إشارة : رحل الأخ الحبيب الناقد والفنان “قاسم علوان” , رحيلا مبكرا (كان عمره 50 عاما) إثر نوبة قلبية مفاجئة . لم يتح له القدر الغادر تحقيق أي شيء من أحلامه الواسعة الباذخة .. وطُويت صفحته بقسوة تعاون عليها الواقع الجائر ، ومحبّوه المتعبون . أرسل قاسم كتابه هذا قبل رحيله بأسبوعين .. وطلب عدم نشره في الموقع إلا بعد صدوره . وتطاول الزمن ولم يصدر . لهذا سوف ننشره كحلقات وفاءً لذكراه . كافكا وأرسون ويلز في (المحاكمة)
النصّ :
سلطة الأدب.. وسلطة الكتابة في السينما
تعتبر معالجة المخرج الأمريكي ارسون ويلز المعروف بمفاجآته المذهلة دائما في وقت مبكر منذ بداية عمله في السينما الأمريكية عندما كان شابا يافعا، تعتبر معالجته لرواية كافكا الشهيرة (المحاكمة) وهي رؤية سينمائية متميزة وهامة جدا ليس في تاريخ هذا المخرج فقط، بل في تاريخ السينما بشكل عام، أو تحديدا في إشكالية تاريخ السينما وعلاقتها بفن الرواية بشكل خاص. وهي كأي عمل من أعمال ويلز الأخرى حازت على شهرة كبيرة، وأصبحت من كلاسيكيات السينما حيث تدرس في معاهدها الأكاديمية في مناطق مختلفة من العالم، ليس لأنها مأخوذة عن رواية كافكا فقط، بل لتفرد هذه المعالجة في تقديم قراءة جديدة لعمل أدبي ذائع الصيت كهذا، وهي بحق إعادة كتابة للرواية المذكورة بطريقة سينمائية مختلفة جدا عن الكتابة الأدبية التي جاءت فيها الرواية، ويحق لنا أن نفترض لو كان قد تسنى للمؤلف مشاهدة الفلم الذي أعد عن روايته لأعجب به كثيرا، ولما أمتعض كما يحدث لأغلب الكتاب في الوقت الحاضر عندما يشاهدون أعمالا روائية لهم على الشاشة، وخاصة عندما يكون العمل الروائي كبيرا ومشهورا وبحجم رواية (المحاكمة…!).
لقد عرف عن أرسون ويلز براعته في التعامل مع الأعمال الروائية والدرامية المكتوبة سلفا، وابتكاره لتقنية أسلوبية سينمائية جديدة مع كل عمل سينمائي يشتغل عليه. فإضافة إلى تجربته الطويلة على أعمال حازت شهرة كبيرة في وقت مبكر من حياته الفنية، مثل (المواطن كين) و(أيام العذاب العشرة) و(عطيل) و(سيدة من شنغهاي) وأعمال سينمائية أخرى. فهو لم يترك لعناصر اللّغة المقروءة عادة وبلاغتها الأدبية التي تتميز بها تلك الروايات، فقد تميزت أيضا رواية (المحاكمة) أصلا بالتعبير الصوري بعيدا عن المجازات اللغوية والبلاغة المجردة.. أو فيما يخص الوقوع تحت تأثير الأساليب البلاغية اللغوية في الروايات ومناظرتها صوريا كما هو شائع، فقد أغرى هذا المؤثر الكثيرين قبله وبعده، ليذهب بهم الأدب بعيدا عن السينما، وتوقعهم الرواية في حبائل السرد الروائي وبلاغة اللغة الأدبية.. وكل ما يتمثل فيها من جماليات اللغة والأدب ومقارباتهما، وكل ما يتعلق بها من بلاغة وجناس وطباق صوريين شاع استخدامهما بعد الابتكارات الجديدة في فن المونتاج ومذاهبه المختلفة..!
سبق وأن شاهدنا ذلك التأثر أو النقل الأدبي في أعمال سينمائية كثيرة متنوعة، وعلى يد مخرجين معروفين يمكن أن نستشهد بهم، تمثل أعمالهم كيف يمكن للرواية أن تنقل للسينما بعملية أشبه ما تكون بترجمة أدبية أكثر منها شريط سينمائي ينتمي الى حقل إبداعي آخر مختلف، كما هو في أفلام كثيرة، أعدت عن روايات معروفة مثل (الآمال الكبيرة) و(أوليفر تويست) وأيضا (الدكتور زيفاكو) وكلها للمخرج ديفيد لين، وأعمال أخرى كثيرة أيضا لمخرجين آخرين. ومع عملية النقل الأدبي تلك التي تتراوح بين النقل كترجمة سينمائية كما ذكرنا، أو كما تكتب وتجسد من جديد في الأعمال المذكورة، هذا ونستطيع أن نسمي هذا النوع من الاقتباس بأولا.. أما ثانيا.. فهو النقل الأدبي للسينما الذي يعكس تأثر المخرج ببلاغة الكاتب وأسلوبه اللغوي، بلاغته الأدبية لدرجة نقل مفرداتها وترجمتها صوريا كالجناس والطباق والتورية البلاغية اللغوية إلى الشاشة، وهناك أمثله كثيرة على ذلك مثلا (الحرب والسلام) لسيرغيه بوندراتشوك و(القاهرة الجديدة) لصلاح أبو سيف. وأما ثالثا.. فهو الاستفادة من العمل الأدبي كمرجع لا أكثر ومن ثم العمل بشكل مستقل عنه بحيث تكون النتيجة عملا إبداعيا جديدا ربما لا ينتمي الى الأصل أحيانا إلا بالاسم، وهذا ما تجسده إعمال عديدة ومشهورة، ولمخرجين كبار مثلا عمل جان رينوار على رواية (مدام بوفاري) وكذلك مسرحية (مكبث) التي أخرجها كل من الياباني كيراساوا والأمريكي البولوني الأصل رومان بولانسكي، وكذلك فلم (قصة الحي الغربي) المعد عن مسرحية (روميو وجوليت) للأمريكي أيضا روبرت وايز.
الإشكالية هنا ليست في موضوع الأمانة والخيانة كموقف أخلاقي من النص الروائي الذي كتب مسبقا، والاقتراب أو الابتعاد عنه كما يشكل ذلك مشكلة عند البعض، أو كما يطرح في بعض مناهج النقد السينمائي، بل هي في عملية إعادة أنتاج نص/عمل جديد لا ينتمي للأصل بأية صلة، ربما إلا بالاسم كما ذكرنا، وأحيانا حتى الاسم يتم تغييره كما هو الحال مثلا في مسرحية شكسبير (روميو وجوليت) عندما أصبح اسم العمل الجديد أو الفلم السينمائي (قصة الحي الغربي) فلا ضير من ذلك، أو ربما يبقى الإطار الحكائي للرواية الأصل فقط.
فلم (المحاكمة) ينتمي إلى الصنف الذي تكلمنا عنه في ثالثا، فقد أستطاع المخرج أن يوظّف أدواته السينمائية ولغته التعبيرية الجديدة أثناء كتابته للسيناريو وكأنه يعيد كتابة الرواية الأصل من جديد، إنه يستعير منها ثيمتها، أو بالأحرى فكرتها، أو أجواءها لكنه ظلّ أمينا لروحها أو الجو العام الذي أراده الكاتب رغم أنه لم يلتزم بنصها، والى حد ما بحسب المعايير النقدية الحديثة أنه كتب نصا جديدا..! لقد حوّل أرسون ويلز العمل الأدبي الروائي إلى عمل سينمائي بحت. فانه لم يأخذ من الرواية سوى ثيمتها الأساسية ليشتغل عليها من جديد. ولكن في مثل هذه التجارب السينمائية مع الأدب ليس من السهولة أن ينجو المخرج ـ أي مخرج كان ـ من سلطة العمل الأدبي ولغته الأدبية المهيمنة، ومفرداتها المؤثرة، وآلية تعبيرها (الأدبية) في عملية النقل تلك، وهنا تكمن براعة ويلز في وعيه لاستقلالية أدواته الصورية والسينمائية في التعبير، وآلية النقل باللغة السينمائية لا باللغة الأدبية الى الشاشة. وبكلمة أخرى أستطاع أن يرقى أرسون ويلز بالسينما إلى مصاف الأدب بالتوازي، بوصفها إبداعا مستقلا بذاته وليس تماهيا معه أو سيرا خلفه، كما شاهدناه في أعمال سينمائية كثيرة.
مشهد الاستهلال أو مشهد التقديم الذي يعتبر من المشاكل المهمة في أي عمل درامي أو أدبي، فقد شغل هذا المشهد أذهان الكثير من المؤلفين والمبدعين، وخاصة في مجال الأدب وبالذات المسرح، إذ يعتبر غاية في الأهمية، ففي هذا المشهد يستطيع الكاتب أن يوجز أو أن يوضح أو أن يقدم الفكرة الفلسفية للعمل الأدبي أو تمهيدا للثيمة الدرامية بشكلها التجريدي أو الإشاري الذي أشتغل عليها الكاتب أو المؤلف. وبعبارة أخرى فأن هذا المشهد عبارة عن عملية توضيح أو تفسير بشكل غير مباشر للعنوان الرئيسي للعمل، وفي الوقت نفسه عملية تجريد فلسفية لذلك الموضوع. وهذا ما أستطاع أن ينجزه المخرج أرسون ويلز على الشاشة في مشهد المقدمة المذهل.. وهو مشهد قل نظيره في السينما العالمية بشكل عام آنذاك، فقد قدمه المخرج على شكل رسوم ثابتة تتغير مع تسلسل السرد أو رواية الحدوتة التي أخذت حكايتها أصلا من الرواية بعد التعديل أو الإضافة، والتي تروى على لسان الراوي.. والذي هو في الواقع المخرج… فهو في هذا المشهد يضعنا في مواجهة المقابل الفلسفي لثيمة الرواية التي أشتغل عليها الكاتب في روايته الشهيرة.. متجسدا بشكل متخيل صوري جديد، إذ يقول الراوي: (أن منطق هذه الحكاية هو منطق الحلم، هل تشعرون أنكم وسط متاهة..؟ لا تبحثوا عن المخرج، فلن تستطيعوا العثور عليه أبدا، ما من مخرج هناك.. هذه الحكاية مروية في قصة أسمها “المحاكمة”)
لقد أشتغل الكاتب في الرواية على فكرة فلسفية غاية في الأهمية وهي إدانته لأي نظام قمعي شمولي، أو لأية سلطة قمعية تدرج في سياق الأنظمة السياسية التي ألفناها فيما بعد… أما كيفية تجسيد تلك الإدانة فقد جاءت عبر عرض كيفية عمل آلية الهيمنة لتلك السلطة على الأفراد، أو أي فرد لا على التعيين، متمثلة في عرض لمجسم بيروقراطية شمولية هائلة وغريبة الشكل، بأذرع أخطبوطية معقدة، تجسدت بخيال سينمائي جامح ومدهش، وعبر صيغ مبالغة مقصودة مسبقا في تعميق غربة الفرد عن تلك البنية الاجتماعية التي صنعت ذلك المجسم، وتغييب لفردية الإنسان. وقد تجسدت تلك الغربة والغياب في مواجهة الفرد لسلطة سرمدية غير منظورة، عبر شبكة آلية من القوانين الخرافية التي تثقل كاهل الفرد والمجتمع، عبر أكداس الوثائق الكثيرة غير المهمة والمنتشرة هنا وهناك في أقبية رديئة الإنارة، والمراسلات الغامضة بين أطراف غير مرئيين، والتراتبية الاجتماعية غير المرئية أيضا، والمكاتبات المبهمة (مشهد مكتب المحامي مثلا..) التي تغرق حياة (مستر ك) في سيل من الاتهامات والإدانات غير الواضحة وغير المسماة وبشكل غير مبرر… ومن ثم شعور ذلك المواطن بالذنب مسبقا، وإدانته من قبل تلك السلطة التي يقف أمامها عاجزا وضعيفا وبإرادة مسلوبة، ردود أفعالها محسوبة بدقة، عدا ردّة فعله في مشهد الإعدام أو القتل بالمتفجرات في نهاية الفلم.
لقد جاء ذلك التعبير الصوري في ذلك الشريط السينمائي أشبه ما يكون بإدانة لكل ما هو مدون أو مكتوب باعتباره جزءا من تراث ونظام تلك السلطة الشمولية التي اعتمدت في إذلالها للمواطن التدوين الكتابي الورقي من خلال كمية الوثائق المكدسة في كل مكان…!! التي استمدت قوتها وسلطتها الشمولية من كل من يقف من خلف تلك المدونات (القانونية) أو السلطة الورقية أو… موضوعة الكتابة والتدوين بشكل عام أصلا..! فقد ارتبطت الأخيرة دائما بالسلطة القمعية والتعسف السياسي منذ نشوئهما تاريخيا عبر العصور واستخدامها لها، وقد كانت أحد أدواتها في فرض التسلط وأدامته، وقد سخرتها بالكامل في فرض تلك الهيمنة وتأبيدها في مختلف العصور.
أما إدانة المخرج لتلك الموضوعة التي تناولها الفيلم فقد تجسدت عبر تخلصه كموقف متماثل لاستنتاجنا، من موضوعة الكتابة أيضا أو التدوين بشكل عام.. وحتى كتابة (التايتل أي شريط أسماء العاملين) التقليدي بالتحديد في بداية الفيلم ونهايته، وسخريته من موضوع وثائق الاتهام ومحتويتها والتي تكدست في كل مكان بشكل مثير للسخرية والاشمئزاز، صحيح أنه ظهرت في بداية الفلم كتابة بأسماء الفريق التقني للفلم فقط لا غير، ولم تشكل أي حضور مؤثر على الشريط لا من ناحية المساحة أو الزمن. أما في نهايته فقد عوّض عن ذلك التعريف الضروري بالسرد عن طريق شريط الصوت (الصوت من خارج الكادر) مع آخر لقطة ثابتة من الفيلم التي تمثل غيمة الدخان التي تتبقى من الأنفجارات التي تقتل (مستر ك) والتي شكلت نهاية الفيلم مع صوت الراوي مرة وأخرى ليتلو علينا أسماء الممثلين وكل العاملين الآخرين ويختمها الراوي بقوله (أنا لعبت دور المحامي وكتبت السيناريو وأخرجت هذا الفلم وأسمي أرسون ويلز).