الدكتوران : جميل صليبا وكامل عيَّاد ، صديقان حميمان التقيا في رحاب جامعة دمشق زمنا ً قبل سنين ، وانقطعا لتدريس الفلسفة ، وتقاسما الجهد العلمي في تحقيق بعض كتب التراث ، ورفدا المكتبات المعنية بنشر هذه العينة من المطبوعات النادرة وترويجها في أوساط طالبيها وملتمسيها من الدارسينَ طلابا ً وقرَّاءً محترفينَ ومشغوفينَ بالاطلاع على إسهام العرب في خدمة الحضارة ونشر العلم ، علما ً أنَّ ثانيهما مواطن ليبي بالأصل استوطنَ دمشق وقضى فيها ، إذا صح ما ذكره الباحث السوري سامي الكيالي في كتابه المرصود لتجلية الأدوار والمراحل التي قطعها الأدب العربي المزدهر ببلاد الشام منذ إطلالة فجر النهضة في أخريات القرن التاسع عشر لغاية ختام النصف الأوَّل من القرن العشرين ، والتعريف بما عُنِي به من أغراض ، و ترسمه من مذاهب ، وطرأ عليه من تيارات واتجاهات وفنون ، وظلـَّتْ شواهده ولقياته : شعرية ونثرية ، متفاوتة بين احتذاء القديم وانتهاج الجديد من الأشكال والصياغات والقوالب ، في غمرة انشغال الشعب في سورية بطلب استقلاله وجلاء المحتل الفرنسي الذي شهدَتْ عقود بقائه متحكما ً بمصاير أبنائه ، ازدهارَ حركة التأليف ، وظهورَ صفوة من الكتاب والشعراء ورجال الصحافة لا سِيَّما بعد محنته بجرائر المستعمر وتجاوزه لكلِّ ما رامه به من عَنتٍ وإرهاق ، وارتضى من بعد أنْ يُسَاير أو يذعن لمشيئة أفراد من بنية لا قبل لهم بصياله وانتواء مقاومته ، لكنهم رضُوا بالممكن وقبلوا مماشاة أهوائِه لقاء العُهدَة لهم بتولي الأحكام غير مكترثينَ بما قد يطولهم من تشنيع وقدح ٍ بسمعتهم على أنـَّهم خدمُوا أو عاونوا الغاصب الأجنبي ، وكذا جرَتِ الأمور في البلاد السورية في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته وإبَّان السنوات الأوَل من الحرب العالمية الثانية ، حتى قـُيِّض للجمهور المواصل كفاحه أن تحالفه ظروف جدَّتْ في السياسة الدولية فيظفر بما ينشده من استقلال وحياة كريمة .
فليس بالأمر الشاذ أو المستغرب أنْ تستديم الحياة على رسلها وعساكر الغاشم المحتل تعرِّس وسط جنبات ورباع من البلاد وفي غالبية المدن والحواضر ، والجامعة السورية التي أسَّسها مواطن سوري مختص بطب العيون هو الدكتور رضا سعيد ، في أخريات العهد العثماني ، وكان أوَّل رئيس لها ، تدأب على إعداد الأجيال المتنورة وتغرس في نفوس أبنائها حب الوطن ، وترفده بنخبة تلو النخبة من أساطين اللغة العربية وفقهاء القانون وخبراء المال والاقتصاد ، والمتمرِّسِينَ بعلم الكيمياء والطبابة ، فلا مراء عند هذا أن يتداول القارئ العربي في سورية وخارجها ، رسالة ( المنقذ من الضلال ) لأبي حامد الغزالي وقصَّة ( حي بن يقظان ) للفيلسوف الفارابي ومنتخبات من تراث ابن خلدون مع مقدِّمةٍ عن حياته وتوجـُّهه الفكري ونزوعه الفلسفي ، إبَّان أعوام ثلاثينيات القرن المنصرم ، وكلُّ هذه الأعمال الثقافية الباهرة ، ما استتمَّتْ إلا بجهد هذين الصنوين ِ وانصرافهما لإحيائها وتحقيقها ، لتقديرهما قيمتها العلمية وفضلها الباذخ في تفتيح العقول وإضاءة الأفكار وتبصيرها بالحقيقة ، وما يتصرف بالكون ويديره من نواميس وأحكام ، وليس كيفما اتفق وبدون مشيئة وجري ٍ لغير غاية .
علما ً أنـَّني كنتُ أسمع منذ عام 1950م ، بأنَّ الثاني منهما ــ أي المحققين ِ ــ آخذ بجانب من التفكير اليساري وملتزم به في تسلكاته العملية ، وقد صحَّ هذا عندي إلى حد ٍ ، بدليل تفرُّسِي في محاضرته الملقاة ذات يوم ٍ في المنتدى الثقافي الملحق بسفارة الإتحاد السوفيتي السابق بدمشق ، عن معطيات وجهٍ ثقافي كبير ومشهور في تاريخ ثقافة السوفيت والمطبوعة ضمن محتويات أحد مجلدات مؤلفاته الكاملة والمعدة من قبل وزارة الثقافة السورية ، بينما الأوَّل منهما ــ الدكتور جميل صليبا ــ فإنـَّه لا يقترب من السياسة إلا بقدر واحتسابٍ لكلِّ خطوةٍ من خطواته على طريقها أو هو من وزن يقرنه بأخدانه ومناظريه في مصر ممَّن يشاكلونه في مقامه العلمي ، أمثال : عثمان أمين ومحمد مصطفى حلمي ، ومحمود محمد الخضيري .
هذا وقد تكرَّرَتْ طباعة كتاب ( المنقذ من الضلال ) في مختلف عواصم الأوطان العربية بتحقيق أو بدونه ، ونتيجة سطو ناشر ما على مجهود محقق مشهود له بالجدارة والأهلية والصبر على المشقة في خدمة العِلم ، وفي ثمانينات القرن الماضي اقتنيْتُ من معرض بغداد الدولي في إحدى دوراته ، نسخة لآخر طبعة منه ، وبحجم صغير مغر ٍ بالقراءة نظرا ً لجودة طباعته ، بتحقيق ذينك العَلمَين ِ العالمين ِ الفاضلين ِ ، غير أنـَّني عثرْتُ مؤخـَّرا ً وفي مكتبة منصوبة على الهواء الطلق ــ كما أسمَتْ إحدى الجرائد اليومية التي تصدر بدمشق بسطياتِ الكتب المعروضة للبيع والمصفوفة خلف سياجات المتنزهات في شارع الحلبوني وغيره ــ على الطبعة الخامسة لهذا السفر صادرة في العام 1956م ، أي ترادفتْ أربع طبعات عليه منذ صافح المحققان يد القارئ به لأوَّل مرَّة في الثلاثينيات ، وحسبك أنْ تتدبَّر الأوضاع السياسية والظروف الصعبة المحدقة بالمجتمعات العربية يومها ، وما كان من تفادي ( جول جمال ) وتفجيره الطوربيد وإرخاصه حياته ليعطل الملاحة في قناة السويس أيَّام العدوان الثلاثي ، فلنجتل ِ قيمة هذا القدر من الاستبسال والتفاني وسط تهليل المجتمع العربي في كلِّ مكان وانذهاله بهذا البطولة النادرة التي قد لا تتكرَّر ، لا سِيَّما أن المُقدِمَ عليها عارفٌ بنهايته ، بجانب أنْ يطلع علينا المحققان بالطبعة الخامسة هذه لـ ( المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال ) ، دون مساورة وافتكار أنَّ القارئ قد يكون في شغل عن مطبوعاتٍ معرفيَّةٍ كهذه في ظرف حالك ومأزوم كهذا ، ولنستذكر ظروف الاحتلال الفرنسي زمن صدوره لأوَّل مرَّة .
وإنصافا ً أقول : إنـَّني كلِفٌ بتصفح المؤلفات المقروءة وموالاة قراءتها لأنـَّها تمتلئ بخواطر وآراء واعتراضات على فحاويها دَوَّنها القرَّاء الأوائل وتأثروا بها ومنها بعض الشيءِ ، ولولا أنـَّني ألفيْتُ في هوامش بعض الصفحات تعليقات تسهل قراءَتها وأخرى يشقُّ على العين سوغها واستيعابها لرداءة خط ممليها إلا بعد تعريضها لنور الشمس ، فلأنعم النظر في هذه الكتابة التي لا تكاد تبين وتتضح رموزها ، لأنغمس في اجتلاء تقديم الدارسينَ الفلسفيينَ ، والمغرق في شرحه وتفسيره والدوافع التي حدَتْ به لتأليفه على شاكلة استهوَتْ نفسيهما السويتين ِ ، بدليل إشادتهما في خاتمة التقديم ذاك وحسن تقييمهما له من أنـَّه (( كتابٌ شكٍ ونقدٍ وإلهام ويقين ، فهو قصَّة حياةٍ فكريةٍ مضطربةٍ ، وصورة نفس مفعمةٍ بالإيمان ، مَيَّالة إلى الحقِّ ، باحثةٍ عن اليقين ، لا بلْ هي قصَّة ألم نفسي ونزاع عميق بين العقل والإلهام ، كتبه الغزالي بأسلوب سهل عليه طابع الصدق والأمانة والبساطة والنقاء حتى جاء أوحد نوعه في الثقافة الإسلاميَّة وقليل الشبيه في الأدب العالمي بأسلوبه ومنحاه ووحدة غرضه واستقامة منهجه )) .
وكذا تستقري مقدِّمة الكتاب التي تعاون المحققان في تحبيرها وتدبيجها حيرة الإمام الغزالي في تخيُّر الموقف الملائم لسليقته وطِلبته في نشدان الصَفو وطمأنينة البال ونشدانه والتماسه عند واحدة من هذه الفرق المتبنية للون من الاتجاهات والنوازع الفكرية المستحوذة أرباضا ً شاسعة من بلاد المسلمينَ ، ويدين بها جمهرة غفيرة من الناس تترسم تعاليمها وتحتكم لمبادئها في حسم كلِّ أمر معضل ، متمثلة في المتكلمينَ والفلاسفة وجماعة الباطنية ممَّن يسمي مذهبهم مذهبَ التعليم ، وآخرهم المتصوِّفة ممَّن زهدوا في مباهج الحياة وصدفوا عن ملذاتها ، وابتغوا سعادتهم وراحتهم في الكشف وانسوا بالذوق القلبي ، فاعتزل حجة الإسلام الناس عشرا ً من السنين ، جاب أثناءها ديارات مختلفة وبارح بغداد صوب بلاد الشام ويمَّمَ وجهته شطر الأراضي الحجازية ، مؤديا ً فريضة الحج بمكة ، وزار قبر الرسول ، ورجع إلى مدينته الأصلية ( طوس ) بإيران ، وأحجم عن مواصلتهِ القاءَه دروسه في المدرسة النظامية ، إلى أنْ باينه قلقه ، وزايله اضطرابه وحيرة نفسه ، وتخلصَ من تمييزه بين مبادئ هذه الفرق الإسلامية المستأثرة باهتمام أضرابه من المفتكرينَ في أيُّها أحرى بالاتباع ، وأقمن بالاقتفاء ، وأجدر بالتبني ، وأعود على المستمسك بها بالروح والجمام ، بعد أنْ ساجلَ وناظرَ واستعرضَ بواعث ظهور كلٍّ من هذه الفرق وتفهَّمَ غاياتها ومقاصدها ، فقرَّ اختياره وإيثاره منها عند أهل التصوف وفرقة الزهاد على تباينهم في التعبير عن تجرُّدهم وهدايتهم وطهارة نفوسهم وصفاء أرواحهم ونقاء قلوبهم من أوضار الحياة وأدناسها ، وتفاوتهم في إشهار ميلهم للفناء في الذات الإلهية بالحلول أو بالارتكان إلى وحدة الوجود ! .
فكان كتابُ ( المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال ) نتاج هذا الصراع النفسي المحتدِم في أعماق نفس تصطخب فيها الأشجان والآلام ، وسَردُ لحكايةِ هذا التمزُّق الروحي المبرح ، وهو وحده كفيلٌ بأنْ يلهمه بقوَّة التصوير وإشراق العبارة ، ويصدف به عن التكلف ، ويجانب به عن التصنع اللفظي ، متجاوزا ً ما قد يقع فيه ويترامى إليه من هِناتٍ وأغلاط لغوية أحسن في المحاماة عنها وتسويغها بذريعة أنَّ (( قصده المعاني وتحقيقها دون الألفاظ وتلفيقها )) ، مِمَّا راق ذلك للمحققين ِ المحترمين ِ فثنـَّيا على قوله : (( إنـَّهما يحمدان الله على عدم اشتغال الغزالي بعلوم اللغة ، واهتمامه بصناعة الألفاظ ، فإنـَّه لو اعتنى بهذه الناحية لما امتازَتْ كتابته بهذه القوة والسلامة في التعبير )) .
ولعلَّ لهذا الأمر بالذات حمد الدكتور علي الوردي للغزالي بيانه وأسلوبه وحُسنَ رصفِه ألفاظه ، مرجـِّحا ً إيَّاه على أنصار البديع والمسرفينَ في التدقيق بكلماتهم ومفرداتهم فيتهاوون في التقعير والتفصح ، لكنه ــ أي الوردي نفسه ــ يضلـِّل قارئه ولا يدعه يفطن لعثراته البيانية ، بما يتخلـَّل كتابته من طرائف مشوِّقة وحكايات مدهشة ومؤثرة في الوجدان ، ويفيض في أحاديث وفصول قد لا تنتهي عمَّا كابده الغابرونَ من قهر وإذلال ، وقاسوه من جور السلاطين وتعنـُّتِ الحاكمينَ ، ممَّا يلذ أسماع الأغلبية مثل هذا الاسترسال في الكلام والمنطق .
غير أنَّ هذين ِ الدارسين ِ الأريبين ِ أغضيا وأحجما عن إدانة الإمام الغزالي بموقفه السلبي من تعرُّض ديار العالم الإسلامي وقتذاك للهجمات الصليبية الوافدة أرتالها من أنحاء أوربا ، إذ لا يعثر الدارس المستقصي في مأثوراته على أيَّة عبارة استهجان ونفرة من هذا التعدِّي الصارخ بحجج واهيةٍ خاصة توغل العساكر المُستنفرَة في الأراضي المصرية التي كان يسودها حكم أولاء الذين عارض نزوعهم ومذهبهم في الحياة ، أعني فرقة الإسماعيلية أو الفاطمية ممَّن بنوا الجامع الأزهر ، قبل أنْ يمنوا بالتصويح بدولتهم وتقويضها على يد صلاح الدين الأيوبي وتعفيته آثارهم ، دون أن يجرؤَ ولا غيره ممَّن تعاقبوا على حكم مصر ، على التحرُّش بهذا الصرح عنوان صيتهم ورمز شهرتهم في صدور الأجيال ، لكنَّ تكفل بهذه الإدانة من بعد الدكتور عمر فروخ .
وفي عنفوان تلك الهجمة الشرسة انتفض الشاعر الأبيوردي المُدَّعِي تمثيله لآخر من بقي على قيد الحياة من سلالة الأمويينَ حتى بداية القرن السادس الهجري ، والمبتلى بمساورة أحلام اليقظة لتفكيره ، وإغراقه في الخيال البعيد ، ليمنـِّيَ نفسَه باستعادة سلطانهم غير متغافل عمَّا اجترح أيَّامهم من مظالم وانتهاكات ، قلتُ : انتفض هذا المارد الحالم ويمم وجهته شطر بغداد مستصرخا ً الغيارى وداعيا ً لتحشيد الأهالي في الساحات والميادين ليسمعهم شعره التحريضي المُدَوِّي والمستنفِر للمفاداة والجهاد ، والمؤجـِّج لنخوتهم كي يصونوا ما تبقى لهم من ذمار ، فأين هذا الموقف المشرِّف والمكلل لهام الرجال بالفخار من انكفاء حجة الإسلام وتواريه وانقطاعه لأدعيته وأوراده ، متجانفا ً عن واقع الحياة ؟ ! .
*******
MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com
MahdiShakerAlobadi@Hotmail.Com