لا يعرف هلال الممثل التلفزيوني المعروف كيف وجد نفسه مع نوّار في كوستاركا عندما دعيا لتمثيل مسلسل طويل عن الاغتراب يتنقل بين بلد، وآخر وظنّ أنه في حلم أشبه منه إلى الواقع . أو كأن المسلسل لا يعدو أكثر من واقع جديد بتغيّر البيئة من حوله دون علم منه . فكل شيء يشير إلى أنهما وصلا في رحلة سريعة هامة . أو مهمة رسمية كرحلة أمين عام لهيئة دولية عظمى .
وكما يبدو، وبما أن نوّار ابن البلد نفسه بعد مرور أكثر من عشرين عام مغترباً في هذا البلد، لهذا أصبح هلال الضيف الذي يتم الاهتمام به على كافة الأصعدة، يقوم الكل بالترحيب به، والترويح عنه، وبخاصة نوّار ومن خلفه جوق من رجالات الإعلام والصحافة .. يسألون هلال عما يحمله من مهام وأخبار ؟ وهل سيوفّق في مهمته هذه أيضاً ؟ فيحار هلال في الجواب، ولا يجد له منقذ، فيبدو محاطاً بكابوس يعد عليه أنفاسه ويخنقها .. ولأن الشوارع متربة والناس في قيظ الحرّ وقفوا على أبواب دورهم، فقد تخيل هلال نفسه في السودان ولا يدري لما السودان بالذات ؟ هل لأنها كانت محطته الأخيرة قبل كوستاريكا ؟ أم لأن في السودان قلب قد تركه هناك ؟
وكانت إحدى المحطات، بيت كبير بدهاليز لبيوت أخرى تبدو كأنها مداخل لبيوت في حواري الموصل . أو كربلاء . أو القدس . أو روما . أو استانبول، لكن هذه البيوت مثل الخانات وضعت قطع الآثاث بترتيبات تبتعد عن الجدران لتفسح المجال للدخول والخروج من الأبواب الكثيرة، والدهاليز المكتظة بالناس، ولأن الدهاليز كالثقوب في كل جدار، فإن هناك ناس يذهبون ويعودون من غير انقطاع، ونسوة لا تتبيّن ملامحهن من قوة الظلال وكثافتها، أو بالأحرى الظلّمة القاتمة .
إن الناس هنا ونتيجة للرطوبة والظلام لا يعانون من شدّة الحرّ كالذين رآهم هلال في الخارج، وإنما لهم حدقات قططية واسعة، يذّكرن بالنساء اللواتي لبسن السواد من نساء العراق الجنوبيات وما زلن وبالذات الكربلائيات منهن: فوط ومليات و(جراغد)* .
(*)
إن هذا البيت المرّكب بطوابقه، وأجناسه، يبدو كعالم مستقل بحد ذاته، يحتاج إلى سياحة خاصة، فمن أحد أمكنة هذا البيت المتعددة يظهر أبو جميل، ويبدو للوهلة الأولى أنه يمتهن التدريس، أو أنه إداري في مدرسة، كأن يكون معاوناً لمدير مدرسة، لكن يده حينما تمسك بالأثاث، وبخاصة الأطرزة القديمة، والمتنوعة منها تبدو عليه مهارة يد حريفة يد سمسار أثاث، فيسأل عن الثمن بشكل يخاله هو موارباً يخفى على الآخرين .
ويتذكّر هلال هنا تجواله الطويل مع نوّار في أسواق بغداد قبل أكثر من ثلاثة عقود وكلاهما يناقش الآخر عن أجمل التعابير في الصور الكلامية، ولم ينس هلال تحبيذ نوّار لمفردة التفاحة الصوفية التي كان هلال قد وصفها لنوّار في مطلع مقطوعة نثرية، لا تسعه الذاكرة الآن في نقلها حرفياً، ولنه وصل إلى ما معانه : بأن المرأة تمسك التفاحة الصوفية لتغزل الحليب في فم رضيعها، وقتها تعجب هو نفسه من وصف يمازج بين كرة الغزل، وكرة الثدي .. وكأن هلال الآن يحس بأن نوّار الذي وجده قريباً منه، هو صاحب أحد هذه البيوت الداخلية . وأبو جميل يسأله عن كرسي “كنب” من خشب أسود . أو خشب ورد غامق، مترب وقديم :
– هل هذا للبيع ؟
فلا يجيب نوّار، ولكن أبو جميل يجيبه :
– كل شيء يقبله أبو جميل، ما دام للبيع .
فلا يهم أبو جميل أن يحمل كل ما لا يريده أي منهم على أكتافه .. وهكذا تتكرر أسئلة أبو جميل، وأجوبته لكل من يراه، ولكل من يعتقد بأن أبو جميل مسؤول عن قطعة من الأثاث في هذه البيوت الداخلية بقوله :
– أبو جميل كفيل بكم، ولا تهتموا .
خصوصاً إذا كان الجواب زجراً . أو نفياً . أو أن السعر مبالغ فيه مثل :
– ليس للبيع .
– هذا ليس أكلك .
– لو بمليون .
ويلتصق أبو جميل بالمكان مثل بُزاق لزج .. ولا يريد مغادرته .. وبما أن هلال وُجد هنا كسائح هذه المرّة . أو ربما كزائر رسميّ، فقد تبرّع أبو جميل تعريفه بالمكان، مستغلاً انشغال نوّار، لاستخدام هلال وسيلة للحديث من خلال تعريفه بالناس الذين يقايضهم على الأثاث، بقوله : أبو جميل : إنني استشهد بهذا بالممثل التلفزيوني المشهور هلال .
أو بقوله : أبو جميل : ألا تعرفون من يكون هذا الفنان .
ولو تجرّأ أكثر لقال مثلما يفعل المروجين عن بضائعهم من خلال فنان مشهور : أبو جميل : إن الفنان العالمي المشهور هلال هو الذي يوصيكم بشراء . أو بيع كذا،
وكذا .
حتى تتشكابك الأمور وتستدعي للاستهجان، والسخرية . ولكن ما يهم في الأمر أن المكان الكبير هذا لم يعد بالدار، وإنما صارت مداخل البيوت تؤدي إلى صفوف مدرسة . أو كلية .. تذّكر هلال بالأجواء التي يمكن أن توفرها مناظر “ديكورات” المسلسلات التلفزيونية، وبيئاتها، لعل وجود أبو جميل الذي عرّف نفسه كمعاون لمدير مدرسة – رغم ثقافته السمسارية – هو الذي أوحى لهلال بهذا التصور . بينما انشغل نوّار هذه المرّة مع أساتذة يبدو أنهم كانوا زملاء دفعته .. نوّار الزميل في الرحلة قد أصبح قريب بعيد عن هلال رغم وجوده في الصالة، ينتقل من مجموعة مدرسين إلى أخرى كعادته .. لهذا وجد أبو جميل فرصته مرة ثانية في هلال ليحدّثه بتطويل مملّ عن مزايا أثاث الجامعة هذه المرّة .. مشيراً إلى أنها مؤسسة تابعة لهيئة المنظمة العليا، وغداً سوف تستولي عليها الجهة التي تفوز بالانتخابات .
ويبدو أن الانتخابات هي واحدة من أضغاث الأحلام التي يتأملها هنا الناس، لأن أبو جميل يقصد بالتأكيد : فيما لو حصل انقلاب، وغداً لا يبدو زمنياً قريب، ولكنه تعبير مجازي لكلمة غداً، قريب قد يبعد أياماً وأشهراً، أو سنوات .
وفجأة يصيب هلال الملل، خصوصاً وإن طريقة أبو جميل اللزجة لا تختلف في حديثه بمختلف المجالات عن طريقته كسمسار، سواء تحدّث عن الأثاث . أو الكتب . أو السياسة . أو التأريخ . أو السياحة …
وينزلق هلال من الملل متراجعًا إلى البوابة شيئاً فشيئاً متأمّلاً في انتهاء نوّار من حواراته المتشعبة، ومع مجاميع متنوعة، وكأنه في سلسلة مجادلات لا تنتهي ومجاملات تنفتح أحاديثها مثل حكايات ألف ليلة وليلة، أو بتلك المجادلات التي لا تنتهي بينه وبين زميله الشقيق سعد والي فقد كان عناد الجدال لا يمتد لصبح الليلة الماضية، وإنما لليلتين، أو ثلاث ولم يعد لا للزمن، ولا للدوام في الوظيفة أهمية تذكر طالما يقف كلاهما مقابل الثاني مسافة، زمنية، وفكرية .
ويقوم المعجبون بالتبرع بخدمتهم في تقديم الغذاء، فقد يقوم بعضهم بالذهاب للدوام في مكانهم، خصوصاً وإن الاثنان كانا صحافيان، وأبرزهم على ما يذكر هلال هو قاسم الربعي الملقب بالشريف في مسألة تقديم الوجبات السريعة، وحامد النهدي الملقّب بالمطشّر في مجال التصميم لوالي بشكل خاص . أما من يتبرّع بالقيام بعمل نوّار، فليس ضرورياً فهو يستطيع إنجاز عمل أسبوع بساعات دون مماطلة، وبإتقان عالٍ .
وينقذ هلال من أبو جميل ظهور ليليان التي تبرز كالمنقذ في كل مرّة حسب الأصول لتشارك هلال نية الخروج، والرحيل إلى مكان آخر، غير الجامعة، خصوصاً وإن مدة زيارة هذا البلد ضيقة جداً . وبرمشة عين يخرج الثلاثة ليليان، نوّار، وهلال إلى فضاء مفتوح لم يعهدوه في هذه الظلمة الباردة وكأنهم يخرجون للتو من ظلام السجن، تمنى الثلاثة، وأولهم هلال أن يؤدي المكان الجديد إلى شارع العودة السريع . ويشعر هلال بوهج الضياء المفاجأة من خلال تقّلص عضلات عيونه، وتضيّق حدقة عينه . وفي بحثه عن النظّارات الشمسية، لا يعجب هلال من رؤية الخارجين وراءهم، وهم يضعون النظّارات السوداء على أعينهم، بكبرياء، وتعالٍ، ولا من إغماض الآخرين لعيونهم، كلهم بأعين نصف مقفلة، وقد انحنت أعناقهم إلى أسفل …
ويسير كل من نوّار وليليان في المقدمة، وبينما يخشى هلال من أن يتبعهم أبو جميل، تدهشه الحرارة في الخارج، ويستغرب من أن الناس الذين رأهم أمام دورهم عند القدوم قد سبحوا الآن في عرقهم، وهم مغمضو العيون، وبعضهم يغطس في برك من الماء لا تبدو أكثر من رمال بيضاء يغوصون فيها . وتمسك النساء والفتيات بصنابير المياه، وقد غمرن أنفسهنّ في المياه للحظات، فيخرجن منها على استحياء، وقد التصقت الثياب عليهن فبدين مثل منحوتات أفريقية صهرتها الشمس . أما الصبيان فإنهم يسيرون بـ “دشاديش” جلاليب مبللة بالعرق، وقد التصقت على أعضائهم فبدت من تحتها بنية غامقة كفواكه غير ناضجة .
ويحس هلال في هذا القيظ بأن نجوم الظهر قد صار لكل منها هلالاً تابعاً وصارت الأنجم كثيرة، وامتلأت السماء بها كأنه في منتصف الليل، فيحس بالنعاس، وسرعان ما يتوفر له سرير يستلقي عليه، ويشعر كأنه ينام على سرير فوق سطح دار ريف عراقية في ليالي آب . ويغالبه نعاس شديد، فلا يستطيع اللحاق بليليان ونوّار فقد سبقاه في طريق العودة .
وبينما هلال مستلقٍ على السرير تمطر البستان فاكهة قربه من أشجار كثيفة، والناس لا تبالِ بها . والفاكهة تزّخ كمطر ربيعي، فيتبّرع بالشرح من اعتبره هلال، مؤّلف المسلسل مؤقتاً رغم أن صفات أبو جميل لا تفارقه، يشرح له حالة هذه الفواكه، ومميزات نضوجها كأنه صهره المغرم بالشروحات العلمية وهلال يلتهم واحدة تلو الأخرى من تحت الشجرة التي تحوي كل أنواع الفواكه المهجنة ليس مثل بطل قصة حنين بلا ضفاف، لمؤلفها الأوهاني . وإنما مثل مريض وصفوا له طول العمر بكوكتيل الفواكه الطازجة من شجرة واحدة ..
وها هو هلال يطبّق في الحلم ترياق إبراهيم السائق، ورقية وصفتها زوجته نازلية ابنة خالة هلال لزوجها إبراهيم سائق سيارة الأجرة بين أربيل، والموصل ، لكي لا يأتيه النعاس، وهو يمرّ بقرى العشائر السبع التي تعترض الطريق العام، وكأنها عالم آخر – سقطت فجأة كنيزك – بكل تفاصيلها : نساؤها وصبيانها وحتى هندسة البيوت فيها . فيرى إبراهيم بيوت قرى العشائر السبع البيضاء، وقد اخترقتها نوافذ وأبواب الخضراء كأنها تصل بين هذه القرى، وبين الآخرة سراط يشّع بينوعة الخضرة . فيخاف إبراهيم من الارتفاع إليها لكي لا تزل يده عن المقود، وتقوده للدخول في الأبواب التي تنفتح مصاريعها بلولبية غريبة، ولا يجد إبراهيم نفسه إلا في الآخرة، وهي المحطة الأخيرة له، التي تعني الموت والفناء الذي لم يجربه، ولكنهم حكوا له عنه كثيراً . لهذا كان على إبراهيم أن يتذّكر أخذ ترياق نازلية زوجته في اللحظة المناسبة . خصوصاً في آخر صعود للسيارة بعد منحدر الدبلماجة بأكثر من ثلاثين كيلومتر . لكي لا تسحره الأبواب على حين غرّة، وتسرقه إغفاءة ليخرج من هذا العالم، إلى عالم مخترق للطريق العامة، لا يعرف إلى أين يقوده، حيث يتوحد هو على مقوده، والأبواب بسمائها، فلا يرى أمامه غير سماء زرقاء ونهايات الأبواب العليا، كأنها تناديه للدخول مثل فتيات سوق النخاسة في محلة الدوّاسة القديمة، في أربعينيات القرن العشرين، وهن يمططن للزائر شفاههن كأنهن شافطات . أو حجامات تسحب كل ما يدخل في دائرته .
وتهب ريح كأنها تدفع إبراهيم بكل وزن السيارة ومن فيها من ركّاب باتجاه الأبواب . وكثيراً ما تأكد لإبراهيم بأن الرياح ليست آتية من الخلف لتدفعه باتجاه الأبواب، ولكنها ريح ساحبة مصدرها فتحات الأبواب كأنها فوهات مكانس كهربائية كبيرة بحجم الأفق الذي أمامه . ومما يزيد الشحنة قوة أن إبراهيم يستجيب لهسيس أناس ينادوه بحنان، وتودد فيفقد اتصاله بالواقع الذي يحيطه، ليس كسركيس بطل رواية عالم فوهان، وإنما بشكل مقارب جداً، خصوصاً وإن المنطقتين الموصوفتين قريبتان من بعضهما جغرافيًا .
ويبقى إبراهيم معلقاً هكذا حتى يعود لوعيه مرّة أخرى . فيكون قد وصل بالسيارة، والركّاب لمفترق طريق بلدة الحمدانية، وجبل مقلوب * . عندها يسأله فجأة أحد الركاب عن سرعة وصولهم لهذا المفرّق . في حين أن السيارة بدت وكأنها واقفة في مكان ما .. وما هي إلا جزء من الثانية الخاطفة، حتى وجد الركّاب أنفسهم هنا .. وكأن يدًا سحرية، جبّارة قد أسقطتهم فجأة هنا . ولم يجرؤ إبراهيم على البوح عما يعتمل فيه وقتها، خوفًا من تفسير يجلب له السخرية . لكن نازلية عرفت بنباهة المتطفلين على أحلام الآخرين أن شيئاً ما يعتمل في أحلام زوجها، وعليها أن تستدرجه للاعتراف، وكأنها كاهنه الوحيد في العالم، فخافت في البداية على نفسها، ولكنها قررت أن تتوسط بمن يقودها لحلّ، وجربت كثير من الرُقى دون علم زوجها، فلم يستجب لها إبراهيم، لا في العلن، ولا في الخفاء .. حتى اهتدت بنفسها لهذه الوصفة التي لا تعرف أي هاتف سرّها لها في المنام . ونازلي صارت تصفها للآخرين عندما تأكدت من مفعولها لدى زوجها . أو هكذا ادّعت .
ويأتي هلال هاتف داخلي يحدّثه عن سرّ الشجرة متنوّعة الفواكه، هذه الشجرة التي سرقه التداعي هلال منها، إلى قصة إبراهيم السائق، ونازلية زوجته . ويفكّر هلال بأن شجرة من هذا النوع لا وجود لها، إلا في قصص الخيال . أو من خلال خبرة أوسيب زوج ابنة العم الحريف في تركيب أشجار الفواكه، غير أنه يحتاج لعدة سنين، ولأنواع نادرة على إبراهيم أن يطير بسيارته عبر تلك البوابات لكي يجلب أغصانها في نهاية فصل الشتاء . لهذا عدلت نازلية عن الفكرة لأنه من يضمن لها أن يعود إبراهيم بعد دخوله الأبواب ليجلب لها تلك الأغصان . عليها إذن أن ترضى بما يحصل لها مع زوجها . وعلى إبراهيم أن يعتاد تحاشي التوغل، والتمادي في الإنسراق الغيبي مع الأبواب ..
(*)
وكم اقترحت نازلية على زوجها أن يأخذها معه لكي تتوقف معه في قرى العشائر السبع لعلها تجد الدواء هناك منطلقة من مقولة وداويها بمن كانت هي الدواء، وفي نيتها أن تجد من يسرق منها فحولة زوجها الذي يأتيها منهك دائماً لا تجد لديه استجابة مقبولة كلما راوته .
ورغم أن الناس يخافون الشائعات، والركاب يتحاشون الوقوف في هذه القرى التي لا تُرى على الخريطة . لأن أغلبهم لا يتذكر أنه مرّ بها أبداً . فهم لا يروها من بعيد، لأنها تظهر وتختفي في لحظات قد تبدو سنوات من الحلم . حينذاك يحظى الركّاب ولمرة واحدة، برؤية باعة الفواكه الغريبة أمام تلك الأبواب الأسطورية، كلحظة حلم سرعان ما يختفوا كومضة حلم تالية . وإذا ما تصادف أن اشترى أحدهم من هذه الفواكه، فإذا لم يلتهمها للتّو، تلاشت في لحظات، خصوصاً لو كانت سيارة إبراهيم مستمرة في السير . ولا يعرف الركاب هل توقف إبراهيم فعلاً . أم أن الباعة اخترقوا على الركاب خلوة جلوسهم، لعله واقع معقّد كفعل الأحلام .
ويخاف هلال فجأة وهو يلتهم الفواكه المنوّعة، أن يدخل الآن واحدة من بوابات إبراهيم . أو يخترق عليه أحد الباعة السحريين خلوته . ربما تكون كلها قصة مختلقة يرغّب إبراهيم ركّابه فيها، لكي يسحبهم من منافسه الوحيد قاسم الرحماني، فاضطر الأخير لتبديل خطه على الحدود الغربية للبلدة . أو من لا يريد الذهاب إلى أربيل في غير مواسم اللبن، والقشدة المشهورين . ومع هذا لم يتوان هلال في استلقائه تحت الشجرة السحرية عن استغلال الفرصة لالتهام أكبر كمية، وأحسن نوعية تسقط أمامه.
وفجأة ينتبه هلال إلى أن الصوت الذي تابعه في وصف الشجرة قد اختفى، وليس أمامه أحد : لا كاميرات، ولا مخرج . فيفزع برعشة حمى باردة، عندما تساقط رذاذ الصيف وراء حبة فاكهة كبيرة سقطت بحركة بطيئة كما تصور في الأفلام . تبعها ماء كأنه خرير من أنبوب … أما الفاكهة فإن الداعي “المؤلّف” فقد تحول لشخص آخر في داخل هلال، كأنه يصف لنفسه بنفسه .. يصف له هذا الآخر مراحل نضوج الفواكه، وحالة انفصالها عن مكانها … وتسقط بقوة على الأرض لكي تنفجر . أو تنفتح وعلى المرء أن يأكلها طازجة في الحال ، وإلا تفسخّت على عجل بأكثر مما يتصوره المرء . لهذا كان هلال يأكل من كلها، وبأطعامها المختلفة، وعلى الرغم من أنها مختلفة الطعم، والنوع إلا أن شكلها العام موّحد لكلها كأنها عصير محمول في كأس كوكتيل – COCTAIL على كف نادلة فلبينة تعرف كيف تبتسم للجميع بنفس المشاعر، والتحبب .
ويحس هلال مجدداً بأنه قد فقد الاتصال مع نوّار دليله السياحي هنا في بلد التداعيات هذا، وما عليه سوى اللحاق به، خاصة وأن ليليان كانت تشير إلى أن عليهم أن يقضوا الليلة هنا ما داموا قد جاءوا من بلد آخر، فكيف لا يقيمون لليلة على الأقل . وكأن هلال يسمع إعلانها قرار البقاء، ويسمع موافقته هو قبل نطقها . ولكنه يبحث الآن عنهما “هي ونوّار” معًا فأين ذهبا وتركاه يا ترى ؟ وما يضيرهما استغراقه في هوسه الطفولي ؟ أليس هذا اللعب تحت الأشجار، لون من ألوان التمثيل ؟ وهلال يتوق إلى خوض ما لا يحدث في الواقع أبداً، يوّد دائمًا الانسراق في لحظات سراب عابر .
وعلى هلال إذن الإسراع للانتهاء من هذه الشوارع المتربة لعله يجد ما يقلّه للوصول للكورنيش، فهناك يلتقي الكل .. وكأنهم على موعد، يلتقي من فقد أصحابه، وأحبابه، وحتى بلده، يأتون كلهم هنا في هذه الفسحة المكانية . آآه ربما تكون هذه نفس الفسحة التي يمرّ بها إبراهيم السائق زوج نازلية . ولكن الأمر مختلف هنا، فالواحد يلتقي في فسحة زمنية من الواقع خارج الوعي على جسر النوافل فوق النهر العريض، يمكن تشيبه هذا الحال، بوضع ركّاب سيارة إبراهيم فقط عندما يداهمهم باعة الفاكهة للحظات وجيزة . لكن متعة مشاهدة الشوارع الترابية الضيقة الجميلة بكل تفاصيلها، أجمل بناسها الذين يبدو وكأنهم خرجوا من التأريخ، لا يهتمون بما حولهم رائحين غادين، يشترون، ويبتاعون . ويتسامرون، وهلال يسير بمحاذاة أمكنتهم، كأنه في مركبة سريعة التحرّك تنخطف صورهم أمامه وعلى جانبّيه كأنما يتحاشون الاصطدام به، ولكنهم لا يرونه كما يبدو، ربما يحسون بوجوده فقط، لهذا يتحاشونه، وكأنه كتلة معترضة . أو حجر عثرة وقفت في طريقهم ـ
وفي عجالته وهو مسرع للحاق بليليان ونوّار يفترض هلال أنهما ينتظراه في نهاية الشارع على الأقل . فيرى وكأنه يشاهد فيلما سينمائياً .. فالكورنيش الذي بدا أقرب مما تصوره يتلألأ بالمصابيح وتنعكس ظلالها لتسبح في النهر، تتمازج ببريقها مع ظلال مفرقعات، لم يدرك هلال أنه أحد النيلين في أعاليه إلا متأخراً، لم يتعب هلال نفسه في معرفة فيما يكون هو النيل الأبيض . أم الأزرق فكل شيء في الأحلام بلا ألوان … إلا الألوان التي تقترحها مخيلة المنام . لكن جسر النوافل الذي خطر بباله تسميته هكذا من غير مقدمات يقوم على يمينه . وهو قريب بعيد أبداً . كأنه شيء لا يمكن الوصول إليه إلا بالعبور من بوابات إبراهيم في قرى العشائر السبع . فيرتجف هلال من رعشة تعتريه هذا اليوم للمرّة الثانية . ولكنه وجد حلاً جاهزاً، يبدو هو ما تعارف عليه أهل هذه البلاد، فعليه النزول مع الجموع منقادًا بحركتهم المتجهة نحو نفق .. أو حفرة تبدأ بالنزول بدرج ليس كنفق الشندقة بدبي من برّها إلى ديرة، ولا بنفق وندزور / ديترويت الفاصل بين كندا، والولايات المتحدة، لكن كلاهما يشتركان، وهذا النفق بعنصر هام هو مجال الاقتران والتواصل، ها هو هلال يرى الطرف الثاني قبل عبوره إليه، وهو ليس أكثر من منحدر يشبه ما يمكن تصوره درج أثري .. وبعد الهبوط، ومن ثم الخروج من الجهة الثانية . أي أن الحالة لا تتجاوز الوقوف ما بين حواجز الطريق العامة، وحافة الماء، ومن فوق مرتفعات رملية متصخّرة .. أو متكلّسة يشاهد هلال من بين الأجساد المحتشدة حوله رقصة أفريقية حماسية لنساء غاية في الرشاقة والجمال . مرمر من الأبنوس والكاكاو . ووسمة الحناء . توحي له الرقصة من بعيد بأن مجموعة طيور إلاهية قد نزلت لتوها من سمائها لتستقر على عجل فوق حافة النهر، ولتتزوّد بزاد يساعدها على مواصلة رحلتها الفردوسية، وهي فرصة نادرة للجموع التي احتشدت هنا، وكأنها تعرف مواقيت هذه الطيور السنوية، ولا يشغل الفرقة الراقصة كل هذا الحشد، وإنما ما يشغلها هو الشخوص باتجاه واحد لمعبود لا يراه أحد .. لهذا فإن الرقصة تسير في منحنيات غير مملة، وإنما لها لكل لحظة فتراتها المضيئة، وإشعاعها الباهر .
وفي هذا الزحام ينزعج هلال من ضيق مكانه، ويحس هلال لأول مرّة بأنه يرتقي حافة صخرة رملية ينزلق في كل مرّة عنها كأنه سيزيف تنزلق من غير أثقالها عن منحدرها الكابوسي، فتضيع بانزلاقه الرقصة، وكأنها تغطس في وادي من المياه، ولا يبقى أمامه غير رؤوس سوداء . وعمائم بيضاء أكبر مما يحمله رأس فتتكاتف كأنها قطعة واحدة من الزَبَد يشعر هلال كأنه يذوب بين الحجيج من غير موسم حج . أو مكان يحج فيه المتعبدون . فيحاول التمرّد، ويزجر من هو أمامه . لكن وجهاً ملائكياً لمجدلية أفريقية يستدير بوداعة إليه، وعيون الوجه مثل سماء صافية .. فيبدو الوجه صغير لا يتسع للعينين فيغرم لحظتها، لكن الرعشة تنتابه مجدداً حينما يتخيّل بأن هذه العيون مثل أبواب إبراهيم السائق تسحره وتشده إليها . فيتوّقف على مشارف خطوة لفرصة واتته، لكن اللحظة تنفذ بسرعة لحسن حظه .. أو ربما لسوئه، لأن عليه أن يترك كل شيء ويبحث عن نوّار وليليان، فاليوم هنا لا هو بنهار، ولا بليل .. وعلى هلال إن أراد البقاء أن يجد مكاناً يلوذ به . ومفتاح المكان، والبقاء، والراحة، والاستقرار هو أن يجد نوّارًا بأي ثمن ..
ويتحسّر هلال لأن كل هذه الفرجة ستفوته … ويحسد من حوله ممن سيبقون . ويقول له هاجسه بأنهم لا يهتمون، فمتى انتهوا سلكوا الدروب إلى بيوتهم وهم مغمضي العيون، ليس مثل هلال الآن، فأين له من مكان . أو أحد . أو حتى معارف، غريب كأنه مقطوع من الدنيا .. لهذا عليه الإسراع للخروج إلى الشارع من جديد، وهذا الهاجس جعله يتحسس جواز السفر في جيبه، لأول مرّة، غير أنها تبدو حركة مارسها للمرة الألف بعد الألاف .
وكأن هلال يتابع حلم تنبأ فيه بما سيجري لهما، هو وليليان كما حدث لهما في أول ليلة قضياها في روما، فبعد الاستقرار في فندق بوابة ماغريوس، سألا موظف الاستقبال عن أقرب مطعم فدلهما على اسم “أوتموتو” للبيتزا بالطبع، فخرجا في البداية بنفس الاتجاه، لكنهما عند أول مفترق طرق اختلفا، وذهبا حسب العادة ليس عكس التيار فحسب، وإنما تفرّعت بهما الشوارع، وكأنهما يتيهان بين فروع شجرة حياة عائلية، ففي أولى ساعاتهما بالعاصمة الرومانية لم يعتادا الاتجاهات . فقد كانا يمنّيان نفسيهما بوجبة ساخنة، لكنهما الآن يتمنيان الوصول إلى أي مكان حتى ولو كان الفندق نفسه . ومرّة ثانية يقنعان نفسيهما بأنهما لا يخسران شيئاً لأن كل الأمكنة جديدة عليهما، فلما الخوف والاستعجال ؟
وها هو هلال هنا يبحث عن نوّار، وليليان ويعرف أنهما في مكان ما بنفس شارع الكورنيش بالطبع، ذلك الشارع المدعو بشارع العودة، فإذا ما أراد هلال الارتفاع إليه من ساحل النهر، عليه الآن أن يعود لاجتياز ذلك الممر . أو الهوة . أو الحفرة التي تبدو أضيق بكثير من قبل، رغم أنه دخلها مع حشود كثيرة .. أما الآن فإنها لا تتسع له، ولطفلة تزاحمه في الخروج، وكأنها جدّة شاخت عليها الأيام، تتكلم بلسان الخبيرات، وتتصرف كأن عمرها ألف عام، تحاول مراودة أي ممن تلتقيه عابراً للنفق، كسباً للعيش .. لكنها ما تزال تلبس فستان الصغيرات وبلون وردي يفضلنه الصغيرات دائماً خصوصاً عندما يلفظن اسمه بكلمة PINK .. ومع هذا فالطفلة تلّح بمزاحمته، بحنكة، وعقل، وجسارة حكيمة فهي طفلة شقراء ولكن السنين قد عجنتها فتجعدت بشرة وجهها . وبمرورهما معاً تنفجر الطفلة عندما يسألها هلال : هلال : هل أنت ذاهبة إلى البيت ؟ وهل أنت سودانية . الطفلة : كلا أنا كوستاريكية … أأأه أقصد عدنا من كوستاريكا بعد حصولنا على جواز
السفر، وقد وجدت نفسي هناك لأن أبي هاجر من الوطن، وماتت أمي بين
ممرات الحدود التي لا يتذّكر أبي عددها، وأمكنتها فحملني في لفافة، وكبرت
في الغربة .. ولي أخوان من تشيلي، والهند، وماليزيا، وأوغندا، وهنا في السودان
جئنا كآخر ملاذ لنا .. ولكن المشكلة أن أبي قد أدمن التجوال، ولا يرى لوضعه
قرار .. ولا بيت يأوي إليه .. ولا زوجة يبقى معها بعد أمي . وأنا لا أعرف أخواني
كلهم حتى هنا في السودان .. ففي كل بلد مرّ أبي أنبت له غصناً من بلدنا،
لربما تتفرع رؤوساً توحدنا في المستقبل .. هلال : وهل ترينه في المساء ؟ الطفلة : أقول لك والدي مدمن الآن .. مدمن على كل الأشياء . السيجارة، الكأس،
الرحيل .. ولا أحد يعيده لوعيه إلا عودة أمي .. وعودته للوطن .. وكلاهما
مستحيل .. فأمي قد ماتت، والوطن قد ضاع .. وأنت هل أنت مهاجر مثلنا ..؟
أقصد هل هاجرت قبلنا ..؟ فأنا أميّز المهاجرين من سحنتهم، ومن علامات التيه
في أعينهم .. ؟
وينتبه هلال لكلامها، ويريد أن يجيبها لعلها تأويه هذه الليلة، ولكنها تختفي فجأة كأنها ساحرة ذابت بين الجموع، فلماذا تذكر السودان، وهو بكل كيانه في كوستاريكا ؟ أهي ممثلة معه في برنامج الاغتراب التلفزيوني – حلقة السودان ؟ أم أن ما يراه تهيؤات لها علاقة بالواقع ؟ ومع هذا يجيبها لعلها تسمعه، وهي متوارية عنه :
هلال : أنا زائر مؤقت ..
فيأتيه صوتها من جديد، ولكن من حيث لا يدري :
الطفلة : وهل تعود إلى بلدك بين فترة وأخرى ؟
فيصفّر وجه هلال، ولا يستطيع الجواب فقد وضعته الطفلة العجوز أمام محنة يعاني منها في أحلامه كل ليلة، فبمجرد أن تطأ قدماه الحالمة أرض الوطن .. يقاسي هلال من مجهود البحث عن دوائر الشرطة لاستحصاله على جواز سفر بديل لجواز سفره الذي يُفقد في كل مرّة، وليس من معرّف يؤكد مواطنته . وبعد معاناة، ومجريات مأزومة يفيق فزعاً من كابوسه قبل صدور الحكم عليه .
وفي كلّ مرّة يسحب هلال التفكير بالعودة يؤرقه سؤال دائم : لماذا يا ترى يريد الخروج ما دامت العودة ملاذه الأخير ؟ أهو ممن أدمنوا الرحيل الدائم، مثل والد الطفلة ؟ وهل يمكن أن يتحقق له أن يعبر فجأة إلى الوطن من غير الدروب الرسمية، كأن يدخله من خلال بوابات قرى العشائر السبع مثلاً ؟ لكي تنتهي كوابيسه في العودة الُحلمية على الأقل، وتتراءى لهلال فجأة بوابات إبراهيم الساحرة وقد بدت الآن كبوابات الوطن تطلبه، ولكنه يخاف الولوج فيها من جديد، لأنه لا يضمن طريق الخروج بعد العودة . ويتذّكر هلال بأنه نسي أن يسأل الصغيرة عن اسمها فيأتيه هاجس قوي بصوتها : الطفلة العجوز : أنا غصن البان، وألقب بعشتار العصر .
وعندما يحاول أخذها رأيها بمسألة اانتهت، والشريط الذكريات قد نفذ، فيبقى معلقاً بين النفق والجسر، كما تعلقت روح تموز، وقد عجزت عشتار الأسطورة عن إخراجه من العالم السفلي .
(1) نشرت في مجموعة البحر يغرق، إصدار مركز الحضارة العربية بالقاهرة 2000.