منذ أولى رواياتها ( بيت الأرواح ) وايزابيل الليندي تواصل مغامراتها صوب الابداع .. لا تكف هذه المرأة أبداً عن إدهاشنا ، لم تتعب من الغوص في تواريخ الشعوب والخوض في تجارب القراصنة واللصوص والعشاق ، تبحر نحو مجاهل الروح والجسد وتعشق الذوبان في الحب .. وها هي مرة أخرى تتحفنا بذاكرة لا تكل عن سرد الحكايات والتفاصيل في رواية ( انيس حبيبة روحي ) ، رواية الحب والسفر صوب المجهول ، والحروب المتكررة ، والغزاة والطغاة والفاتحين والأشباح ، والبحث الدائم عن شيء يفضي الى شيء آخر.
انيس حبيبة روحي ، رواية ذاكرة لا تنضب من الحكايات ، ذاكرة حية ومفتونة بالماضي ، البعيد منه والقريب ، تأتي الحكايات على لسان انيس ، وهي امرأة في السبعين من العمر ، تكتب لابنة زوجها ايزابيل ، وايزابيل هذه كان عمرها ثلاث سنوات عندما ماتت أمها ، فتولى أبوها رودريغو تربيتها ، ومن ثم اعتنت بها انيس قبل وبعد زواجها من رودريغو .
تحكي انيس دون خوف أو خجل ، تفتح دفاترها وتخط بيدها ما مر بها خلال أكثر من ثلاثين عاماً ، قبل أن تغرق ذاكرتها ويطويها الموت ، تعود الى سنوات عمرها الأولى وحبها الأول ومغامرتها صوب المدن الغريبة بحثاً عن زوجها الأول ، الذي التحق جندياً في الحروب التي قادها الغزاة الاسبان لفتح مدن العالم الجديد .
وبعد معاناة مريرة من مكان الى آخر ، ومن موت محقق الى موت أقسى منه ، تصل انيس ، ولكن دون أن تعثر على زوجها ، لقد مات في الحرب الاّ أنها ترفض العودة الى اسبانيا ، فتقرر البقاء في مدينة كوسكو في البيرو وهناك تلتقي بالرجل الذي سوف تحبه كما لو انها لم تحب من قبل رجلاً آخر .. انه بالديبيا ، أحد القادة العسكريين ، الذي سجّل مدونو الأخبار مآثره البطولية في الحرب .. غير أن بالديبيا كانت له طموحات واسعة ، وهي فتح تشيلي ، وكان الذهاب الى هناك يعادل اجتياز الجحيم كما تصفه المؤلفة وكما سنقرأ حين يحدث الغزو ، الاّ أن بالديبيا أصر على ذلك ليقيم مجتمعاً عادلاً يقوم على حراثة الأرض بلا ثروات تُكسب بسهولة ، ومن دون عبودية كما في البلدان الأخرى التي تم فتحها .
أصرت انيس على مرافقة عشيقها بالديبيا ، ومن أجل ذلك قابلت الحاكم وحصلت على تصريح لقاء ما ستقدمه من خدمات للجيش ، فهي تتقن الطبابة ولها موهبة في العثور على مصادر الماء في الصحراء الشاسعة .
رحلة بعيدة مليئة بالمصاعب تلك التي خاضها بالديبيا وجنوده والهنود المحملون بالأثقال لمنعهم من الهرب ، امتدت لشهور وتخللها الكثير من المشاكل والمشقات والتعب والمواجهات مع السكان الأصليين حاملي الأقواس والسهام والفؤوس والسيوف والهراوات ، ومن معركة لأخرى ، من مشقة لمشقة ، من جوع وعطش وحمى تأكل الضعفاء ، وموت يتربص في كل زاوية ، يصلون أخيراً الى الجنة الموعودة ، ينزلون بواد ذي زرع وماء يسكنه عدد من قبائل السكان الأصليين الذين لم يبدوا أي اعتراض وان كانوا مرتابين .
في ذلك المكان ، عند جبل هويلين غرس بالديبيا راية قشتالة باسم جلالة ملك اسبانيا ، ثم شرع بتأسيس مدينة سانتياغو الجديدة ، حيث تم تحديد موقع الميدان الكبير الذي احتوى على منصة الاعدام ، وحددت الشوارع وموقع الكنيسة ، ثم بنيت البيوت من الخشب والطين ، وغرست الأشجار ، وقامت الحياة وتم توزيع الأراضي بعد انتزاعها من السكان الأصليين وإجبارهم على العمل فيها لمصلحة الأسياد الجدد .
نُصب بالديبيا حاكماً على المنطقة التي دخلت فيما بعد عدداً من المعارك مع السكان الأصليين الذين أخضعوا بالقوة ، وأسر زعيمهم الذي عُرف منه بعد استجوابات عديدة أين تقع مناجم الذهب ، ولكن هل انتهت الحروب بين الطرفين ؟
تقول ايزابيل الليندي على لسان بطلتها انيس على الصفحة 198 ( عند وصولنا إلى تشيلي لم نكن نعرف شيئاً عن شعب المابوتشي –السكان الأصليين – وكنا نظن أنه سيكون من السهل إخضاعه ، مثلما فعلنا بشعوب أكثر تحضراً منهم بكثير ، كالأزتيك والانكا ، وقد احتجنا لسنوات طويلة كي ندرك كم كنا مخطئين ، لم نكن نلمح نهاية لهذه الحرب ، لأننا اذا ما أعدمنا توكي ، ظهر آخر فوراً ، واذا ما أبدنا قبيلة ، خرجت لنا من الغابة قبيلة أخرى لتحل محلها ، كنا نريد تأسيس المدن والازدهار والعيش برفاه
واسترخاء ، بينما لا يتطلعون هم الاّ الى الحرية ) .
رافق تلك الحروب الكثير من المآسي ، وأيضاً لم تغفل المؤلفة طقوس وعادات شعب المابوتشي وعشقه للحرية والسلام ، واضطرار هذا الشعب للحروب دفاعاً عن قراه وحياته بوجه الذين يريدون فناءه واحتلال أرضه . ولم يتوقف بالديبيا عند هذا الحد بل أصابته حمى تأسيس المدن برغم كل ما يعترضه من مصاعب ، وهكذا ما إن تنتهي حرب حتى تبدأ أخرى بكل ما يرافقها من موت وصرخات وصهيل خيول ودوي بارود وأسرى واضطرابات . . وبين حرب وحرب تقوم حياة من الرماد ، وتشتعل عاطفة وتمتلئ الذاكرة بالمزيد من القصص الخرافية ، وتضاف أعباء على عاتق النساء ، وتقوم انيس بعلاج الجرحى وايواء المشردين ، وإزالة الأنقاض واطفاء الحرائق .
وبرغم قساوة المعارك التي قام بها السكان الأصليون ضد الغزاة وتدميرهم لسنتياغو فان حمى الحرب استمرت واستعرت ، فلا الغزاة استسلموا ولا المابوتشي رضخوا ، وكان الأمل الوحيد بالنسبة للغزاة من أجل البقاء هو وصول تعزيزات من البيرو ، وحتى تصل تلك النجدة واجه المستوطنون الهجران والعزلة ، والإنهاك ببناء سور للمدينة ضد الهجمات ، وحين وصلت التعزيزات أخيراً تبدل وجه الحياة فعادت سانتياغو بأفضل مما كانت ، وبدأت الحياة تنفتح على العالم المتحضر ، لقد وصلت الأسلحة والأغذية والملابس والحيوانات الداجنة ، ووصلت زوجات بعض المحاربين وأبناؤهم ، وعاد بعض السكان الأصليين المسالمين الذين هربوا من الحروب والخاسرات ،ولكن بالديبيا مات ميتة مريعة ولم يُعثر على جثته ، مات بعد أن أسس أكثرمن مدينة وأصبحت تشيلي قوية برغم الفقر الذي يعانيه الناس . يمكن القول ان شغف بالديبيا هو الذي قتله، لقد دخل العديد من المعارك ، وتطلب ذلك المزيد من الجنود والكثير من القسوة والإبادة .. وما آلم انيس أنه لم يأخذها معه في آخر معاركه ، غادر مع جنوده لمقاتلة المتمردين عليه والمتحالفين ضده ولم يفكر بالمرأة التي رافقته في جميع حروبه .. تكتب انيس لايزابيل عن ذلك بالكثير من المرارة والشعور بالخذلان ، لكنها تكتب أيضاً كيف أنها تجاوزت تلك الخيبة بالدخول في علاقة مع رودريغو – والد ايزابيل – ثم تزوجت من واعتنت بايزابيل .. وعلى الرغم من ذلك لم تنس أن بالديبيا تركها وتجاهل كل ما فعلته قبل وبعد فتح تشيلي وكانت تعتبر نفسها في مقام مساو لبالديبيا ، لكن الأمور جرت على غير ما تريد .
لم تتوقف طبول الحرب ولم تكف عن الصراخ على مدى 350 صفحة ، لقد حفلت الرواية حتى آخرها بالمعارك ، هجمات وهجمات مضادة ، التحام وقتلى وأسرى ، تقدّم وانسحاب ثم تقدم وفتح مدن جديدة ، وكلما انطفأت حرب هنا ،اشتعلت حرب هناك وتمت إبادة المزيد من السكان الأصليين .
هكذا تعرض ايزابيل الليندي تاريخ بلدها تشيلي ، تاريخ مكتوب بالدم والفظاعات وللاانسانية من أجل مجد القادة الذين لا تقف أحلامهم عند حد حتى وان كان ذلك على حساب السكان الأصليين لذلك البلد ، ولا تنسى أن تزرع وردة هنا وهناك تورق على أنقاض الخراب ، وتكتب قصص حب وان كانت معجونة بالخذلان .
***
انيس .. حبيبة روحي . رواية . ايزابيل الليندي .
ترجمة : صالح علماني . دار المدى للثقافة والنشر . دمشق .