تقديم
حتى الحرائق أهون شرا
نحن الأسماء الثلاثة ، رفاق درب الشقاء ، نمثل الصليب المؤتلف ، صليب الشقاء ، والعذاب ، فنكوّن وطن الوحـدة العـذراء .. فـإذا مـا افترقنـا نكوّن هلالا منشقا ، ثلاثيا ، فوق عارضة سمائية ، قانية بلون الدم ، تحـت بلور الوجه المائي في ليل لزج الانـزلاق ، أنـا الثـالث مـن الثلاثـي ، الابن البكر ، من أبوين قاسيا عذاب السنين المدقعة الفقـر ، والحرمـان ، فلقمة العيش كانت عزيزة ، ومعول أبي كان يتكسّر بين الصخـور القاسـية ، ليشق أنفاق الحضارة القادمة ، عبر السكة التي ستمتد على طـول البـلاد ، من ثغر الخليج ، حتى المحيطات الأربعة ، وأمي تخبز أرغفـة الفقـراء فـي ليالي كانون الباردة ، تدفيء معدة الجوع في فمنا ، لتصنـع لنـا مستقبلا ككل البشر ، أحدّثكم بصوت رفاقي الاثنين ، فأكمل قصتي بهما: ففي الصباحات الباردة من أواخر كانون الأوّل ، أجبـرت علـى ســفر فاجِئ إلى غربة طويلة الأمد داخل الوطن ، بلا اختيـار ، أو قـرار ، لأن العودة إلى الدار فناء وشيك لا محالة ، ففي سكون الليالي الماضية ، لـم أسمع أحدا يطرق الباب ليخرجني من بيتي ، وإنما أرى شبحا للقمع متجـلدا كالحجر الفولاذي متسجدا في شخص ، ينتظر أنفاسي المحبوسة خلف النوافـذ ، فأراه متوجسا ، كالناطور ، أو كلب حراسة ، عند صندوق القمامـة ، يتحَـرّك آليا ، ذهابا ، وإيابا ، يرصد النسمات التي هبت خلف ستائر بيتي ، فيَرنّ في سمعي صدى عربات القمع المتقطعة ، تصفر كنذير الشؤم في ليـل السـكون الجامد ، فأعرف وقتها أنني مرصود ضمن القائمة . وعندها أستعد لتوديع الأهل خلف الأسلاك ، وأوصيهم بالزوجة ، والابنة المولودة بالقهر ، وأبر الهورمون ، تاركا الأم والابنة بلا ملاذ فالسفر بين كل محطات الوطن يومها ، قد عطّل ، كل شيء ، بل وغيّره إلى غير رجعة ، لأنني خشيت أن أرى لحمي يحشر في شوّال تحمله عربة بأرقام أجنبيـة ، أو علامات مموهة ، تلك الصورة التي كانت تتكـرر مشـاهدها أمـام عينـي فـي الأيام الأخيرة ، قبل دوراني في المحطات الذي شبه الـدوران فـي حلقـة مفرغة ، أو كمن تأخذه دوّامة ماء عنيفة ، فلا أصَدّق الحقيقة ، إلا بعـد أن رأيتها في عيون زوجتي ، وأنا معها أحمل ابنتنا ، نتحصن بسـور حديقـة البيت ، ففي الظلام الدامس ، أمام سور بيتنا ، نرى أيـدي ثقيلـة تـرتفع ، وتنزل وقد حملت آلات مخيفة لتهشم شيئا راح يتكوم على الأرض ، لا يبـدر منه إلا أنين خافت ، كأنه صدى ثقيل ، وبعيد ، قادم من دهليز ، أو صادر من حلم ، يتطاول للمثول إلى الواقع ، لكن الأيدي الثقيلة النازلة عليه ، من فوق تبعده حتى تكتم صدى الصوت في وجهه ، وتجهضـه ، ويحشـر المتبقـي مـن الكومة في شوال دون مقاومة ، أو إحساس ، ويؤخذ بكل صلافة ، وتبجح لـيرمى في مزبلة على مشارف العاصمة ، كأية نفايا مرفوضة من القرف ، حالها كحال الجثث الأخرى التي يجدها أصحابها قد ورمـت ، أو انفجـرت ، وقـد نهشـتها القطط ، وشوهتها أنياب الجرذان ، فيدفنوها سرا بلا رأس ، أو أطراف ، خوفا من العواقب ، إذا ما افتضح الأمر .
وفي الصباح الأخير عندما خرجنا أنا وزوجتي المصـون بالدعـاء ، إلـى العمل دون أن أعـرف أننـي أودع بيتـي للمّـرة الأخـيرة ،نحـمل طفلتنـا المتلّهية بأصابع الإشباع ، ريثما نودعها حضانة جدتها لأمها ، تستوقفنا بقعة دم فوق الإسفلت كبقعة زيت المحركات لا يـزول بالمسـح ، أو الشـطف وحتى الكشط ، وإنما يحتاج كالعادة لوضع طبقـة جـديدة مـن الإسـفلت ، أو الإسمنت ، وكأني أسمع صوت زوجتي تحدثني في سرها :
– يا أبا “هديل” العزيز ، يبدو أن دورنا قد جاء ، فها هي بقعة الـدم تقترب من دارنا ، لقد تكونت اليوم أمام دار جارنا أبي “إحسان” ، فهل هي من وريد الأب ، أم ابنه .
فيعرف كلانا الحقيقة بالعيون ، “لأن الكلام حتى في الهـواء الطلـق مرصود” ، فنكذّب عيوننا لنقول في سرنا : –
– إن هذه الدماء ليست إلا آثار زيت السيارات .
فنسير وقد تحاشينا حواسـنا ، كأننـا أصنـام لا تـرى ، لا تنظـر ، لا تسمع ، فنتشبث بأية نافلة تخطر على بالنا ، وتنقذنا حاسة الشّم الموحدة عندما تتحرر رائحة زهور القدّاح من الروائح الدخيلة ، في ذلـك الصبـاح الهمجي ، فأسحب شهيقا يتوازى لا إراديا مع شهيق زوجتي لتمتلىء صدورنـا بعبقها ، وأفكّر في سري إن اللعبة تتكرر فـي كـل مَـرّة ، لكـن الوجـوه تتغيّر ، وأحس من مجرّد التفكير هذا ، بوَخزة فـي يـدي مـن آلـة حـادة ، تطعنني فأجلس منهارا على الأرض ، لأنني سمحت لنفسي أن أفكّر بسـري ، أو أتساءل بصمتي ، وتتبعني وخزة أخرى فضربة لاحقة ، وتسعى يدي لتحمي جسـدي من الطعنات ، وتغـوص أنـاملي فـي جراحـي لتسـدها ، أو لتـوقف الـدم مـن الثغرات ، فأتكوّر على وجهي ، على بطني ، على أمعائي ، مستعدا للدخول فـي ذلك الشوال لأرمى في مزبلة العاصمة كغيري مـن النفايـات ، وأقـرر فـي نفسي بعودة أخيرة إلى داري ، وطني الصغير لكي ألملمه معي ، لنـدور بيـن المحطات ، لكنه وعند وصولنا في المساء إلى مدخل المنطقة التي تقع فيها دارنا ، رأينـا بقايـا سـحابة مـن الدخـان قـد بـدأت تتلاشـى ، وصبيـان يتراكضون ، أمام عربة حريق أتمت واجبها ، وبقايا الماء يقطر مـن خـرطوم أنبوبها ، فيسأل أحد المارة ، سائق الاطفائية عن مكان الحريق ، فيقول له السائق إنه بيت لم نر سكانه ، يقـال إنـه بيـت الملقـب بـأبي “هـديل” ، فأحاول التدخل ، والاسراع لانقاذ ما تبقى من دارنا ، لكن السـائق يضيـف بأن البوليس قد سجل الحادث ضد مجهول وقد ختموا الباب بالشـمع الأحـمر لغياب أهل الدار ، ولعدم علم أحد بوجودهم أصلا.
وأفكر وأنا أحاذي زوجتي للمرة الثانية هذا اليوم ، هـا قـد أصبحنـا بلا تأريخ ، بلا مأوى ، بلا عنوان ، لكنه أفضل من أن أحشر في شوال ، وكأن الجواب يأتي في خطواتنا ، التي تتوجه إلى دار الجدة ، لنسـتقر مؤقتًـا ، ريثما نجد لنا ملاذا ، لكن دوريات الشرطة تقلق العصافير عـلى الأشجار ، ويورم خد الابنة ، ويتطاول الليل في أعيننا ، فأهرب مع طرقـات متتابعـة عجولة على بوابة الكراج إلى حيث لن ألتقي أبدا بزوجـتي وابنتي ، وولدي الذي حدث مصادفة على مخدة الرعب في بيت الجدة ، وأدور أدوووووووور ، في الطرقات ، أتسقط الأخبار ، فالبيت رأيته من بعيد أطـلالا ، وقـد احـترقت نهايات النوافذ ، وتطايرت مع الريح بقايا ستائره ، وقصاصات ورق محروقة ، وأقرأ كلمات زوجتي في رسالة مختصرة ، استطاعت توصيلها إلـيّ ، فـي إحدى محطات النقل ، وهي تصف مشاهدتها لبيتنا هي الأخرى ، موضحت بأن الدوريـة مصرة على سجن صاحب الدار لتلويثـه المنطقـة بمـواد عادمـة سـببت حـرق الدار ، وأن الدرويات تأتي كل ليلة إلى بيت الجـدة ، بأشـكال ، وهيئـات ، ومقولات مختلفة ، فأتوه في دروب القطـارات ، وأدوووووووور فـي المحطـات على خارطة الوطن ، بلا نوم ، بلا أكل ، ولا أعـرف إلـى متـى سـيطول هـذا الكابوس ، وإلى أين تنتهي هذه المواصلات ، إنها وطني الدائر حول نفسـه ، ولن تتوقف ، ليل نهار ، ما دامت تحملني معهـا ، ليس مـن حـل إلا بفقـدان أحدنا للآخر ، فكلانا قد جرحته الطعنات ، وعلى رأسينا تنهال الضربات من كل جانب ، حتى نحشر في الشوال الأخير ، كفن المزابل الذي أصبـح تقليـدا عاما كما يبدو ، حتى صار التجار يرفعون أسعاره.
* * *
أسمع على شفة رفيقتي التي تتقلّب مشـوية الأطـراف تحـت سـيخ الجـلاد الحامي ، في حرارة “تموز” التي تصهر الزفت في الشوارع ، لتكـوي الحفـاة مثلنا ، وتلتصق بأقدامنا كاللبان في الثياب ، وعـلى صـوت سـياط القمـع ، تتقلب رفيقتي على جسدها ، كتقلب الأحداث الدامية ، فتركب أمواج الصـراع لتدفع الدفّة إلى أمام رغم تلاطم الأمواج بتياراتها المختلفة ، وعندما تشتد الأزمات ، تحلم فجأة بالحرارة المنصهرة فوق أنامل التضحيات ، لكـن سياط القهر تجبرها على النزول إلى سراديب باردة ، من القدم ، والإهمال ، وتشرّب دماء المسجونين فيها ، فتتعمد السير برفق ، وتتمنى أن تتمرّغ في برودة الأرض هنا من جراء تداعي إلى حنين لصورة الأرض البكر التي تمنت يومها التمرّغ عليها ، بنشوة سعادة موعودة ، بعيدة المنال رغـم قربهـا ، وذلك لحظة مشاهدة الأغنام سـاعة إنجابهـا ، والوليـد يصـرخ بكـل جلبـة راعدة ، مبعدا صرخات الرصاص الرعناء التي يترّجع صداها ، مصطدما بحافات الجبال العليا ، وهي معي محصنة في نقطة المراقبة المتقدمـة للمقاومـة ، وقد اعتمرت قبعة النجمة الخماسية ، وحملت كتابـا بيـد ، وعلقـت حارسـها الحديدي الأخرس على كتف اليد الأخرى ، يهلهل في الوديان عندمـا ينطلـق الرصاص بضغطة من إصبعها ، ولا تظهر من تحـت القبعـة إلا ضفـيرة واحـدة لفتها بسلك نحاسي فكته من على صناديق العتاد ، تتزين بـه كعـادة بنـات جنسها ، غير ناسية خفقات الحنان وهي ترى معي الربيع فـي الخـارج ، حـيث الوادي المزهر رغم عاديات الزمن ، وغاديات الحروب ، يـورق الـربيع هنـا على شلالات المياه الربيعية ، والشمس ، تلّون البسمات على شفاه النبـات المخذول من أخيه الإنسان ، فـلا تبكـي رفيقتـي لأنهـا مجهولـة الاسـم ، والهوية هنا ، وإنها قد أصبحـت رقمـا مطبوعـا عـلى الرسـغ ، وعـلى ذراع السلاح الذي تحمله ، لا لأنهـا تنكّرت لاسـمها القـديم الـذي تخشـى أن تلفظه حتى بأية لغة ، فلا تتهجأ ، أو تقرأ بوضوح إلا الأخطـاء متعمـدة ، وإنما تود لو تقتنص لحظة سـعيدة مـن هـذا الانسـياب الـلا مبـالي فـي الخارج ، لكي تحياها كواقع ، وليس كحلم تتمناه ، وهو أمامها .وتستدعيها ذكرياتها إلى مقتطفات من مشاهد في طفولتها ، وكـيف كـانت تخاصم ظلها المتصـوّر فـي شـكل طفـل يعشـقها بكـل عنفـوان الطفولـة ، وبراءتها ، فيكسر من شوقه إليها ضرس العقـل فـي فمهـا ،لأنـه لـم يعـرف متنفسا آخرا لتنفيذ الرغبة ، وتبادله هي الغضب بضربة من كعب نعلها على كاحله ، فيغيب معشوقها ، عن الوعي من الألم ، فوق تراب قبر محفور لتـوه ، وجدا الهوة التي سـيُسقطون جثة عمهما فيها ، وفي غيبوبتـه يـرى الطفـل بأنه ينام على فراش عمه المريض الذي مات الليلة ، وأمه تسحبه ، وتمنعـه من الاقتراب من وجه العم ، لئلا تصاب رئتـاه بـالداء الملعـون ، لكنـه ، يُصر على الوصول إلى العم ، لكي يعطيه مزماره الفخاري ، ليقوم هذا بعزف لحن كان قد عزفه له من قبل ، وكأنه يحدس ، بأن المـريض سـينتهي قريبـا ، وليس من أحد سوف يعيد له هذا اللحن ، وبنفس الرّنة ، وإنه يطمـح ولآخـر مَرّة لسماع شدو عمه ، ليضعه محفوظا في صندوق ذاكرته .
وقبل أن ينفض طفلها المعشوق رأسه من فوق الـتراب ، تكـون الرفيقة حائرة منفعلة ، وهي تدور حوله مصدومة بالمفاجـأة ..إنهـا فـي أزمـة لا تعرف لها حـل ، تريد الخروج منها ، ولطالما تكرر هذا الموقف في أحلامها مقرونا بمشهد مأساتها التي حدثت لها عندمـا كـانت سـجينة لأول مَـرّة بناء على قرار صدر برقمه الثالث عشر في تلك السنة المشْـؤومة ، عندمـا يدخل رهط من الحرس ، يحملون جرذانا جائعة تمـزّق كـل منهـن بمخالبهـا ، بكارة السجينات وقد حشرت كل منهن في كيس مع مجموعة الجـرذان ، وعندهـا يستولي كل حارس على واحدة.
لكن رفيقتي استطاعت الهرب من نمر بشري لاحقها ، فرمت بنفسها من فوق سور تصادف أن سارت عليه بجدارة الخائف ، غير آبهة بما ستلاقيه من ألم ، وعندما تفيق ، ترى الظلمة لا تزال حالكة حولها ، فتتحسـس الأرض ، لتعـرف في أية دنيا هي ، وتحس بأنها في بستان ، ربما هـي تلـك الأرض المجـاورة لسور السجن ، حينذاك تجس أعضاءها لتتأكد من مواقع الرضوض ، أو الكسـور ، أو التمزق من الألم ، فتقوم فرحة لإنهـا طليقـة ، ولـم تتذكـر مـن وجـه مطاردها غير السادية في شاربيه القطيين .
لكن وجه الحارس النمري ، يتكرر دائما في أحلامها ، يلاحقها من الخلف فتـسد بوجهها كل المنافذ ، إلا الهاوية التي تهرب إليها ، لتتهـاوى مـن أعلى برج قديم ، لكن الكابوس ينتهي دائما عندمـا تسـتيقظ قبـل وصولهـا القعر ، وتتذَكّر أن الحلم نفسه يعاودها في كل ليلة ، وكم تمنت أن تصـل إلى قعر الهاوية ، لكي يتخلص من عذاباتها ، مهما يصيبها من توتـر ، عسـى أن يضع ذلك حدا فاصلا ، بينها وبين كوابيسها الليلية ، بعد تمزّق أحشاء الطهر العذرية في رحمها .
وها هي “رفيقتي” الآن ترى معشوقها الصغـير ينهـض بـبراءة فتـأخذه بيدها ، وتبتسم له ، ويسيران معا ليكملا ألعابهما التـي انقطعـت بضربـة كعب غير مقصودة ، فيتحسس كل منهما موقع الألم هي في سنها ، وهو في كعبه ويغرقا في الضحك غير منتبهين لطول الدرب الذي سيسـلكانه مـن البيـادر حتى الحارة ، ويلتقيهما عابر سبيل ليخبرهما بشيء يفرحهمـا ، رغـم الحزن العام على عميهما ، فيفيدهم بأن ابنة العم المتوفى قد ولدت ذكـرا قبـل توديع أبيهاإلى مثواه الأخير ، فيجن المعشوق من الفرح ، ويـركض أمامهـا كحصان سباق يبغي الفوز بجائزة ثمينة ، وهي خلفه كمهرة أسـعدها اللحـاق بمن تعشق ، ولكن الحراس النمريّ الوجوه تظهرون من جديد الآن ، فـي وجـه القمع لأمتها ، وها هي تقاومه ، رغم كل معداته الثقيلة .
* * *
ولأننا لم نكمل حكايتنا ، حكاية الثلاثة ، لأن الثالث فينا هو أنـا رفيقهما حكاية تعطي صورة جديدة للقهر ، لا تمثله كله ، وإنما تسقط ضوءا كاشفا عليه ، فها هـي الذاكـرة تعـود بـي إلـى الوراء فأتذَكّر نظافـة المرمر ، وملاسنه ، ولمعانه تحـت حـذائي ، وعندمـا أسـتعد لدخـول بوابـة المرتقى ، تكون العتبات المرمرية عالية ، ويكون فـي انتظاري جدار وراءه اثنان ، ينصتان لهمس أقدامي ، لصوت احتكاك ملابسي ، لصوت طقطقـة الأوراق في جيبي ، أو التي ذرتها الريح كرمـاد بركـان ، أسـمعهما يثقبـان أذنـي بكلامهما ، بحوارهما عن السجن ، عن فلان ، وفلان ، وفلانـة ، عـن الأسـرار والكتمان ، عن المنشورات في الخفاء ، والحقائق غير المسموحة ، عن رفيقـي “أبي هديل” ، صالحًا كان عندما سقط من جهد الركض أمام قناصة الأرقـام ، والقلوب ، وهو يدور بين محطات قطارات الوطن ، متنكرا كل مرة بهيئة ، ولم تفز “هديل” ابنته ، هي وأمها إلا هوية مهاجرة لحدود بلادهـا الشـرقية ، ويافطة سوداء معلّقة على باب عمل والدها ، تنعاه بحروف صفـراء ، مدعيـة بأنه مات إثر نوبة قلبية حـادة ، بعـد أن احترقت داره بمـاس كهربـائي ، فتعرف “هديل” معنى الكذب ، وهي ما تزال طفلـة لا يعـرف قلبهـا الحـقد ، وأتذكر الآن عمرها وقد صارت تتكلم بلغة البلـد الـذي نفيـت إليـه مـع أخيها الذي ولد في المنفى بعد وفاة والدهما بسبعة أشـهر ، وكـم ارتعبت وأنا أحَدّق بوجه شبيه بأبي “هديل” ، عندما التقيته فـي السـوق ، وهممت بالذهاب لتقبيله ، لكن الذي منعنـي مـن ذلـك ، خـوفي مـن أن تكـون هـذه الصنيعة إحدى شراك السلطة لاصطياد ، مناهضيها ، إلا أنني عرفت فيما بعد أنني أقابل عمها ، التوأم لأبيها .
هاجمتني تلك الخواطر ، وأنا أركض للحاق بباص نقل الركـاب ، وقدمـاي تتقـي أقـدام المتزاحـمين مثـلي إلـى البوابــة المكتظــة ، بــالرؤوس الحاسرة ، والأخرى المعممـة ، وغيرهـا الملفوفـة كـرؤوس البصـل ، ناصعـة البياض من الخارج ، حادة الطعم ، مداوية ، حكيمة من الداخل ، وأنا الهارب أمام من يتبعني من المراقبين السريين ، بشرا هم ، أم لاقطـات الإنصات ، أو أجهزة التصوير أمامي ، وورائي ، وربما من فوقي ، وتحتي ، ومن كل جـانب أتخيّله ، عرفت ذلك من ممارستي لكل مشاهد الاستنطاق ، والاسـتجواب ، وكل شهادات البهتان ، والزور عندما تلفق قضية ضد الناس ، كقضية ذلك المتهـم بجمع التواقيع ضد الاغتيالات السياسية ، أو قضية جاره الـذي كشـف بهـا لانية خبث المحققين للإيقاع برفاقه في العمل الوظيفي ، عندما كشف لهم أجهزة التسجيل المخفية في جدران المكاتب ، وأدراج المـدراء المتـورطين مع أجهزة القمع في السلطة ، وذلك بإلتقاط هفـوات اللسـان ، وبـث مقـاطع مبتورة ، أو مشغولة “بالمونتاج” على الرفاق الآخرين كل على حده ، وكـأن أحدهم يعترف على الآخر .
وها قد عرفت اللعبة الجديدة ، أتملص من ملاحـقيّ بـنزولي من الباص خلسة ، قبل أن يتحرّك السائق في مسـيرته إلـى المنطقـة الجـديدة ، لكـن اثنين آخرين ينزلان خلفي ، اعتقدتها مصادفة ، وعزيت ذلك إلى تكدس الناس عند البوابة ، ويسير الاثنان في نفس اتجاهي ، فـأهرب مـن جـديد ، وألهـي نفسي بالغناء في سري ، ثم أجهر بالغنـاء خوفـا ، فأسـرع الخـطى ، فتسـمع عينيّ خطواتهما السريعة ، وأرى أسئلتهما تلاحقني ، فلا أجيبهما ، أسـئلة تستفز مشاعري ، وتتعرض إلى عواطفي بالسوء ، وتجرح كبريائي بالشتم ، فإذا ما استجبت بالرد ، كان لهما سبب وجيه أمام الناس لاختلاق نـزاع شـكلي ، وسحبي إلى عربة مموهة تنتظر ، مثل غيرها عند كـل منعطـف ، لكنني أتشـبث بموقفي متلهيا بالنغم الخائف في داخـلي مخنوقـا ، مبحوحـا ، صمـت ظـاهر لغناء خافت ، وفي أقدامي تغني الخطوات ، ضاربة وجه الإسفلت اللزجة بـلا إرادة ، وترتقي خـطواتي المتعاقبـة عتبـات صـاعدة ، لولبيـة ، حلزونيـة ، منعكسة على بعضها ، منكسرة ، لكنها تمّر كلها كـلمح البصـر ، مـن جـوانب عينيّ ، كهروب أشباح الأشياء عـلى جـانبي كـاميرا فـي قطـار سـريع ، أو كتداعي المكونات أمام طائرة مخترقة للصوت ، أو كمرور الصور أمام عينـي طائر يلحقه مفترس مهاجم ، يرفض الأول الإذعان ، أو الزوغان والهروب مـن أمام الثاني ، فتتكسر ظلال جسديّ التابعين الراكضين في لمعان البـلاط ، وفوق الجدران ، وفتحات النوافذ البلورية . وأتذّكر نفسي ، وأنا أحمل عـدتي ، وخـرائطي الجيولوجيـة فـي طـائرة “البـادجر” ذات الأرضيـة البلوريـة ، يـرى خارطـة الـوطن ، والمكونــات كأنها مساحات محددة بالألوان ، منسـجمة ، أو بزخـرف متكـرر ، غـير منفصم العُرى ، ولكنني عندما أنظر إلى وطني مـن منظـار الطـائرة ذي الزاويـة الحادة ، تتغيّر تلك المساحات ، فتشَوّه طوليـا ، وعرضيـا ، وقـد تداخـلت الخـطوط ، والحـدود ، وامتزجـت الألــوان ، بغــير الــواقع الــذي أراه بعينيّ فسيولوجيا ، فأتشاءم كالحالم خوفا من تشويه وجه وطني من مستقبل مجهول ، وأحس بدوار وبغثيان يمنعني من الاسـتمرار ، فـأرجع إلـى مقعدي لأرتاح من دوار أصابني ، وأنا أقف في الطائرة ، وها أنا الآن أركض أمام من يقتفي أثري ، ويحصد خطواتي ، فتأكل قدماي الخطوات ، وأرتقـي العتبـات التي تستقيم أمامي لتصبح كالممرات المتحركة التي تكـثر فـي المطـارات الكبيرة ، طويلة بلا نهايات ، أراها كفوهـة بركـان ، أو بـئر بـلا قعـر ، فأتحاشى السـقوط فيهـا ، أو السـقوط عـلى الأوراق الممهـورة بالأصـابع العشر ، وتنطرح أمامي ورقة كبيرة ملساء ، عليهـا بصمـات عشـر لإبهـاميّ وأصابعي الثمانية وتواقيعي :
– هذه هي أقوالك .
– وهذه أقوال الشهود عليك .
– وتلك الإثباتات لسلوكك .
وأرى الوجوه أمامي ، وقد ارتدت أقنعة القمع على مَرّالعصـور ، ففـي الزاوية قناع لممثل محكمة تفتيش ، وفي الركن قناع لوجه “يهوذا” ، وهنـا فـي الوسـط شـخصان متقـابلان بأقنعـة مغوليـة ، أقنعــة أخــرى تمثــل الدكتاتورية ، فأمتعض ، وأصاب بالغثيان ، لأنني أحس وخـز الاضطهـاد وهـو قريب من الحد الفاصل للتصفية ، فأطلب مقابلة الرئيس الأعلى ، الذي يخفي
آلة تسجيل في درج مكتبه .
وعندما أدخل في حضرته ، أرى وجها لقنـاع متغـيّر ، وعـلى الجـدران أقنعة احتياطية ، والرئيس الأعلى يتلهى بتحسين شاربيه ، والنظر في دفتر ارقام هواتفه ، ثم يفتح علبة دخانه ، ليقدم لي سجارة ، وعندها يعلو صـوت آلة تسجيل ، وأسمع أخيرا صوت اعترافي مدويًا ، من علبة الصـوت فـي درج الرئيس ، وقد ركبت ألكترونيًّا من تصريحاتي ، في أزمنة ، وأمكنة مختلفة ، فأهبط مطعونا ، خـائرا ، وقـد اصطـادتني أجـهزة القمـع أخـيرا ، فأنهـار متراجعا ، وأغيب عن الوعي كـأنني أسـقط فـي هاويـات الظـلام الصامتـة ، فضائية لا متناهية ، وأكون أنا بداخلها ، مثل جرذ اختبار ، نقطة في مكعب متداخل ، زمنا ، ومكانا ، عميق ، عميييييييق ، عميق .
فقد سقطت على أهدابي ممهورا بالجبن ، والخيـانة مـن الداخـل أمـام الآخرين ، ولا يعلم الحقيقة إلا من عرف الخبث في عيون الجلادين .
هذه هي صور أسمائنا الثلاثة ، صليب مقّطـع ،
مبعثرة أجزاؤه بين المحطات ، ودروب الجلجلة
الطويلـة ، وقـد أدميت بأشواك التيجــان ، أو
هلال مجزأ ، موزعة بقاياه على الحدود …
* كتبت في 24\3\1982 ، أبوظبي
نشرت في مجموعة بنفس الاسم عن دار سينا بالقاهرة 1997