مهدي شاكر العبيدي : عن القصيدة الدعدية

mehdi shaker 6أولع الشباب إبان مختلف الأزمنة والأمكنة من بلاد العرب، بقراءة هذه القصيدة التي اصطلحوا على تسميتها بالدعدية، على فرط جهلهم باسم شاعرها الموثوق من وجوده وتميزه من غيره في عصره وموطنه، كما عني الدارسون بتفلية المظان والمصادر القديمة، تاريخية وأدبية، بغية الإهتداء إلى هويته الحقيقية بلا أدنى ترجيح وتغليب بين الأسماء المعروضة للمفاضلة والاختيار والقطع بما يصح عزوه لـه منها.
ولانعدم أن يطلع علينا واحد منهم بين آن وآخر، باستنتاج جديد خلص لـه بعد سياحات مضنية فيما عثر به أو عثر عليه من الأخبار والحكايات والقصص المبثوثة في الأوراق القديمة، يحسم به الجدل القائم بين الباحثين، بصدد القائل الحقيقي، ولا يني أن ينسبها لأحد الشعراء في حال من الشعور بالزهو والثقة الغامرة سرعان ما يعقبها الخفوت وانعدام تداول القراء لنبأ هذا الاكتشاف وسريانه بينهم، إن لم يستهدفه بعضهم بالطعن والتكذيب ونثر الشكوك حول المتوخى منه، كأن يصموه بغير خدمة الأدب والفكر، ويفتروا على أصحابه بحب الشهرة ورواج مطبوعاتهم وحيازة المال جراء ذلك .
ويبدو أن ما صار إليه شعراء معدودون من شهرة مدوية وصيت منتشر، إما لاتفاق الباحثين والنقاد وإجماعهم على أصالة وجودة شعرهم أو لاشتراكهم في تيسير الحوادث والوقائع التي استجدت في زمانهم، ومن ذلك صلتهم بالحكام وقادة الجند، وإعلانهم انحيازهم لوجهة نظر معينة وتمثيلهم نحلة أو نزعة اعتقادية، لـه أثر ما في تضاؤل شهرة الكثيرين من الشعراء المجيدين أو اندثارها أصلاً، وانصراف الدارسين عن سبر نتاجاتهم، واستخراج اللقيات النفيسة الدالة على النبوغ والتفرد بما لم يقترب منه أو يبارهم فيه أولاء الذين يملؤون الأسماع والأبصار .وسواء أقرأت الدعدية منسوبة إلى علي بن جبلة الملقب بالعكوك (بفتح العين والكاف والواو مع تشديد الأخيرة)، ومعناه القصير السمين، أم اطلعت عليها ضمن أشعار أبي الشيص الخزاعي، وهما شاعران متعاصران، وإن تقدم أحدهما على الآخر في سنة الولادة أو امتدت الأعوام بأي منهما إلى أوائل القرن الثالث الهجري الذي شهد بلوغ دولة بني العباس غاية ازدهارها وانبساط سلطانها على الأمصار مع ما رافق ذلك من النشاط الفكري، والعناية بالترجمة، والتأثر بثقافات الأمم الأجنبية ، وظهور أوليات الصراع بين التيارات والفرق، نقول تبقى هذه القصيدة، سواء أصحت نسبتها لواحد من ذينك الشاعرين أو لثالث غيرهما، إحدى روائع الشعر العربي المستجمعة لمعانٍ متفردة طالما نزع الآخرون لاستيحائها وإعادة صوغها على ما تحتفل به من تعدد الأغراض التي يوفق الشاعر في الانتقال من أحدها إلى الآخر بيسر وسهولة دون أن يتحسس القارئ ويعي ثمة تغايراً أو فجوة بينهما تحد من التحامها وانسجامها وائتلافها في نسج متكامل .
وكذا يلفي فيها مبتغو الأوصاف الجسمانية وسمات أعضاء البدن كافة، على شاكلة باعثة على الافتتان والإغراء واضطرام الشهوة ضالتهم، من خلال الألفاظ والتراكيب المتكفلة بتجسيد ما يراود المخيلة من انطباعات وتصورات في غير وناء أو حذلقة، ويقع متطلبو الأمثال السائرة والأقوال الصادرة عن الاتعاظ بعبر الدهر، والانتفاع من التجارب والخبرات السابقة في حياتهم أو حيوات ملازميهم وأخدانهم، على طلبتهم في حال من الاستسلام للشجن والحزن والتعجب من شيوع المفارقات في الحياة .
وما نريد أن نذكر القراء بما ألزم الشاعر به نفسه من الإتيان على أعضاء البدن ومكوناته واحداً واحداً، من الشعر الفاحم والوجه المنشرح والجبين الصلت والعيون الفاترة والمعصمين الممتلئين، وما يحول الحياء والذوق دون الاستطراد لـه من بقية الأعضاء والأقسام إنما الحري بنا التنويه بقصور المبارين من الشعراء في فترات تالية عن الاقتراب من نفس الروعة والبهر وحسن الأداء والتصوير مما وفق لـه الشاعر الأول، وقد يكون الأخطل الصغير من أبرز أولاء المحاكين في إيداع هذه الخصائص والمميزات، لوحات نابضة بالتصوير والافتتان في رسمها، سواء أكان ذلك لمجرد الرغبة في إقامة اللوحة، كما خيل لبعض الناقدين، أم كان نازعاً بها عن إحساس وتجربة حقيقية .
بدءاً من البيت السابع والثلاثين حيث يفرغ الشاعر من الغزل الحسي ينقطع إلى ما يشبه العتاب، لفرط ما امتحن به من الصد والإعراض لا يلذ لـه إزاءهما أو لا يطيق غير الخضوع والإذعان، تعقب ذلك بادرة من احتجاج وإدلال بالعزة فلا يغرى الناس بعدم تهيبه والاحتشام منه وحسبان شأن لـه في وجدانهم ومنطقتهم، إذ الصدأ حين يكسو السيوف لطول لبثها في الأغماد أو تعرضها لعامل طبيعي، لا يحد من مضائها وحدتها ويمنعها من التفليق والقطع، وكذلك صباحة الوجوه لا ترادفها بالضرورة قوة الشكيمة وعلو الهمة وتعلق بالآمال البعيدة في الغالب الأعم، فإن كان الأمر خلاف هذا لصح أن تنفع السيف حليته ومعها الزخارف الجميلة التي تزين جلد غمده بينما يكون حده في حال مؤئسة من النبو وتخييب ظن حامله وإفشال تصميمه على تضريب الأعناق
إن لم يكن وصل لديك لنا
يشفي الصبابة، فليكن وعد

قد كان أورق وصلكم زمناً
فذوى الوصال وأورق الصد

لله أشواقي إذا نزحت
دار بنا ونأى بكم بعد

إن تتهمي فتهامة وطني
أو تنجدي إن الهوى نجد

وزعمت أنك تضمرين لنا
وداً فهلا ينفع الود

وإذا المحب شكا الصدود ولم
يُعطف عليه فقتله عمد

تختصها بالود وهي على
ما لا تحب فهكذا الوجد

إما تري طمري بينهما
رجلٌ ألح بهزله الجد

فالحد يقطع وهو ذو صدأٍ
والنصل يعلو الهام لا الغمد

هل ينفعن السيف حليته
يوم الجلاد إذا نبا الحد

على أن الأبيات الثمانية عشر من البيت التاسع والأربعين لغاية السادس والستين، تنبي عن مقدرة أبلغ في الأداء وأنفذ في الفكر، فضلاً عن المفاخرة والاعتداد بترفع الذات عن الدنايا، وصيانتها من الجري وراء الرغائب والتماسها إلا عند عتبات من هو مجلل بالفضل والمروءة، ليخلص إلى ضرب من السرد القصصي مباهياً عبره بما فطر عليه من خلال الفتاء والكرم والنجابة ، لكن ما قيمة ذلك وكلنا بانتظار الموت المداهم، الذي سرعان ما يلوي بآمالنا صغرت أو كبرت، ويستوي بالناس جميعهم على صعيد بمختلف حظوظهم من الرفعة والدناءة، والغنى والفقر، وغير ذلك من الاضداد والمتناقضات في الحالات والأوصاف
ولقد علمت بأنني رجل
في الصالحات أروح أو أغدو

سلم على الأدنى ومرحمة
وعلى الحوادث هادئ جلد

متجلبب ثوب العفاف وقد
وصل الحبيب وساعد السعد

منع المطامع أن تثلمني
إني لمعولها صفاً صلد

فأروح حراً من مذلتها
والحر حين يطيعها عبد

البيت أمدح مقرفاً أبداً
يبقى المديح ويذهب الرفد

هيهات يأبى ذاك لي سلف
خمدوا ولم يخمد لهم مجد

والجد كندة والبنون هم
فزكا البنون وأنجب الجد

فلئن قفوت جميل فعلهم
بذميم فعلي أنني وغد

أجملْ إذا حاولت في طلب
فالجد يغني عنك لا الجَدُ

ليكن لديك لسائلٍ فرجٌ
إن لم يكن فليحسن الرد

وطريد ليلٍ ساقه سغب
وهناً إليّ وقاده برد

أوسعت جهد بشاشة وقرى
وعلى الكريم لضيفه الجهد

فتصرم المشتى ومنزله
رحب لديّ وعيشه رغد

ثم اغتدي ورداؤه نعم
أسديتها وردائي الحمد

يا ليت شعري بعد ذلكم
ومصير كل مؤملٍ لحد

أصريع كَلْم أم صريع ضنىً
أودى فليس من الردى بد

ألا ما أمعنّ الزمن في الظلم والكنود، حين يستلب من بعض النابغين حقهم على الناس من تداول نتاجاتهم وإبداعاتهم، على ما تنطبع به من حِدة وابتكار وتفنن، بينا يعلي شأن آخرين يستجمعون العمق والسطحية في عموم انجازاتهم، ويعين انعدام القياس الصحيح لدى الناس، في تحديد مواطن الجودة والرداءة معاً على تزكية الكل واعتباره خالياً من القصور والتهافت، مستوفياً شرائط الأداء المقبول أو محتذياً قواعد الصياغة المتطلبة .
وما أهون شأن بعض الأشعار الممتازة، حين تمنى بذر الغبار وتثويره بوجه الدارسين والمستقصين، فلا يهتدون إلى أصحابها الحقيقيين ويستوثقون من هوياتهم، فتروح نهاباً مقسماً بين أكثر من شاعر وناظم.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *