قاسم علوان : البنية الأدبية وتحولاتها مسرحيا وسينمائيا (1)

kasem alwan 3إشارة : رحل الأخ الحبيب الناقد والفنان “قاسم علوان” , رحيلا مبكرا (كان عمره 50 عاما) إثر نوبة قلبية مفاجئة. لم يتح له القدر الغادر تحقيق أي شيء من أحلامه الواسعة الباذخة .. وطُويت صفحته بقسوة تعاون عليها الواقع الجائر ، ومحبّوه المتعبون . أرسل قاسم كتابه هذا قبل رحيله بأسبوعين .. وطلب عدم نشره في الموقع إلا بعد صدوره . وتطاول الزمن ولم يصدر . لهذا سوف ننشره كحلقات وفاءً لذكراه .

    المقدمة

يعالج الكاتب قاسم علوان موضوعة جديرة بالتحليل في عالم السينما، فما زال مفهوم (تحولات البنية الأدبية) للنص يشكل تحفيزا نقديا مثمرا في الدراسات النظرية والتطبيقية في كل من السينما والمسرح.
إذ اننا نتعرف دائما على تقنيات مستحدثة في عالم السينما لم تخطر على بال الرواد انفسهم، حتى ان المدارس الاخراجية واتجاهاتها الابداعية بدت متناقضة مع تقنيات كانت تبدو راسخة ومتماسكة في إطار اللغة السينمائية المتفوقة في نهايات القرن العشرين حتى بتنا نسمع في السينما اصواتا وصورا تخلق لنفسها وجودا ما، لم نكن على سابق عهد بهفي واقعنا اليومي والحياتي، واقع يتحرك مجسما على الشاشة فقط بفعل تقنيات رقمية وبرامجيات حاسوبية تتحكم بعديا في صياغة الخطاب الفني للفلم وقل الأمر نفسه في سينوغرافية العرض المسرحي من حيث اختزال الزمن ورفع الكفائة الانتاجية عالية الجودة لعناصر العرض وتقنيات الجسد، والتقطيع المشهدي المونتاجي لصنع أجواء مبتكرة ومؤثرة بقوة على المتلقي.
إذ لم تعد الموسيقى والمؤثرات منقولة من مصدرها الأصلي والثابت بل جرى توليدها وابتكارها بتفاعل مخيلة المبدع السنمائي والمسرحي، مع التقنيات المستحدثة ببناء موسيقي يضاهي اصوات الحياة نفسها ويتفوق عليها لحنا وايقاعا بصورة سمعية مبهرة.
لكن هذا التوسع الاخراجي الجيد لايعني تقريضا لما تأسس من قبل، هذا ما يؤكده كتابنا هذا، فالمؤلف ـ قاسم علوان ـ لاينكر ما تدخره السينما من تحولات حقيقية في منجزاتها، وكذلك المسرح في بحثه الدائم عن عوالم افتراضية جديدة وخلاقة على مستوى الصورة والصوت، النقد السينمائي قدم تحليلا صائبا في نظرية الفلم بوصفه واقعا يحتوي على حجوم اللقطات والاتجاهات والزوايا، يغيب عن اطارها المتصل الزماني والمكاني وتخلق عمقا فراغيا من ضوء وظل وأشكال نوعية دالة.

د. عقيل مهدي
د. عقيل مهدي

وكذلك المسرح بات أيضا منفتحاعلى شبكة تأويلية وإحالات وتلميحات وكأنه يحاكي الميزانسين السينمائي، بانتقاء المشاهد وتغير زوايا المناظر المسرحية، هذا التحول السردي والشكلاني تحرك كذلك على مستوى القيم الإنسانية تبعا للوسائط الفنية التي تقيم علاقة قصدية مع الصورة التي ينبني من خلالها نص العرض سينمائيا ومسرحيا، عروض قد تكون تنميطية وتقليدية أو تبشر بانحراف مغاير للمفهومات المعرفية والأيديولوجية والاجتماعية المغلقة تبعا لقدرات مخرجيها، انها تقترح رؤى إخراجية، وتبصرات جديدة للواقع الفلمي المتداول، وتعيد النظر بآليات الإنتاجية التقليدية وتعدل مادتها الخام لتجعله ملائما لاغراضها الدرامية والفكرية والجمالية.
ولارتباط صناعة الفلم بالعلم وتطوره ولعلاقة العرض بالنص، فان تحولات البنية الأدبية اتخذت مسارات متباينة، لا على صعيد الأعداد والاقتباس وسواها، انما تجاوزت النقل المباشر الى صناعة خطاب فني “تأويلي” موازي للمرجعية الأدبية الأصل، سواء في لغته وأدواته وأساليبه أو في ابتداع عالمه الفني الخاص. يتابع ـ المؤلف ـ مخرجين عالميين في السينما، وعراقيين في المسرح، بوعي يخص تلقيه المستقل ولا يخشى الاختلاف والمغايرة.
سنتابع قراءته للمنجز الفني منذ لافتات السينما الصامتة حتى استعارات جون هيوستن المذهلة التي خرجت برواية (موبي ديك) لمؤلفها هرمان ملفيل عن نسقها الأدبي، لتكون حافلة بمرجعيات ثقافية متنوعة، وبمعالجة سينمائية خاصة، كما يذكرنا المؤلف بمنجز المخرج الأسباني السريالي بونويل في فلم (روح ليونارا) الذي انزاح عن مرجعيته في ثلاثية الحب والحياة والموت.. التي وفرتها قصة إدغار ألن بو، بعالم فلمي حافل بالغرائبية وبأصوات بشرية وصهيل حصان وصفير تنفثه ريح عاصفة.
هل يمكن ربط الكاميرا بقذيفة مدفع..؟
كيف تتحول الاستعارات من محاكاة تصويرية للهيروغلوفية الى تكوين لقطات ما..؟ كيف هو المونتاج الذهني عند إزنشتاين..؟ ما التحول في بنية (المحاكمة) للروائي كافكا عند المخرج السينمائي أرسون ويلز..؟
كيف ترنحت رواية ناباكوف (لوليتا) عند تحولها الى فلم..؟
ما علاقة السرد بوجهة النظر الذاتية للمخرج..؟
هل باتت بنية (روميو وجوليت) هي نفسها في فلم روبرت وايز في شريطه (قصة الحي الغربي)..؟
بمثل هذه الأسئلة وسواها في حقل السينما يتابع المؤلف مسرحيا ما أنجز من محددات وعلامات الوعي الجمالي الهادية فكريا وأسلوبيا للمخرج المسرحي العراقي.. وهنا تكون عّينة الفنان قاسم محمد المبدع الخلاق في صنع مشهد مسرحي جاد يتعامل مع تحولات النص من أفق الاخراج المسرحي العالمي بأشكاله المبهرة ولغة الميزانسين المعبرة عن موروثات عالمية وعربية ومحلية، واستثماره لطقوس احتفالية وطرائق فرجة تعلو على البنية الأدبية لتحرك بفعالية وكثافة من عناصر العرض المسرحي، وتشحنه بشخصيات وتركيبات شكلية وموضوعات مهيمنة متحركة في جدل من التحول والمغايرة والتأويل، وثمة مسرحيات عن تحولات السندباد، وسواها لمبدعين عراقيين آخرين، سيتوقف عندها الكاتب الجاد قاسم علوانن هي محاولة جديدة لتقصي عيّنات منتخبة قصديا من عالم السينما والمسرح تذكر بالثوابت وتغني الذاكرة..

    أستاذ جماليات الفن
أ‌.    د. عقيل مهدي يوسف
  عميد كلية الفنون الجميلة       
                                                                                                   2008

الرواية والسينما….
                       في إشكالية النقل الأدبي للسينما

تمهيد
إشكالية علاقة السينما بالأدب إشكالية مركبة، تمتد تقريبا الى تاريخ السينما منذ نشأتها. فقد تشكلت تلك العلاقة وتشاكلت بصور مختلفة مع مرور الزمن، وهي في حقيقتها علاقة تناظر إشكالية العلاقة بين الأجناس الأدبية والفنية الأخرى مع بعضها، والمقصود ببحث هذه العلاقة هنا ليس الاقتباس أو التأثر أو النقل عن.. بل البحث في استقلالية آلية التعبير، الأسلوب  وأدوات البناء، مثلا اللغة في كل من الأدب والسينما ومفرداتهما الخاصة في التحليل والتركيب، وهما عنصرا ّالبناء الفني في كل جنس أدبي أو فني كعلامة.. واختلافهما مع الصورة كعلامة أخرى في بنية السينما كجنس ابداعي آخر.. وبالتالي السؤال الأساس:ـ ما شكل طبيعة النقل الأدبي للسينما…؟ وهذا بحكم العلاقة المبكرة للسينما بالأدب عندما اعتمدت على السرد الأدبي وأساليبه المعروفة خصوصا منذ طفولتها الأولى..

ديفيد لين
ديفيد لين

تناول الكثير من نقاد السينما ومؤرخيها هذا الإشكال وفي وقت مبكر من تاريخها كما كتب الكثير فيه حتى من خارج هذا التخصص. ربما تميزت علاقة السينما بالرواية بشكل خاص في كونها اقتبست منها العديد من الروايات منذ بدايات صناعتها الأولى في السينما الصامتة عندما كانت تستخدم اللافتات المكتوبة للتعبير عن مضمون الحوار أو للتعريف بما تعجز عن نقله الكاميرا السينمائية حينذاك.. مما عمق إشكالية العلاقة المتبادلة بينهما، كما أشار إلى ذلك ألبرت فولتون في أربعينات القرن الماضي في كتابه (السينما آلة وفن)  وكان يتحدث عن رواية (الآمال الكبيرة) التي أخرجها ديفيد لين حينذاك قال: (أن الأسلوب السينمائي أشبه بالأسلوب الروائي، والفلم أشبه بالرواية منه بالمسرحية، ولا يمكن بالطبع أن يكون مثل رواية تماما، أنما الفلم شيء أقل من رواية، ولكنه شيء أكثر من ذلك)(1) نلاحظ هنا الوعي المبكر لجدلية هذا الإشكال والتفكير به في هذه المقارنة، والتي أنتبه لها النقاد في ذلك الوقت، ومن ثم السعي الحثيث على صعيد الإبداع لترسيخ استقلالية اللغة السينمائية عن اللغة الأدبية، والعمل على خصوصية مفرداتها، عن الأجناس الفنية والأدبية الأخرى، وبالذات الرواية، كما تجسد في أعمال الكثير من المخرجين. ولكن الشيء نفسه يمكن أن يقال عن علاقة السينما بالمسرح في كونها أخذت عنه فكرة الدراما تحديدا وبجميع عناصرها، وكذلك يمكن أن يقال الكلام نفسه عن علاقتها بالفنون الأخرى….الرسم، النحت، الموسيقى، وهكذا تتعمق هذه الإشكالية بل وتتأبد، وبذلك يصح ما قيل عن السينما بأنها وليدة كل الفنون مجتمعة.
والذي يهمنا من هذا الموضوع علاقة السينما بالرواية تحديدا، أو كيفية النقل الأدبي من الرواية للسينما، وبالذات في السينما الروائية، التي استعانت بنسق السرد الروائي الأدبي نفسه كأداة مهيمنة، وهذا ما يدفعنا لأن نطرح المشكلة التالية:ـ هل نستطيع أن نحقق استقلالية هذه البنية الجديدة في السينما عنها في الرواية المكتوبة..؟  لماذا لا تكون السينما قد أخذت بنية السرد أصلا أو الروي من الحكاية الشفاهية أو الأساطير البدائية أو الملاحم القديمة..؟ وهنا يصعب أن نضع الحدود أو الخطوط الحمر بين تلك الدوائر المستقلة عن بعضها، و ربما تبدو

سيرغي إزنشتين
سيرغي إزنشتين

السينما حقا والى حد ما أقرب إلى الملحمة القديمة منها إلى الرواية أو إلى المسرح..! وفي الوقت نفسه هناك من يعتبر (الرواية ملحمة العصر)(2) كما ترد الإشارة الى هذه العلاقة الملتبسة في هذه المقاربة الأدبية.. في هذا النص التنبؤي الذي سنورده والذي ينذهل فيه الكاتب والمخرج الفرنسي آبيل جانس إلى درجة الافتتان الجنوني بهذا الفن فيقول.. ( لقد أتى زمن الصورة… أن كل الخرافات وكل الأساطير.. وكل مؤسسي الأديان، وكل الأديان نفسها، وكل الشخصيات الكبيرة في التاريخ، وكل الانعكاسات الموضوعية لمخيلات الشعوب، منذ ألوف السنين تنتظر البعث الضوئي… أما الأبطال فإنهم يترنحون على أبوابنا أملا في الدخول… أن كل حلم الحياة، وكل حياة الحلم مستعدان للجريان فوق ذلك الشريط الحساس. ولن يكون من قبيل التخريف أن نقول بأن هوميروس كان من شأنه أن يطبع ” إلياذته ” بل و “أوديساه” فوق شريط الفيلم..)(3) هذه هي حقيقة السينما كما يراها هذا المخرج والكاتب في زمن مبكر من عمر هذا الاختراع، وكان قد تعامل معها بنفس هذه الرؤية الشعرية في تجربته الشخصية في الإخراج عندما أشتغل على أفلام من مثل (نابليون) و(جان دارك) وكذلك أفلامه الأخرى في الثلث الأول من القرن الماضي، وذلك عندما كانت اللقطة الذاتية في السينما في بداية ابتكارها وتداولها خلال العمل السينمائي.. فقد أصرّ جانس عندما كان يعمل على إخراج فيلم (نابليون) على أن تربط الكاميرا مع قذيفة المدفع قبل إطلاقها.. هذا ليصور سقوط القذيفة بلقطة ذاتية…!!
وبفعل هيمنة الفن الروائي من حيث الانتشار في العصر الحديث على الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، وفي القرنين المنصرمين تحديدا من تاريخ الأدب المدون، لذلك لابد أن نشهد هيمنة الرواية أيضا على الفن السابع الحديث العهد بشكل كبير، ونقصد بهذه الهيمنة سيادة بعض من المفاهيم الأدبية والأسلوبية، أو أدواتها في آلية وبنية السرد في التعبير الفيلمي.. وبشكل أدق منطقها الذهني الأدبي في نقل المتقاربات والمتناقضات الصورية المتخيلة عند المتلقي والمفترضة، وتقنين تجاور تلك الصور الخيالية.. والقيمة الإيحائية لذلك التقارب أو التناقض أو التجاور، في بث إيحاءات محفزة لذاكرة المتلقي، بنية مسبقة من قبل الكاتب، هذا في الرواية.. هذا التقنين (الأدبي) تلقفه صنّاع السينما بشكل مبكر على يد روادها الأوائل، هذه الهيمنة التي نشاهدها للمنطق الأدبي الذي أشرنا اليه هو الذي تحكم في تنفيذ الكثير من المشاهد والقصص السينمائية فيمابعد، حينما تلقف بعض المخرجين اللذين استغرقهم الهم الأدبي.. الاستعارات المجازية، أو المقارنات الصورية للمتناقضات، وتوظيفها فيما بعد في لقطتين متتاليتين، ومن ثم إحالتها إلى رموز أو قيم بلاغية قريبة من معاني اللغة الأدبية المجردة في ذهن المتلقي. كما يمكن إحالة ذلك التناظر أيضا إلى التقابل الصوري في اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) أو أي من اللغات القديمة التي اعتمدت التصوير في الكتابة الأولى، فتجسدت تلك المتقابلات الصورية بشكل قصدي مسبق في ما أطلق عليه بـ (المونتاج الذهني..) مثلا المنهج الذي أبتكره المخرج الروسي سرغيه إزنشتاين ونظّر له في عشرينات القرن الماضي في كتابه المعروف (فن المونتاج السينمائي) فكان إبداعا مهما وابتكارا فذا في ذلك الحين، رغم معارضة نقاد ومنظرين معروفين أيضا فيما بعد لذلك الاتجاه، مثل اندريه بازان، وشارل رامبو الذي نقل عنه هنري آجيل في كتابه المشار إليه آنفا (رفض إعطاء السينما طابعا ثقافويا متطرفا، والى رفض مقولة الصور التي استحالت إلى رموز)(4)
kafka ويمكن أن نحيل كل ذلك الإشكال والإبتكارات التي ترتبت عليه الى اختراع تقنية اللقطة الكبيرة في وقت مبكر من عمر السينما.. بعد إن انتشرت النزعة الأدبية القائمة على التجاور بين لقطتين كبيرتين مختلفتين، والذي يفترض الصورة الذهنية الثالثة..! كما افترضت ذلك نظرية (المونتاج الذهني) التي ابتكرها ازنشتاين وأشرنا إليه آنفا.. وحتى ما أنجزه مواطنه ومعاصره فيسفولد بودوفكين على صعيد مختلف وما أطلق عليه (المونتاج البنائي) كان مشبعا أيضا بتلك النزعة (الثقافوية..) ذات الطابع الفكري التجريدي السائدة آنذاك في الثقافة السوفيتية التي تصدرت المواجهة مع ماكان يسمى بـ (الثقافة البرجوازية..) أي الثقافة ذات الطابع الحسي.. (المونتاج البنائي) الذي يقوم بتجميع عدة عناصرـ لقطات مختلفة ليركب منها صورة حركية جديدة، أو إيحاءا لمعنى جديد في تجاربه السينمائية المبكرة في ذلك التاريخ، وبالرغم من أن ذلك يعتبر منجزا ثقافيا نظريا كبيرا، أكثر منه منجزا سينمائيا، ولكنه أقل حدة من منجز أزنشتاين في مونتاجه الذهني، الذي وصفه فيما بعد جان لوك كودار بأنه (عملية موت في علاقته بالحياة)(4) باعتبار الموت عملية مونتاج للحياة نفسها.
وفي الوقت نفسه الذي عمل فيه أولئك المخرجون الروس على ذلك النوع من المونتاج عمل المخرج الأمريكي جريفت الذي عاصرهم في بداية أعماله على صعيد فن المونتاج نفسه ولكن بطريقة أخرى، فقد ابتكر ما سميّ بـ (المونتاج المتوازي) القائم على تصوير حدثين متزامنين، بعيدين مكانيا، ويعرضان بالتناوب مع بعضهما، هذا المونتاج يشكل ابتكارا تاريخيا مهما في تعميق أدوات السينما واساليبها المستقلة عن الأدب والنظرية.. أو ما سميّ بالسينما الخالصة التي قادت إلى النتيجة القصوى فيما بعد.. البعيدة عن هيمنة الأدب والرواية تحديدا، أو حتى البعيدة عن التيارات الثقافية والفكرية النظرية الفاعلة اجتماعيا آنذاك، والتي تسعى الى أن تقود الصّورـ الرموز إلى معنى دلالي آخر غير بعيد عن الدلالة الرمزية للصورة بذاتها.. تلك الجهود التي اتجهت فقط الى إنتاج ما يسمى بـ (السينما البحت…) ولكن هذا الاتجاه هو الذي سيتطوّر لاحقا في السينما الأمريكية الحديثة ذات الطابع التجاري الذي هيمن إلى الوقت الحاضر في الانتاج السينمائي، وهو الاتجاه الذي أسس لسينما (الأكشن…)
وبالطبع لا نستطيع أن نعمم أو نطلق حكما عاما على السينما الأمريكية، ونضع أفلام شارلي شابلن مثلا تحت نفس التصنيف المذكور أعلاه، فهذا الأخير كان قد أشتغل تحت المؤثر الأيديولوجي أو الثقافي الذي دعا إلى التخلص من طغيان المرئي الحسي، لكي تصبح السينما وسيلة شبيهة بالكتابة…!  صحيح أنه لم يظهر بالطريقة نفسها أو القوة (الفكرية) المهيمنة التي كانت لدى المخرجين الروس بالذات في ذلك الوقت، لكن شاهدناه بدرجة أقل في أفلامه المتأخرة تقريبا ذات المنحى التحريضي الثوري والسياسي المباشر.
في السينما الأمريكية ومنذ سنواتها الأولى لم نر فيها اهتماما بالجانب الثقافي أو النظري وتحديدا الفكري السياسي منذ أيامها الأولى، حيث سادت النزعة التجارية وحسابات الربح والخسارة، صحيح أنه كان هناك اهتمام بالجانب الفني التقني بشكل دقيق، وكان يحسب حسابه مع عمليات الإنتاج الأولى، لكن كان هناك أيضا اهتماما بالاستعارة من الروايات الأدبية المعروفة، ولكن ليس بالأدب لذاته، بل لاستعارة الثيمات القصصية فقط، وإعادة تقديمها على الشريط السينمائي، فكانت هناك نتاجات سينمائية رائعة أحيانا، لكنها لا ترقى غالبا إلى الأعمال السينمائية الروسية والفرنسية التي أخذت أيضا من أعمال روائية مماثلة. وفي وقت مبكر من تاريخ السينما الأمريكية عندما طلبت أحدى شركات الإنتاج الكبيرة المعروفة من المخرج فون ستروهايم أخراج فلمه المشهور(الجشع) الذي أعده عن رواية فرانس نوريك (ماك تيج) فقد أجمع معظم النقاد والمؤرخين على ان اعداده يعكس احترامه العميق لموقف المؤلف الاجتماعي…!! فقد كان يبحث عن مقابل سينمائي صوري لكل كلمة في الرواية.. على حد تعبير الناقد والمؤرخ الأمريكي آرثر نايت(5)… فقد كانت رواية فرانس نوريك تزخر بتفاصيل رهيبة عن الحياة الاجتماعية وتناقضاتها في نهاية القرن التاسع عشر، فجاء فلم ستروهايم في (42) فصلا (بوبينة أو بكرة) أي حوالي (10) ساعات، وبناء على طلب الشركة المنتجة أختصره إلى (20) فصلا، فرفضته الشركة أيضا على انه طويل جدا، وطردته من العمل، وكلفت مونتيرا آخر (نذلا) كما أشار الى ذلك تحديدا المؤرخ آرثر نايت(6) وكانت النتيجة أربع ساعات رفض ستروهايم أن يشاهدها…!! لذا ظلّ الفلم أسير العلب ولم يعرض بشكل تجاري أبدا. هذا مثال على طريقة تعامل شركات الإنتاج الأمريكية مع النتاجات التي تعتمد الأدب المكتوب. هذا رغم إن نفس الشركة ( مترو كولدن ماير) أنتجت فيما بعد أفلاما طويلة مثل (ذهب مع الريح) المعد عن رواية مارغريت ميتشل بالاسم نفسه.
وسنتناول في هذا البحث كإجراء تطبيقي نموذجين من أفلام سينمائية مختلفة قدر الإمكان.. مختلفة عن بعضها من ناحية شكل الأعداد السينمائي عن الأصول الروائية.. فهي عن روايات مهمة ومعروفة، من مثل رواية فرانتز كافكا الشهيرة (المحاكمة) وكذلك رواية فلاديمير ناباكوف الشهيرة (لوليتا) تجارب مختلفة عن بعضها البعض في طبيعة إنتاجها وزمانها، وكذلك في صميم تجاربها الإخراجية، وتنوع تلك التجارب.. وهذا الاختلاف المتعمد حتى لا نقع قدر الإمكان في نسق من المقارنة الفكرية والفنية يمكن أن يقود إلى فرض أو تسويق رؤية أو قواعد منهجية محددة أو أسلوب فني محدد أيضا لعلاقة الرواية بالسينما كاقتباس أو إعداد.. وبالتالي يمكن أن تذهب مذهب القواعد الثابتة وهذا ما لا نريده..

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *