عندما يقسم رجل مثل ادونيس ؛ أعني هذا الرجل الذي ينظر الى نفسه بهطذا صورة لابد من ان يكون لهذا القسم ذات الابعاد التي تتفق او تسجم معها .. اعني مع هذه الصورة . وهذه الصورة هي صورة ، كما يبدو ، مفرطة في التقدير الذاتي للذات او مفهوم الذات . ولذلك فأن من المؤكد أن يكون هذا القسم متقفا معها . لنرى كيف يعّرف ” شبل ” في معجمه عن الرموز الاسلامية ” القسم ” حيث يقول ” يرمز القسم إلى عهد أو التزام يقوم به شخص بالنسبة إلى كل كلمة ينطق بها أمام شخص آخر (1) . هذا هو القسم بمنظروه الاسلامي وفقا لهذا الباحث . إذن أدونيس وفق هذا المعنى الزم نفسه بعهد او التزام . لا ندري مدة العهد هذا ؟ . هذا امر متروك لطرفي العهد . ولكن مع من اقسم ادونيس واقام معه هذا العهد ؟ . في قصيدة ” الى سيزيف ” يعاهد ادونيس هذا البائس على ان يكون وفيا لمحنته . ومن ثم تكون محنة سيزيف هي محنة ادونيس نفسه . لنقرأ إذن هذا القسم عبر هذه القصيدة . يقول ادونيس فيها :-
أقسمت’ أن أكتب فوق الماء
أقسمت’ أن أحمل مع سيزيف
صخرته السماء
(الاعمال الكاملة ، ج1 ، ص 427)
***********************
سوف افترض ان القارئ لا يعرف من يكون سيزيف هذا . يقول شابيرو – هندريكس في كتابهما عن هذا الرجل ما يأتي ” سيزيف Sysphus ابن ابولوس وملك كورنثة ، وشقيق اطلس ووالد غلوكوس من ميروبي اراد زيوس ان يحكم بالموت على سيزيف لأنه افشى سر زيوس الذي خطف ريجينا لأبيها ، فتمرد سيزيف إلا ان هاديس قاضاه وعاقبه في العالم السفلي بأن جعله ينقل صخرة إلى أعلى هضبة ما ان تصل حتى تتدحرج الى السفح ثانية (2). هذا إذن هو سيزيف . هو رجل افشى سر من اسرار الآلهة . والسر هو قضية اختطاف واغتصاب . لقد خطف زيوس ؛ كبير آلهة اليونان ريجينا . وقد يكون سيزيف هو الذي احب ريجينا .. الا زيوس خطفها لنفسه . فإفشاء سيزيف لسر زيوس قد يكون من دواعي احترام الذات .. فانتقم سيزيف لنفسه وكان ما كان . لقد تمرد سيزيف على عدم رضا زيوس لذلك الافشاء .. هذا الافشاء قد يكون من حق سيزيف لكونه اراد ان يعري هذا الاله الطاغي . انه الاب الاول الذي افترضه فرويد في بداية الحضارة الذي كان يحتكر النساء لنفسه فقط . فاتفق الابناء على قتله .. فقتلوه ثم شعروا بالذنب ثم اقاموا حفلا تأنيبيا تعوضا لذلك الشعور وبهذا يفسر لنا فرويد منشأ الاديان . وقد تتشابه البنى التحتانية لهذه الاسطورة مع اسطورة أوديب التي انطلق منها فرويد لبناء نظريته حول بنية وطبيعة العصاب . كان تمرد سيزيف هو تمرد على ممارسة زيوس التي كانت بنظره غير اخلاقية . والتمرد بلغ اقصاه عندما حكم عليه هاديس بذلك القرار الجائر . واصبحت هذه العقوبة رمزا محوريا في فلسفة العبث عند البير كامي . ونحن لا يمهنا ، هنا ، الدخول في تفاصيل هذه الفلسفة . ولا ادري لماذا هذا التعاطف الذي اظهره ادونيس مع سيزيف . وان يكتب ادونيس قسمه على الماء فهو إشارة على قدسية الماء وبالتالي قدسية قسمه .. وان يحمل معه صخرته فهو دليل على مشاطرته لرغبة سيزيف في ان يفشي سر الآلهة الكبير !!! . الا يدعونا هذا القسم من النص إلى هكذا افتراض . هناك عند ادونيس نفس المشاعر إزاء الآلهة .. انها مشاعر الرفض والتمرد . ادونيس بهذا التماهي يتجرد من كل انتماء ويعود إلى بدايات النشوء لهذا الوجود . ليكتشف سر الآلهة المجهول . يستمر ادونيس في التاكيد على قسمه فيقول :-
أقسمت’ أن أظل مع سيزيف
اخضع ، للحمى وللشرار
أبحث’ في المحاجر الضريرة
عن ريشة أخيرة
تكتب للعشب وللخريف
قصيدة الغبار .
(المصدر السابق ، نفس الصفحة)
*********************
سيزيف في نظر ادونيس رجل السؤال .. رجل تدفعه هموم المجهول .. يريد ان يعرف كل شيئ ويفعل كل شيئ مثل زيوس .. كبير الآلهة !! . هو يريد ان يسدل الستار على التاريخ لينكشف كل شيئ ويتعرى كل من تلفه الاسرار .. ادونيس يريد ان لا يعيش مع الصخرة الصماء .. بل يريد ان يمسك بالريشة الأخيرة ويكتب عن مهزلة الوجود .. لماذا خطف زيوس ريجينا وحرم سيزيف منها .. أليس من حقه ، كما قلنا ، ان ينتقم ويرفض ويتمرد ؟؟ . إذن لأدونيس نفس الحق في ان يمتلك الريشة الأخيرة ويكتب قصيدة الغبار للعشب والخريف . ولولا مفردة العشب التي تدل أو ترمز الى الامل والحياة لكانت صورة العالم كاملة البناء للعبث واللامعنى .. الغبار والخريف تعبيران لصورة أدونيس لسوداوية العالم ولا جدواه ….
يستمر أدونيس في القسم . حيث يصور ، لنا ، رغبته في ان يكون مثل هذا البطل الذي قاضاه هاديس . ويبدو ان هذه الرغبة لم تك عابرة وآنية بل متأصلة في اعماقه لدرجه معها قرر :-
أقسمت’ ان اعيش مع سيزيف
(المرجع السابق ، نفس الصفحة)
*************************
نعم قرر ان يعيش مع سيزيف ويحمل صخرته الصماء .. ولا ادري هل ما يزال ادونيس يعيش مع سيزيف ويحمل تلك الصخرة اللعينة والى الابد .. سؤال نتركه للشاعر ان يجيب عليه ……..
الهوامش :-
1- شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الاسلامية ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 255 .
2- شابيرو ، ماكس – هندريكس ، رودا ، 2006 ، معجم الاساطير ، ترجمة : حنا عبود ، دار علاء الدين للنشر ، دمشق سورية ، ط1 ، ص 237 .
شوقي يوسف بهنام : قسم أدونيس ؛ قراءة نفسية لقصيدة “الى سيزيف”
تعليقات الفيسبوك