رغد السهيل : كرنفال عقلي

bu azezi” لعل الجنون مجرد حزن كفّ عن التطور ” .. أميل سيوران

تتأمل وجهه وهو يسألها، تبتسم له، تبتهج عيناها، تحني رأسها، تعود ترفعه  ببطء وثقة، كمن يضع تاجاً على رأسه ويخشى سقوطه، تتنهد تنهيدة عميقة، لتعيد سؤاله هامسة لنفسها : نعم…تسكت قليلا وتواصل: أينَ كنتْ؟.
استغرب صاحب الرداء الأبيض حالها، ولأنه تعاطف معها.. صبر.

هربت الحسناء شذى من المشفى، ذلك المشفي المتخصص الواقع في قلب بغداد ، لم تكن تبحث عن حبيبها الوحش في الأنفاق، تحت الأرض كما يحدث في بعض المسلسلات التلفزيونية، ذلك لأن مهمتها محددة فوق الأرض، بصحبة تلك الذبابة ..الذبابة السوداء الكبيرة صاحبة الأجنحة الشفافة، والعيون الخضراء البارزة .
الباب مفتوح،الحارس غائب، تتوهج العين، تنهيدة عميقة، تلحّ الفكرة، لا يهدأ الطنين.. ولا يبتعد، تدور الذبابة تدورحول رأسها، تدور و تدور ..

الثوب الأحمر الضيق ملائم، العطر الفرنسي الباذخ الرائحة مطلوب، القرط الطويل ذو الأحجارالملونة جذاب، ولن تختنق الأصابع العشرة بالخواتم، هذا خاتم على شكل أفعى وذاك عقرب، وأخر أسد، ثم الوردة، لن أرتدي خاتم اللبوة، ذاك ذو الحلقات المفرغة أجمل، وشيء من الأساور بالذراع اليمنى..

أدوات زينة لأنثى لها غاية، بضعة خيوط من القلائد حول عنق ناقة ابن العبد، تلك التي في المعلقة، لا بأس ببعض التغيير، قليل من الكحل الاسود ربما يجعل مدى الرؤيا أوسع، لكن الناقة ستنتفض على صاحبها، لم تعد ترسمها ألفاظه، فللناقة جَمّال لم يصوره لفظ. للناقة جسد..يحكم، يأمر، ينهي، وحين يشاء يقلب الهودج .

للجسد سلطة، لعنة.، فكرة، قحط، اغراء، جنون، قضية، سحر، أسطورة، وللجسد حرائقه أيضاً.

دخلت شذى محطة وقود مجاورة، ظلت هناك بضع دقائق، خرجت بجِرّة متوسطة الحجم واتجهت نحو الشارع المؤدي الى الحديقة العامة، وأخفت تلك الجرّة..
– جيد أنها السابعة مساء .ما زال الوقت أمامي طويلاً ..

بدأت تترنّم بلحن موسيقي بصوت عالِ:
تن تن ترا تن تن ترا.
ترفع صوتها، يميل غصن البان، ينثني الجسد على الإيقاع، يُمنة ويُسرة، الصوت يرتفع في الشارع، تؤشر بيديها، تحرك رأسها، وتتراقص الكلمات على إغراء شفتيها. …

تكمن القوة حيث الضعف، والضعف حيث القوة. حواء صمّمت، لا رادع لها، انتهت الحكاية. هي لم تكِد كيدا، كانت فاكهة لذيذة، اللذة تستحق المغامرة، آدم يعترف : لماذا كل هذا اللغط، أنا الذي اخترت؟ فاكهة لها ذيل يمتد على مدى العصور، أحيانا خيوط رفيعة تفصل بين التابع والمتبوع، أحواء هي التي تتبع الإيقاع ؟ أم الإيقاع كله ترسمه حواء ؟ أي حواء وأي آدم وأي إيقاع، القضية فيها كرنفال!..

ترقص وسط الشارع، وضجيج ضحكاتها يتعالى، يُصدم من في المكان بفعلتها، بعضهم يتفرج، بعضهم ينفعل، بعضهم يتعاطف. آخر له غاية، وقليل لا يبالي.. ثار حولها جدل ..

– إنها امرأة جميلة مغرية يا غانم، واضح أنها مستعدة لكل أنواع المغامرات ..
– ما رايك يا أسعد لو نتشارك فيها جميعا هذه الليلة، واضح أنها ترغب بأكثر من رجل، نحن ثلاثة ربما نكفيها.
يضحك غانم وهو ينظر نحوها نظرات تشف عن رغبة تستعر .
– قاسم انظر.. تلك المراة مكتنزة، لذيذة رائعة، هلم نلحق بها، إنها تعلن عن رغباتها بهذه الحركات.
– دعكم من هذا الهراء دعوا الخلق للخالق، واذهبوا لممارسة أعمالكم، بالتأكيد هي غير طبيعية.
– أنت غبي هل نترك كل هذا الجمال وهو ينادينا ؟ هيا يا شباب.

تزايد عدد الشباب الذين يتبعونها، تبالغ هي في حركاتها، تتقصع، تتغنج في مشيتها. التفتت خلفها فرأتهم،ضحكت بسخرية، أدارت وجهها الى الأمام
– ههههه، العدد جيد لا بأس ..ينبغي على شهرزاد مواكبة العصر.

فجأة فتحت سحّاب ثوبها من الظهر، بدا نصف ظهرها عاريا، ظهرت ثيابها الداخلية السوداء، ما زالت تميل وتميل ببطء، كلما مالت اتكشّف جزء أكبر من جسدها، بدأت تتأوه، بصوت هامس ثم مرتفع، بطريقة لا مبالية كأنها مخدرة بأفيون مجنون، وهي لا تسمع الا صوت تلك الرفيقة، تلك الذبابة التي ما زالت ترافقها . حارس يطير حولها، لعله حلم بعض النساء، فالأجنحة وإن كانت صغيرة تبقى تحمل فكرة .

ترمقها مزيد من العيون، تبحلق فيها، غرابة الحدث أذهلت البعض، شتائم من هنا وهناك، وأصوات أخرى تختلط ببعضها، قليل من المارّة يتعاطف معها. الحدث يتواصل، سقط الثوب  عن الكتف اليسرى، وارتفعت الحرارة في الشارع ..

–    أنظر يا يوسف، إنها تخلع ثيابها بمنتهى الإثارة، يالها من جريئة وقحة ..
وتسقط أرضا الكتب التي يتأبطها على صدره…
–    نعم نعم عزيزي سفيان إنها محترفة، اجمع كتبك وهلمّ نلحق بها قبل ان يفوز بها غيرنا.
–    فاجرة …ساقطة… أين شرطة الآداب؟
–    تمهلوا. إنها مجنونة بالتأكيد..

انحسر نصف الثوب عن الكتف اليمنى، دفعت يديها لتعريهما من الأكمام، سقط الثوب. سقطت جثة وسط الطريق، لا أحد يُبالي عبروا من فوقها، دائما يعبرون من فوقها، عينا الجثة تحصيان عدد العابرين، حتى انتفضت العينان. يستمع شهريار بشغف، وتفوح شذى برائحة عُري الجسد، تضحك بصوت يتدرج في الارتفاع ثم الهبوط،، الطول والقصر، لكل ضحكة معنى، مغزى، قصة، كلمات تقال، ولا تقال أحيانا، وبعض الضحكات كرنفال نارتستعر، وبعضها كرنفال دموع. كرنفال حلبة الرقص فيه الوجه، وكلما زاد عدد الراقصين في ساحته، تراجعت رقصة الفالس، وضجّ الوجه بأضواء الديسكو فحسب ..

– يا للجسد البَضّ، جميلة، مثيرة، شهية، ماذا تريد من كل هذا؟ أعتقد انها مخمورة لا تشعر بما تفعل.
– مسكينة مسكينة .. لِم تفعل هذا ؟ لابد أن خلفها حكاية..
رجلا أمن في الشارع تصلبا في مكانيهما، الأول شتمها مستعيذاً بالله من شرور النساء ،وهو يبلع لعابه، والآخر بدأ يتبعها كأنه تحت تأثير مخدر ما، وهو لا يعرف لِمَ يفعل هذا! ..

تغمض عينيها، تمد يدها نحو ظهرها باتجاه أزرار حمالة ثديها تفتحها، تفتح الحمالة، تسقط الحمالة، يتحرر الثدي من الحمّالة، لم تعد هناك حمالة ..يا حمالة الحطب وبئس المصير، هكذا قال الحاج محمود وهو يراها مُديراً وجهه..
بدأت تركض وتركض، لتتلافى الحجارة التى يرميها عليها بعض الفتية الصغار، وهم يركضون خلفها ويصيحون : معتوهة معتوهة معتوهة ..
في هذه الأثناء قامت بطفلة تصادف وجودها في المكان، برمي حجر على هؤلاء الفتية صارخة بهم : اتركوها اتركوها، إنها بالتأكيد مريضة..
و ألقت بمعطفها الصغير نحوها قائلة: خالتي أرجوك غطى نفسك به ..
تسمعها شذى، تبتسم لها بحنان، تهز رأسها، وتواصل الركض عارية ..

تضع سلمى الصغيرة كف يديها أمام فمها مرتعبة: يا الهي …
تضحك قمرصديقتها : لا تستحي ولا تخجل..هذا معيب، أين والداها؟
الصغيرإياد في الشارع المقابل، يبحلق في جسدها، يحدث نفسه : إنها تشبه أمي وهي في الحمام، رأيتها بالأمس، هل لكل النساء نفس الجسد؟
.. تركض شذى، ويسير الموكب.خلفها.
شهرزاد تواصل الحكايات، لن تسكت هذه المرة عن الكلام المباح ..!
بضعة نسوة يخرجن من محل مواد غذائية يصدمهن المنظر :
–    أم عمار أم عمار… أنظري تلك العاهرة ستلعب بعقول رجالنا جميعا، لابد من إيقافها عند حدّها، تعالي معي نلحق بها ونعلمها درسا في الأدب والأخلاق..
–    نعم يا أم ياسين،اعوذ بالله من غضب الله اجلبي معك عصاك.
–  لا بالله عليكم اتركوها اتركوها بالتأكيد إنها فاقدة العقل ..
– لنلحق بها يا أم أحمد قبل أن يتمادوا في إيذائها، لنحاول حمايتها …

يخرج رجلان مُسٍنّان من عيادة طبيب:
–    ما هذا ؟ امرأة عارية في الشارع ..! واووووووو ساقاها جميلتان، لم أرَ في حياتي ساقين بهذا التناسق يا أبا داوود، إنها تشبه جسد مارلين مونرو..
–    يا أبا عبد الله استغفر الله، والعياذ بالله، إن أكثر أهل الجحيم من النساء الكاسيات العاريات أمثالها …
أبو محمد يمسح لحيته بيده يخفض بصره، يدير المسبحة بين أصابعه، ثم يُحرّك طرف عينيه من الأسفل باتجاهها، وتسقط المسبحة من بين أصابعه.. …

تضحك في قلبها سعيدة بسلطة جسدها، الملكة والأتباع، ليعارض من يشاء، وليتبع من يريد،  تتوقف حركة المرور في الشارع، خلفها فريق من البشر كلٌ له مبتغاه، ولكل أنثى فريقها الخاص ..
تدخل الحديقة العامة، يتبعها جمع غفير…
………………………………………………
يا إلهي كم هي جميلة هذه المراة أحسدها على جرأتها، هيفاء هل تحسدينها على العُري والعهر؟، لم تفهميني يا عزيزتي أحسدها فقط لأنها تفعل ما تريد ولا تهتم بأحد، دعينا منها لنواصل الطريق الى البيت، بالتأكيد سيقتلها الرجال، تستحق هذا تلك الرخيصة ..
لمحتها امراة عجوزمع أحفادها في الحديقة، فبصقت أرضا : امرأة بلا شرف،لعب الشيطان بعقلها فجنت. ترمي لها بعباءتها : استري نفسك ،عليك اللعنة.. فضحتينا كلنا.

تختبىء خلف شجرة.
يحتشد الجمع الغفير في الحديقة، يتلفتون يمينا يسارا، بحثا عنها ..
– ما هذا أهي ساحرة ….أين ذهبت ؟
فاجأتهم بخروجها الى وسط الحديقة وهي تحمل جرّة، تؤشر بيديها منادية : تعالوا تعالوا …ركض أغلبهم باتجاهها، حين اقتربوا منها، بدأت تسكب عليهم ما في الجرة..
–    ما هذا أيتها الفاجرة ؟
أحدهم مصاب بالزكام لم يفهم، أشعل سيجارته في نوبةغضبه، فاشتعلوا جميعا ..

دبّ حريقٌ في القوم، بدأوا يتصايحون ،كل منهم يُلقي اللوم على صاحبه الذي شجعه على اللحاق بها، وانشغلوا بكرنفال النار، منهم من خرج وهو يشتعل، ومنهم من ارتمى أرضاً ينتفض كالدابة المذبوحة حتى مات، ومنهم من أخذ يركض بنيرانه، بعض النسوة أخذن في تمزيق ثيابهن لتخليص أجسادهن، لم ينجُ إلا من كان بعيداً …
تركتهم وغادرت، اختفت تلك الذبابة التى رافقتها ..!
الذبابة لا تقترب من النار، تفضل عالمها حيث مساحة الدوران المتاحة لها …
اختفى حارس المشفى…ستبدأ حكايتها …
عادت أدراجها الى الطريق نفسه، طريق اليوم ..الأمس… الغد، طريق كل أنثى، تُحدّث روحها: على الإناث أن يتعلمن فن الرقص بمهارة، حتى لو ضاقت الحلبة، فالراقص الماهر لا يبالي الا بأناقة رقصته، حتى لو كانت رقصة من نار.. ..
جمعت ثيابها قطعة قطعة وارتدتها. ويفكر شهريار بالحكاية بعدما نامت شهرزاد ..

–    نعم يا شذى أجيبيني : لِمَ هذا الصمت، أين ذهيتِ كل هذا الوقت ؟ نعرف أنك شفيت تماماً من مرضك العقلي، لكنك ما زلت في عُهدة المشفى، لا يصحّ أن تخرجي دون إذن…

ترفع عينيها باتجاهه، وكفا يديها تتعانقان بقوة، حتى قالت بسرعة وهي ترفع رأسها عاليا :
كان … كان بو عزيزي غبياً، أرجو المعذرة أيها الطبيب، فقد كنت أقوم بجولة علاج لبعض المضطربين عقليا!..

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *