رياض عبد الواحد ك الانطلاق من لحظة الحلم
قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية (بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق لقالق ميتة) للشاعر حسين عبد اللطيف

بين ما ( أراه ) .. وما ( أقوله )
بين ما ( أقوله ) ..وما ( أصمت عنه )
بين ما ( اصمت عنه ) .. وما ( أحلم به )
بين ما ( أحلم به ) .. وما ( أنساه )
                  يكون الشعر

                                       اوكتافيو باث

بهذه المتوالية الشعرية يشتغل حسين عبد اللطيف في مجموعته آنفا . بيد أن هذا لا يمنعنا من أن نجتاز هذه التسلسلية لنقف عند سؤال مهم يتمحور في الآتي :
ما الذي يربط بين شاعر عراقي ومنبت شعري يبعد عنه آلاف الكيلومترات غير مراد التجريب , والولوج إلى منطقة  غير مأهولة لم تطأها قدما الشاعر من قبل .إنها تجربة حساسة , بل مغامرة لشاعر نحت تاريخه الشعري بأزميل الحقيقة والنقاء والدأب .  فالشاعر حسين عبد اللطيف ومنذ مجموعته الشعرية الأولى \ على الطرقات أرقب المارة \ 1977 يبحث دائما فيما يتبدى وراء الأشياء , ولا نبالغ إذا ما قلنا انه يجلس على محورها الرئيس , لهذا غدت ذاته دائرة مركزها الإنسان , ومحيطها نزوعات ذلك الإنسان , وإرهاصاته , وأبعادها كل ما يختلج في الروح من معطيات من دون أية خسارة على المستوى الفني . وأنا أقلب مجموعته آنفا , اكتشف ثانية يقيني  لمهاراته السرية المتجسدة – هذه المرة – في صياغات صغيرة في مبناها  وكبيرة في معناها ودلالاتها مما يشكل نصوصا إبداعية مؤطرة بالفطنة والحنكة واليقظة الواعية  والمدارك الثاقبة . إن بلاغته في عفويته المقدسة  , وإدراكه الراسخ لقيمة الإنسان  ومنابته وامتداداته الروحية .انه مجموعة من القيم الإنسانية التي تسير على قدمين مرهقتين  , وتنظر بعينين غير مضببتين في رؤيتها ورؤاها , انه روح هائمة في سماوات السنابل والحدائق والفراشات والسواقي والثمار والحب والفناء والصدق والخيبة . وحيث تجتمع هذه كلها تتشكل القصيدة طاوية صحراء الجدب وصخب الضغائن التي تنحر الشعر قبل القلب ,لكن ولهه الإنساني أقوى من سكين الوقت , وأمضى من ضغينة الثقوب السوداء المنتشرة على أجساد البعض . ثمة بساطة متفلسفة بيد انها منسجمة ومندمجة مع الفيض الإنساني لهذا الشاعر – الإنسان , إنها مرسومة في كل خلية من خلاياه بنحو تكافلي . من هذا المنهل الثر يستقي حسين عبد اللطيف ثراءه الشعري , حداثته التي

الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف
الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف

تستجلي الأزلي فيما هو آني , وتعبر بحلم يقظ من الآني إلى المستقبلي وهذا هو سر تميزه وتمايزه . إذن هذه التجربة تجربة انبثاق نحو الأزلي في الطارئ , ودفع الطارئ باتجاه حرث الجوهري من اجل صوغ شعري يتنفس من رئة  الوجود الصادق . انه يتعامل مع الكون بروح سامقة لكنها مندهشة , باحثة عما لا يؤرقها في مكان قصي لتزهر فيه ثانية من دون عناء ومكابدة .

المتعاليات النصية
يسعى النقد المعاصرلأستجلاء مكامن بنية الرواق النصي وهيكليته قبل الولوج إلى باحة النص بسبب أهمية فحص ذلك الرواق وتمشيطه قبل فتح باب النص الرئيس مما يجعل المتلقي مزودا بحيثيات مسبقة وطرق نيسمية معلَمة تساعده في فك لغز التشفير القابع في أقفال  النص . مما لا شك فيه إن تصميم وشكل الكتاب أول ما يشد المتلقي , اعني تصميمه الهندسي . أتخذ ت المجموعة شكلا مغايرا لما هو معهود إذ إنها جاءت على هيأة مستطيل مبسوط ولعل الأمر شكلي أكثر مما هو مضموني .أما \ النصيص \ ونقصد به العنونة الرئيسة  فتعطي للنص هويته وتساعدنا في ضبط انسجامه بنحو عام , وفهم مستوياته الغامضة , إذ  إن ما يكتنزه النصيص من إثارة وتشويق يزيد من سعة التأويل .  فالثنائية المعتمدة في نصيص هذه المجموعة هي الحياة والموت , والشروق والمغيب بواسطة حديه الرئيسين : البرق + اللقالق .تتوسط لوحة تشكيلية الغلاف الأول , وهي للفنان والناقد التشكيلي خالد خضير  . واللوحة عبارة عن تعبير تجريدي كاليغرافي ذي بعد رمزي لا تنفك رموزه بيسر .فاللوحة كما نظن نص بصري آخر ذو تراتب لوني وتخطيطي , وتنم عن يقينية بصرية تتجلى في اكتشاف مفرداتها . وتبدو اللوحة للمتأمل فيها مليا إنها عبارة عن جناح مفتوح يخيم على بدن طولي يظهر باطنه من الأسفل .  فهي تضمين رمزي لسقوط حر بفعل مؤثر خارجي  . استعمل الفنان الألوان الداكنة ليجسد فكرة القلق والخوف , فاللوحة تصور لنا من خلال خطوطها المتشابكة والداكنة باللون الأسود اللحظة المجهولة , والأفق المحاط بالخوف  والوجل بسبب مجهوليته لأن اللون الأسود يشير إلى العماء الأكبر الذي يصيبنا بالذهول . وركزت اللوحة أيضا على اللون البرتقالي لأن اللون الأسود لا يقبل تشكيليا الألوان الباهتة . أما اللون الأصفر فيثير فينا إحساسا بالموت والفناء  . أحيطت اللوحة باللون الرمادي وهو لون  يوحي بالغموض والسلب . أتسمت اللوحة بالخطوط الأفقية التي تزيد من سعة الارتباط بالأرض كما تثير فينا التوتر والترقب وتزيد من الطبيعة الحركية والاندفاع والإحساس بالسقوط . جاء اسم الشاعر تحت اللوحة مباشرة وتحته بنية  تجنيس العمل \ متوالية هايكو \  والمتوالية تعني مجموعة من الإغراض أو الأحداث المرتبة بنمط خطي إذ يكون ترتيب أعضاء المتوالية محددا ومميزا بنحو تام , بمعنى ارتباط بعدها بما قبلها وفق قاعدة ثابتة . إذن التجنيس يميل إلى العلم في حده الأول فهل هنالك من صلة بين العلم والشعر لكي يضع الشاعر مثل هذه العلامة اللغوية العلمية ؟ يمكننا القول إن هنالك صلة واضحة بين الشعر والرياضيات فيما يخص في اقل تقدير الشعر الموزون ذلك إن (( بحور الشعر وتفعيلاته قائمة على الدقة والتوازن وكأنها معادلة متساوية الطرفين لأن أي تغيير في حركة التفعيلات سيغير الوزن مما يؤدي إلى اختلال الموسيقى الداخلية للبيت وتخرجه من بحره المعتمد \ الشعر والرياضيات والفيزياء \ سال يوسف الجابر \ منتديات مدن الالكترونية \ . إذن ثمة رباط بين الشعر والعلم بنحو أو بأخر وكان اختيار الكلمة مستند على بعد منطقي . الغلاف الأخير يتضمن صورة وسيرة ذاتية للشاعر مع توصيف للهايكو . العتبة الأخيرة هي الإضاءة الطويلة التي حددت مسارات واختيار مثل هذا النوع من الأعمال ورؤية الشاعر له .
تتكون المجموعة الشعرية من (224 ) ومضة غير مرقمة وغير معنونة حتى لا تخرج عن دائرة الهدف الرئيس للمتوالية . تشتغل النصوص من اجل تعميق الأثر المقصدي إذ تخرج من عباءة كينونتها المتمثلة بالغموض الذي يلفها إلى الأفق الأوسع الذي يعطيها أوكسجينا لتفك اشتباكها السحري الذي يتراكم صعودا لمسك المقتربات التي تزيد من سعة العنف , ويكشف سر المحجوب \ اللامرئي

الطعنة …. قبلة المدية
والجرح :
احمر شفاها

يحول الامتصاص اللغوي بنحو سريع ما هو تعبوي لما هو عاطفي , إذ نرى إن بين الطعنة والقبلة مسافة إنتاج قصيرة جدا من الناحية الزمنية  , إذ يحصل انتقال خاطف من قبح الطعنة إلى ثراء القبلة , انه تداخل البرانى والجواني لتوسيع المديات الثنائية المتنافرة بنزوع تقابلي متقن .
الطعنة ………. قبلة
الجرح ……… أحمر شفاها

هكذا تترمم الأفعال فيما بينها بنحو تعالقي غير منفر لكي يبقى الشعر في خانته الأصلية . ولا يقف مبدأ توسيع الإحالة على ما هو ملموس بل يتعداه إلى رؤى أخرى تحاول خرق المتداول بنحو غرائبي , وغير متوقع , بمعنى إننا ندرك هذه الحقيقة لكن تكويرها على ما هي عليه شعريا هو الامتياز

الدينار
على الرغم من انه ورق
لكنه
لا ينمو على الأشجار

هكذا يخرج الدينار من عالمه ليستقر على عوالم ليست من تصنيفه بيد إنها من صنفه لأن القضية الرئيسة –هنا –  هي الإنسان وما يسد رمقه .إذن هذه الورقة \ الدينار أضحت سر الحياة  , بها تنبني سعادة الإنسان , وبها تنبي – أيضا-  تعاسته , لهذا انحرفت عن مسارها شعريا لتشتغل على بنية التوليد والتوالد . وعلى الرغم من وقائعية كل المفردات إلا إنها تكتنز كفاءة دالة , تبادلية تكمن في اقتراح حقل دلالي آخر يهتم بالغايات . انه ورق طبقي إذا صح التعبير حتى في تصنيفه . هذا الانسلاخ لم يأت مما هو براني بل هو في كينونة الشيء , في تجلياته , في ضديته على حقله وجنسه وتصنيفه . ولا نعدم المنطق إذا ما قلنا إن هذه الإحالة ترينا كيف تتمدد الأشياء خارج كيانها المألوف | ورق لا ينمو على الأشجار | لا ينمو برانيا بل جوانيا \ ينمو في الجيوب \ . إنها مضاعفة خارج المألوف , وصوغ يؤطر أفق المهارة النصية , انه عملية استجلاء اللامرئي , وكشف عن مضماره الأبعد عبر إلغاء الحصر المكاني , والامتداد فيما هو تفصيلي لأزاحة الأشياء من مكانها كي تتيح حركة في المغايرة المحسوبة حسابا دقيقا . وتتمدد النصوص على فرشة الفيوضات , والمديات لأستدعاء الفراق والوحشة ومناشدة الروح التي تهوم فوق النهايات المؤلمة , وترفرف لتستدعي كل ما هو جميل , لأنها – في الأصل – صرخة في وجه الفناء , واستدعاء وجوبي لصفة البقاء النوعي , إنها عملية إحاطة الفناء بثاني أوكسيد البقاء .

في الباحة المضاءة
على الأزهار التي فوق التابوت
تحوم فراشة

إن  \ الجسد \ لا يتوارى بل يتحرك ليتيح اطمئنانا لكل ما هو جميل وان كان مقيدا بالمكان المغلق .انه خروج نحو فضاء الحرية من تحت ركام الموت , وانه – كذلك – شبق كينوني للفراشة , وصرخة ضد النواح على مساحة الحياة الأبهى والأجمل . انه الفائض الروحي خارج مدى القهر البراني . تنطلق هذه النصوص من أوجاع اللحظة محلقة في زمن اجدب , عقيم ,إنها صورة الانسحاق والاغتراب مما يقع بين اليدين وأمام العينين من دون وجود القدرة على التغيير بل الرضوخ إلى المتحصلات النهائية المشؤومة والسوداوية

جواد العربة المكدود
الآن يشعر حقا
إن عليقته تبن

هكذا يشيع النص وجعه , انه ليس جواد العربة المكدود , انه الإنسان النبيل المربوط بعربة الزمن , هو الإنسان المخبوء وسط  فجيعته , معاناته المنفجرة , قهره العاري , انسحاقه حد الموت . انه الاختلاف ضد زمن ملعون , الاختلاف الساخر بمرارة لا تعرف التلفيق لكنها – مع هذا كله لا تموت في الكلمات , انها تحيا بالآخر , بالإنسان – الإنسان , المشبع بروح القناعة والرضا الروحي . وتنبثق لغة التضاد من اتساق مطرد بين المفردة وحمولتها

ثيابي التي ارتقها بيدي
لا تقل أبهة
عن ثيابك الجديدة
أيها الإمبراطور !

تبقى الذات منغرسة في قيمها الثابتة , تغسل بنقائها الديكورات الخارجية ,فالأبهة لا تحسب بالمظهرية بل بالنظر إلى الجواني  الذي يؤثث أنا المتكلم بضمير لا يعرف الحيادية بل يفترش منابع الأبهة الروحية .انه نص يعين فخامته الروحية من دون أن يمحو وجوده في عالم مظهري , لهذا يظل كيانه البرانى , اطمئنانه على ما تبقى ليرمم طقوسية خارج المألوف , طقوسية تنظر بفائض الرؤية لا بفائض المظهري لتركن إلى المطلق أكثر مما تركن إلى الطارئ الزائل , انه يتخلص من خديعة العقل بطقوس العفة لينطلق في أفق أرحب وأجل

أنتهيت إلى ماء السبيل
وحدي , أشرب باردا ولذيذا
فكعت …. نفسي

إنها حالة الخروج من الفردانية  , من ظمأ الفم إلى ظمأ الأفواه , من تأنيب النفس الأمارة بالاشتهاء , إلى النفس الباحثة عن الملاذ , عن كبح جماح الغرائز لترتقي إلى مصاف الدرجات العليا . إن \ الماء \ – هنا – على الرغم من واقعيته لكن النفس تكسر قيده بما هو مشروع , النفس تكسر أغلالها , قيودها , وتحرر الجسد من شهوته الآنية عبر تضاد متنوع

قطيع الزيبرا
يرعى طليقا في البراري
لكن بثياب السجن

هكذا تتمازج الحرية بالقيد ليكون الجسد هو العذاب القسري , العذاب المفروض , انه القيد الوجودي الذي يشد على البدن ليستلبه .لاحظ البراعة في النقل الكاميراتي واللقطة السينمية اللماحة التي تستجلي لغة تتسق فيها المفردة مع حمولتها التي تنسج علاقة عضوية بين البراني والجواني بضربة فنية تعود إلى مناخ اللوحة المرسومة أمامنا والتي استطاعت أن تؤثث رؤية جديدة لصورة طالما نراها لكننا لا نفكر فيها بالطريقة نفسها . ويتخذ القصد المبيت مساحة مهمة من هذه المجموعة , إذ تنبي اللبنات وفق سياق ممنهج يعمل على وضع أية لبنة في موقعها الذي ينبغي أن تشغله في بنية المتوالية  :

كأن لي عليه دالة
أو بيني وبينه وشيجة
الكشتبان
يتحمل عني , وخز الإبر

إن عبارة \ الكشتبان\ ذات وظيفة وصفية , ترمي في مقاصدها المبيتة إلى ما يقي الإنسان من المؤثرات الخارجية بما يعزز من  وجوده واستمرار سلامته , وان \ الوشيجة تبدو ظاهريا حقيقية إلا إنها مجرد رابط نفسي لأن إسباغ ما هو حسي على ماهو جماد لا يمت إلى الحقيقة بصلة لكنه لا يستحيل شعريا , إذ يتجلى  – هنا – فائض الرؤية بنحو خلاق بما عزز من ديمومة علاقة غير متناسبة لكنها غير مستحلية  في نظر ( العين المثقفة ) التي تستنبط ما بعدية الأشياء  .لاحظ التبادل القوي بين الضمير \ الوارد مع حرف الجر عليه \ والفعل وحرف الجر \ يتحمل عني \  , هذه التبادلية أنتجت ما يتمخض من عملية \ الوخز \ الحاصلة للسارد . حتى يبدو الأمر وكأنه حقيقة واقعة إزاء حضور وفعل معنويين .
لقد أثبت حسين عبد اللطيف قدرته الفائقة على اصطياد ما لا يمكن صيده مما يقع في مدى الرؤية وخارجها  , وحرصه على إن يبقى للشعر مرمى أنساني مما يحقق لنصوصه ديمومة متجددة

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *