تعزية : انتقل إلى رحمة الله ، وهو في ذروة حيويته وعطائه ، الشاعر والصحفي ” سلام الحيدري ” رئيس تحرير جريدة ” المواطن ” ، لينضاف إلى طابور خساراتنا الفاجعة . صديقه الشاعر ” عثمان حمادي ” يرثيه بقصيدة ، يلحقها بذكريات تثير المرارة . أسكن الله الحيدري فسيح جناته وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان .
___________________
رثاني وما كانَ يدري ســــلامُ بأنَّ الرثاءَ إليهِ رِجــــــــــــــــــامُ(1)
فمِـنْ قبل عشرين عام رثانـي وقد ضنَّ أني طواني الـــــــــزؤامُ
رثاني وقد كان في غربتيـــــه وأرثيه والغربتان حطــــــــــــــــامُ
كذا يسخر الدهرُ من أهلـــــــهِ ويسخر منا ومنه الحِمــــــــــــــامُ
لكم تفرحُ الأمهاتُ بفطـــــــــم ٍ وينسين أنَّ المنايا فطـــــــــــــــــامُ
فيا (سلمُ) إنَّ الوجودَ ســــرابٌ ويا (سلمُ) إنَّ الحياةَ لِـــــــــــــــمامُ
فيمضون فيها على عجـــــــــل سراعا كأنـَّهمُ ما أقامــــــــــــــــــوا
وإنَّ الضحايا همُ الناس طــــرّاً وجلادهُمْ جَهْـلـُهٌمْ والحـَــــــــــــرامُ
فلولا العبيد لما ساد بعـــــــضٌ وما عَـظـُمَ الأدعياءُ (العظـــــــــامُ)
ففي دِمْـنـَةِ الذلّ ينمــــو أولاء وفيها على التـِبْـر يَطغى الرَغـــــامُ
*******
أحيّيكَ يا( سَـلـْمُ )مِنْ غــُرْبَتـَيَّ إلى حيثُ ترقى وحيثُ تنـــــــــــامُ
أحيّيكَ حيثُ الزمانُ بقايـــــــــا زمان ٍ وحيثُ البقايا ركـــــــــــــامُ
وَ رِمْـنا بهِ فوقَ ما يستطـــاعُ وأسرى بنا ما استطاع المُـــــــرامُ
خبرتكَ يا( سلم ) تلك السنيـــن وهذي، وكـَرُّ السنين فِــــــــــدامُ(2)
فكنتَ الذي قد صفا للزمـــــــان ِ فلما اصْطـَفـَينا اصْطـَفـَتْكَ السِهامُ
*******
ألا ويحَ هذا الزمان الــــــــــذي يُميتُ الكرامَ لتبقى الطِــــــــــغامُ
وحقكَ إنـّي سأبقى عصيـــــــــاً وأبقى زمامي النهى والذِمـــــــامُ
فـَهـَلْ مَنْ تـَزَهـَّدَ و هــــــو فتىً يُجَرْجـِرُهُ في المَشيبِ الزمــــــامُ ؟
أنا مَنْ يُشَرِّفُ كلَّ مقــــــــــــــام ٍ وليسَ يُشَرِّفُ مثلي مقـــــــــــــامُ
تـُتـَمـَّمُ نفسُ النقيصِ بنقــــــص ٍ ولا يـُجْهـِدُ الكاملينَ التمـــــــــــامُ
*******
سلامُ إذنْ كانَ هذا ختامـــــــــــا وليست لنا حيلة والختـــــــــــامُ (3)
سوى الصبر والسمع والطاعة فكلّ له في الختامِ إمــــــــــــــــامُ
ولكنْ أما كان للدهر صبـــــــراً علينا الى حينَ يُـجلى القـَتــــــــامُ
تـَخـَطـَفَكَ الموتُ يومَ القـــــراعِ ويومَ تداعى الرجالُ الكـــــــــرامُ
ويوم يجرُّ الغزاةُ ذيـــــــــــــولاً يُحَرِّقـُها في العراق التحـــــــــامُ(4)
رحَلـْتَ وقد لاحَ فجرُ العـــــراق وطافَ على الرافدين الغمــــــــامُ
بحبلِ الإلهِ سنعتصـــــــــــــــــمُ وهلْ بَعْدَ حَبْلِ الإلهِ اعتصــــــــــامُ
فـَنـَمْ يا أخي مُطمئنَ الضميـــرِ عليكَ وكلّ العراق الســــــــــــــلامُ
*******
عرفت سلام الحيدري منذ ما يقرب من الأربعين عاماً . كان ذلك في مقهى في حي المنصور. كنت يومها فتىً في المرحلة المتوسطة من الدراسة. وكنت أجلس في المقهى لأقرأ الشعر أو لأكتبه. وكان سلام الحيدري فتى مميـَّزاً في المقهى. وكان الشعر هو الذي جمعنا حيث قرر أن يسألني ذات يوم عن الأوزان الشعرية التي كان يجيدها سليقة. ومنذ ذلك اليوم ارتبطنا برابط روحي عميق وبقينا على اتصال حتى فرقتنا الحرب والغربة في الثمانينات من القرن الماضي. وفي غربته سمع من صديق صبانا وشبابنا الصدوق و المخلص سعد عبد الرضا الذي كان يقيم في لندن آنذاك ، باني قد قتلت. ويومها رثاني سلام الحيدري بقصيدة جميلة. والغريب أنَّ هذه القصيدة بقيت في محفظة نقوده طوال تلك السنين التي ضنَّ فيها أني كنت ميّتاً. وعندما فاجأته في بيت شقيقته ، بعد عودته من الغربة بعد الاحتلال ، فاجأني بتلك القصيدة (المرثية) التي أخرجها من محفظة نقوده وقرأها لي. ولأنَّ الورق كان في حال يرثى لها ولأن سلام يكتب الشعر بحروف هي أقرب الى الطلاسم منها الى الحروف لذلك بقيت القصيدة في ذلك اليوم أسيرة المحفظة إلا أني مازحت سلام قائلاً : أرجو أن تمتلئ محفظتك بالنقود لتتحرر هذه القصيدة.
إنَّ سلام الحيدري مزيج من كلّ شيء. وهو في وجه من وجوهه كالمرآة التي تعكس الحياة بكل أشكالها التي تحبها. ورغم الزمن الطويل الذي قضيته مع سلام إلا أنّي لم أجد في أي يوم من الأيام سبباً يجعلني أنفر منه لأنه كان يحمل في أعماقه روحاً محببة لا يملك المرء إلا أن يحبها ويتعاطف معها حتى عندما يختلف معها. ولم أكن وحدي في ذلك بل كنا مجموعة من الفتية الأصدقاء وعلى رأسهم الأخ سعد عبد الرضا وكانت تلك المجموعة ، سياسية أو ثورية إذا جاز التعبير ، باستثناء سلام الحيدري الذي كان ثورياً على طريقته الخاصة. ولذلك كنا عندما نذهب الى ليث كبة في الحارثية في ذلك النوع من الزيارات التي تحمل في طياتها ما تحمل كان سلام يبقى مع أشعاره ومع روحه المحلقة في فضاءات غير قابلة للتحديد أو للمصادرة. وأعتقد أنَّ الذي ضمه القبر لم يكن سوى ذلك الفتى (( سلام )) الذي كان يذرع الفناء الخارجي لمقهى (( حي العربي )) وهو يردد أشعار المتنبي أو الجواهري بنفس ٍ سكنها الشعر بلا هوادة فأحالها الى قصيدة هائمة بقيت طوال حياته تنزف حروفاً وموسيقى ولم تكتمل إلا على شاهدت قبره.
ملاحظة :
منذ زمن طويل وأنا أطرد الشعر كما يطرد المرءُ النحل خوفاً من لسعاته. وكان سلام الحيدري في لقاءاتنا التي أعقبت عودته من الغربة الإجبارية قد حاول تهريب النحل الى حديقتي التي كانت مليئة بالأسلاك الشائكة علّه يعيدني الى كتابة الشعر الذي هجرته الى شؤون أكثر جديَّة بعد أن فقدت الإيمان بقدرته على القتال في معارك العصر الحالي. وما عجز سلام عن تحقيقه في حياته تمكن من تحقيقه بموته الفاجع. فقد وجدت نفسي مدفوعاً بقوة قاهرة الى كتابة هذه القصيدة لأني أعرف جيداً أنَّ سلام الحيدري غير قادر على فهم أيّ لغة أخرى غير الشعر ولذلك كانت هذه القصيدة وأخت لها فائية مطلعها :
سلامُ تحييك قبلي القوافي فنم يا صديقيَ نومَ العوافي
وإني أقاوم بشدة لعنة الشعر وسحره وما يرعبني حقاً هو هذا الجرح السلاميّ الذي سكن قلبي والذي بدأ ينزف شعراً و أكثر ما أخشاه هو أن لا يتوقف نزفه.
عثمان حمادي البستان
(1) الرجام : وهي الحجارة التي توضع على القبر.
(2) فـــدام : الفدام هو (المصفي ) وما يجعل على فم الإبريق ليصفى به ما في الإبريق.
(3) تقديرها أنْ ليست لنا حيلة وقد حقَّ ووقع الختامُ ، أي الموت.
(4) وأعني به التحام العراقيين واتفاقهم على رفض الاحتلال ومقاومة الغزاة الذين هُزموا شرَّ هزيمة في العراق عسكرياً وسياسياً.