قبل وفاته قبل نحو سنتين ، ترك الشاعر العراقي عبد اللطيف الراشد مخطوطة شعرية حملت
عنوان ( نزق ) ، تضمنت اعترافاً له يتلاءم مع شخصيته المرحة وروحه الشفافة .. وقد ارتأينا ان نستل الاعتراف من كتابه المطبوع بطريقة ( الاستنساخ ) ونقدمه هنا….
((لا افهم الشعر على غرار فهم الناقد روسبوسير بأنه قضية وناهج حديثة … لا توجد في العالم اليوم قضية . ولا منهج نقدي ، انا اخر قضية يجب ان لا تشغلكم (لا توجد في العالم قضية الاّ انا) فقط ادعوكم الى الالتفات لها ان شئتم !
مرة استوقفني صحفي عابر وسألني :
لماذا لا تضم شعرك في ديوان ؟
ضحكت حينها كثيراً وقلت له :
– لا اريد يا اخي ان اسجن طيوري البرية وحيواناتي الوحشية في اقفاص . لابد ان يأتي يوم ما ليقوم بهذا الدور انسان لا اعرفه ليدجنها ويضعها في اقفاص من صفيح يتمتع بها وبمزاياها رواد مقهى حسن عجمي يوم كنا ننحني بتواضع للجواهري وحسين مردان ورشدي العامل…
لكن من الضروري جداً ان اعترف انني انسان غير منظم. مبعثر. عشت حياة تشبه حياة الضفادع في مستنقعات وبرك عفنة . اعترف انني كائن غريب جداً ( لا ناقة ولا جمل ) تحملت وحدي الجوع والحزن والالم وتعايشت معه .كم لذيذ هو الالم ( لا تفسروا ذلك بأنني سادي ) انا انسان مؤمن اشفق حتى على الحمار الذي يستخدمه بائع الغاز.
متشائم ..هذا صحيح . متشائم من كثرة ما حل في جسدي من خراب ،فقدت نضارة وجهي الذي كان في يوم ما وجها سومريا وسيما ، الان وقد ملأت التجاعيد وجهي فأنني حزين على خرابه ، وخراب الجسد اقسى من حزني على خراب الشعر ولكنني اظل عاشقا وحالما بأمرأة تحبني ، احب المرأة احب جميع النساء ….
جاء هذا اليوم الذي جمع رماد طيوري بعد فوات الاوان ، فقد طارت اغلب هذه الطيور في البراري ولم يبقَ منه سوى هذا الرماد الذي جمعه لي صديقي قاسم محمد عباس وقدمه اغلى اصدقائي الروائي الكبير علي بدر . ولم يترك الكثير من اصدقائي واعدائي الفرصة القدرية هذه تمر دون ان يقدموا شهاداتهم الصغيرة لتكون هامشاً ربما ينصفني امام نفسي.
وربما ينفع هذا الرماد على طريقة اسلافنا الميامين علاجا للجرحى في سوق الهرج والباب الشرقي ومجانين خضير ميري عندما يتشاجرون.
اعترف ان هذه القصائد المزعومة يمكن ملاحظة مدى ارتباكها وهشاشتها لانها تمثلني وحدي ، وانتم غير معنيين بها خوفاً من العدوى في فساد الذائقة الشعرية . وان شئتم فلا اعتراض لي على ان تتورطوا بالقضية ، باعتباري قضية العصر غير القابلة للحل!
هل قلت لكم انني كائن نزق ايضاً….؟)) .
******
نماذج من قصائد الشاعر في ( نزق ) :
بلادي
حتى الطريق التي ضيعتني
الصريفة التي هرمت
تلك البدايات
اشتهيها
فهذي بلادي التي اكرمتني القميص
وامرأة محناة اليدين
وبيتاً من صفيح
***
هذي بلادي لي فيها نخلة
وقطرة في السحاب
وقبر يحتويني
هي عندي اجمل من مدن الضباب
من مدن لا تعرفني
اجوب الشوارع فيها وحيدا
***
هذي بلادي
بيتي وقبري
ومثواي الاخير
من يحمل حقائبي سواها؟
******
القصيدة العاشرة
خذني الى اقصى ما تشتهي
خذني الى اي كوكب لو تستطيع
فقد سئمت اسيجة
بات من المستحيل
ان تتنازل عن حصارها لي
فما لي سواك يحتمل هذا التمرد
والخنادق عريضة
لكل الجنود
الاّ انا لاتتسع لي
فوهات المدافع
فمابالك ترنو للسماء
وكأنها تتسع لقلبي الصغير