حسين سرمك حسن : نبيل سليمان في “هزائم مبكرة” : حكاية جلد الذات المبارك (4/الأخيرة)

hussein sarmak# وقفة على تقنية الإرتجاعات :
ويقوم بناء الرواية أيضا على أساس هذا التناوب بين وقائع الحاضر وذكريات الماضي ، في حركة ذهاب واياب على محوري الزمان المعروفين . والعودة إلى الماضي لا تأتي وفق استدعاءات ما نسمّيه بـ “الإرتجاع الفنّي – flashback” المجرّدة ، فهي تحمل معها الومضات التحليلية المضيئة للمقبل من سلوكيات الشخصية الأساسية – خليل هنا – وطبيعة علاقاته ومحيطه العائلي ومهانة الأم الأصلية والحوادث الفاصلة في طفولته . كما أن الروائي قد استخدم هذه الإرتجاعات المتكررة كمناسبات لإدخال الشخصيات الجديدة التي سيكون لها دور مستقبلي في حياة البطل وعلى مسرح الرواية ؛ يُدخلها بصورة سلسة وتلقائية بحيث لا يأتي حضورها ، لاحقا ، اقتحاميا ومفاجئا للقارىء كما يحصل لدى بعض الكتّاب . وقد يتعمّد الروائي ذكر مسمّيات الأشخاص أو الأماكن المقبلة في أكثر من لحظة ارتجاعية تمهيدا للدور المقبل .
في الرواية يجب أن تُحسب كل خطوة ، وقد كررنا كثيرا أن القصة القصيرة فن ، أما الرواية فهي “علم” . وفي بعض الأحيان تأتي هذه الإرتجاعات في أحشاء حدث حاضر أكبر فتضىء للناقد  والقارىء ، عبر سلوك الشخصية الماضي ، جانبا من أفعالها الشائكة في الحاضر .

# عودة إلى ماوراء السرد (صراع الأجيال) :
بعد عودته من بيروت ، وقبل كتابة القصّة ، سافر خليل إلى القرية ليتنفس الصعداء كما يقول . هناك عثر على “دفاتر” جدّه الراحل التي أودعتها أمّه في صندوقها الخشبي مع طربوشه وعصاه ، وكأن تراث الجدّ قد أودع في “متحف” أو أنه “دُفن” . وقد أقبل على الدفاتر لائباً ينشد الأمان . لكنها أخذت تبعث الدوار فيه :
nabel sulaiman 3(كانت تزاحمني على كلماتها أخيلة الجدّ نفسه ، والشيخ يعقوب ، وأم قاسم ، وعاهرة بيروت . بدا كأن للأوراق رائحة مفزعة تثير الغثيان . ألحّ عليّ فقط أن أعرف إن كنتُ طاهرا أم خبيثا ؟ مؤمنا أم كافرا – ص 73) .
ولم يكن الكاتب يبغي من هذه الحركة تصميم مسار ماوراء نصّي كما قد يتوقع القارىء ، ولكنها حركة كشفت أولا ، جانبا من مشاعر الإثم التي تؤرّق خليل ، والتي أسقطها على رائحة الدفاتر .. كانت رائحة الوجدان الآثم المقزّزة . وأظهرت ثانيا طبيعة الصراع المتأججة الذي تنوء تحت وطأته روحه الهشّة في البحث عن منفذ خلاص . هذا الصراع المُغثي لم يوفّر له المزاج أو الميل البحثي لاستكشاف ما خلّفه الجدّ من “تجربة” لجيل خليل اللاحق مهما كانت طبيعة هذه التجربة ، عميقة أم سطحية ، مؤثرة أم هامشية . ويتكرّر الأمر في زيارة خليل الثانية لقريته ، ولكن بقطيعة أكبر على الرغم من أنها أقل تحاملا وأقل سخطا من السابق :
(لم أقرب في سفرتي القصيرة إلى القرية دفاتر الجدّ وأوراقه . بل إني لم أفكّر في الأمر كلّه إلا قبيل مغادرتي القرية . أحسست بالندم قليلا ، ولكنني تعمّدتُ أن لا أمدّ يدي إلى الصندوق ، ولم تسألني أمّي عن ذلك ، ولا عمّي . وتعلّلتُ بالوقت القصير المتبقي لي في القرية – ص 131 ) .
وهذه هي الفجوة التي لم يتم تجسيرها بين جيل خليل وجيل أجداده . لقد اقتصرت العلاقة على الجانب “الرسمي” إذا جاز التعبير . وكل من مات فات والطايح رايح . فوق ذلك فقد اعتدنا في مجتمعاتنا ألّا نُدرّب ولا نقدّر تدوين يومياتنا منذ الطفولة ، وحين نرحل – على الأقل في تلك المرحلة – يحار الأبناء في كيفية العثور على صورة للجد “الأكبر” وحتى الأب أحيانا . ولعل في هذه الظاهرة شيئا من الضوء يُسقط على ظاهرة عجيبة تتمثل في عدم ترك القادة السياسيين والحكام لأي شيء “خلفهم” مما يشرح تجربتهم ويقدّم دروسها للاحقين على طريقة زرعوا فأكلنا نزرع فيأكلون البسيطة . فتراث كل منّا الشخصي يُدفن معه في متاحف الصناديق التي تعشش فيها العناكب والأوهام . إن كلّاً منّا بحاجة إلى أن يكتب نصّه الماورائي .. يقصّ علينا “حكاية حكايته” ، عن الأسرة والمسيرة المهنية والنضال والعمل القيادي . ولعلّ فقدان هذه الظاهرة يعكس ، أيضا ، “الفوضى” التي عاشها ذلك الجيل “الذهبي” ؛ الذهبي برغم كل شيء . فلم تكن حياتنا “منظّمة” على كل الصعد ، ومازالت تتناهبها الطوارىء والنزوات والصرعات والحاجات الآنية . وكل منّا في الحقيقة هو مشروع “جدّ” طور التكوّن في الراهن ، ومؤكّد مكتمل في المستقبل . وما تلك الفورات الزاعقة والأنشطة المتضاربة إلا تعبير عن الإحساس بضرورة رسم مصير مستقل .. لكن على خطى من ؟ وبالتماهي مع أي أنموذج ؟
هي – في جانبها الإيجابي – محاولة للمروق على المصير المرسوم . ولكنها مدوّخة وذات كلفة نفسية صراعية باهضة . فالآمال أكثر علوّا وتحليقا ولا تسندها الإمكانات الشخصية أو العامة ، والمكان صدىء مترب .. والزمان راكد منوالي .. والوجو نمطيّة مستنسخة . وأعمار الأبناء تضيع في “البحث” لمجرد البحث . وفي كل آن هناك هدف للبحث ومكان . فبعد عودة خليل إلى اللاذقية صار يكثر من التردد على المكتبة الوطنية . بحثا عن ماذا ؟ إنها متحف آخر ليس للأجداد حسب بل للحياة بدلا من أن تكون مصدرا لإنعاشها وإثراء حركة الأبناء الإنعتاقية :
(قادتني قدماي إلى المكتبة الوطنية . قضيت وقتا قصيرا ثم عدتُ إليها ثانية بعد الظهر . وتكرر ترددي في الأيام التالية ، لكنني افتقدتُ الحماسة القديمة . كانت تزيد في فتور همّتي تلك الكتب التراثية التي تزدحم بها رفوف المكتبة . إنها تُحضر إلى القاعة صورة جدّي ، تشعرني بصَغار ما كان عنده ، فتتحرّك خشية ما في أعماقي – ص 131 ) .
إنها رحلة “بحث” مضنية عن درب للتماهي صحيح .. عن أنموذج .. عن إبن قدوة .. عن أخ أكبر يتصدى للمهمة التاريخية في حياته . وما يُتعب أكثر هو هذا التناشز الممض بين الماضي والحاضر . فصورة منجز الجدّ الراحل لا تصل حتى إلى منجز الأجداد المعلّقين على الرفوف برغم أن عالم الماضي والحاضر متساويان سواء أكانا في مكتبة أم في صندوق .. العالم كلّه خشب بائد وورق يتعطن . ما يوجع خليل وعصبته وما ينقصهم ، بفداحة ، الفعل الجذري الصحيح المصوّب الذي ينجز المهمة ، ولا يكتفي بالدوران حولها أو الزعيق بها . ولعل هذا من أخطر العوامل التي دفعت ما يمكن أن نسمّيه بـ “جنون التماهي” مع عبد الناصر بالدرجة الأولى ، ومع رموز الحركات اليسارية الأخرى بالدرجة الثانية ، في تلك المرحلة ، والذي تحوّل – الآن – إلى “جنون تماه” مع المسلمين الأوائل الأطهار الذين يتم بعزم إحيائهم من أراشيف المكتبات المتربة والصناديق الخشبيّة التراثية .
الفعل .. الفعل .. الفعل ، هو الذي كان يضغط على حيوات هؤلاء الشباب الصغيرة الطافحة بالطاقات التي اجتاز تفجيرها إمكانات العقل ، وهذه محنة أخرى سنتوقف عندها لاحقا . ما يهمنا الآن هو أن فرصة الفعل هذه لم تأخذ مداها الحقيقي في مرحلتها الأولية (ظلّت صوتية) والإنتقالية (الوحدة المشوّهة والمباحث ) ثم اُجهضت في مرحلتها النهائية (هزيمة 1967) . فما كان يخنق عوالمهم هو التناقض الموجع بين صخب عالمهم الداخلي الصارخ بدوافعه للبحث عن هوية وتوكيد للذات وتفتّح لعيون غرائزه الحمر النهمة ، والعالم الخارجي السكوني الخانق الذي يحيط بهم . بين عالم الكلام والفعل . فكل عام – كما يقول خليل – يحصل التكرير المبلّد لذكرى وعد بلفور مثلا . هتافات وهلهلة وشعارات وخطب وتعطيل المنجز العلمي :
(ضاعت الساعة الأولى في تهيئة الميكرفون وإحضار المستخدمين للكراسي التي جلس عليها المدرّسون (…) تعجبتُ من تكرار الخطباء للكلام الذي أقرأه دوما في كتب التربية الوطنية والتاريخ ، وأسمعه منذ سنين في الراديو – ص 132) .
هذا ما كانت تقوم به سلطة الآباء ممثلة لسلطة الأجداد الغائبة في الواقع ، والحاضرة في المكتبات . سلطة استهلكتْ حتى بريق شخصية منقذة مثل عبد الناصر : (أقسم طلال أن الأستاذ أسبيرو امتدح عبد الناصر أكثر من عشر مرات ، ولولا ذلك ما صفق له أحد – ص132) .
في حين يلوب الأبناء من أجل الفعل الذي لم يعودوا يقتنعوا بأي تعطيل له حتى لو كان من الأخ الأكبر – طبعا ليس على طريقة الأخ الأكبر لجورج أورويل في “1984” – يشعرون وبإلحاح حارق أن على “الأخ” أن يكمل المهمة . هذا ما جعلهم يصفّقون لزميلهم “ابراهيم” بحرارة أكبر من اساتذتهم ، برغم أنه لم يذكر بلفور إلا قليلا ، ولم يذكر عبد الناصر أيضا ، إلا مرتين :
(الآن قد مضى على إسرائيل أكثر من عشر سنوات ، فكم سنة أخرى سنتفرّج عليها ؟ بالأمس هجمت إسرائيل على مصر وهي إبنة ثماني سنين، ولولا ملاحم بورسعيد ماذا كان لدينا أن نقول؟ ماذا ستفعل إسرائيل بعد ثماني سنوات أخرى؟ وماذا سيكون لدينا كي نقول ؟ فرنسا لازالت تضرب في الجزائر وبريطانيا في اليمن ، وأمريكا تحقن إسرائيل كل يوم ، ونحن هنا نملأ الدنيا صراخا : سوف نرمي إسرائيل في البحر ! – ص 133) .
وفي نهاية الحفل الإحتجاجي – حركة استعراضية – ومن جديد ، ظهر التناقض صارخا بين الفكر والسلوك ، بين البنية الفوقية اللفظية ، والبنية التحتية الشخصية الصلبة والعميقة اللاواعية التي تحكم السلوك إذا جاز التعبير . فقد سادت الفوضى وعجز المراقبون عن تنظيم صفوف الطلّاب :
(همّ كثيرون بالقفز فوق السور ، وانفلتُّ مع عدد منهم من قبضة المراقبين ، وانطلقنا نعدو في الباحة . كان السور يستحثنا كيما نقفز ، فقفزنا وجرينا بعيدا ، نلعن بلفور ، ونسخر من المراقبين – ص 134) .
إنطلقوا نحو حارة الشحّاذين ثم المرفأ ، فطالعهم مبنى مديرية المعارف ، فقفزوا كالملدوغين إلى رصيف الكنيسة (لاحظ رشاقة التعاطي مع المكان). وهنا يضعنا نبيل سليمان أمام معضلة شائكة جديدة – وكم معضلة قديمة فيه ؟ – تنخر في جسد المجتمع العربي بلا هوادة ، وأمضينا قرونا طويلة نتعامل معها بالطريقة “النعامية” نسبة إلى السيّدة النعامة النموذج المزمن ، وهي المعضلة التي تحولت إلى كارثة الآن ونعني بها : المعضلة الدينية والطائفية .
فقد فزّت الثلّة من منظر مديرية المعارف ، وقفزت إلى الرصيف المقابل حيث الكنيسة . سحب طلال خليل من يده – ترى من أين يسحبه ؟ – وأدخله إلى الكنيسة . وكانت هذه أول مرة يدخل فيها كنيسة !! أصغى إلى أصوات المرتّلين فتأثر بها برغم أنه لم يفهم ما تقول . بدأ يتساءل لماذا لم ينتبه إلى هذا الأمر طول حياته السابقة ؟ لماذا لم يزر كنيسة في اللاذقية أو طرطوس أو جونيه أو بيروت حين زار أخاه حسن ؟ كان يسمع أباه يصلي على عيسى بن مريم مثلما يصلّي على سيّدنا محمّد :
(كنتُ أعرف أن الأنبياء كلّهم سواسية ، وأنني مسلم مثل ..؟ مثل من ؟ ثمة معي إذن في الصف عدد غير قليل من الطلاب المسيحيين . إنهم يخرجون من الصف في دروس التربية الدينية . كيف لم يخطر لي ذلك من قبل ؟ أيّة مصادفة قادتني إلى هنا هذا الصباح ! سوف أخرج من هذه الكنيسة إلى أي جامع في المدينة . منذ متى لم أزر جامعا ؟ أوه . ربّما كان ذلك منذ أول العهد بالدريكيش . كم بات الزمن بعيدا ! – ص 135) .
إن الفجوة بين المسلم والمسيحي هي واحدة من الأرضيات التي تتأسس عليها النعرات الدينية والطائفية . لم يكن المسلم يعرف شيئا عن طقوس المسيحيين وشعائرهم وممارساتهم الدينية وطبيعة أماكن عبادتهم ، وبالعكس . وفي مرحلة الطفولة والمراهقة اللتين هما مرحلة النقش العنيد لاي سلوك مستقبلي ، كنّا – كمسلمين – ننظر إلى تلك الأماكن وكأنها أماكن “مغلقة” تثير التوجّس / سرّانية ومقلقة و”معتمة” . وشخصيا كان خروج أصدقائي الأطفال المسيحيين من دروس التربية الدينية يثير تساؤلي وقلقي عن وجود “إختلاف” ما .. غائر ولا تٌمسك به  أنامل عقلي الصغيرة آنذاك . ولعلها ملاحظة مقحمة لكنها شديدة الأهمية ، وهي أن وجود عائلة مسيحية في شارع مسلم كان يمثل اختلافا “جماليا” . لا تنزعجوا رجاء فهي وجهة نظر شخصية . أي هدوء ، وأي طيبة ، واي روح أخوي عطوف ومسالم .
لكن أين ضاعت تلك الروح المتآلفة والمتسامحة التي كانت تسمح لتلميذ طفل أن يخرج من درس التربية الإسلامية ! ومن الذي ثبّتها آنذاك ؟ ولماذا يدعو كثيرون من المعصوبين الآن أشقاءنا المسيحيين إلى دفع الجزية ؟ وإلى غسل الماعون الذي يجلبه الذمي إذا كنّا أكلنا فيه اقتداءا بالرسول – حاشاه – كما يزعمون .. الرسول الذي تزوّج نصرانية ، وقبله جدّنا إبراهيم . لم أسمع يوماً عالماً مسلماً يثقّفنا عن عيسى ودينه . لنكن صريحين . هذا ما يستفزّني في نص نبيل سليمان هنا . كان “علي الوردي” يتحدث عن موضوع الطائفية الدينية والمذهبية منذ الخمسينات ، وكان الرد عليه هو أننا أخوة متلاحمون ولا اثر للإنحياز في سلوكنا . كنا ومازلنا نعّامات . حتى بعد اشتعال المذابح الطائفية في العراق أصر السياسيون على القول بأننا أخوة ، وأن لحمة الشعب العراقي لا تنفصم ! هل تعلم أن أول محاولة لإقامة الحواجز الطائفية والقتل على الهوية لم تكن في حرب لبنان الطائفية في السبعينيات ، بل بين سنة وشيعة بغداد عام 408 هجرية .

# وقفة :
كنّا نعتقد أن ظاهرة الحواجز التي يُقترف عندها “القتل على الهوية” هي من إفرازات الحرب الأهلية اللبنانية ، لكن “جورج طرابيشي” يؤكد وجود مثل هذه الظاهرة في بغداد في الصراع بين السنة والشيعة الذي كان مستعرا في القرن الرابع الهجري : ( يضيف ابن الجوزي في “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم” أنه في تلك السنة [ = 408 هجرية ] أيضا ظهرت “الأبواب” ، أي بلغة الحرب الأهلية اللبنانية “حواجز القتل على الهوية” . وفي ذلك يقول : “إن الفتنة بين الشيعة والسنة تفاقمت وعمل أهل نهر القلائين بابا على موضعهم وعمل أهل الكرخ بابا على الدقاقين مما يليهم ، وقُتل الناس على هذين البابين ” (479) . وعلى الصفحة (20) ينقل طرابيشي عن ابن الأثير نصا عن أحداث سنة (441 ) هجرية بين السنة والشيعة يقول فيه : (في هذه السنة مُنع أهل الكرخ [= الشيعة] من النوح وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء ، فلم يقبلوا ، وفعلوا ذلك ، ، فجرى بينهم وبين السنة فتنة عظيمة ، قُتل فيها وجُرح الكثير من الناس … وبطلت الأسواق وزاد فيها الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا فيه !!) .
ويعلّق طرابيشي على ذلك بالقول :
(تلك هي ظاهرة النزوح التي يعرفها عراق اليوم على نطاق موسّع ، علما بأن الجانب الشرقي من بغداد سني ، والجانب الغربي ذو غالبية شيعية) (480) .

# عودة :
.. هذه قراءتي لرؤيا نبيل سليمان فاستمعوا لها . إن عظمة اي نص هي في “ما وراءه” ليس في المضمر من معانيه حسب ، بل في تلك الإستجابات المستفزة التي يثيرها في روح القارىء . فأنا – كناقد هو قارىء أصلا – لا أتذكر أن أبي أخذني معه إلى الجامع في طفولتي . كان آباؤنا يعدّوننا أطفالاً لا يليق أن ندخل الجامع معهم . لقد تجرّأ خليل على الذهاب ، ولأول مرة ، إلى الجامع بمفرده فجر أحد الأيام من دون علم أحد . فنهره أبوه برغم ثنائه عليه وحذّره من الذهاب ثانية فجراً أو عشاءً !! (لكنني نسيتُ المسجد كلّه بعد ذلك !! – ص 136) . أغلب أفعالنا تتعزز أو تُطفأ في الطفولة من خلال ربطها بالثواب إذا كانت جيدة ، وبالرفض إذا كانت سيئة ، من دون ضوابط ثابتة توصّف ما هو الجيّد وما هو السيّء . كان رد فعل الأب “فصاميّا” مزدوج المضمون – double bind في إطار الثنائية الوجدانية – ambivalence حاله حال الأم التي تقول لصغيرها : “يمكنك أن تلعب مع أقرانك ، ولكن إذا قرأت دروسك أحسن” فلا يعرف ماذا يختار وماذا تريد . وأغلب استجابات المواطن العربي متضادة وجدانيا ، وليست حاسمة قاطعة كما هو مطلوب في الحياة العملية . هذا ما وسم ، على سبيل المثال ، رد فعل طلال بعد أن خرج خليل معه من الكنيسة وسأله الأخير ، وهما يتسكعان وحيدين ، عن المسيحية ، فلم يأبه وقال : الدين لله والوطن للجميع . وراح يراقب البواخر القريبة . فعبّر خليل عن رغبته في زيارة مسجد ما ، فقهقه طلال صائحا :
-منذ قليل كنّا نتحدث عن تحرير فلسطين ، والآن تريد أن تزور المسجد ؟
فردّ عليه خليل محاولا مداراة امتعاضه من تهكّمه قائلا :
-من اقترح زيارة الكنيسة ؟ هل تمنعك زيارة المسجد أو سواه من تحرير فلسطين ؟- ص 136) .
ولم يكن ترديد هذه “الكليشيه” الماركسية المضلّلة : “الدين لله والوطن للجميع” مقصورا على القاعدة الشعبية الشابة الغرّ حسب ، بل كانت تردّدها القيادات ، وكأن صلة الدين بالمواطن العربي “الداخلية” مثل صلة المواطن الغربي “الخارجية” فتستطيع نزعها بهذه البساطة كأي قميص أو فانيلة . ثم لاحظ هذا الربط “الميكانيكي” الخطير بين موقف علماني وبين تحرير فلسطين . ولا أتذكر في أي عمل مسرحي كان الفنان الحكيم “دريد لحام” يكرّر أن حل مشكلات نيكاراغوا سيحل مشكلات الوطن العربي !! .

# فوضى بين الإيمان والإلحاد :
لقد ذكر لنا خليل ، وهو يرسم صورة شخصية مبتسرة لمنصور ، بأن الأخير كان أكثر جراءة منه على التجديف ، وكأن التجديف موقف استبسالي ينضاف إلى رصيد الفرد الشخصي الإيجابي . وفي بيئة ثقافية مثل بيئة خليل وصحبه ، وفي ضوء خلفيات اجتماعية ودينية كخلفياتهم ، يصبح الأمر كذلك فعلا ، حتى أن المجدّف يصير نوعا من “التابوات” التي يشعر الفرد تجاهها بمزيج من التحسّب والرهبة . كان من يعلن إلحاده من أقراننا – ونحن في تلك الأعمار الغضّة – يشعرنا بجفلة مستفزة . إنه قادر على التحرّش بـ “الأب الأكبر” والإطاحة به معنويا . لكن الحال ليس بهذا اليسر بالنسبة لخليل ، فقيوده ثقيلة ونواهيه المختزنة في لاشعوره أكثر ثباتاً وردعاً . فهو من بيئة مسلمة مؤمنة مثل أقرانه . فوق ذلك كان تلميذا لشيخ (الشيخ يعقوب) زرع في روحه الصغيرة الرعب ، بل حتى النفرة ، من الله والدين . كما أن البيئة فرضت عليه علاجا شعبيا فيه الكثير من الإمتهان وزعزعة الإعتبار الذاتي لمعاناة معويّة (النفخة) بسكين حامية تخترق خصوصيّة جسده وكرامته . تفاقم الأمر حين عرض الاستاذ الأمر علنا وبسخرية مريرة على الطلاب والطالبات في المدرسة . كان يتقلب على جمرة “الخروج” على الموقف الجمعي – العائلي والإجتماعي العام – وموقف الفرد وهو في مرحلة – التحوّل النفسية الصاخبة هذه – من الأمور الروحية عموما ، والشؤون الدينية خصوصا يكون – حالها حال مواقفه من الأمور النفسية والإجتماعية الأخرى – متذبذبا أيضا ، وذا طبيعة لا تعرف الحلول الوسطى .. أما كل شيء أو لا شيء . ولو حاولنا الغوص عميقا وراء الآليات الدفينة التي تغذي تربتها جذور هذه المواقف المتقلبة لوجدنا أن هذه التقلبات الحادة وشدّتها تعكس في الواقع تقلبات وشدة الصراعات الغريزية الداخلية العارمة التي تشهدها ساحة روحه الداخلية . وحتى (تأويلاته وتفكراته بصدد الحياة والموت إنما تعكس العمل التدميري الذي يتم في داخل ذاته ) (14) .
ومن الغريب ، في الظاهر ، أن نرى خليل المتعطش لخرق القيود المحارمية ، والبوّال على كراسي الطالبات ، والمتحالف مع عبود الأعرج في بذاءاته وانفلاتاته النزقة ذات الطبيعة الصبيانية ، يتجه بصورة انقلابية نحو الدين كمصدر للراحة النفسية وسكينة الذات المشتعلة . ومع زيادة تردده على المكتبة الوطنية وانهماكه بقراءة الروايات الغرامية ، أصبح يبحث عن سلوى الهدوء في استذكار ما حفظه من جدّه ومن الشيخ يعقوب ، فيزداد هدوءا وحبورا ، ثم أخذ يشارك أم محمود جلستها الصباحية المبكرة ، وهي تصغي للقرآن الكريم من الراديو (ص 74) . وقد دهش أصحابه لتحوله هذا ، وحاصروه ضاحكين ساخرين فهم أقدر على تشخيص حالته ، فقد عاشوها بشكل ما ، أو أن بوصلة وجدانهم تطابق ذبذباتها بوصلة وجدانه ، فيعرفون حدْسا عدم مصداقيته . وجداناتهم شفافة تماما أمام نظرات أعين فطرتهم الثاقبة . وبرغم أن خليل كان يعلن رفضه لمواقفهم إلا أنه كان يحسدهم في قرارة نفسه على شجاعتهم في التجديف ، فهو “مربوط” بشكل ما :
(كان [= منصور] أكثر جرأة مني على التجديف ، ورغم مجاراتي له وللآخرين ، فقد كنتُ اضمر نزوعا إيمانيا ما ، رهبة من إله ، احتراما للأنبياء ، كنتُ أخاف في سرّي “داروين” ، وأخاتل نوعا من التقديس لجدّي وللشيخ يعقوب . وكانت جراءة منصور بخاصة على ذلك كلّه تقلقني قدر ما تشجعني ، بينما كانت حيرتي في تشخيص موقف يوسف من تلك الأمور تبعث فيّ قلقاً من نوع آخر . كان يوسف يعرض معلوماته وأفكاره بتركيز أكبر ، يجدف ويهذر ، ولم يكن ليطمئنني أننا نتلافى تلك الثغرات بسهولة أو صعوبة – ص 83 ) .
وحتى طلال فقد علّمه عمّه البعثي الذي يقدّس الإشتراكية وفلسطين كيف يسرق ما في المزارات من فرنكات أو علب كبريت ، كما علّمه السخرية من المشايخ . وهي أفعال صبيانية لا تنم عن فهم موضوعي لمعنى الثقافة كأسلوب للحياة . وهذه من علل كل الأجيال “الثورية” في العالم آنذاك . فقد استخف ستالين بسلطة “البابا” متسائلا : كم فرقة مدرّعة يملك ؟ مثلما تعاملت الحكومات “الثورية” في العراق برعونة وخفّة مع الممارسات الدينية بكافة اشكالها ناسين أن العراقيين القدماء كانوا يلطمون ويجرّحون أنفسهم بالسكاكين قبل آلاف السنين انثكالا على مقتل دموزي ، وأن بعض الشعوب تضع حلقات معدنية ضاغطة جدا في عنق الفتاة لكي يزيد طول رقبتها .. وإلى آخره من الممارسات “الثقافية” التي ينبغي أن تعامل باحترام ، وتُغيّر بهدوء وصبر من قبل “مثقفي” الأحزاب الثورية . وجيل خليل – وبصراحة جارحة – لم يتربَ “ثقافيا” ، ولم يفهم معنى الثقافة الحقّة كسلوك قبل أن تكون شعارات . ولعل أبسط تعبيرات هذا الخلل هو أن رفاقه كانوا يسخرون من توجهه الإيماني وسماعه القرآن صباحا ناسين أن هذا سلوك شخصي “ثقافي” . وهم معذورون ، فهم من الجيل الذي آمن بحرق المراحل و”الإنقلاب” على الذات والمجتمع .. إلخ . وقد أسهم هذا الخلل الثقافي والتربوي في تقلباتهم السلوكية والفكرية العنيفة وانعكس من خلالها .
وها هو خليل ينقلب وبسرعة من رافض متألم إلى مجار وادع للمجدفين من أصحابه ، فقد انجرف معهم بسرعة وسهولة ناسيا كل اعتبار رادع . وبالعكس فقد كان يسترجع “إنجازه” في مبغى بيروت ، فيحس بالتفوق والجرأة على من حوله ، ينتفخ نرجسيا ويشعر أنه أقل ضعفا مما كان عليه (ص 75) . ولكن هذا الحال الأخير لن يدوم أيضا ولن يستقر عليه . وهكذا يحيا دورات لا تقرّ على حال من طمأنينة دينية قلقة وخجول ، إلى تشكك تجديفي مراوغ وانتفاخي في الظاهر .

# وقفة اعتراضية بسيطة :
ولا أستطيع تبرئة الروائي نفسه من بعض حالات الربط “لميكانيكي” والتعسّف في التخطيط لتسلسل وقائع روايته . ومن المفروغ منه القول أنه ليس شرطا أن تتفق الجودة الفكرية في موقف ما مع جودتها الفنية السردية من ناحية التوقيت والفعل . ويبدو أن الروائي وبفعل ضغوط موقفه الوطني ، ورغبته المتأججة في “توثيق” صورة بانورامية عن جيل تلك المرحلة الذي كان واحدا منه ، ورسم أدقّ تفصيلات الواقع الإجتماعي المتخم بالمشكلات والذي كان يحيط به ، قد خطّط لتناول تلك المشكلات ومناقشة أبعادها ومنها المشكلة الدينية في هذا الموقف الذي دعا طلال فيه خليلا إلى دخول الكنيسة والتي جاءت دفيفة فكريا ، ولكنها “مرسومة” ، وليست عفويّة فنّيا كما شعرتُ . وسيحصل الشعور نفسه لدي ، عندما سأواصل ملاحقة سلوك خليل ، وهو يترك طلال ، ويدخل جامع “العجّان” ..

# عودة :
.. فحين دخل خليل الجامع ، وشاهد الأشخاص المتربّعين المتناثرين في أرجائه الرحبة ساءل نفسه : إنني مسلم . أجل . ولكن كيف تمّ ذلك ؟ ألأن أبي أو جدّي كانا مسلمين ؟ (ص 136) .
ومن الجامع ينتقل إلى شارع المالكي حيث يرى صورة البارجة التي دمّرها الشهيد البطل “جول جمال” فيأتي تساؤله المر حقيقيا وتلقائيا وواخزا قلوبنا بعمق . فطول مدة بقائه في اللاذقية لم يفكّر في هذا البطل لحظة واحدة . ما الذي غيّب انتباهته وجعله لا يلتفت إلى صورة البارجة ولا إلى الثانوية المسماة باسم الشهيد الذي دمّر البارجة الفرنسية “جان بارت” خلال العدوان الثلاثي على مصر العروبة عام 1956 . وأعتقد أن تسلسل السرد لم يكن موفقا في عرض صلة فيلم “عمالقة البحار” بجول جمال خصوصا عندما يخرج خليل من السينما ويقول :
(راقبتُ تحت الأضواء الملونة الصور المعروضة في مدخل السينما : البارجة التي حطّمها جول ، جريجوري بيك ، صور شبه عارية لممثلات أحب منهن صوفيا لورين .. إلخ (ص 137) .
فقد اختل استقبال القارىء للمعلومة بالإنتقال المباشر من جول إلى جريجوري بيك وصوفيا لورين وكأن الفيلم له صلة بالأخيرين . وليتنبه دعاة الفن للفن ، وقطع جذور الفن عن حاضنته الإجتماعية لمقدار هذا الخلل الذي حصل في حركة سردية بسيطة جدا وواحدة . على الكاتب العربي أن يعي وبقوة أنه إنما يتحمل أوزار مسؤولية كبرى في الحفاظ على ذاكرة الأجيال الراهنة التي يشن الأعداء حربا شعواء شرسة على ذاكرتها ، ناهيك – وحسب التعبير الموفق لميلان كونديرا – عن أن “صراع الفرد ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان” . لقد أصاب البطل جول جمال – وللأمانة لم يُغرق ولا شطر البارجة العملاقة إلى نصفين – البارجة وأوقفها عن العمل مضحّياً بحياته هو المسيحي السوري من أجل مصر العروبة . كان طول المدمّرة 247 مترا ووزنها 47750 طنا ، ومجهزة بـ 109 مدافع و88 ضابطا و2055 جنديا بحّارا ، وهي فخر البحرية الفرنسية آنذاك . وقد أنتجت مصر عن بطولته الفذّة فيلما إسمه “عمالقة البحار” مثّله أخوه “عادل جمال” وأحمد مظهر والعظيمة حلم المراهقين العرب نادية لطفي . وهذا الفيلم هو الذي كان أبو جعفر وطلال وآخرون يتحدثون لخليل عنه ولم يخطر له أن يشاهده . وها هو يشاهده الآن فينجرح وجدانه الشفيف من التقصير ، ويستعيد المشاعر الغامرة بالثقة والإقتدار خلال العدوان ، ويصوّر لنا نبيل سليمان الغيور وبصورة باهرة وموجعة كيف تجتاح خليل ممثلا للجيل العربي الحائر ، والمتحفز للفعل ، والمظلوم فعليّاً ، أحاسيس الإنعتاق والزهو والتي سيجهضها الواقع القاتم في أي لحظة :
(كم تأخرت حتى عرفت جول جمال ؟ … حين ستقوم حرب أخرى لابد أن نفعل مثلما نفعل . لابد أن نموت من أجل هذا الذي خطبوا فيه هذا الصباح . لا بدّ أن جول جمال كان يفكّر كذلك . ولكن إذا كان الموت ، ألن يكون شيء بعده حقا ، ماذا تراه يكون بعد الموت ؟ أين أنت يا جول جمال الآن ؟ في الجنة أم في النار ؟ في قميص بشري آخر أم في سواه؟ آه ، منذ متى نسيت هذه الأسئلة: كفر وسرّ وعجز .
لا ، إن جول ينصرني على الكفر وعلى السرّ ، ويدفعني فوق العجز . إنه يجمع أشتات نفسي المبعثرة الخائفة ، فأحس أن الوطن في قلبي ، وأن الحياة والموت ليسا نقيضين . أحسّ أنني قريب من هؤلاء البشر جميعا ؛ من هذا البحر ، من جول جمال نفسه . أحسّ أن عليّ أن اسعى فورا للتعرف على بيت جول ، أمّه ، أبيه ، أخوته ، فلابدّ أن له هنا كلّ ذلك . وربما كانت له واحدة من هاته الصبايا اللواتي لا أملّ من الجري خلفهن – ص 138 و139) .
إن روحي لتتقطع تعاطفا – بسحر الروائي طبعا – مع هذه الروح الخائفة الصغيرة برغم مظاهر تنفّجها الخارجية ومزاعم سيطرتها المعلنة .. روح حائرة بين الله والشيطان .. بين الأرضي والسماوي .. بين الأمل والياس .. لكن كلها استعداد للإنحياز لدروب التضحية والخير والوطنية بمجرد وخزة مباركة بسيطة كالتي وفّرتها ذكرى الشهيد جول جمال .. كم من هؤلاء الشباب الرائعين ضاعت أعمارهم وتهشّمت آمالهم على أيدي السياسيين المحترفين عليهم لعنة الله .

# وقفة ومعلومتان :
1-لأغراض التصعيد الدرامي صوّر جول جمال في فيلم “عمالقة البحار” أن له خطيبة . في الواقع لم يكن مرتبطاً .
2-كانت للشهيد أخت واحدة هي “دعد” توفيت بعد صراع مع المرض ، وشُيّع جثمانها في سورية في عام 2007 بمشاركة شعبية واسعة تعبيراً عن اعتزاز الناس بالشهيد الأسطورة .

# عودة :
هؤلاء السياسيون – لعنهم الله – وحتى الثوريين ، هشّموا ارواح هؤلاء الشباب وكسروا إراداتهم بالهزائم . لم يدعوا أي فرحة “نضالية” تكتمل في حياتهم . والهزائم تتراكم على كواهلهم فتسحق نفوسهم الصغيرة وتلجم إراداتهم .. لا شيء سوى الهزائم . وشرّ الهزائم هي الصغيرة التي تتجمع قطراتها السود لتصبح طوفانا . وها هو خليل يعود في عطلة المنتصف الثانية ليشهد خلافا صاخبا حول الميراث بين أبيه وعمّه شفيق الذي انمسخت صورته فلم يشهد مثل جشعه وهو يطالب حتى بالسطل النحاسي و”الرحّية” !! . بعدها يقرّر الأب أن يعود وحيدا إلى طرطوس مقررا أن تقيم كل زوجة من زوجتيه في بيت ، وأن تترك بناته الدراسة فينشب شجار بين الأب والأم المقهورة ويشبعها ضربا . ويتدخل خليل فيصيبه اذى مماثل . ويضطر لاحقا للإعتذار وتقبيل يد الأب المستبد مثلما فعلها بعد عقابه على سفره إلى بيروت من قبل . هكذا تتراكم الهزائم . هزائم مبكرة ومكررة ومنكرة . ومعضلة وصفها اللغوي هذا هو أن اللعب اللغوي على أوتار تقديمها أو تأخيرها لا يزيد الأمر إلا تعسا وإرباكا . وعند التوقّف على أي مفردة وخصوصا مفردة العنوان “مبكرة” فإن تداعياتها “العمودية” على الطريقة “السوسيرية” ستسحب معها مترادفاتها المعروفة “المنكرة” وما يخالفها وهو دقيق التعبير . فكل الهزائم التي عاشها أبطال رواية نبيل سليمان لم تكن مبكرة حسب لتنتهي مع تلك المرحلة المبكرة . إنها “متأخرة” يضا في جانبين : فهي قد أسّست البنية الإنهزامية “التحتية” منذ تلك العقود المبكّرة من ناحية ، ومازالت مستمرة حتى زمننا العربي المتأخر هذا من ناحية ثانية مكمّلة . وهناك هامش “اللامتوقّع” الذي لم يحسب له خليل وجيله حساباً . فحتى الإنتصارات التي كانوا يظنونها مؤكدة وستثمر وتورق في سوح الكفاح ، جاءت علقما وخسارة . وها هو بعد أن سافر رفاقه في رحلة إلى حلب ، يسير في شارع هنانو فيراه يموج بالبشر والأعلام . كان صديقه أبو جعفر على الأكتاف يهتف للجزائر ، ولم يكن الطلاب وحدهم يرددون خلفه بأصوات مدوّية :
(لابدّ أن الجزائر ستنتصر مهما كان جبروت الفرنسيين . كيف يضيع دم آلاف الشهداء هدراً ؟ عقب المظاهرة جاءنا عليّ بمجموعة من صور الممثلة المصرية ماجدة وهي تلعب دور جميلة بوحيرد ، وباعنا الصورة بربع ليرة . كنّا نردد بصوت هادر نشيد الثورة الجزائرية . نهتف لابن بيلا وجميلة بوحيرد . طلال غانم ينقل عن عمّه أن عشرات من رفاقه تطوّعوا منذ سنوات في الثورة الجزائرية ، من سورية وغير سورية . هكذا ينبغي أن يفعل العرب في كل مكان . سوف تتحرّر الجزائر وبعدها سوف تتحرر فلسطين . يجب أن نتطوّع من أجل ذلك . هو ذا الآن عبد الناصر . هي ذي مصر العظيمة ، والوحدة ، وغداً ، وبعد غد ، بعد سنة ، أو بعد عشر سيأتي التحرير ، ستكبر الوحدة ، سوف نعيش ما لم يعشه الآباء والأجداد . سوف نترك لمن بعدنا ما لم يتركه لنا الذين كانوا قبلنا . لابدّ أن نفعل . بعد البكالوريا مباشرة يجب أن نبدأ . لكن لماذا ليس الآن ؟ – ص 148 ) .
وقد لا يكون خليل قد بقي حيّا ليرى أن الجزائر قد تحوّلت من “ثورة المليون شهيد إلى التجربة التي لم تحترم شهيدا” كما وصفها المفكر الشهيد عزيز السيد جاسم ، وأن بن بيلا الثائر الذي تحدث عنه قد أخرجه رفاقه من غرفة النوم بالبيجاما ! وأن جميلة بوحيرد التي كانت وهي طفلة تهتف “الجزائر أمنا” لا فرنسا أمنا كما يريد المعلم الفرنسي ، قد تزوج منها المحامي الفرنسي الذي دافع عنها ، وصمتت في باريس كربّة بيت مقتدرة . وأن حكوماتنا النجيبة لم تحتفظ باسم أي ثائر عربي قاتل في الجزائر ، سوري أو غير سوري ، ولم تقم لهم المتاحف واحتفالات التكريم . وأن فلسطين لم تتحرّر حتى الآن . وأن العرب لم يتوحدوا حتى يومهم هذا ، وبقوا يتوحدون فقط – حسب وصف العميل “مايلز كوبلاند” في كتابه “لعبة الأمم” – على صوت أم كلثوم في المقاهي . وأنه – ومن بعده من أجيال عربية – لن يستطيع تحديد نقطة البداية : قبل البكالوريا أم في اثنائها أم بعدها ؟ حين يكون قد غدا ضابطا أو مهندسا أو أجيرا ؟ مادام ليس الجيش أو الهندسة ، ليس فلسطين أو الجزائر ، ولا دروب منصور البعثية أو دروب يوسف الشيوعية المبكرة .. وليس كل ذلك هو ما يؤرّقه ، بل هنّ أولاء اللواتي يملأن الدنيا حولك يا خليل، وينقلنك من دوار إلى دوار .. وها أنت ترتبك وتدوخ في أول اختبار صغير ، وصغير جدا تدخله بعد انفعال الحماسة الصاخب الذي أشعلته في نفسك هتافات ابو جعفر من أجل الجزائر محمولا على الأكتاف :
(أسلمني امتداد شارع هنانو إلى المكتبة الوطنية . كنت في عالم آخر حين اصطدمتُ بامرأة في المدخل فنهرتني . تسمّرتُ وخجلتُ من النساء الكثيرات اللائي في الداخل . كان ثمة عدد قليل من الرجال الكبار . غالبت ارتباكي ، وأدركت بعد لأي أنه ثمة معرض في البهو لجمعية المرأة . انسحبت متباطئا حانقا . لم َ هذا الجبن ؟ هل سيأكلونني ؟ لولا أن المعرض للنساء لما تراجعت . أمس كنت أهتف لجميلة بوحيرد وأتملى صورة ماجدة ، واليوم لا أجرؤ على الوقوف بينهن في البهو ! (…) هي ذي المرأة تتقاذفني ، فإلام يدوم ذلك ؟ – ص 150 ) .
ومن دون قطع خيوط الإرتباط الإعتمادية المتينة بالأمومة لن يستقيم جهد ثوري حقيقي لأي ثائر . سيبقى فعله الثوري وممارساته السياسية مرتبطة بطريقة عصابية قلّت أو كثرت للخلاص من محنة الحاجة الراشدة للأمومة ، وهي محنة  حقيقية واجهها الكثير من الزعماء حتى وهم على سدّة الحكم ، وأربكت سيرتهم، ولم يمسك بجذور هذا الإرتباك أحد إلّا القلّة القليلة منّا نحن المختصين بالتحليل النفسي . سيصبح الحزب والنشاط الثوري ومن ثمّ السلطة حقلا لتجريب فكّ هذا الإرتباط ، أو تعويضه بولاء بديل بعملية تأتي مضخّمة ومفرطة الطابع . لم يلتفت – مثلا – “إسحق دويتشر” في عمله الهائل “ستالين” لتأثيرات صلة ستالين المرضيّة بأمّه على سلوكه السياسي اللاحق . كان سبباً في انتحار زوجته .. وكان يتلذّذ في إعتقال القادة ثم زيارة زوجاتهم في بيوتهن للعشاء من دون أدنى إشارة إلى اعتقال أزواجهن . أطلق سراح أحد القادة بعد سنوات طويلة من الإعتقال ، ودعا زوجته إلى مكتبه فلم تتعرف على زوجها!! ولو تعمقنا في العلاقة المشوّشة بين الرئيس العراقي الراحل “صدام حسين” وأمّه خلال طفولته ، لأمسكنا بمفاتيح حاسمة لفهم سلوكه السياسي والحزبي والإجتماعي . لكن من المؤكّد أن الثقافة العربية الراهنة لا تتحمّل مثل هذه المحاولات ، بل هي لا تمتلك الأدوات المعرفية ، والإستعداد النفسي للقيام بذلك . وخليل عاش مهانة الإلهة الأم الأصلية ، وتسيّد الإلهة الدخيلة البديلة التي حاول الإنتقام من الأب من خلالها . وبسبب العجز عن التصدّي لتلك المهانة ، ظلّت مشاعر الخجل ، والتي تراكبت مع الإحساس بالإثم بعد دخول أم قاسم حياته ، تلاحقه أينما ولّى وجهه . إن جذر مشاعر النقص تمتد عميقا في تربة العلاقة الطفلية بالأمومة المقهورة على يد السلطة الأبوية ومخاوفها الإخصائية المزروعة في روح الإبن . هذه السلطة التي عبّر عنها المؤلف بأنها إذا زاد مالها فإنها إما أن تتزوّج بامرأة أخرى أو تشتري فرساً (وكلتاهما عملية ركوب !!) (ص 63) . وليس موقف خليل المتخاذل هذا في المعرض النسوي جديداً أبدا ، فهو لم يكن يستطيع النظر في عيني أي طالبة في اللاذقية ، ويشعر بأنهن يتمازحن عليه فينفلت خجلا وخائفا (ص 44). لكنّه كان قادرا على “مصارعة” زوجة الأب محارميا في ظلام غرف البيت . وظلّ مع أغلب أبناء جيله باحثين عن “مسرح” تُمثّل عليه عملية “فكّ الإرتباط” ، فوجدوه في مسرح السياسة العجيب والضاج ورموزه المغيّبة .

# النكوص .. والتثبيت الأمومي :
وكان التعبير الأكبر عن البدائل الرمزية السياسية في هذا الإطار ، هي “الوحدة” ؛ والوحدة “الفورية” التي تعكس “فوريّتها” مقدار غليان تلك الحاجة اللاشعورية الدفينة ، الوحدة الرحم والحضن والأم والرسالة والغاية , ..و.. كما توصف ، وكلها تعبيرات لغوية أنثوية. ولكن حتى مع هذا الهدف العظيم ، كان التعامل “نزويّا” وسريعا و”تمريريا” من قبل الأبناء . كانوا يتصرفون وكأن “الوحدة” محبوسة في قمقم “أبوي” ويجب إطلاقها . وهو موقف “إنقاذي” متخيّل أكثر مما هو حال فعلي يذكّرك بربكة الموقف من الأمومة الأصلية . وقد تحققت وحدة 1958 بين مصر وسورية بطريقة سريعة عجيبة تذكّرنا بالمزاج “المراهقي” النزوي المتقلّب الذي تحدّثنا عنه . وهو مزاج صاخب قرِف يهمه الظفر السريع بهدفه ، وليس طريق الوصول الصبور والمخطّط إليه . وبعد الظفر يُمرّر كل ما هو مكبوت عُطّل طويلا ، وفي مقدّمته الصراعات “القابيلية” وتصفياتها بعد أن أزيح الاب “ولم يُقتل” . فقتل الأب يُنجز بالإمتلاك الحي لحركة المجتمع وتصفية السطوة الأبوية – الدينية خصوصا – فيها . وبالوحدة العجول كان الأبناء يعتقدون أنهم قد حرّروا الأم – الأمّة من مخالب السلطة الابوية الطاغية . وحالما يشعر الأبناء أن هذا الفعل لم يحقق البديل الموضوعاني الفعلي الذي يناسب صراعاتهم اللاشعورية ، وأن شبح الأب مازال مائلا في كل زاوية حتى يقرفوا من هذا الهدف ، فيعملوا من حيث لا يشعرون على تدميره . ولأنهم ينتخون بـ “كفاية” ذاتية “مُصطنعة” وليست فعلية مقتدرة ، فإنهم يُسقطون قلقهم المشتعل في صورة أشباح أبوية ؛ رجعية وإمبريالية ، وأخوية ؛ رفاق الأمس ورفاق الدرب المتآمرين ، وكلها جهات ينبغي تصفيتها وتدميرها . ألهذا تتسع الأجهزة المخابراتية وتتضخم في الأنظمة الثورية خصوصا أكثر من الأنظمة الرجعية بعد الظفر بالسلطة ؟
أمضى خليل وزملاؤه أياما طويلة في صبغ الأقواس الحديدية في أنحاء المدينة لإزالة الصدأ عنها وتجديد دهانها استعدادا للإحتفالات المتواصلة . صخب . صخب .. وأصوات وزعيق وخطب . حتى المعرض السنوي للثانوية الصناعية الذي أقامته لمنتجاتها كان يضج بالأناشيد الوطنية . وبالمبلغ الذي حصل عليه من العمل استأجر غرفة مستقلة في بيت آخر وليس مع أي من رفاقه .. الوحدة ماشية وتأميم الشركات والمصانع الكبرى يملأ الدنيا :
(إستيقظتُ هلعاً على صياح جاري الجديد :
-الدنيا خربت وأنت تغطّ في نومك ؟
وكان الإنفصال قد وقع .
الموسيقى العسكرية تصخب في الراديو ، وأنا لا أفهم شيئا . لا يُعقل أن يكون هذا الذي اسمعه صحيحاً . أمس ظللت أتسامر مع جاري محمد عبد الكريم حتى منتصف  الليل . نمتُ والجمهورية العربية المتحدة موجودة أكثر منّي . والآن ، بعد ست أو سبع ساعات فقط ، لم تعد موجودة ! – ص 160 و161 ).
وكأن الكاتب يريد الربط بين نكبة الإنفصال العام (خراب الوحدة) ومعضلة الإنفصال الخاص (إنفصال خليل عن مها شقيقة منصور) فجعل بطله ، وهو مشوّش الفكر ومضطرب النفس ، تصدمه وجوه الناس المشدوهة الحيرى من هول الواقعة ، يتداعى إلى علاقته بمها واحتمال معرفة منصور بعلاقته بشقيقته .. إلخ . وهو ربط مفتعل ولا وظيفة له في مضاعفة المحنة العامة أو في ارتباطه بها .
وكان الجميع يعلم بالداء الذي سيفتك بالوحدة ؛ الكل يتحدث عن آلاف الشكاوي التي ملأت أدراج مكتب المشير عبد الحكيم عامر .. وأفعال عبد الحميد السرّاج الذي جعل من وزارة الداخلية خازوقاً آخر في ساحة المرجة أنسى الناس خوازيق السلطان عبد الحميد .. و”الإستعمار المصري الذي يشبه الإستعمار الفرنسي” كما يقول آمر إحدى الثكنات والذي اوشك محمد عبد الكريم على قتله (ص 164- 166) . ولكن برغم كل ذلك (تبقى الوحدة مقدّسة .. الوحدة يا بشر – ص 164) كما صاح منصور بحرقة . وها هو خليل ينفجر باكيا وسط صحبه وهو يسمع صوت عبد الناصر الجريح يخطب بعد الإنفصال .. الإنفصال لم يقع بين مصر وسورية حسب .. بل بين دمشق وحلب (ص 166) . وها هي هزيمة مبكرة متأخرة منكرة ومتكررة تقع على رؤوس الأرواح الغضة المفجوعة :
(إنها الهزيمة التي تتوطّن في قرارة القلب ، تكبر كل يوم ، ويكبر الحزن المقيم ، النقمة الحبيسة على كل شيء . ثم تغدو تفاصيل حياتنا نوعاً من الإجترار ، يضاعف الألم والإحباط . كان كل شيء يفقد طعمه الحار يوماً إثر يوم – ص 167).
ثم لاحقت عينا خليل المصريين وهم يهرعون للسفر ضمن المهلة القصيرة التي حدّدتها لهم الحكومة الجديدة ! جاءوا عيونا للمباحث كما قال منصور . وبدأ كل شيء يغلي في المدينة . وكان خليل يلوب على جواب : كيف يوافق زعماء البعث والشيوعية على الإنفصال ؟ الكزبري الذي يرأس هذه الحكومة وهو الذي كان يحرّك لجنة توحيد القوانين بين البلدين ؟ (ص 172) . حيرة مدوّخة هي أنموذج لما يجري على الساحة العربية حتى يومنا هذا . تغيّرت مسميات كثيرة لكن ظلّت “البنية” الجوهرية كما هي .. والخانق الذي لا يُعبر هو هذا التلوّن وتبادل الأدوار وغياب أية ثوابت . الشيشكلي الذي ترك الجيش وراح يجاهد في فلسطين ، صار بين عشيّة وضحاها أكبر جلّاد . وصور عبد الناصر التي كانت تملأ كل الزوايا اختفت الآن .. والبعثيون حلفاء ناصر الوحدة انقلبوا عليه .. وكل حلفاء يومنا هذا ينقلب أحدهم على الآخر .. والثورات لا يتسلمها شهداؤها وصانعوها .. وأعراب الخليج والجزيرة – بحكم البنية السيكولوجية – يستطعمون مذلّة الأجنبي القوي ، وينقمون على الشقيق الضعيف ، ويغلون حقدا على المراكز الحضارية الريادية العظيمة فيعملون على تمزيقها . ومن جديد .. والآن وفي كل وقت هناك عودة عربية إلى نقطة الصفر . ولكن من مستوى أكثر سوءاً . ودكتور أنيس يدعو عصبة خليل أن لا خوف من المباحث بعد اليوم .. ولا أحد يستطيع أن يمنع الناس من النضال .. إلخ .. وهكذا (ص 177) .. وهذه مظاهرة جديدة يعتلي المنبر فيها رجل لبناني يشتم الأمريكان وأذنابهم ويحيّي عبد الناصر .. وكل يوم يقولون لنا “فكّوا الحزام” على طريقة الممثلين الكوميديين العرب . وهذه الثلّة المسكينة تعود من جديد (العود الأبدي ؟؟) إلى الخلافات حول المظاهرات التي يتحرّش فيها الشباب بالبنات ، وصور عبد الناصر ، والخطباء الذين يغني كل واحد منهم على ليلاه كما يقول يوسف (ص 181). الوحدة أم عبد الناصر أم الحريّة ؟! والحكومة التي جاءت بعد الإنفصال تتاجر بالحرّية وتضرب على وترها المغوي . وهذا حال كل الحكومات التي جاءت الآن لتعيّرنا : هل كنتم تستطيعون فتح أفواهكم ؟
وتشتعل المظاهرات والإحتجاجات المطالبة بالوحدة والشاجبة للإنفصال : (تطالب بالوحدة باكر باكر مع الأسمر عبد الناصر – ص 184) .

# وقفة :
لو تأملنا النداء السابق الذي يدعو إلى “الإتحاد” بالأسمر “عبد الناصر” فسنلتقط درجة من “تجنيس” العلاقة بين الطرفين : الجماهير اللاهثة ، وقائدها الشاب ، أخيها الأكبر . (كانت علاقة مجنّسة ، ولكن ، كما في الميثولوجيات الكبرى ، كانت علاقة “حبل بلا دنس” ، وفي الحالة التي نحن بصددها كانت علاقة صوت بأذن . ولا ريب أن صوت عبد الناصر كان بحد ذاته معبّراً ساحراً عن المشاعر الجماعية وترجماناً لأعمق صبوات الأمة . وبكلمة واحدة ، كان صوت شعب بلا صوت . ولكن صوت عبد الناصر لم يكن هذا فحسب . ففي كل مهرجان خطابي – وكان كل مهرجان خطابي بمثابة حمّام جماهيري – كان ألوف المسحورين بذلك الصوت ، سواء في الساحات العامة أو من خلف المذياع ، يتجرّدون من فردياتهم وينسلخون من جلودهم لينصهروا في كتلة لدائنية واحدة تتشكل وتتموّج في شبه مطاوعة أنثوية لنبرات ذلك الصوت ولإيقاع طلعاته ونزلاته) (15) .

# عودة .. ختام وتحيّة :
… ويُعتقل إبراهيم أبو جعفر في إحدى هذه المظاهرات بعد خطبة عاصفة ألقاها محمولا على الأكتاف ، وشتم فيها الإستعمار وأذنابه والإقطاعيين والنواب والوزراء الذين أعادوا الأراضي المؤممة إليهم . ويذهب خليل ورفاقه لزيارته في مخفر القلعة . وهنا تحصل “استطالة” ذاكراتية تراجعية مفرطة أولاً ، ومتراخية الروابط بالسياق الذي يسبقها ويليها ثانيا . ولكنها تتضمن لمحة هي من أروع اللمحات السلوكية النفس – ياسية التي التقطها كاتب في الفن الروائي العربي ، ولو اقتصرت على هذه اللمحة لكانت أكثر توفيقا ، وأقوى ارتباطا بحلقات السرد التي سبقتها وتلتها . وهذه اللمحة/ الموقف تصلح لأن تُقتبس للكثير من الأغراض النفسية والإجتماعية والتأريخية ، وفي مضمار دراسة الشخصية القومية . ولاعتقادي أن هناك مواضع وحالات يُفسد فيها الناقد النصّ بالتفسير المضاعف ، فسأترك الروائي يقدّم فكره الفائق ورؤياه الباهرة وفنّه السردي المحكم والمقتدر هنا من دون تعليق :
(كان أبي في غرفته ، فوق رأسه تجثم صورة رئيس الجمهورية أديب الشيشكلي . لم يرد الوالد على تحيّتي . طرقت أرقب من تحت الطاولة بوطه الأسود اللامع . أمرني بالدخول والجلوس ، وقبل أن أفعل دخل أبو صبري ضاحكا :
-ألا تزال تلك الصورة فوق راسك ؟ أم أنك تنتظر أمراً بإنزالها ؟
فهمتُ من كلام أبي صبري أن رئيس الجمهورية هرب ، وأن رئيسا جديدا حلّ محله . رأيتُ الوالد ينتزع الصورة ويحطّم زجاجها ببوطه ، وأبو صبري يقهقه ويصيح :
-ما رأيك الآن إذا جاءتنا الأوامر : من نضبط معه بطاقة حزب التحرير توضع في دبره ؟ هل أدركتَ نصيحتي بأن لا تتعجّل في تنفيذ الأوامر ؟ الناس في الظاظية مبتهجون . بالأمس كانوا يأمروننا أن نضع بطاقة البعثي في دبره . من يدري : لعلّ أيامهم صارت قريبة . يا أخي لا تدوم إلا لوجه ربّك .
وسمعتُ ابي يقول متذمّراً :
-يا رجل قد لا تأتينا صورة للرئيس الجديد بشهر . نحن هنا كما ترى في طرف البادية .
فعلت قهقهة لأبي صبري :
-إن شاء الله لا تأتي بسنة . ما عدتَ تستطيع الجلوس خلف هذه الطاولة إذا لم تكن فوق رأسك صورة ؟
لكنّ أبي أصرّ :
-مخفر وليس فيه صورة لرئيس الجمهورية ؟ ما بك يا رجل ؟ – ص 188 و189).
وفي ختام هذا الموقف البليغ يدعو الأب الدركي أبا صبري لتفقّد العمل في بناء المخفر الجديد . بناء ضخم فوق رابية . المخافر العربية تتناسل وتنمو وتكبر حتى يومنا هذا . والطفل خليل – في مقارنة رائعة ومؤلمة – يحنّ إلى الربيع الذي كان يملأ الرابية كلها بالعشب (حين كان السائس يُخرج الخيول لترعى ، وشقائق النعمان تتناثر فوق العشب – ص 190) .
.. الرابية صارت الآن جرداء ، وسلطة الموت سحقت شقائق النعمان .. فلا نعمان ولا انبعاث بعد الآن . والنعمان تمظهر لانبعاثة دموزي .
وفي خضم هذه المواجهات تقرّر الحكومة غلق الثانوية ، ليعيد الوزير فتحها مشترطا أن يتقدّم كل طالب بإضبارة جديدة ، وأن يُحضر ولي أمره في اثناء التسجيل (ص 195) . وهي مهانة جديدة وهزيمة متأخرة مضافة مزّقت نسيج النرجسية المنتفخة ، فقد وضع الوزير هؤلاء الشباب “المنقذين” المتحمّسين في موضع لا يُحسدون عليه من ناحية عدم الكفاية القانونية ، وإزاحة القدرة على تحمّل المسؤولية .. أعادوهم إلى الموقع الطفلي الذي يحاولون عبثا الخلاص من “وصمته” . عادوا تحت “وصاية” الأب .. الأب العصيّ على الفناء . الأب الذي يمزّق الآن دستور البعث والبيان الشيوعي على حدّ سواء ، ويدعو إبنه إلى احترام إرادة الحكومة الخالدة ، ويحذّر إبنه من الإنجراف في مهاوي السياسة :
(إيّاك يا بني والسياسة . لا تنخدع برفاق السوء . العين لا تقاوم المخرز . من يقدر على الحكومة ؟ أنا أعرف الشباب وطيشهم . كم من أستاذ ودكتور ومحام جررته بيديّ هاتين من بيته مثل الكلب ؟ من بين أكوام الحطب كنت أجرّهم في حي البرّانية . بعد شهور قليلة تتخرّج وقد تصبح إبن حكومة . فكن إبنها المطيع منذ اليوم – ص 196) .
وكلما تقدّمت هذه الفوضى وتأجج أوارها كلّما تصاعدت وتائر حيرة خليل وجيله . العجز يعصف بهم ، والخيبة والنقمة تستولي عليهم . تاهوا بين الحاضر القلق والمستقبل المبهم (الأحزاب كثيرة ، الصحف كثيرة ، المناشير كثيرة ، المظاهرات والإضرابات كثيرة أيضا … لكن الحكومة باقية – ص 194) .
صاروا عاجزين عن الفهم .. و- وهذا هو الأخطر – عاجزين عن “الفعل” بعد أن كانوا – كما يتصوّرون – هم أهل “الفعل” . ومع تطاول الزمن تتشظى القدرة على الفهم ، وتنلجم القدرة على الفعل أكثر بفعل المتناقضات . فها هو طلال رفيق الأمس يحدّث خليل عن اعتقال رفيقهم إبراهيم ابو جعفر لأنه يعمل “ضدّهم” ويريد الوحدة الفوريّة !! الذين كانوا يعبدون عبد الناصر يعتقلون رفيقهم الذي فرّ إلى القاهرة أيام الإنفصال لأنه عاد الآن ناصريّا ! والطالب (إبراهيم) والأستاذ (حسني) الآن في سجن واحد كما يقول طلال الذي يدعو خليل الآن إلى أن يوقّع طلب الإنضمام للحزب ، لكي يحصل على وظيفة في الميناء ، بعد أن سُدّت كل الطرق في وجهه . وبرغم أنه رافض لكل هذه المواقف .. بل لكل ما يجري حوله من متناقضات وانحطاطات ، إلا أنّه (يوقّع) ليصبح إبنا للحكومة كما توقّع الأب الخالد .. وتنفتح ، وإلى الأبد ، هاوية الهزيمة المبكرة المتأخرة ، المنكرة والمتكررة ؛ هاوية التثبيت الأمومي ، وانغلاق دائرة النكوص الرحمّية :
(زغردت أمّي لنبأ الوظيفة .. منّيتُ النفس بالأيام الثلاثة القادمة . سوف أشبع من  القرية وأودّعها على هواي . ليست وحدها في ربيعها ، ولا اللاذقية . أنا في ربيعي ، ولكن أي ربيع هذا ؟ لماذا لا يهدأ الدوار في رأسي حتى يعود أقوى ؟  ألم يكن يكفيني كلّ مابي حتى أضيف إليه الوظيفة ، الحزب ، وتسألين يا أمّي عمّا بي ! مملوء أنا خوفا يا أمّي من أن أكون الآن فقط وضعتُ قدمي على درب لا ينتهي من الخطأ ، من الخيبة ، من الهزيمة . إنني دائخ حقّاً يا امّي ، ولا ألوي على جواب – ص 238 – الصفحة الأخيرة من الرواية) .

تحية للمبدع نبيل سليمان ..    

هوامش :
(1)    هزائم مبكرة – رواية – نبيل سليمان – دار الحوار – اللاذقية – الطبعة الرابعة – 2009 .
(2)    الإبداع الروائي اليوم – أعمال ومناقشات لقاء الروائيين العرب والفرنسيين آذار – مارس 1988 معهد العالم العربي – باريس – دار الحوار – سورية – 1994.
(3)    سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب – يوسف ميخائيل أسعد – دار الشؤون الثقافية – بغداد – 1984 .
(4)    و(5) سجموند فرويد – أفكار لأزمنة الحرب والموت – ترجمة سمير كرم – دار الطليعة – بيروت .
(6)    سجموند فرويد – الحياة الجنسية – ترجمة جورج طرابيشي – دار الطليعة – بيروت – 1982 – الطبعة الأولى .
(7)    و(15) هناك تحليل موسّع ومضاف لهذه الظاهرة في كتاب (المثقفون العرب والتراث : التحليل النفسي لعصاب جماعي) – دار رياض الريّس – لندن – الطبعة الأولى – 1991 .
(8)    و(9) و(14) الأنا وأواليات الدفاع – أنا فرويد – ترجمة جورج طرابيشي – دار الطليعة – بيروت – 1983 .
(10)و(11) ثورة 14 تموز 1958 في العراق – ليث عبد الحسن الزبيدي – دار الرشيد للنشر – بغداد – 1979 .
(12) راجع كتابنا : جابر خليفة جابر والكتابة السردية الجديدة – دار ضفاف – دمشق – 2012 .
(13) الهذيان والأحلام في الفن – سجموند فرويد – ترجمة جورج طرابيشي – دار الطليعة – بيروت – الطبعة الثالثة – 1986 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *