العزف
إلى الضجر الموعود
وإنها العزلة
كأغنية مجبولة بالجمر 000 ) ( 6 ) قصيدة في كل مكان ص 54
و
( ألتحف بآخر ما أملك
لم يلحظن سوى صخب
وخطوات أكثر مما أطيق 000 ) ( 7 ) قصيدة مرايا ص 59
كذلك
( بلا وجل /ود لو تكون صفة / تحلم بالريح ) قصيدة رغبة تتجرد هذا الصباح ص 61
ولمشاهد الذات وقفات صدح بها ، فهو لم يعتمد على ثيمة مستلة من متون محددة بل أفصح عن توزيعات الداخل على وفق رؤى ومعان جميلة حملت في طياتها جانبا عميقا من الأنفاس الرومانسية :
(عليك الآن أن تسير من جديد / وتعبر رحيق الطرق المقرورة / فحكاية العشق / تفوح منها أحلاما مرفوعة / تنطق بالانتظار 000 ) ( 8 ) قصيدة معزوفات كركوكي على صناجة
الوقت ص 140.
فالعشق وفق مفهوم الشاعر يندرج تحت منظور الحياة بأوسع النقاء والشفافية والهيام :
( حين أنظر إليك
تبدو الأيام زهرة
تنصت للعشق
وتصدح
وحين أفتح نافذتي
وسط الصباح
تتوهم الأوراق
وتلوح
أحلم بنفسي
في قلب يتنفس أمسي
لا أحد غير ما ترسل أيامي
وما سيأتي
فأنت فراشة
تطوف لتصدح شمسي 000 ) ( 9 ) قصيدة طيف ص 142 .
لقد صدرت مجموعة القيسي في وقت نتعثر فيه بركام من منحوا أنفسهم لقب ( شاعر ) وما انفكوا يمطروننا بكلام ليس فيه من الشعر إلا الشكل المجرد حيث تحول ميدان القصيدة إلى منطقة هشة ازدحمت بالكثير من الأدعياء والكتابات التي هي في أحسن حالاتها لا تعدو سوى هذيانات بلا معاني تدعي الحداثة والتمرد على القافية ورغم كتاباتنا وإشاراتنا النقدية فمازالوا يعاقرون صنعة كتابة ما يسمونه ( شعرا ) بعناد ومكابرة . وهنا لابد من التأكيد على إن الشاعر القيسي حمل أمانة القلم منذ أربعة عقود عمق من خلالها إحساسنا بالحياة عبر صدقية ووضوح ورقة من خلال ابداعه في تشكيل فضاءاته الشعرية والنثرية واشتغاله على ما يمكن وصفه
بــ ( وعي الحياة ) ، لذلك يقتضي الأمر الإشارة إلى ان الكتابة عن أدب القيسي هي مقاربة أشبه بمسار اللعب بالنار ، لكنها مثل نار الشتاء فاكهة يأنس بها الجميع .