تلتقي ثلاث روايات في نقطتين ومن ثم تفترق لتتفرع كل منهم، رواية جابر خليفة جابر (مخيم المواركة)، ورواية حسين علي يونس ( يوميات صعلوك جان دمو في الجبهة)، ورواية ساراماغو (قايين). تلتقي تلك الروايات في نقطة اهتمامها بإعادة كتابة التاريخ بشكل أو بآخر، في أسلوب ما بعد الحداثة.. وبعدها تفترق لتشق كل رواية طريقها الخاص نحو الهدف لتقدم سردا مختلفا مهما، منها اثنتان من السرد العراقي مثلت تحولات قص ما بعد الحداثة بعد انهيار النظام الشمولي، فبدأ السرد يتحرر ويكسف المستور بحرية، ولعلهما تعيدان العمل على مناهج سردية كان قد عمل عليها قلة معدودة جدا من أدبائنا، مثل الاستاذ المبدع جمعة اللامي والاستاذ عبد الخالق الركابي.
يعمد جابر خليفة في مخيم المواركة على كشف المستور من تاريخ سقوط الاندلس، ليظهر لنا المخفي والمهمل عمدا، بينما في رواية “يوميات صعلوك” يعمل حسين علي يونس على سحب ملحمة كلكامش بشخصياتها المعروفة نحو الواقع العراقي السياسي إبّان فترة النظام المقبور، ليكتب لنا اسطورة جديدة هى نفسها ملحمة كلكامش لكنها كلكامش العصر، أما ساراماغو فيتفق معهما في أنه يعيد كتابة التاريخ ولكن بصورة مغايرة عن المعروف، حين سرد قصة هابيل وقابيل والطوفان والخلق بوقائع مخالفة لكل ما ورد في الشرائع السماوية كافة، ليكتبها كما يتخيلها هو.
من هنا مثلت الروايات برأي الكاتبة، منطلقا مهما في السرد المعاصر، باعتمادها دروب متبايينة في سرد التاريخ، وظهرت في شكل مختلف تماما عن النمط الكلاسيكي المتعارف عليه، حيث ان هذه الروايات لن تريح القارىء العادي، لأن هناك فجوات عليه ان يساهم هو نفسه في اكمالها، كما قال آلان روب غرييه في كتابه نحو رواية جديدة : (ان ما يطلبه المؤلف من القارىء ليس استقبال عالم كامل ممتلىء مغلق على نفسه، بل بالعكس انه يسأله ان يساهم في عملية الخلق وان يخترع بدوره العمل الذي يقرأ، والعالم ايضا وان يتعلم بهذه الطريقة ان يخلق حياته هو)، وهذه الروايات الثلاث تنطلق من فكرة ما وراء القص التي عرفها جون بارت: (وهي الكتابة الروائية التي تلفت نظر القارىء منهجيا عن وعي ذاتي كامل لحالتها، بوصفها صناعة بشرية من أجل أن تطرح قضايا عن العلاقة بين الحقيقة والخيال) الحقيقة هنا تمثل التاريخ، والخيال هو الجدل الذي يدور حول مدى مصداقيته فتختلط الأوراق ويصعب التميز، بينما عرف قاموس اكسفورد رواية ما وراء القص بأنها (الرواية التي يبرز فيها المؤلف عن وعي زيف وأدبية العمل الأدبي بالتهكم أو بالانحراف عن التشريعات الروائية وتقانات السرد، وباختصار: فإن ما وراء القص يعلن عن نفسه بوصفه نصا من نتاج بشري صناعي، ويفحص الطبيعة الخاصة للرواية من خلال الراوية).
نحن نقف على اعتاب تاريخ مزيف في مخيم المواركة لجابر خليفة، تاريخ كان خفيا مركونا، أو أشبه بأوراق مقطوعة من كتاب التاريخ نفسه، فيعيدها جابر للكتاب، وينظفها مما علق بها من غبار، ولعله بالغ قليلا في عملية التنظيف، فيظهره لنا في عمل نهجه السردي مختلف، فمن الصفحة الاولى حتى الأخيرة تتواصل المفاجئات في الشكل وفي السرد وفي الرسالة التي ضمها المتن الحكائي.
تتناول الرواية أحوال مسلمي اسبانيا (المواركة) وما تعرضوا له من اضطهاد وتعذيب عند سقوط الاندلس، وضمت في جوفها مواقفا انسانية كثيرة، شدتني تلك الدمية المايوركا التي كان كريم كاسياس أحد الأبطال، يقوم بصنعها من خشب الاشجار وتزينها بالخرز والورود وبيعها حتى تم قتله بأكثر من طريقه، فالكاتب هنا تفنن وهو يعدد الكيفية التي مات فيها كريم، ولا نعرف أي الروايات هي الأصح؛ أما اهداء مخيم المواركة يجعلنا نقف أمام الاسئلة التى تعمد الكاتب زرعها في عقل القارىء ليساهم معه في العمل، حيث كان اهداؤها مرتين، الأولى في بداية الرواية ومن ثم في نهايتها:
(اهديها لسرفانتس ؟ لا طبعا لا، امحوه
امين معلوف، اشطبه ايضا
واكتب ايرفنغ.. لـ واشنطن ايرفنغ
وحده وقصصه
اهدي روايتي)
ليضعنا امام التساؤل عن علاقة كل هؤلاء بالمتن, والباحث سيكتشف أن هناك علاقة قوية بين كل هؤلاء ومواقفهم من سقوط الاندلس، فمنهم المؤيد والمعارض ومن كان يتعمد شتم المسلمين، بينما يقوم العرب بتقديسه ورفع منزلته الشعرية، وقد وضح هذا بالتفصيل الدكتور حسين سرمك في كتابة (جابر خليفة جابر والكتابة السردية الجديدة)، ومن هنا جاء العمل منطلقا من قضية تاريخية وربما ايدلوجية ايضا. اما كيفية وصول الرواية هذه للمؤلف فهو يحدثنا في الصفحات الاولى عن شخص اسمه عمار اشبيليو الذي ارسل للكاتب رسائلا الكترونية تحمل فصول الرواية وعلى دفعات، وعليه يجتمع أهل المخيم لتداول بعض الاوراق السردية، ويوضح الراوي فكرة عمله للقارىء : (الثيمة الأساس لفكرة المخيم هي اجتماعاتنا أو حفلاتنا القصصية والتي ابتدأت بطرح أى مشارك ما يعرفه من حكايات المواركة بجمل مكثفة.. أربعون حبة أو قصاصة او قصيصة؛ لنقل أربعون جملة سرد مركزة وأزيد عرضت على المشاركين) ص20، فهو منذ البداية يوضح للقارىء الطريق الذي سيسير به سرديا، وينقلنا بعدها من خيمة إلى أخرى في المخيم، حيث يتم طرح هذه القصص والاخبار التى تتعدد الروايات فيها لحدث واحد وتتفرع لفروع أخرى، كما فعل في قصة موت كريم كاسياس، بل أنه عدد الأسماء لكريم، وعاد بنا لحكاية أصل كريم وأبويه، كما كانت تفعل شهرزاد في حكايتها، وركز الدكتور حسين سرمك على هذه النقطة في كتابه عن هذه الرواية، اذن نحن نجد انفسنا أمام حكايات أخرى تتوالد، وهكذا يتواصل العمل الذي يقود دفته جابرأو عمارأو أحد الرواة لأنه يحافظ على حواره مع القارىء ليبقيه على الخط السردي، ويشعره بأنه جزء من العمل (سيحاصرنا الوقت إذا استمرت حكاية كريم ومايوركا بهذه الطريقة، وسنعجزعن تناول الأقصوصات الأخرى وهي كثيرة لكنه استرسال سردي مدهش شدنا وانجذب الجميع الى متعاته) ص 44. يقوم بهذا في أكثر من موضع، وكلما تاه القارىء سيجد أن الكاتب يعود له ليدله على الطريق، وهذا الأسلوب يذكرنا بعبارة آلان روب غرييه (إن الحديث مع المؤلف يكسر الحاجز بينه وبين القارىء).
ونتفاجىء في النهاية أن الراوى بعدما اصطحب عائلته واولاده للتنزه تصله رسالة: السلام عليكم صديقي العزيز انا الان اتنزه في حدائق الاندلس قريبا من ميناء المعقل وألهو مع أولادي اين انت الان؟؟؟) ص 169. في هذه النهاية ضربة موقفة وذكية تدفعنا للتساؤول ايضا من هو عمار اشبيلو؟، وأيضا فيها عودة لنقطة البداية مع عمار أشبيلو نفسه الذي ارسل الحكايات للراوى فيكون شكل الرواية دائري وعن هذه النقطة تحدث الدكتور حسين سرمك (أن الشىء حين يكتمل جماله يصبح دائريا).
وربما يقول قائل ان الكتابة عن سقوط الاندلس قضية قديمة كتب فيها اخرون، نعم وهذه حقيقة، لكن الجديد في المخيم الشكل، الشكل الذي اعتمده جابر خليفة ليضع القارىء في مواجهة مباشرة مع تشظى وتشرذم الحدث نفسه، والسرد الحديث يهتم بالشكل الذي يتلاءم مع الموضوع، وبما ان موضوع الاندلس وسقوطها ضم الكثير من القضايا الخفية والمتفرعة التى كشف عنها تاريخيا جابر بعمله هذا، فان الشكل ايضا جاء متطابقا مع الموضوع بامتياز، فوضع التفرع والاوراق البحثية التى كان يعتمد على تداولها اهل المخيم الذين أرادوا دراسة هذه القضية، لذا فان القراءة لن تكون سهلة هنا، واشار آلان روب غرييه لهذا: (اذا كان القارىء يجد شيئا من الصعوبة في أن يجد نفسه في الرواية الجديدة، فانه ايضا وبنفس الطريقة يفقد نفسه احيانا في العالم الذي يعيش فيه حيث يتخلى كل شىء من حوله عن المقاييس والاحكام الهرمة).
واعتمد جابر خليفة ايضا تعدد الروايات، وكثرة الشخصيات وما يعرف بالميتا سرد حيث اشار لها الناقد الاستاذ عباس عبد جاسم: (نحن إزاء رواية تتجاوز الحنين والبحث عن يوتيبيا جديدة في تقديم المواركة المسلمين في الاندلس، وسقوط غرناطة من خلال تفكيك القهر الكونيالي من منطقة ما وراء السرد، وهي أعلى تمردا في نطاق الاشكال الواقعية الروائية، ليس لانها تتجه نحو ذاتها كرواية داخل الرواية وانما لانها تنتهك الحدود القائمة بين الجنس والطبقة والنوع فتجمع بين الحكاية والسيرة والمخطوطة والحديث والخبر.. فهي تستعير من ألف ليلة وليلة الية الانشطار المحكى، حيث تقود الحكاية الواحدة إلى حكاية أخرى عبر انشطار مستمر يتعارض فيه الاحساس بالنهاية)، هي رواية مركبة معقدة ، وعندما يخرج القارىء من المخيم لا يعرف هل كان في رحلة سياحية في الاندلس أم مع عمل فني سردي أم يقف في مواجهة مباشرة مع تاريخ مزيف، وفي الحقيقة كان يتجول مع كل هذا الفريق.
واضح في هذه الرواية جهد الكاتب في النبش في التاريخ، والبحث عنه فهو لم يخترع تاريخا كما فعل ساراماغو، ولم يستعن بالاسطورة مثل حسين علي يونس، انما كشف التاريخ المخفي ليكتبه من جديد، كأنه أراد إعادة الاعتبار له؛ هذه رواية لو لم يكتب بعدها كاتبها رواية أخرى لكفته؛ لأنه قدم منهجه الخاص وأضاف للسرد العراقي.
أمّا حسين يونس في روايته (يوميات صعلوك)، يتناول التاريخ بصورة مختلفة، فهو يضعنا في مواجهة مباشرة مع كل صغيرة و كبيرة في الواقع العراقي السياسي والاجتماعى والاقتصادى في زمن النظام المقبور، فلم تترك الرواية شيئا إلا ولمحت إليه بشكل من الاشكال، دون أن تجد المباشرة غير المرغوب بها، وهنا نجح حسين في الخروج مما يعاب على بعض الروايات العراقية السياسية التى يكون الحدث فيها مباشرا، ويوضح هذه الفكرة الدكتور حسين سرمك :(مهارة القاص في التعبير عن إرادة الانسان المقاومة حين يتكفل بها الفن العظيم واستثمار السياسة لصالح الأدب وليس العكس)؛ فانطلق كاتبها من ملحمة كلكامش وأعاد لنا خمبابا بشكله الاسطورى فاسقطه على واقع مفجع رث، فيه كل الحروب والسجون والحصار وسوء الخدمات وأزمة الاخلاق والثقافة والأمن و انهيارالاقتصاد، واقع صوّر الوجع العراقي بأكمله، من خلال اعادة كتابة الاسطورة، بل وذكرنا حتى بنوعية الاكل العراقي في غالبية البيوت العراقية.
وفعل حسين يونس كما فعل جابر خليفة، فأوضح منذ بداية روايته الاسلوب الذي سيعتمده فتحدث مباشرة مع القارىء، و يذكرني هذا بأساليب بعض الكتاب الغربيين مثل ميلان كونديرا الذي يتوجه في حوار مباشر مع القارىء ليجعله يشارك في صنع الرواية، يقول حسين يونس مدللا على نهجه الروائي (كتبت بضعة فصول عن انكيدو وكلكامش ومغامراتهما في أكد وفي بابل، بابل القديمة وبابل الحديثة التي تكثر فيها عمليات قطع الرؤوس وتفجير الحانات.. تحدثت عن مغامراتهما الدنيوية) ص 16 و17؛ اذن أعلن لنا أنه يعتمد اختلاط الأزمنة، لا التنقل فيها ومن ثم يعود ليؤكد منهجه في ص 17 :(ربما تتحدث هذه الرواية عن فنتازيا القسوة ولكنها ايضا تطرح قسوة الفنتازيا)، ووفاء منه يذكر دعم أصدقائه له لاتمام هذا العمل (لقد قدموا لي نصائح مهمة عن تقطيع الرؤوس كما انهم زودوني بفصل مفجر الحانات وكذلك زودوني بفصل الاسماء المحبوبة والمكروهة وستجدون كل ذلك داخل بناء الرواية الذي ستصلون اليه لاحقا)؛ وبهذا فان حسين أخذ بيد القارىء من الصفحة الأولى محاولاً ارشاده كي لا يتيه، ومن ثم يؤكد اخلاصه لصديقه جان دومو (ما كنت أقدم على كتابة هذه الحماقات لولا انني كنت مخلصا لحلم رجل كان صديقا لي)، وصفة الوفاء عملة نادرة هذه الايام.
ويعود ليضع القارىء أمام اسطورة جديدة لكلكامش مختلفة عما نعرفه (قبل اكثر من خمسين قرنا كان كلكامش يفكر بشكل متوهج اما الان فان الوضع تغير؛ ان فكرة الخلود التي غيرت شكل الحضارة قبل اكثر من خمسين قرنا لبست لبوسا آخر، وها هي تاخذ شكل البحث عن القاذورات) ص 31، ورغم هذا فان الكاتب يحن الى اسطورة بابل القديمة (كانت بابل تقع في قلب العالم مزدهرة وخالدة على النقيض مما يماثلها الان) ص 33.
ويتطرق لأحداث خمبابا الذي يقاتل شعبه في نضال شرس (كان منشغلا على الدوام بخوض معارك حامية الوطيس ضد شعبه الذي لم يكن (يقدر هذه المآثر العظيمة) ص34، وهنا يبدأ الراوي بالسخرية من أحداث عرفتها بابل الحديثة، وكاتبة المقال تؤمن بأن الاستعانة بالأسلوب الساخر ما هو إلا اشارة لعمق الوجع الانساني، عندما تضعف اللغة في تصويره، فيذكرنا بشخصيات معروفة، لكنه يعمد على إلباسها صورا واستعارات أغلبها قبيحة وبعضها معروفه (ان ابو بريص هذا كان من القادة الكبار الذين ساهموا في حروب اورشليم كان اليد الضاربة لنبوخذ نصر) ص 35. ويواصل إعادة كتابة الاسطورة العراقية بكل فصولها المؤلمة ليذكرنا بان كل ما كان يهم النظام السابق هو عدم التظاهر ضد الحكومة، حتى لو حدث قتال عنيف بين عشيريتين، ووصل الدم فيها للركب (الحمد لله ظننت انها تظاهرة ضد الحكومة) ص 44. وعدما يشتد الوضع انسانيا من جراء لؤم وقباحة الحدث، يعود الكاتب إلى وضع ابتسامة ساخرة لا تخلو من عمق الكوميديا السوداء (انكيدو كان يهيمن على حياته الباذنجان بشكل أخاذ حتى أن زوجته الأولى تركته يصارع بمرارة حين خيرته بينها وبين الباذنجان) ص 47. ومَن مِن العراقين ينسى دور الباذنجان في طعام العائلة العراقية في تلك الحقبة الزمنية؟.
ويواصل السخرية الموجعة في أكثر من موقع في الرواية حيث يقول: (ان ربات البيوت هن المسؤولات عن انسداد المجاري، والا فما الذي يستطيع فعله خمبابا ازاء حصان عفن في المجارى، ما الذي دفع الحصان داخل المنهول؟) ص 53.
سجل الصعلوك حسين في هذه الرواية كل تاريخ العراق ضمن حقبة زمنية معينة ولم يترك شاردة وواردة إلا واشار اليها حتى اجتماعات مجلس وزراء خمبابا وتحكم الاول في عطور وهندام فريقه، كما اشار لنوعية الاغاني الوطنية الخمبابية حينها، وبين فترة وأخرى تعود شخصية الشاعر لتزداد قوة في الحلم (اننا بحاجة ماسة الى اؤلئك الذين يعيشون الشعر دون ان يكتبوه، لقد مللنا هذا الكم الهائل من الشعر ونزيد ان نلمس الشعراء بدون شعرهم وهم متحققون في العالم دون فعل الكتابة) ص 123. فهو يريد حس الشعراء وفعلهم لا كتابتهم، وفي هذا نقد واضح لكثرة المحسوبين على الشعروهم أبواق لنظام سابق.
وتصل الرواية في النهاية عند الملف الذي عثر عليه الراوى نفسه في جريدة، ويحمل هذا الملف الكثير من المفاجئات والاسماء والاسئلة، ولكنه ترك الاسطورة التى كتبها مفتوحة ربما لتعيد كتابتها أجيال أخرى، خصوصا وأن فراس السواح أكد على انه (ليس للاسطورة زمن، أى أنها لا تقص عن حدث جرى في الماضي وانتهى، بل عن حدث ذي حضور دائم، فزمانها والحالة هذه زمن ماثل أبدا لا يتحول الى ماض)، لهذا أراه نجح تماما في استغلال الاسطورة التي تكرر نفسها، لكن ما لم يرق لي شخصيا هو الكم الكبير من الشتائم والكلمات النابية التي ضمتها وان كان لهذا اسبابه النفسية لمن عاش وعاني خلال تلك الفترة وكان يقف في مواجهة المدفع.
كما امتازت الرواية بكثرة الشخصيات في مجموع 175 صفحة، منهم المعلم، وكلكامش وانكيدو وخمبابا وشبعاد وانوبشتم وزمبورا ونبوخذ نصر، ويذكر اسماء كثيرة، بل أنه يفرد لها فصلا بعنوان الاسماء المكروهة والاسماء المحبوبة، التي تحمل اسماءا حقيقية اغلبها معروفة، وكذلك كانت رواية جابر خليفة جابر غنية بالشخصيات، وهذا يحسب لهما وقد أشار الدكتور حسين سرمك في أحد كتبه لأهمية هذا (من مقاييس مهارة الروائي الحداثية هو ان يحرك أكبر عدد من الشخصيات في أقل عدد من الصفحات بالوظيفة المؤثرة والربط العضوى والتفاعل الدرامي المحبك)، وان كان حسين لم يحركها جميعا لكنه أشار إليها لغاية تأكيد دورها التاريخي.
اعتمدت رواية حسين في شكلها العام اسلوب التقطيع والشذرات التي تذكرني باميل سيوران وحديثه عن أهمية كتابة الشذرة حيث يقول اميل سيوران: (الشذرة هي الشكل الوحيد الملائم لمزاجي تمثل كبرياء لحظة محولة مع كل التناقضات التي تحتويها، ان عملا ذا نفس طويل وخاضعا لمتطلبات البناء ومزيفا بهاجس التتابع هو عمل من الافراط في التماسك، بحيث لا يمكن ان يكون حقيقيا). لكن عمل حسين كان حقيقيا وغير حقيقي أيضا، أقصد التاريخ والاسطورة ؟ا.
ومن جانب آخر كان هناك بروز للشعر بقوة، فهو شاعر أولا، لذا فان روايته خارجة على التجنيس، فهي ضمت ايضا الوثائق والمقال، وبدت كخلطة سحرية اسمها الأدب في اعلى صورما بعد الحداثة، تحمل بصمة واضحة جدا لن يستطيع أحد تقليدها.
وهنا نجد أن فكرة جابر خليفة وحسين يونس تدور بشكل أو بآخر حول صراع الفرد ضد السلطة الذي يمثل صراع الذاكرة ضد النسيان كما أشار له الروائي ميلان كونديرا واتفق معه الدكتور حسين سرمك، فلا جابر أهمل التاريخ المزيف، ولا حسين تجاوز الاسطورة التي تتكرر أمامه بثوب آخر، كلاهما كان يصارع الذاكرة.
اما الرواية الرائعة الثالثة التي تصب في نفس المجرى لكنها تتخذ مسارا مغايرا، هى قايين للروائي العالمي المبدع ساراماغو، حيث عمد الكاتب على تهشيم وليس فقط تكسير كل التابوات الفكرية أمام قضية الخلق، فأعاد كتابة قصة قابيل وهابيل والطوفان والنبي نوح وحواء كما تخيلها هو في أفكاره، وطرح افكارا ربما تداهم الكثيرون الذين لا يجرؤن على رفع صوتها، لان تلك الرواية بما طرحته خالفت كل الروايات المعروفه في الشرائع والكتب السماوية، اعتمد كاتبها ايضا ميتا السرد، حيث صحب تلك الاسماء التاريخية وجعلها تكتب تاريخا جديدا لم يكن، وأكثر من عدد الرواة والشخصيات، واعتمد السخرية بقوة في كثير من المواقع، كما ناقش قضية غرق الاطفال أيام الطوفان، بطريقة فكرية منهجية ، رواية ساراماغو لا يستطيع قارئها تركها إلا وهو في الصفحة الاخيرة حتى وان اختلف معه في الفكرة، فالكاتب هنا أيضا يخاطب القارىء ويسحبه لانهاء الرواية، ولقد آليت على ذكرها لوضعها في صف رواية حسين يونس وجابر خليفة لانها تمثل ايضا منحنا آخرا في سرد التاريخ.
فاذا كان ساراماغو يخترع تاريخا لم يحصل ويكتبه كما يتخيله، فان جابر خليفة كتب تاريخا حصل لكنه لم يُذكر في الكتب اصلا، وحسين يونس كتب التاريخ الحاصل نفسه لكن بالاستعانة بأبطال الاسطورة، كأنه يقول لنا أن التاريخ يعيد نفسه بنفس الابطال، لذا فان الروايات الثلاث تلتقي وتتفرع لتصب في مجرى الابداع السردي، فأصحابها تماما كما وصفهم ميلان كونديرا (من يستمر اليوم في كتابة الروايات عليه ان يكتبها بطريقة تجعل اقتباسها متعذرا حماية لها، بعبارة أخرى طريقة تجعلها غير قابلة لأن تروى)، وهي بالفعل تُقرأ ومن الصعب روايتها شفهيا.
رغد السهيل : ميتا سرد ما بعد الحداثة و التاريخ .. بين حسين يونس وجابر خليفة وساراماغو
تعليقات الفيسبوك